نفقة تزويج الأولاد

هل يجب على الأب تزويجُ ولده إذا احتاج لذلك؟

يحتاج بعض الأبناء إلى الزواج، وقد يصل الأمر أحيانًا إلى أنهم يشعرون بالحرج الشديد من خشية الوقوع في الفاحشة، ولا سبيل إلا أن يقوموا بإعفاف أنفسهم بالزواج، ويطالبون آباءهم بمساعدتهم في ذلك.

وقد يَرِدُ على المكلف حالة تجعل الزواج في حقه واجبًا، ولذا قسم العلماء الزواج إلى الأحكام التكليفية الخمسة.

قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (9/ 110، ط. دار المعرفة): [وقد قسم العلماء الرجل في التزويج إلى أقسام: الأول التائق إليه القادر على مؤنه الخائف على نفسه، فهذا يندب له النكاح عند الجميع، وزاد الحنابلة في رواية أنه يجب، وبذلك قال أبو عوانة الإسفراييني من الشافعية وصرح به في صحيحه، ونقله المصيصي في شرح مختصر الجويني وجهًا، وهو قول داود وأتباعه ... الذين قالوا بوجوبه قيدوه بما إذا لم يندفع التوقان بالتسري، فإذا لم يندفع تعين التزويج، وقد صرَّح بذلك ابن حزم فقال: وفُرِضَ على كل قادرٍ على الوطء إن وجد ما يتزوج به أو يتسرى أن يفعل أحدهما، فإن عجز عن ذلك فليكثر من الصوم، وهو قول جماعة من السلف. وقال ابن دقيق العيد: قسم بعض الفقهاء النكاح إلى الأحكام الخمسة، وجعل الوجوب فيما إذا خاف العنت وقدر على النكاح وتعذر التسري، وكذا حكاه القرطبي عن بعض علمائهم وهو المازري؛ قال: فالوجوب في حق من لا يَنْكَفُّ عن الزنا إلا به كما تقدم] اهـ.

والحكم فيمن خشي على نفسه الوقوع في الفاحشة إن لم يتزوج أن يتزوج إن استطاع، فإن لم يستطع وكان أصله موسرًا وجب على الأصل أن يُعِينَ فرعَه في الزواج في هذه الحالة.

والدليل على ذلك عموم قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا﴾ [التحريم: 6].

ويمكن الاستدلال بقوله تعالى: ﴿وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ﴾ [النور: 32]، وهذا أمر عامٌّ، وأول ما يتوجه إلى الأولياء ما داموا ميسوري الحال.

كما أن ما ورد النص بذكر وجوبه إنما هو للدلالة على ما يتضرر الابن بفقده، فيدخل غير المنصوص عليه بالقياس.

كما أن ترك الوطء أحيانًا ينتج منه آفات مرضية، ومن أجلها صرَّح بعض الفقهاء بجواز فساد صومه بل وإفساد صوم غيره، قال الإمام البهوتي في "كشاف القناع عن متن الإقناع" (2/ 311، ط. دار الكتب العلمية): [(ومن به شبق يخاف أن ينشق ذكره) أو أنثياه أو مثانته (جامع وقضى ولا يكفر نصًّا) نقله إسماعيل بن سعيد الشالنجي. قال أحمد: يجامع ولا يكفر ويقضي يومًا مكانه، وذلك أنه إذا أخذ الرجل هذا ولم يجامع خيف عليه أن ينشق فرجه. (وإن اندفعت شهوته بغيره) أي: غير الجماع (كالاستمناء بيده أو يد زوجته أو) يد (جاريته ونحوه) كالمفاخذة (لم يجز) له الوطء كالصائل يندفع بالأسهل لا ينتقل إلى غيره. (وكذا إن أمكنه أن لا يفسد صوم زوجته) أو أَمَته (المسلمة البالغة بأن يطأ زوجته أو أَمَته الكتابيتين أو) يطأ (زوجته أو أَمَته الصغيرتين) أو المجنونتين (أو) اندفعت شهوته بالوطء (دون الفرْج) فلا يباح له إفساد صومها لعدم الضرورة إليه، قلت: ولعل قياس ذلك إذا أمكنه وطء من لزمها الإمساك كمن طهرت ونحوها في أثناء النهار؛ لأن الإمساك دون الصوم الشرعي خصوصًا فيما فيه خلاف في وجوبه (وإلا) أي: وإن لم يمكنه عدم إفساد صوم الزوجة أو الأَمة المسلمة البالغة (جاز) له إفساد صومها (للضرورة) كأكل الميتة للمضطر. (ومع الضرورة إلى وطء حائض وصائمة بالغ) بأن لم يكن له غيرهما (فوطء الصائمة أولى) من وطء الحائض؛ لأن تحريم وطء الحائض بنص القرآن، (وإن لم تكن) الزوجة أو الأمة الصائمة (بالغًا وجب اجتناب الحائض) للاستغناء عنه بلا محذور، فيطأ الصغيرة وكذا المجنونة. (وإن تعذر قضاؤه) أي: ذي الشبق (لدوام شبقه فَكَكَبِيرٍ عجز عن الصوم على ما تقدم) فيطعم لكل يوم مسكينًا ولا قضاء إلا مع عذر معتاد كمرض أو سفر فلا إطعام ولا قضاء كما تقدم في الكبير، ولعل حكم زوجته أو أَمته التي ليس له غيرها كذلك. (وحكم المريض الذي ينتفع بالجماع) في مرضه (حكم من خاف تشقَّق فرْجه) في جواز الوطء مع الكفارة وإفساد صوم زوجته وأَمته وعدمه] اهـ.

