الكفاءة في النكاح

تقدَّم شاب لخطبة ابنتي ولا أعيب عليه في خُلُقٍ أو دين، لكن تعليمه ومستواه الاجتماعي هو وأسرته أدنى من مستوانا التعليمي والاجتماعي، فهل يعتبر هذا الشاب كفئًا لابنتي، أم أن التعليم والمستوى الاجتماعي لا مدخل لهما في الكفاءة؟


هذه المسألة لها شقان، أولًا: الشق الفقهي، وثانيًا: الشق القانوني المعمول به في قانون الأحوال الشخصية.

فمن الناحية الفقهية: فالكفاءة في النكاح تعني المساواة بين الزوج والزوجة في أمور معينة، وقد اختلف الفقهاء في تحديد هذه الأمور، فيرى الحنفية أن المعتبر في الكفاءة: الدِّين والنسب والحرية والديانة والحرفة والمال. راجع: "رد المحتار" (3/ 84، ط. دار الفكر).

ويرى الشافعية اعتبارها في النسب والسلامة من العيوب والدين والصلاح والحرفة والحرية. راجع: "تحفة المحتاج" (4/ 270، ط. دار الكتب العلمية).

أما الحنابلة فقد وردت عنهم روايتان عن الإمام أحمد؛ إحداهما: كالمذهب الشافعي -ما عدا السلامة من العيوب-، والأخرى اعتبرت الكفاءة في الدين والنسب واختلفت فيما عداها. راجع: "الإنصاف" (8/ 107، ط. دار إحياء التراث العربي).

ويرى المالكية أن الكفاءة هي المماثلة في الدين والسلامة من العيوب. راجع: "الشرح الكبير" للدردير (2/ 248، ط. دار الفكر).

والملاحظ على تحديد الفقهاء لخصال الكفاءة أن اختلاف أئمة المذاهب حول خصال الكفاءة واختلاف أئمة المذهب الواحد حول هذه الخصال دليل على أن ما يُعتَبَر في الكفاءة نسبي مختلف فيه، يعود تقديره إلى العرف، أي: يتأثر بالزمان والمكان؛ ولذلك لم تحدد خصال الكفاءة كما حددت مثلًا مصارف الزكاة، وبالتالي كانت مثار خلاف بين الفقهاء، وتحديد بعض ما يعتبر منها كان مصدره ما تعارف عليه الناس، ولذا اختلفت بعض أحكام الكفاءة باختلاف البقاع والأزمان، ويدل على ذلك ما نقله الفقهاء عند حديثهم عن الكفاءة؛ ففي "تحفة المحتاج" للشيخ ابن حجر الهيتمي عند كلامه على الحرفة (7/ 281، ط. دار إحياء التراث العربي): [(و) خامسها (حرفة... فصاحب حرفة دنيئة) بالهمز والمد وهي ما دلت ملابسته على انحطاط المروءة وسقوط النفس. قال المتولي: وليس منها نجارة بالنون وخبازة. وقال الروياني: يراعى فيها عادة البلد، فإن الزراعة قد تفضل التجارة في بلد وفي بلد آخر بالعكس. وظاهر كلام غيره أن الاعتبار في ذلك بالعرف العام، والذي يتجه أن ما نصوا عليه لا يُعتبر فيه عرف كما مر. وما لم ينصوا عليه يعتبر فيه عرف البلد. وهل المراد بلد العقد أو بلد الزوجة؟ كلٌّ محتمل، والثاني أقرب؛ لأن المدار على عارها وعدمه، وذلك إنما يعرف بالنسبة لعرف بلدها، أي التي هي بها حالة العقد، وذكر في "الأنوار" تفاضلًا بين كثير من الحرف ولعله باعتبار عرف بلده] اهـ.

وقال الإمام الكاساني في "البدائع" (2/ 319، ط. دار الكتب العلمية): [لا يكون الفقير كفئًا للغنية؛ لأن التفاخر بالمال أكثر من التفاخر بغيره عادة، وخصوصًا في زماننا هذا] اهـ. فقوله: "خصوصًا في زماننا" إشارة إلى أنه قد راعى في هذا الحكم عرف زمانه.

ثم قال: [وأمَّا الحرفة، فقد ذكر الكرخي أن الكفاءة في الحرف والصناعات معتبرة عند أبي يوسف، فلا يكون الحائك كفئًا للجوهري والصيرفي، وذكر أن أبا حنيفة بنى الأمر فيها على عادة العرب أن مواليهم يعملون هذه الأعمال لا يقصدون بها الحرف، فلا يعيرون بها، وأجاب أبو يوسف على عادة أهل البلاد أنهم يتخذون ذلك حرفة، فيعيرون بالدنيء من الصنائع، فلا يكون بينهم خلاف في الحقيقة] اهـ.

وقال الكمال بن الهمام في "الفتح" (3/ 296، ط. دار الفكر): [فإذا ثبت اعتبار الكفاءة فيمكن ثبوت تفصيلها بعرف الناس فيما يحقرونه ويعيرون به، فيستأنس بالحديث الضعيف في ذلك] اهـ. وراجع: ورقة العمل المقدَّمة من الدكتور/ مروان محمد محروس لمجمع الفقه الإسلامي الهندي في ندوته الثالثة عشرة.

والغرض من اعتبار الكفاءة في الأشياء السابقة تحقيق المساواة في أمور اجتماعية من أجل توفير استقرار الحياة الزوجية، وتحقيق السعادة بين الزوجين؛ بحيث لا تُعَيَّر المرأة وأولياؤها بالزوج بحسب العرف، وعلى الرغم من ذلك فإن الفقهاء اختلفوا في تأثير هذه الغاية والغرض بحيث تصبح الكفاءة شرطًا في النكاح على رأيين:

أولهما: أن الكفاءة لا مدخل لها في شروط النكاح، فيصح النكاح ويلزم ولو انعدمت الكفاءة، وهذا رأي سفيان الثوري والحسن البصري وحماد، وابن حزم. انظر: "المغني" (7/ 33)، و"المحلى" (9/ 151).

ثانيهما: وهو رأي جمهور الفقهاء: أن الكفاءة شرط معتبرٌ في النكاح، وهذا ما عليه المذاهب الأربعة، وإن اختلفوا فيما بينهم هل هو شرط صحة أم لزوم؟ والفرق بين اللزوم والصحة أن كون الكفاءة شرطًا للزوم العقد معناه أن المرأة إذا تزوجت غير كفءٍ كان العقد صحيحًا، وكان لأوليائها حق الاعتراض عليه وطلب فسخه دفعًا لضرر العار عن أنفسهم، إلا أن يسقطوا حقَّهم في الاعتراض فيلزم، ولو كانت الكفاءة شرطًا للصحة لما صح العقد أصلًا.