ويقويه أيضًا ما ورد من فعل عمر بن عبد العزيز وهو من الخلفاء الراشدين أنه كان يعطي المحتاج إلى النكاح من بيت المال؛ فعن عاصم بن أبي حبيب قال: كان لعمر بن عبد العزيز منادٍ ينادي كل يوم: أين الغارمون؟ أين الناكحون؟ أين المساكين؟ أين اليتامى؟ ينظر: "تاريخ دمشق لابن عساكر" (45/ 194، ط. دار الفكر).

وبنحو ما ذكرنا قالت طائفة من أهل العلم:
قال الإمام البهوتي في "كشاف القناع" (5/ 486): [(و) يجب أيضًا (على من وجبت عليه النفقة لقريبه إعفاف من وجبت له نفقة من أب وإن علا و) من ابن وإن نزل وغيرهم كأخ وعم (إذا احتاج إلى النكاح لزوجة حرة أو سُرِّيَّةٍ تعفه أو يدفع) المنفق إليه مالا يتزوج به حرة أو يشتري به أَمة؛ لأن ذلك مما تدعو حاجته إليه ويستضر بفقده، فلزم على من تلزمه نفقته. ولا يشبه ذلك الحلوى فإنه لا يستضر بتركها (والتخيير) فيما ذكر (للملزوم بذلك) لأنه المخاطب به، فكانت الخيرة إليه فيه، فيقدم تعيينه على تعيين المعفوف (وليس له أن يزوجه قبيحة ولا أن يملكه إياها) أي أَمة قبيحة لعدم حصول الإعفاف بها (ولا) يزوجه ولا يملكه (كبيرة لا استمتاع بها) لعدم حصول المقصود بها (ولا أن يزوجه أَمة) لما فيه من الضرر عليه لاسترقاق أولاده (ولا يملك) القريب استرجاع ما دفع إليه من جارية ولا عوض ما زوجه به (إذا أيسر) لأنه واجب عليه كالنفقة لا يرجع بها بعد (ويقدم تعيين قريب إذا استوى المهر) على تعيين زوج لما سبق (وَيَصَّدَّقُ) الْمُنْفَقُ عَلَيْهِ (إذا ادعى أنه تَائِقٌ بلا يمين) لأنه الظاهر بمقتضى الجبلَّة (وإن ماتت) التي أعفه بها من زوجة أو أَمَة (أعفَّه ثانيًا) لأنه لا صنع له في ذلك (إلا إن طلَّق لغير عذر أو أعتق) السرية مجانًا بأن لم يجعل عتقها صداقها فلا يلزمه إعفافه ثانيًا، لأنه الذي فوَّت على نفسه] اهـ.

وقال الإمام ابن قدامة في "المغني" (8/ 217، ط. مكتبة القاهرة): [قَالَ أَصْحَابُنَا: وَعَلَى الْأَبِ إعْفَافُ ابْنِهِ إذَا كَانَتْ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ، وَكَانَ مُحْتَاجًا إلَى إعْفَافِهِ. وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَجِبُ ذَلِكَ عَلَيْهِ. وَلَنَا أَنَّهُ مِنْ عَمُودَيْ نَسَبِهِ، وَتَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ، فَيَلْزَمُهُ إعْفَافُهُ عِنْدَ حَاجَتِهِ إلَيْهِ كَأَبِيهِ. قَالَ الْقَاضِي: وَكَذَلِكَ يَجِيءُ فِي كُلِّ مَنْ لَزِمَتْهُ نَفَقَتُهُ؛ مِنْ أَخٍ أَوْ عَمٍّ أَوْ غَيْرِهِمْ؛ لِأَنَّ أَحْمَدَ قَدْ نَصَّ فِي الْعَبْدِ: يَلْزَمُهُ أَنْ يُزَوِّجَهُ إذَا طَلَبَ ذَلِكَ، وَإِلَّا بِيعَ عَلَيْهِ. وَكُلُّ منْ لَزِمَهُ إعْفَافُهُ لَزِمَتْهُ نَفَقَةُ زَوْجَتِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنَ الْإِعْفَافِ إلَّا بِذَلِكَ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ الْأَبَ نَفَقَةُ زَوْجَةِ الِابْنِ. وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ الِابْنَ كَانَ يَجِدُ نَفَقَتَهَا] اهـ.

وقد ذهب كثير من أهل العلم إلى عكس ما ذكرنا، فقالوا بعدم وجوب الإعفاف على الأب، لكنهم أوجبوا ذلك للأب على الابن.

قال شيخ الإسلام زكريا الأنصاري في "أسنى المطالب" (3/ 189، ط. دار الكتاب الإسلامي): [(الطَّرَفُ الثَّالِثُ إعْفَافُ الْأَبِ الْحُرِّ وَلَوْ كَافِرًا لَا الْوَلَدِ وَاجِبٌ) عَلَى ابْنِهِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ وُجُوهِ حَاجَاتِهِ الْمُهِمَّةِ، فَيَجِبُ عَلَى ابْنِهِ الْقَادِرِ عَلَيْهِ (كَنَفَقَتِهِ) وَلِئَلَّا يُعَرِّضَهُ لِلزِّنَا، وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِحُرْمَةِ الْأُبُوَّةِ، وَلَيْسَ مِنَ الْمُصَاحَبَةِ بِالْمَعْرُوفِ الْمَأْمُورِ بِهَا، وَلِأَنَّهُ إذَا احْتَمَلَ لِإِبْقَائِهِ -أي الوالد- فَوَاتَ نَفْسِ الِابْنِ -أي حياته- كَمَا فِي الْقَوَدِ فَفَوَاتُ مَالِهِ أَوْلَى، فَعُلِمَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ إعْفَافُ الْأُمِّ. قَالَ الْإِمَامُ: بَلْ لَا يُتَصَوَّرُ إذْ لَا مُؤْنَةَ عَلَيْهَا فِي النِّكَاحِ، وَلَا إعْفَافُ الْأَبِ غَيْرِ الْحُرِّ؛ لِأَنَّ نِكَاحَهُ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ لَا يَصِحُّ، وَبِإِذْنِهِ يَقْتَضِي تَعَلُّقَ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ بِكَسْبِهِ وَمَالِ تِجَارَتِهِ إنْ كَانَ لَهُ ذَلِكَ، وَبِذِمَّتِهِ إنْ لَمْ يَكُنْ، وَلَا إعْفَافُ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّ حُرْمَتَهُ دُونَ حُرْمَةِ الْأَبِ (فَلَوْ قَدَرَ الْأَبُ عَلَيْهَا) أَيْ عَلَى النَّفَقَةِ (دُونَ) مُؤْنَةِ (الْإِعْفَافِ لَزِمَ الْوَلَدَ) إعْفَافُهُ لِحَاجَتِهِ إلَيْهِ] اهـ.

وفي "الروضة" للإمام النووي (9/ 86، ط. المكتب الإسلامي): [علل الإمام عدم لزوم نفقة زوجة الابن للأب بأنه لا يلزم الأب إعفاف الابن] اهـ.