استدل من لا يرى الكفاءة في النكاح بقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ [الحجرات: 10]، وقوله تعالى: ﴿فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ﴾ [النساء: 3]، وقد أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فاطمة بنت قيس رضي الله عنها، وهي قرشية أن تنكح أسامة بن زيد رضي الله عنهما، وهو من الموالي؛ يقول الإمام ابن حزم في "المحلى" (9/ 151، ط. دار الفكر): [وأهل الإسلام كلهم إخوة لا يحرم على ابنٍ مِن زنجية لِغِيَّةٍ نكاحُ ابنةِ الخليفة الهاشمي، والفاسق الذي بلغ الغاية من الفسق المسلم -ما لم يكن زانيًا- كفء للمسلمة الفاضلة، وكذلك الفاضل المسلم كفء للمسلمة الفاسقة ما لم تكن زانية] اهـ. وفلان لغِيَّة: بالكسر والفتح كلمة تقال في الشتم، كما تقول: لزنية أو لغير رشدة).

كما أن الكفاءة غير معتبرة فيما هو أهم وأخطر من النكاح وهو الدماء؛ حيث لم تعتبر الكفاءة بين المجني والمجني عليه في القصاص، فلأن لا تعتبر في النكاح أولى. راجع: "بدائع الصنائع" (2/ 317).

وقد استدل الجمهور على اشتراط الكفاءة عمومًا في النكاح بما يلي:
1) قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «لَا تنْكِحُوا النِّسَاءَ إِلَّا الْأَكْفَاءَ، وَلَا يُزَوِّجُهُنَّ إِلَّا الْأَوْلِيَاءُ» أخرجه الدارقطني والبيهقي.
2) عن السيدة عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «تَخَيَّرُوا لِنُطَفِكُمْ، وَانْكِحُوا الْأَكْفَاءَ، وَأَنْكِحُوا إِلَيْهِمْ» أخرجه ابن ماجه والحاكم.
ووجه الدلالة من الحديثين واضح.
3) أن تزويج الولي موليته مع فقد الكفاءة تصرف في حق الغير بغير إذنه، فلم يصح كما لو زوجها بغير إذنها. راجع: "المغني" (10/ 388).
4) أن انتظام المصالح يكون عادة بين المتكافئين، والنكاح شرع لانتظامها، ولا تنتظم المصالح بين غير المتكافئين، فالشريفة تأبى أن تكون مستفرشة للخسيس، وتعيَّر بذلك؛ لأن دناءة الفراش تغيضها وتجلب لها ولأوليائها العار، إضافة إلى ذلك فالولد سوف يتسمَّى باسم الأب وهو ما يزيد العار عارًا.

وما استدل به ابن حزم ومن معه ليس في قوة أدلة الجمهور، ولا يقاوم أدلة الجمهور، فأُخُوَّة المؤمنين الثابتة بنص القرآن المستلزمة مساواتهم إنما هي المساواة في الحقوق والواجبات، ولا ريب أن هذا التساوي لا ينافي التفاضل فيما جرت الأعراف بالتفاضل به كالعلم والرزق والحرف، ولا يعارض ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم في خطبة الوداع: «أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ، وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبيٍّ، وَلَا أَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ، إِلَّا بِالتَّقْوَى» رواه أحمد، فإن التفاضل الثابت في الحديث محمول على الفضل الأخروي. راجع: "نيل الأوطار" (5/ 100، ط. دار الحديث بالقاهرة).

كما أن عدم اعتبار الكفاءة في القصاص لا يقاس عليه؛ لأن عدم اعتبارها فيه من حيث إن القصاص شرع لحفظ حق الحياة الذي يتساوى فيه الناس غنيهم وفقيرهم، ولأجل هذا الحق قامت حروب ومعارك سالت فيها الدماء بلا مراعاة لكفاءة من عدمها بين القاتل والمقتول، واعتبارها فيه يفوِّت هذه المصلحة، بخلاف النكاح، فإنه شرع لدوام العشرة وتكوين الأسرة، وعدم اعتبار الكفاءة فيه مفوِّت لهذا المقصد.

هذا من الناحية الفقهية لمسألة اعتبار الكفاءة، أما من الناحية القانونية فإن القانون المصري لم يُصَرِّح في مواده بهذه المسألة بخصوصها، إلا أن الفقه القانوني سار على مذهب الجمهور. انظر: "موسوعة الفقه والقضاء في الأحوال الشخصية" للمستشار/ محمد عزمي البكري (1/ 330، ط. دار محمود).

وقد جاء في المذكرة الإيضاحية لتعديلات قانون الأحوال الشخصية رقم (100) لسنة 1985م أن الأحكام القانونية الخاصة بالأحوال الشخصية إن لم يُنَص عليها فإنه يُحكَم فيها بأرجح الأقوال من مذهب أبى حنيفة، ما عدا ما استثني مِن ذلك، وهو ما ينطبق على مسألة الكفاءة في النكاح، ونلاحظ أنه إذا كان مذهب أبي حنيفة -الذي أخذ به القانون- أن للمرأة تزويج نفسها بدون الولي، إلا أنه احتاط للأولياء "فتوسعوا في الأمور التي تعتبر فيها الكفاءة في النكاح حتى لا تسيء المرأة استعمال هذا الحق فتتخذه تكأة لتزويج نفسها لمن تريد غير عابئة بما يحيط هذا الزواج، وما يترتب عليه من مشاكل اجتماعية لا ينفك عنها أمثال هذه الزيجات غالبًا، فلهذا احتاط الفقه الحنفي في هذه المسألة وأجازوا للولي طلب الفسخ إن زوَّجت المرأة نفسها بدون إذنه حال كون الزوج غير كفء لها، إلا إن زالت الكفاءة أو اختلت بعد العقد، وهذا من محاسن الفقه الحنفي الذي يسد بابًا كبيرًا من الخلل والنزاعات المترتبة على كثير من الزيجات التي تنفرد المرأة فيها بإرادتها دون إذن الولي وهو ما نشاهده في عصرنا، لا سيما فيما يُسمَّى بـ(الزواج العرفي بين شباب الجامعة).

وعليه: فللولي حق طلب فسخ النكاح إذا زوَّجت موليته نفسها لغير كفء بدون إذنه، أما إذا زوَّجت نفسها لكفء مع اكتمال شروط العقد فالزواج صحيح نافذ ليس للولي حق طلب الفسخ ولو كان بدون إذنه -على ما هو المعمول به في قانون الأحوال الشخصية-، ومدار الأمر كله على تقدير القضاء في هذه المسألة؛ حيث إن أمر الكفاءة مما تختلف فيه الأنظار، وما كان كذلك فلا بد فيه من تدخل القضاء.
والله سبحانه وتعالى أعلم.