وما ذكروه من تعليلات غيرُ قوي، وبعض أدلتهم في وجوب إعفاف الآباء هو أيضًا دليلٌ على وجوب إعفاف الأبناء، كقولهم: "لِأَنَّهُ مِنْ وُجُوهِ حَاجَاتِهِ الْمُهِمَّةِ... وَلِئَلَّا يُعَرِّضَهُ لِلزِّنَا". فهو كذلك للابن، بل هو أشد؛ لقوة الشهوة في الأبناء غالبًا أكثر منها في الآباء.

كما أن الضرر اللاحق من ترك الوطء أشدُّ من الضرر اللاحق بسبب النفقة أحيانًا، وقد صرَّح بهذا بعض أهل العلم في مسألة غياب السيد عن أم ولده وتضررها بذلك.

قال الإمام المرداوي في "الإنصاف" (9/ 410، ط. دار إحياء التراث العربي): [فائدة: لو غاب عن أم ولده، واحتاجت إلى النفقة: زُوِّجَتْ على الصحيح من المذهب، قال في الفروع: زُوِّجَتْ في الأصح، وقيل: لا تُزَوَّج. ولو احتاجت إلى الوطء: لم تزوج. قدمه في الفروع. وقال: ويتوجه الجواز عند من جعله كنفقة. قلت: وهذا عين الصواب، والضرر اللاحق بذلك أعظمُ من الضرر اللاحق بسبب النفقة. واختاره ابن رجب في كتاب له سماه: "القول الصواب في تزويج أمهات أولاد الغياب"، ذكر فيه أحكام زواجها وزواج الإماء وامرأة المفقود، وأطال في ذلك وأجاد، واستدل لصحة نكاحها بكلام الأصحاب ونصوص الإمام أحمد رحمه الله] اهـ.

فالراجح وجوب الإنفاق على الابن للزواج إن احتاج إليه وخشي على نفسه الوقوع في الفاحشة، ما دام أصلُه من أبٍ أو جدٍّ أو من تلزمه نفقتُه موسرًا.
والله سبحانه وتعالى أعلم.

التفاصيل ....

يحتاج بعض الأبناء إلى الزواج، وقد يصل الأمر أحيانًا إلى أنهم يشعرون بالحرج الشديد من خشية الوقوع في الفاحشة، ولا سبيل إلا أن يقوموا بإعفاف أنفسهم بالزواج، ويطالبون آباءهم بمساعدتهم في ذلك.

وقد يَرِدُ على المكلف حالة تجعل الزواج في حقه واجبًا، ولذا قسم العلماء الزواج إلى الأحكام التكليفية الخمسة.

قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (9/ 110، ط. دار المعرفة): [وقد قسم العلماء الرجل في التزويج إلى أقسام: الأول التائق إليه القادر على مؤنه الخائف على نفسه، فهذا يندب له النكاح عند الجميع، وزاد الحنابلة في رواية أنه يجب، وبذلك قال أبو عوانة الإسفراييني من الشافعية وصرح به في صحيحه، ونقله المصيصي في شرح مختصر الجويني وجهًا، وهو قول داود وأتباعه ... الذين قالوا بوجوبه قيدوه بما إذا لم يندفع التوقان بالتسري، فإذا لم يندفع تعين التزويج، وقد صرَّح بذلك ابن حزم فقال: وفُرِضَ على كل قادرٍ على الوطء إن وجد ما يتزوج به أو يتسرى أن يفعل أحدهما، فإن عجز عن ذلك فليكثر من الصوم، وهو قول جماعة من السلف. وقال ابن دقيق العيد: قسم بعض الفقهاء النكاح إلى الأحكام الخمسة، وجعل الوجوب فيما إذا خاف العنت وقدر على النكاح وتعذر التسري، وكذا حكاه القرطبي عن بعض علمائهم وهو المازري؛ قال: فالوجوب في حق من لا يَنْكَفُّ عن الزنا إلا به كما تقدم] اهـ.

والحكم فيمن خشي على نفسه الوقوع في الفاحشة إن لم يتزوج أن يتزوج إن استطاع، فإن لم يستطع وكان أصله موسرًا وجب على الأصل أن يُعِينَ فرعَه في الزواج في هذه الحالة.

والدليل على ذلك عموم قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا﴾ [التحريم: 6].

ويمكن الاستدلال بقوله تعالى: ﴿وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ﴾ [النور: 32]، وهذا أمر عامٌّ، وأول ما يتوجه إلى الأولياء ما داموا ميسوري الحال.