التفاصيل ....


هذه المسألة لها شقان، أولًا: الشق الفقهي، وثانيًا: الشق القانوني المعمول به في قانون الأحوال الشخصية.

فمن الناحية الفقهية: فالكفاءة في النكاح تعني المساواة بين الزوج والزوجة في أمور معينة، وقد اختلف الفقهاء في تحديد هذه الأمور، فيرى الحنفية أن المعتبر في الكفاءة: الدِّين والنسب والحرية والديانة والحرفة والمال. راجع: "رد المحتار" (3/ 84، ط. دار الفكر).

ويرى الشافعية اعتبارها في النسب والسلامة من العيوب والدين والصلاح والحرفة والحرية. راجع: "تحفة المحتاج" (4/ 270، ط. دار الكتب العلمية).

أما الحنابلة فقد وردت عنهم روايتان عن الإمام أحمد؛ إحداهما: كالمذهب الشافعي -ما عدا السلامة من العيوب-، والأخرى اعتبرت الكفاءة في الدين والنسب واختلفت فيما عداها. راجع: "الإنصاف" (8/ 107، ط. دار إحياء التراث العربي).

ويرى المالكية أن الكفاءة هي المماثلة في الدين والسلامة من العيوب. راجع: "الشرح الكبير" للدردير (2/ 248، ط. دار الفكر).

والملاحظ على تحديد الفقهاء لخصال الكفاءة أن اختلاف أئمة المذاهب حول خصال الكفاءة واختلاف أئمة المذهب الواحد حول هذه الخصال دليل على أن ما يُعتَبَر في الكفاءة نسبي مختلف فيه، يعود تقديره إلى العرف، أي: يتأثر بالزمان والمكان؛ ولذلك لم تحدد خصال الكفاءة كما حددت مثلًا مصارف الزكاة، وبالتالي كانت مثار خلاف بين الفقهاء، وتحديد بعض ما يعتبر منها كان مصدره ما تعارف عليه الناس، ولذا اختلفت بعض أحكام الكفاءة باختلاف البقاع والأزمان، ويدل على ذلك ما نقله الفقهاء عند حديثهم عن الكفاءة؛ ففي "تحفة المحتاج" للشيخ ابن حجر الهيتمي عند كلامه على الحرفة (7/ 281، ط. دار إحياء التراث العربي): [(و) خامسها (حرفة... فصاحب حرفة دنيئة) بالهمز والمد وهي ما دلت ملابسته على انحطاط المروءة وسقوط النفس. قال المتولي: وليس منها نجارة بالنون وخبازة. وقال الروياني: يراعى فيها عادة البلد، فإن الزراعة قد تفضل التجارة في بلد وفي بلد آخر بالعكس. وظاهر كلام غيره أن الاعتبار في ذلك بالعرف العام، والذي يتجه أن ما نصوا عليه لا يُعتبر فيه عرف كما مر. وما لم ينصوا عليه يعتبر فيه عرف البلد. وهل المراد بلد العقد أو بلد الزوجة؟ كلٌّ محتمل، والثاني أقرب؛ لأن المدار على عارها وعدمه، وذلك إنما يعرف بالنسبة لعرف بلدها، أي التي هي بها حالة العقد، وذكر في "الأنوار" تفاضلًا بين كثير من الحرف ولعله باعتبار عرف بلده] اهـ.

وقال الإمام الكاساني في "البدائع" (2/ 319، ط. دار الكتب العلمية): [لا يكون الفقير كفئًا للغنية؛ لأن التفاخر بالمال أكثر من التفاخر بغيره عادة، وخصوصًا في زماننا هذا] اهـ. فقوله: "خصوصًا في زماننا" إشارة إلى أنه قد راعى في هذا الحكم عرف زمانه.

ثم قال: [وأمَّا الحرفة، فقد ذكر الكرخي أن الكفاءة في الحرف والصناعات معتبرة عند أبي يوسف، فلا يكون الحائك كفئًا للجوهري والصيرفي، وذكر أن أبا حنيفة بنى الأمر فيها على عادة العرب أن مواليهم يعملون هذه الأعمال لا يقصدون بها الحرف، فلا يعيرون بها، وأجاب أبو يوسف على عادة أهل البلاد أنهم يتخذون ذلك حرفة، فيعيرون بالدنيء من الصنائع، فلا يكون بينهم خلاف في الحقيقة] اهـ.

وقال الكمال بن الهمام في "الفتح" (3/ 296، ط. دار الفكر): [فإذا ثبت اعتبار الكفاءة فيمكن ثبوت تفصيلها بعرف الناس فيما يحقرونه ويعيرون به، فيستأنس بالحديث الضعيف في ذلك] اهـ. وراجع: ورقة العمل المقدَّمة من الدكتور/ مروان محمد محروس لمجمع الفقه الإسلامي الهندي في ندوته الثالثة عشرة.

والغرض من اعتبار الكفاءة في الأشياء السابقة تحقيق المساواة في أمور اجتماعية من أجل توفير استقرار الحياة الزوجية، وتحقيق السعادة بين الزوجين؛ بحيث لا تُعَيَّر المرأة وأولياؤها بالزوج بحسب العرف، وعلى الرغم من ذلك فإن الفقهاء اختلفوا في تأثير هذه الغاية والغرض بحيث تصبح الكفاءة شرطًا في النكاح على رأيين:

أولهما: أن الكفاءة لا مدخل لها في شروط النكاح، فيصح النكاح ويلزم ولو انعدمت الكفاءة، وهذا رأي سفيان الثوري والحسن البصري وحماد، وابن حزم. انظر: "المغني" (7/ 33)، و"المحلى" (9/ 151).

ثانيهما: وهو رأي جمهور الفقهاء: أن الكفاءة شرط معتبرٌ في النكاح، وهذا ما عليه المذاهب الأربعة، وإن اختلفوا فيما بينهم هل هو شرط صحة أم لزوم؟ والفرق بين اللزوم والصحة أن كون الكفاءة شرطًا للزوم العقد معناه أن المرأة إذا تزوجت غير كفءٍ كان العقد صحيحًا، وكان لأوليائها حق الاعتراض عليه وطلب فسخه دفعًا لضرر العار عن أنفسهم، إلا أن يسقطوا حقَّهم في الاعتراض فيلزم، ولو كانت الكفاءة شرطًا للصحة لما صح العقد أصلًا.

استدل من لا يرى الكفاءة في النكاح بقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ [الحجرات: 10]، وقوله تعالى: ﴿فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ﴾ [النساء: 3]، وقد أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فاطمة بنت قيس رضي الله عنها، وهي قرشية أن تنكح أسامة بن زيد رضي الله عنهما، وهو من الموالي؛ يقول الإمام ابن حزم في "المحلى" (9/ 151، ط. دار الفكر): [وأهل الإسلام كلهم إخوة لا يحرم على ابنٍ مِن زنجية لِغِيَّةٍ نكاحُ ابنةِ الخليفة الهاشمي، والفاسق الذي بلغ الغاية من الفسق المسلم -ما لم يكن زانيًا- كفء للمسلمة الفاضلة، وكذلك الفاضل المسلم كفء للمسلمة الفاسقة ما لم تكن زانية] اهـ. وفلان لغِيَّة: بالكسر والفتح كلمة تقال في الشتم، كما تقول: لزنية أو لغير رشدة).

كما أن الكفاءة غير معتبرة فيما هو أهم وأخطر من النكاح وهو الدماء؛ حيث لم تعتبر الكفاءة بين المجني والمجني عليه في القصاص، فلأن لا تعتبر في النكاح أولى. راجع: "بدائع الصنائع" (2/ 317).

وقد استدل الجمهور على اشتراط الكفاءة عمومًا في النكاح بما يلي:
1) قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «لَا تنْكِحُوا النِّسَاءَ إِلَّا الْأَكْفَاءَ، وَلَا يُزَوِّجُهُنَّ إِلَّا الْأَوْلِيَاءُ» أخرجه الدارقطني والبيهقي.
2) عن السيدة عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «تَخَيَّرُوا لِنُطَفِكُمْ، وَانْكِحُوا الْأَكْفَاءَ، وَأَنْكِحُوا إِلَيْهِمْ» أخرجه ابن ماجه والحاكم.
ووجه الدلالة من الحديثين واضح.
3) أن تزويج الولي موليته مع فقد الكفاءة تصرف في حق الغير بغير إذنه، فلم يصح كما لو زوجها بغير إذنها. راجع: "المغني" (10/ 388).
4) أن انتظام المصالح يكون عادة بين المتكافئين، والنكاح شرع لانتظامها، ولا تنتظم المصالح بين غير المتكافئين، فالشريفة تأبى أن تكون مستفرشة للخسيس، وتعيَّر بذلك؛ لأن دناءة الفراش تغيضها وتجلب لها ولأوليائها العار، إضافة إلى ذلك فالولد سوف يتسمَّى باسم الأب وهو ما يزيد العار عارًا.

وما استدل به ابن حزم ومن معه ليس في قوة أدلة الجمهور، ولا يقاوم أدلة الجمهور، فأُخُوَّة المؤمنين الثابتة بنص القرآن المستلزمة مساواتهم إنما هي المساواة في الحقوق والواجبات، ولا ريب أن هذا التساوي لا ينافي التفاضل فيما جرت الأعراف بالتفاضل به كالعلم والرزق والحرف، ولا يعارض ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم في خطبة الوداع: «أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ، وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبيٍّ، وَلَا أَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ، إِلَّا بِالتَّقْوَى» رواه أحمد، فإن التفاضل الثابت في الحديث محمول على الفضل الأخروي. راجع: "نيل الأوطار" (5/ 100، ط. دار الحديث بالقاهرة).

كما أن عدم اعتبار الكفاءة في القصاص لا يقاس عليه؛ لأن عدم اعتبارها فيه من حيث إن القصاص شرع لحفظ حق الحياة الذي يتساوى فيه الناس غنيهم وفقيرهم، ولأجل هذا الحق قامت حروب ومعارك سالت فيها الدماء بلا مراعاة لكفاءة من عدمها بين القاتل والمقتول، واعتبارها فيه يفوِّت هذه المصلحة، بخلاف النكاح، فإنه شرع لدوام العشرة وتكوين الأسرة، وعدم اعتبار الكفاءة فيه مفوِّت لهذا المقصد.

هذا من الناحية الفقهية لمسألة اعتبار الكفاءة، أما من الناحية القانونية فإن القانون المصري لم يُصَرِّح في مواده بهذه المسألة بخصوصها، إلا أن الفقه القانوني سار على مذهب الجمهور. انظر: "موسوعة الفقه والقضاء في الأحوال الشخصية" للمستشار/ محمد عزمي البكري (1/ 330، ط. دار محمود).

وقد جاء في المذكرة الإيضاحية لتعديلات قانون الأحوال الشخصية رقم (100) لسنة 1985م أن الأحكام القانونية الخاصة بالأحوال الشخصية إن لم يُنَص عليها فإنه يُحكَم فيها بأرجح الأقوال من مذهب أبى حنيفة، ما عدا ما استثني مِن ذلك، وهو ما ينطبق على مسألة الكفاءة في النكاح، ونلاحظ أنه إذا كان مذهب أبي حنيفة -الذي أخذ به القانون- أن للمرأة تزويج نفسها بدون الولي، إلا أنه احتاط للأولياء "فتوسعوا في الأمور التي تعتبر فيها الكفاءة في النكاح حتى لا تسيء المرأة استعمال هذا الحق فتتخذه تكأة لتزويج نفسها لمن تريد غير عابئة بما يحيط هذا الزواج، وما يترتب عليه من مشاكل اجتماعية لا ينفك عنها أمثال هذه الزيجات غالبًا، فلهذا احتاط الفقه الحنفي في هذه المسألة وأجازوا للولي طلب الفسخ إن زوَّجت المرأة نفسها بدون إذنه حال كون الزوج غير كفء لها، إلا إن زالت الكفاءة أو اختلت بعد العقد، وهذا من محاسن الفقه الحنفي الذي يسد بابًا كبيرًا من الخلل والنزاعات المترتبة على كثير من الزيجات التي تنفرد المرأة فيها بإرادتها دون إذن الولي وهو ما نشاهده في عصرنا، لا سيما فيما يُسمَّى بـ(الزواج العرفي بين شباب الجامعة).

وعليه: فللولي حق طلب فسخ النكاح إذا زوَّجت موليته نفسها لغير كفء بدون إذنه، أما إذا زوَّجت نفسها لكفء مع اكتمال شروط العقد فالزواج صحيح نافذ ليس للولي حق طلب الفسخ ولو كان بدون إذنه -على ما هو المعمول به في قانون الأحوال الشخصية-، ومدار الأمر كله على تقدير القضاء في هذه المسألة؛ حيث إن أمر الكفاءة مما تختلف فيه الأنظار، وما كان كذلك فلا بد فيه من تدخل القضاء.
والله سبحانه وتعالى أعلم.