كما أن ما ورد النص بذكر وجوبه إنما هو للدلالة على ما يتضرر الابن بفقده، فيدخل غير المنصوص عليه بالقياس.

كما أن ترك الوطء أحيانًا ينتج منه آفات مرضية، ومن أجلها صرَّح بعض الفقهاء بجواز فساد صومه بل وإفساد صوم غيره، قال الإمام البهوتي في "كشاف القناع عن متن الإقناع" (2/ 311، ط. دار الكتب العلمية): [(ومن به شبق يخاف أن ينشق ذكره) أو أنثياه أو مثانته (جامع وقضى ولا يكفر نصًّا) نقله إسماعيل بن سعيد الشالنجي. قال أحمد: يجامع ولا يكفر ويقضي يومًا مكانه، وذلك أنه إذا أخذ الرجل هذا ولم يجامع خيف عليه أن ينشق فرجه. (وإن اندفعت شهوته بغيره) أي: غير الجماع (كالاستمناء بيده أو يد زوجته أو) يد (جاريته ونحوه) كالمفاخذة (لم يجز) له الوطء كالصائل يندفع بالأسهل لا ينتقل إلى غيره. (وكذا إن أمكنه أن لا يفسد صوم زوجته) أو أَمَته (المسلمة البالغة بأن يطأ زوجته أو أَمَته الكتابيتين أو) يطأ (زوجته أو أَمَته الصغيرتين) أو المجنونتين (أو) اندفعت شهوته بالوطء (دون الفرْج) فلا يباح له إفساد صومها لعدم الضرورة إليه، قلت: ولعل قياس ذلك إذا أمكنه وطء من لزمها الإمساك كمن طهرت ونحوها في أثناء النهار؛ لأن الإمساك دون الصوم الشرعي خصوصًا فيما فيه خلاف في وجوبه (وإلا) أي: وإن لم يمكنه عدم إفساد صوم الزوجة أو الأَمة المسلمة البالغة (جاز) له إفساد صومها (للضرورة) كأكل الميتة للمضطر. (ومع الضرورة إلى وطء حائض وصائمة بالغ) بأن لم يكن له غيرهما (فوطء الصائمة أولى) من وطء الحائض؛ لأن تحريم وطء الحائض بنص القرآن، (وإن لم تكن) الزوجة أو الأمة الصائمة (بالغًا وجب اجتناب الحائض) للاستغناء عنه بلا محذور، فيطأ الصغيرة وكذا المجنونة. (وإن تعذر قضاؤه) أي: ذي الشبق (لدوام شبقه فَكَكَبِيرٍ عجز عن الصوم على ما تقدم) فيطعم لكل يوم مسكينًا ولا قضاء إلا مع عذر معتاد كمرض أو سفر فلا إطعام ولا قضاء كما تقدم في الكبير، ولعل حكم زوجته أو أَمته التي ليس له غيرها كذلك. (وحكم المريض الذي ينتفع بالجماع) في مرضه (حكم من خاف تشقَّق فرْجه) في جواز الوطء مع الكفارة وإفساد صوم زوجته وأَمته وعدمه] اهـ.

ويقويه أيضًا ما ورد من فعل عمر بن عبد العزيز وهو من الخلفاء الراشدين أنه كان يعطي المحتاج إلى النكاح من بيت المال؛ فعن عاصم بن أبي حبيب قال: كان لعمر بن عبد العزيز منادٍ ينادي كل يوم: أين الغارمون؟ أين الناكحون؟ أين المساكين؟ أين اليتامى؟ ينظر: "تاريخ دمشق لابن عساكر" (45/ 194، ط. دار الفكر).