اقرأ أيضا

الكفاءة في النكاح

تقدَّم شاب لخطبة ابنتي ولا أعيب عليه في خُلُقٍ أو دين، لكن تعليمه ومستواه الاجتماعي هو وأسرته أدنى من مستوانا التعليمي والاجتماعي، فهل يعتبر هذا الشاب كفئًا لابنتي، أم أن التعليم والمستوى الاجتماعي لا مدخل لهما في الكفاءة؟


هذه المسألة لها شقان، أولًا: الشق الفقهي، وثانيًا: الشق القانوني المعمول به في قانون الأحوال الشخصية.

فمن الناحية الفقهية: فالكفاءة في النكاح تعني المساواة بين الزوج والزوجة في أمور معينة، وقد اختلف الفقهاء في تحديد هذه الأمور، فيرى الحنفية أن المعتبر في الكفاءة: الدِّين والنسب والحرية والديانة والحرفة والمال. راجع: "رد المحتار" (3/ 84، ط. دار الفكر).

ويرى الشافعية اعتبارها في النسب والسلامة من العيوب والدين والصلاح والحرفة والحرية. راجع: "تحفة المحتاج" (4/ 270، ط. دار الكتب العلمية).

أما الحنابلة فقد وردت عنهم روايتان عن الإمام أحمد؛ إحداهما: كالمذهب الشافعي -ما عدا السلامة من العيوب-، والأخرى اعتبرت الكفاءة في الدين والنسب واختلفت فيما عداها. راجع: "الإنصاف" (8/ 107، ط. دار إحياء التراث العربي).

ويرى المالكية أن الكفاءة هي المماثلة في الدين والسلامة من العيوب. راجع: "الشرح الكبير" للدردير (2/ 248، ط. دار الفكر).

والملاحظ على تحديد الفقهاء لخصال الكفاءة أن اختلاف أئمة المذاهب حول خصال الكفاءة واختلاف أئمة المذهب الواحد حول هذه الخصال دليل على أن ما يُعتَبَر في الكفاءة نسبي مختلف فيه، يعود تقديره إلى العرف، أي: يتأثر بالزمان والمكان؛ ولذلك لم تحدد خصال الكفاءة كما حددت مثلًا مصارف الزكاة، وبالتالي كانت مثار خلاف بين الفقهاء، وتحديد بعض ما يعتبر منها كان مصدره ما تعارف عليه الناس، ولذا اختلفت بعض أحكام الكفاءة باختلاف البقاع والأزمان، ويدل على ذلك ما نقله الفقهاء عند حديثهم عن الكفاءة؛ ففي "تحفة المحتاج" للشيخ ابن حجر الهيتمي عند كلامه على الحرفة (7/ 281، ط. دار إحياء التراث العربي): [(و) خامسها (حرفة... فصاحب حرفة دنيئة) بالهمز والمد وهي ما دلت ملابسته على انحطاط المروءة وسقوط النفس. قال المتولي: وليس منها نجارة بالنون وخبازة. وقال الروياني: يراعى فيها عادة البلد، فإن الزراعة قد تفضل التجارة في بلد وفي بلد آخر بالعكس. وظاهر كلام غيره أن الاعتبار في ذلك بالعرف العام، والذي يتجه أن ما نصوا عليه لا يُعتبر فيه عرف كما مر. وما لم ينصوا عليه يعتبر فيه عرف البلد. وهل المراد بلد العقد أو بلد الزوجة؟ كلٌّ محتمل، والثاني أقرب؛ لأن المدار على عارها وعدمه، وذلك إنما يعرف بالنسبة لعرف بلدها، أي التي هي بها حالة العقد، وذكر في "الأنوار" تفاضلًا بين كثير من الحرف ولعله باعتبار عرف بلده] اهـ.

وقال الإمام الكاساني في "البدائع" (2/ 319، ط. دار الكتب العلمية): [لا يكون الفقير كفئًا للغنية؛ لأن التفاخر بالمال أكثر من التفاخر بغيره عادة، وخصوصًا في زماننا هذا] اهـ. فقوله: "خصوصًا في زماننا" إشارة إلى أنه قد راعى في هذا الحكم عرف زمانه.

ثم قال: [وأمَّا الحرفة، فقد ذكر الكرخي أن الكفاءة في الحرف والصناعات معتبرة عند أبي يوسف، فلا يكون الحائك كفئًا للجوهري والصيرفي، وذكر أن أبا حنيفة بنى الأمر فيها على عادة العرب أن مواليهم يعملون هذه الأعمال لا يقصدون بها الحرف، فلا يعيرون بها، وأجاب أبو يوسف على عادة أهل البلاد أنهم يتخذون ذلك حرفة، فيعيرون بالدنيء من الصنائع، فلا يكون بينهم خلاف في الحقيقة] اهـ.

وقال الكمال بن الهمام في "الفتح" (3/ 296، ط. دار الفكر): [فإذا ثبت اعتبار الكفاءة فيمكن ثبوت تفصيلها بعرف الناس فيما يحقرونه ويعيرون به، فيستأنس بالحديث الضعيف في ذلك] اهـ. وراجع: ورقة العمل المقدَّمة من الدكتور/ مروان محمد محروس لمجمع الفقه الإسلامي الهندي في ندوته الثالثة عشرة.

والغرض من اعتبار الكفاءة في الأشياء السابقة تحقيق المساواة في أمور اجتماعية من أجل توفير استقرار الحياة الزوجية، وتحقيق السعادة بين الزوجين؛ بحيث لا تُعَيَّر المرأة وأولياؤها بالزوج بحسب العرف، وعلى الرغم من ذلك فإن الفقهاء اختلفوا في تأثير هذه الغاية والغرض بحيث تصبح الكفاءة شرطًا في النكاح على رأيين:

أولهما: أن الكفاءة لا مدخل لها في شروط النكاح، فيصح النكاح ويلزم ولو انعدمت الكفاءة، وهذا رأي سفيان الثوري والحسن البصري وحماد، وابن حزم. انظر: "المغني" (7/ 33)، و"المحلى" (9/ 151).

ثانيهما: وهو رأي جمهور الفقهاء: أن الكفاءة شرط معتبرٌ في النكاح، وهذا ما عليه المذاهب الأربعة، وإن اختلفوا فيما بينهم هل هو شرط صحة أم لزوم؟ والفرق بين اللزوم والصحة أن كون الكفاءة شرطًا للزوم العقد معناه أن المرأة إذا تزوجت غير كفءٍ كان العقد صحيحًا، وكان لأوليائها حق الاعتراض عليه وطلب فسخه دفعًا لضرر العار عن أنفسهم، إلا أن يسقطوا حقَّهم في الاعتراض فيلزم، ولو كانت الكفاءة شرطًا للصحة لما صح العقد أصلًا.

استدل من لا يرى الكفاءة في النكاح بقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ [الحجرات: 10]، وقوله تعالى: ﴿فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ﴾ [النساء: 3]، وقد أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فاطمة بنت قيس رضي الله عنها، وهي قرشية أن تنكح أسامة بن زيد رضي الله عنهما، وهو من الموالي؛ يقول الإمام ابن حزم في "المحلى" (9/ 151، ط. دار الفكر): [وأهل الإسلام كلهم إخوة لا يحرم على ابنٍ مِن زنجية لِغِيَّةٍ نكاحُ ابنةِ الخليفة الهاشمي، والفاسق الذي بلغ الغاية من الفسق المسلم -ما لم يكن زانيًا- كفء للمسلمة الفاضلة، وكذلك الفاضل المسلم كفء للمسلمة الفاسقة ما لم تكن زانية] اهـ. وفلان لغِيَّة: بالكسر والفتح كلمة تقال في الشتم، كما تقول: لزنية أو لغير رشدة).

كما أن الكفاءة غير معتبرة فيما هو أهم وأخطر من النكاح وهو الدماء؛ حيث لم تعتبر الكفاءة بين المجني والمجني عليه في القصاص، فلأن لا تعتبر في النكاح أولى. راجع: "بدائع الصنائع" (2/ 317).

وقد استدل الجمهور على اشتراط الكفاءة عمومًا في النكاح بما يلي:
1) قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «لَا تنْكِحُوا النِّسَاءَ إِلَّا الْأَكْفَاءَ، وَلَا يُزَوِّجُهُنَّ إِلَّا الْأَوْلِيَاءُ» أخرجه الدارقطني والبيهقي.
2) عن السيدة عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «تَخَيَّرُوا لِنُطَفِكُمْ، وَانْكِحُوا الْأَكْفَاءَ، وَأَنْكِحُوا إِلَيْهِمْ» أخرجه ابن ماجه والحاكم.
ووجه الدلالة من الحديثين واضح.
3) أن تزويج الولي موليته مع فقد الكفاءة تصرف في حق الغير بغير إذنه، فلم يصح كما لو زوجها بغير إذنها. راجع: "المغني" (10/ 388).
4) أن انتظام المصالح يكون عادة بين المتكافئين، والنكاح شرع لانتظامها، ولا تنتظم المصالح بين غير المتكافئين، فالشريفة تأبى أن تكون مستفرشة للخسيس، وتعيَّر بذلك؛ لأن دناءة الفراش تغيضها وتجلب لها ولأوليائها العار، إضافة إلى ذلك فالولد سوف يتسمَّى باسم الأب وهو ما يزيد العار عارًا.

وما استدل به ابن حزم ومن معه ليس في قوة أدلة الجمهور، ولا يقاوم أدلة الجمهور، فأُخُوَّة المؤمنين الثابتة بنص القرآن المستلزمة مساواتهم إنما هي المساواة في الحقوق والواجبات، ولا ريب أن هذا التساوي لا ينافي التفاضل فيما جرت الأعراف بالتفاضل به كالعلم والرزق والحرف، ولا يعارض ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم في خطبة الوداع: «أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ، وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبيٍّ، وَلَا أَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ، إِلَّا بِالتَّقْوَى» رواه أحمد، فإن التفاضل الثابت في الحديث محمول على الفضل الأخروي. راجع: "نيل الأوطار" (5/ 100، ط. دار الحديث بالقاهرة).

كما أن عدم اعتبار الكفاءة في القصاص لا يقاس عليه؛ لأن عدم اعتبارها فيه من حيث إن القصاص شرع لحفظ حق الحياة الذي يتساوى فيه الناس غنيهم وفقيرهم، ولأجل هذا الحق قامت حروب ومعارك سالت فيها الدماء بلا مراعاة لكفاءة من عدمها بين القاتل والمقتول، واعتبارها فيه يفوِّت هذه المصلحة، بخلاف النكاح، فإنه شرع لدوام العشرة وتكوين الأسرة، وعدم اعتبار الكفاءة فيه مفوِّت لهذا المقصد.

هذا من الناحية الفقهية لمسألة اعتبار الكفاءة، أما من الناحية القانونية فإن القانون المصري لم يُصَرِّح في مواده بهذه المسألة بخصوصها، إلا أن الفقه القانوني سار على مذهب الجمهور. انظر: "موسوعة الفقه والقضاء في الأحوال الشخصية" للمستشار/ محمد عزمي البكري (1/ 330، ط. دار محمود).

وقد جاء في المذكرة الإيضاحية لتعديلات قانون الأحوال الشخصية رقم (100) لسنة 1985م أن الأحكام القانونية الخاصة بالأحوال الشخصية إن لم يُنَص عليها فإنه يُحكَم فيها بأرجح الأقوال من مذهب أبى حنيفة، ما عدا ما استثني مِن ذلك، وهو ما ينطبق على مسألة الكفاءة في النكاح، ونلاحظ أنه إذا كان مذهب أبي حنيفة -الذي أخذ به القانون- أن للمرأة تزويج نفسها بدون الولي، إلا أنه احتاط للأولياء "فتوسعوا في الأمور التي تعتبر فيها الكفاءة في النكاح حتى لا تسيء المرأة استعمال هذا الحق فتتخذه تكأة لتزويج نفسها لمن تريد غير عابئة بما يحيط هذا الزواج، وما يترتب عليه من مشاكل اجتماعية لا ينفك عنها أمثال هذه الزيجات غالبًا، فلهذا احتاط الفقه الحنفي في هذه المسألة وأجازوا للولي طلب الفسخ إن زوَّجت المرأة نفسها بدون إذنه حال كون الزوج غير كفء لها، إلا إن زالت الكفاءة أو اختلت بعد العقد، وهذا من محاسن الفقه الحنفي الذي يسد بابًا كبيرًا من الخلل والنزاعات المترتبة على كثير من الزيجات التي تنفرد المرأة فيها بإرادتها دون إذن الولي وهو ما نشاهده في عصرنا، لا سيما فيما يُسمَّى بـ(الزواج العرفي بين شباب الجامعة).

وعليه: فللولي حق طلب فسخ النكاح إذا زوَّجت موليته نفسها لغير كفء بدون إذنه، أما إذا زوَّجت نفسها لكفء مع اكتمال شروط العقد فالزواج صحيح نافذ ليس للولي حق طلب الفسخ ولو كان بدون إذنه -على ما هو المعمول به في قانون الأحوال الشخصية-، ومدار الأمر كله على تقدير القضاء في هذه المسألة؛ حيث إن أمر الكفاءة مما تختلف فيه الأنظار، وما كان كذلك فلا بد فيه من تدخل القضاء.
والله سبحانه وتعالى أعلم.