وبنحو ما ذكرنا قالت طائفة من أهل العلم:
قال الإمام البهوتي في "كشاف القناع" (5/ 486): [(و) يجب أيضًا (على من وجبت عليه النفقة لقريبه إعفاف من وجبت له نفقة من أب وإن علا و) من ابن وإن نزل وغيرهم كأخ وعم (إذا احتاج إلى النكاح لزوجة حرة أو سُرِّيَّةٍ تعفه أو يدفع) المنفق إليه مالا يتزوج به حرة أو يشتري به أَمة؛ لأن ذلك مما تدعو حاجته إليه ويستضر بفقده، فلزم على من تلزمه نفقته. ولا يشبه ذلك الحلوى فإنه لا يستضر بتركها (والتخيير) فيما ذكر (للملزوم بذلك) لأنه المخاطب به، فكانت الخيرة إليه فيه، فيقدم تعيينه على تعيين المعفوف (وليس له أن يزوجه قبيحة ولا أن يملكه إياها) أي أَمة قبيحة لعدم حصول الإعفاف بها (ولا) يزوجه ولا يملكه (كبيرة لا استمتاع بها) لعدم حصول المقصود بها (ولا أن يزوجه أَمة) لما فيه من الضرر عليه لاسترقاق أولاده (ولا يملك) القريب استرجاع ما دفع إليه من جارية ولا عوض ما زوجه به (إذا أيسر) لأنه واجب عليه كالنفقة لا يرجع بها بعد (ويقدم تعيين قريب إذا استوى المهر) على تعيين زوج لما سبق (وَيَصَّدَّقُ) الْمُنْفَقُ عَلَيْهِ (إذا ادعى أنه تَائِقٌ بلا يمين) لأنه الظاهر بمقتضى الجبلَّة (وإن ماتت) التي أعفه بها من زوجة أو أَمَة (أعفَّه ثانيًا) لأنه لا صنع له في ذلك (إلا إن طلَّق لغير عذر أو أعتق) السرية مجانًا بأن لم يجعل عتقها صداقها فلا يلزمه إعفافه ثانيًا، لأنه الذي فوَّت على نفسه] اهـ.

وقال الإمام ابن قدامة في "المغني" (8/ 217، ط. مكتبة القاهرة): [قَالَ أَصْحَابُنَا: وَعَلَى الْأَبِ إعْفَافُ ابْنِهِ إذَا كَانَتْ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ، وَكَانَ مُحْتَاجًا إلَى إعْفَافِهِ. وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَجِبُ ذَلِكَ عَلَيْهِ. وَلَنَا أَنَّهُ مِنْ عَمُودَيْ نَسَبِهِ، وَتَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ، فَيَلْزَمُهُ إعْفَافُهُ عِنْدَ حَاجَتِهِ إلَيْهِ كَأَبِيهِ. قَالَ الْقَاضِي: وَكَذَلِكَ يَجِيءُ فِي كُلِّ مَنْ لَزِمَتْهُ نَفَقَتُهُ؛ مِنْ أَخٍ أَوْ عَمٍّ أَوْ غَيْرِهِمْ؛ لِأَنَّ أَحْمَدَ قَدْ نَصَّ فِي الْعَبْدِ: يَلْزَمُهُ أَنْ يُزَوِّجَهُ إذَا طَلَبَ ذَلِكَ، وَإِلَّا بِيعَ عَلَيْهِ. وَكُلُّ منْ لَزِمَهُ إعْفَافُهُ لَزِمَتْهُ نَفَقَةُ زَوْجَتِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنَ الْإِعْفَافِ إلَّا بِذَلِكَ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ الْأَبَ نَفَقَةُ زَوْجَةِ الِابْنِ. وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ الِابْنَ كَانَ يَجِدُ نَفَقَتَهَا] اهـ.

وقد ذهب كثير من أهل العلم إلى عكس ما ذكرنا، فقالوا بعدم وجوب الإعفاف على الأب، لكنهم أوجبوا ذلك للأب على الابن.