التفاصيل ....


هذه المسألة لها شقان، أولًا: الشق الفقهي، وثانيًا: الشق القانوني المعمول به في قانون الأحوال الشخصية.

فمن الناحية الفقهية: فالكفاءة في النكاح تعني المساواة بين الزوج والزوجة في أمور معينة، وقد اختلف الفقهاء في تحديد هذه الأمور، فيرى الحنفية أن المعتبر في الكفاءة: الدِّين والنسب والحرية والديانة والحرفة والمال. راجع: "رد المحتار" (3/ 84، ط. دار الفكر).

ويرى الشافعية اعتبارها في النسب والسلامة من العيوب والدين والصلاح والحرفة والحرية. راجع: "تحفة المحتاج" (4/ 270، ط. دار الكتب العلمية).

أما الحنابلة فقد وردت عنهم روايتان عن الإمام أحمد؛ إحداهما: كالمذهب الشافعي -ما عدا السلامة من العيوب-، والأخرى اعتبرت الكفاءة في الدين والنسب واختلفت فيما عداها. راجع: "الإنصاف" (8/ 107، ط. دار إحياء التراث العربي).

ويرى المالكية أن الكفاءة هي المماثلة في الدين والسلامة من العيوب. راجع: "الشرح الكبير" للدردير (2/ 248، ط. دار الفكر).

والملاحظ على تحديد الفقهاء لخصال الكفاءة أن اختلاف أئمة المذاهب حول خصال الكفاءة واختلاف أئمة المذهب الواحد حول هذه الخصال دليل على أن ما يُعتَبَر في الكفاءة نسبي مختلف فيه، يعود تقديره إلى العرف، أي: يتأثر بالزمان والمكان؛ ولذلك لم تحدد خصال الكفاءة كما حددت مثلًا مصارف الزكاة، وبالتالي كانت مثار خلاف بين الفقهاء، وتحديد بعض ما يعتبر منها كان مصدره ما تعارف عليه الناس، ولذا اختلفت بعض أحكام الكفاءة باختلاف البقاع والأزمان، ويدل على ذلك ما نقله الفقهاء عند حديثهم عن الكفاءة؛ ففي "تحفة المحتاج" للشيخ ابن حجر الهيتمي عند كلامه على الحرفة (7/ 281، ط. دار إحياء التراث العربي): [(و) خامسها (حرفة... فصاحب حرفة دنيئة) بالهمز والمد وهي ما دلت ملابسته على انحطاط المروءة وسقوط النفس. قال المتولي: وليس منها نجارة بالنون وخبازة. وقال الروياني: يراعى فيها عادة البلد، فإن الزراعة قد تفضل التجارة في بلد وفي بلد آخر بالعكس. وظاهر كلام غيره أن الاعتبار في ذلك بالعرف العام، والذي يتجه أن ما نصوا عليه لا يُعتبر فيه عرف كما مر. وما لم ينصوا عليه يعتبر فيه عرف البلد. وهل المراد بلد العقد أو بلد الزوجة؟ كلٌّ محتمل، والثاني أقرب؛ لأن المدار على عارها وعدمه، وذلك إنما يعرف بالنسبة لعرف بلدها، أي التي هي بها حالة العقد، وذكر في "الأنوار" تفاضلًا بين كثير من الحرف ولعله باعتبار عرف بلده] اهـ.

وقال الإمام الكاساني في "البدائع" (2/ 319، ط. دار الكتب العلمية): [لا يكون الفقير كفئًا للغنية؛ لأن التفاخر بالمال أكثر من التفاخر بغيره عادة، وخصوصًا في زماننا هذا] اهـ. فقوله: "خصوصًا في زماننا" إشارة إلى أنه قد راعى في هذا الحكم عرف زمانه.

ثم قال: [وأمَّا الحرفة، فقد ذكر الكرخي أن الكفاءة في الحرف والصناعات معتبرة عند أبي يوسف، فلا يكون الحائك كفئًا للجوهري والصيرفي، وذكر أن أبا حنيفة بنى الأمر فيها على عادة العرب أن مواليهم يعملون هذه الأعمال لا يقصدون بها الحرف، فلا يعيرون بها، وأجاب أبو يوسف على عادة أهل البلاد أنهم يتخذون ذلك حرفة، فيعيرون بالدنيء من الصنائع، فلا يكون بينهم خلاف في الحقيقة] اهـ.

وقال الكمال بن الهمام في "الفتح" (3/ 296، ط. دار الفكر): [فإذا ثبت اعتبار الكفاءة فيمكن ثبوت تفصيلها بعرف الناس فيما يحقرونه ويعيرون به، فيستأنس بالحديث الضعيف في ذلك] اهـ. وراجع: ورقة العمل المقدَّمة من الدكتور/ مروان محمد محروس لمجمع الفقه الإسلامي الهندي في ندوته الثالثة عشرة.

والغرض من اعتبار الكفاءة في الأشياء السابقة تحقيق المساواة في أمور اجتماعية من أجل توفير استقرار الحياة الزوجية، وتحقيق السعادة بين الزوجين؛ بحيث لا تُعَيَّر المرأة وأولياؤها بالزوج بحسب العرف، وعلى الرغم من ذلك فإن الفقهاء اختلفوا في تأثير هذه الغاية والغرض بحيث تصبح الكفاءة شرطًا في النكاح على رأيين:

أولهما: أن الكفاءة لا مدخل لها في شروط النكاح، فيصح النكاح ويلزم ولو انعدمت الكفاءة، وهذا رأي سفيان الثوري والحسن البصري وحماد، وابن حزم. انظر: "المغني" (7/ 33)، و"المحلى" (9/ 151).

ثانيهما: وهو رأي جمهور الفقهاء: أن الكفاءة شرط معتبرٌ في النكاح، وهذا ما عليه المذاهب الأربعة، وإن اختلفوا فيما بينهم هل هو شرط صحة أم لزوم؟ والفرق بين اللزوم والصحة أن كون الكفاءة شرطًا للزوم العقد معناه أن المرأة إذا تزوجت غير كفءٍ كان العقد صحيحًا، وكان لأوليائها حق الاعتراض عليه وطلب فسخه دفعًا لضرر العار عن أنفسهم، إلا أن يسقطوا حقَّهم في الاعتراض فيلزم، ولو كانت الكفاءة شرطًا للصحة لما صح العقد أصلًا.

استدل من لا يرى الكفاءة في النكاح بقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ [الحجرات: 10]، وقوله تعالى: ﴿فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ﴾ [النساء: 3]، وقد أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فاطمة بنت قيس رضي الله عنها، وهي قرشية أن تنكح أسامة بن زيد رضي الله عنهما، وهو من الموالي؛ يقول الإمام ابن حزم في "المحلى" (9/ 151، ط. دار الفكر): [وأهل الإسلام كلهم إخوة لا يحرم على ابنٍ مِن زنجية لِغِيَّةٍ نكاحُ ابنةِ الخليفة الهاشمي، والفاسق الذي بلغ الغاية من الفسق المسلم -ما لم يكن زانيًا- كفء للمسلمة الفاضلة، وكذلك الفاضل المسلم كفء للمسلمة الفاسقة ما لم تكن زانية] اهـ. وفلان لغِيَّة: بالكسر والفتح كلمة تقال في الشتم، كما تقول: لزنية أو لغير رشدة).

كما أن الكفاءة غير معتبرة فيما هو أهم وأخطر من النكاح وهو الدماء؛ حيث لم تعتبر الكفاءة بين المجني والمجني عليه في القصاص، فلأن لا تعتبر في النكاح أولى. راجع: "بدائع الصنائع" (2/ 317).

وقد استدل الجمهور على اشتراط الكفاءة عمومًا في النكاح بما يلي:
1) قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «لَا تنْكِحُوا النِّسَاءَ إِلَّا الْأَكْفَاءَ، وَلَا يُزَوِّجُهُنَّ إِلَّا الْأَوْلِيَاءُ» أخرجه الدارقطني والبيهقي.
2) عن السيدة عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «تَخَيَّرُوا لِنُطَفِكُمْ، وَانْكِحُوا الْأَكْفَاءَ، وَأَنْكِحُوا إِلَيْهِمْ» أخرجه ابن ماجه والحاكم.
ووجه الدلالة من الحديثين واضح.
3) أن تزويج الولي موليته مع فقد الكفاءة تصرف في حق الغير بغير إذنه، فلم يصح كما لو زوجها بغير إذنها. راجع: "المغني" (10/ 388).
4) أن انتظام المصالح يكون عادة بين المتكافئين، والنكاح شرع لانتظامها، ولا تنتظم المصالح بين غير المتكافئين، فالشريفة تأبى أن تكون مستفرشة للخسيس، وتعيَّر بذلك؛ لأن دناءة الفراش تغيضها وتجلب لها ولأوليائها العار، إضافة إلى ذلك فالولد سوف يتسمَّى باسم الأب وهو ما يزيد العار عارًا.

وما استدل به ابن حزم ومن معه ليس في قوة أدلة الجمهور، ولا يقاوم أدلة الجمهور، فأُخُوَّة المؤمنين الثابتة بنص القرآن المستلزمة مساواتهم إنما هي المساواة في الحقوق والواجبات، ولا ريب أن هذا التساوي لا ينافي التفاضل فيما جرت الأعراف بالتفاضل به كالعلم والرزق والحرف، ولا يعارض ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم في خطبة الوداع: «أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ، وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبيٍّ، وَلَا أَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ، إِلَّا بِالتَّقْوَى» رواه أحمد، فإن التفاضل الثابت في الحديث محمول على الفضل الأخروي. راجع: "نيل الأوطار" (5/ 100، ط. دار الحديث بالقاهرة).

كما أن عدم اعتبار الكفاءة في القصاص لا يقاس عليه؛ لأن عدم اعتبارها فيه من حيث إن القصاص شرع لحفظ حق الحياة الذي يتساوى فيه الناس غنيهم وفقيرهم، ولأجل هذا الحق قامت حروب ومعارك سالت فيها الدماء بلا مراعاة لكفاءة من عدمها بين القاتل والمقتول، واعتبارها فيه يفوِّت هذه المصلحة، بخلاف النكاح، فإنه شرع لدوام العشرة وتكوين الأسرة، وعدم اعتبار الكفاءة فيه مفوِّت لهذا المقصد.

هذا من الناحية الفقهية لمسألة اعتبار الكفاءة، أما من الناحية القانونية فإن القانون المصري لم يُصَرِّح في مواده بهذه المسألة بخصوصها، إلا أن الفقه القانوني سار على مذهب الجمهور. انظر: "موسوعة الفقه والقضاء في الأحوال الشخصية" للمستشار/ محمد عزمي البكري (1/ 330، ط. دار محمود).

وقد جاء في المذكرة الإيضاحية لتعديلات قانون الأحوال الشخصية رقم (100) لسنة 1985م أن الأحكام القانونية الخاصة بالأحوال الشخصية إن لم يُنَص عليها فإنه يُحكَم فيها بأرجح الأقوال من مذهب أبى حنيفة، ما عدا ما استثني مِن ذلك، وهو ما ينطبق على مسألة الكفاءة في النكاح، ونلاحظ أنه إذا كان مذهب أبي حنيفة -الذي أخذ به القانون- أن للمرأة تزويج نفسها بدون الولي، إلا أنه احتاط للأولياء "فتوسعوا في الأمور التي تعتبر فيها الكفاءة في النكاح حتى لا تسيء المرأة استعمال هذا الحق فتتخذه تكأة لتزويج نفسها لمن تريد غير عابئة بما يحيط هذا الزواج، وما يترتب عليه من مشاكل اجتماعية لا ينفك عنها أمثال هذه الزيجات غالبًا، فلهذا احتاط الفقه الحنفي في هذه المسألة وأجازوا للولي طلب الفسخ إن زوَّجت المرأة نفسها بدون إذنه حال كون الزوج غير كفء لها، إلا إن زالت الكفاءة أو اختلت بعد العقد، وهذا من محاسن الفقه الحنفي الذي يسد بابًا كبيرًا من الخلل والنزاعات المترتبة على كثير من الزيجات التي تنفرد المرأة فيها بإرادتها دون إذن الولي وهو ما نشاهده في عصرنا، لا سيما فيما يُسمَّى بـ(الزواج العرفي بين شباب الجامعة).

وعليه: فللولي حق طلب فسخ النكاح إذا زوَّجت موليته نفسها لغير كفء بدون إذنه، أما إذا زوَّجت نفسها لكفء مع اكتمال شروط العقد فالزواج صحيح نافذ ليس للولي حق طلب الفسخ ولو كان بدون إذنه -على ما هو المعمول به في قانون الأحوال الشخصية-، ومدار الأمر كله على تقدير القضاء في هذه المسألة؛ حيث إن أمر الكفاءة مما تختلف فيه الأنظار، وما كان كذلك فلا بد فيه من تدخل القضاء.
والله سبحانه وتعالى أعلم.

اقرأ أيضا
;