قال شيخ الإسلام زكريا الأنصاري في "أسنى المطالب" (3/ 189، ط. دار الكتاب الإسلامي): [(الطَّرَفُ الثَّالِثُ إعْفَافُ الْأَبِ الْحُرِّ وَلَوْ كَافِرًا لَا الْوَلَدِ وَاجِبٌ) عَلَى ابْنِهِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ وُجُوهِ حَاجَاتِهِ الْمُهِمَّةِ، فَيَجِبُ عَلَى ابْنِهِ الْقَادِرِ عَلَيْهِ (كَنَفَقَتِهِ) وَلِئَلَّا يُعَرِّضَهُ لِلزِّنَا، وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِحُرْمَةِ الْأُبُوَّةِ، وَلَيْسَ مِنَ الْمُصَاحَبَةِ بِالْمَعْرُوفِ الْمَأْمُورِ بِهَا، وَلِأَنَّهُ إذَا احْتَمَلَ لِإِبْقَائِهِ -أي الوالد- فَوَاتَ نَفْسِ الِابْنِ -أي حياته- كَمَا فِي الْقَوَدِ فَفَوَاتُ مَالِهِ أَوْلَى، فَعُلِمَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ إعْفَافُ الْأُمِّ. قَالَ الْإِمَامُ: بَلْ لَا يُتَصَوَّرُ إذْ لَا مُؤْنَةَ عَلَيْهَا فِي النِّكَاحِ، وَلَا إعْفَافُ الْأَبِ غَيْرِ الْحُرِّ؛ لِأَنَّ نِكَاحَهُ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ لَا يَصِحُّ، وَبِإِذْنِهِ يَقْتَضِي تَعَلُّقَ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ بِكَسْبِهِ وَمَالِ تِجَارَتِهِ إنْ كَانَ لَهُ ذَلِكَ، وَبِذِمَّتِهِ إنْ لَمْ يَكُنْ، وَلَا إعْفَافُ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّ حُرْمَتَهُ دُونَ حُرْمَةِ الْأَبِ (فَلَوْ قَدَرَ الْأَبُ عَلَيْهَا) أَيْ عَلَى النَّفَقَةِ (دُونَ) مُؤْنَةِ (الْإِعْفَافِ لَزِمَ الْوَلَدَ) إعْفَافُهُ لِحَاجَتِهِ إلَيْهِ] اهـ.

وفي "الروضة" للإمام النووي (9/ 86، ط. المكتب الإسلامي): [علل الإمام عدم لزوم نفقة زوجة الابن للأب بأنه لا يلزم الأب إعفاف الابن] اهـ.

وما ذكروه من تعليلات غيرُ قوي، وبعض أدلتهم في وجوب إعفاف الآباء هو أيضًا دليلٌ على وجوب إعفاف الأبناء، كقولهم: "لِأَنَّهُ مِنْ وُجُوهِ حَاجَاتِهِ الْمُهِمَّةِ... وَلِئَلَّا يُعَرِّضَهُ لِلزِّنَا". فهو كذلك للابن، بل هو أشد؛ لقوة الشهوة في الأبناء غالبًا أكثر منها في الآباء.

كما أن الضرر اللاحق من ترك الوطء أشدُّ من الضرر اللاحق بسبب النفقة أحيانًا، وقد صرَّح بهذا بعض أهل العلم في مسألة غياب السيد عن أم ولده وتضررها بذلك.

قال الإمام المرداوي في "الإنصاف" (9/ 410، ط. دار إحياء التراث العربي): [فائدة: لو غاب عن أم ولده، واحتاجت إلى النفقة: زُوِّجَتْ على الصحيح من المذهب، قال في الفروع: زُوِّجَتْ في الأصح، وقيل: لا تُزَوَّج. ولو احتاجت إلى الوطء: لم تزوج. قدمه في الفروع. وقال: ويتوجه الجواز عند من جعله كنفقة. قلت: وهذا عين الصواب، والضرر اللاحق بذلك أعظمُ من الضرر اللاحق بسبب النفقة. واختاره ابن رجب في كتاب له سماه: "القول الصواب في تزويج أمهات أولاد الغياب"، ذكر فيه أحكام زواجها وزواج الإماء وامرأة المفقود، وأطال في ذلك وأجاد، واستدل لصحة نكاحها بكلام الأصحاب ونصوص الإمام أحمد رحمه الله] اهـ.

فالراجح وجوب الإنفاق على الابن للزواج إن احتاج إليه وخشي على نفسه الوقوع في الفاحشة، ما دام أصلُه من أبٍ أو جدٍّ أو من تلزمه نفقتُه موسرًا.
والله سبحانه وتعالى أعلم.

اقرأ أيضا

نفقة تزويج الأولاد

هل يجب على الأب تزويجُ ولده إذا احتاج لذلك؟

يحتاج بعض الأبناء إلى الزواج، وقد يصل الأمر أحيانًا إلى أنهم يشعرون بالحرج الشديد من خشية الوقوع في الفاحشة، ولا سبيل إلا أن يقوموا بإعفاف أنفسهم بالزواج، ويطالبون آباءهم بمساعدتهم في ذلك.

وقد يَرِدُ على المكلف حالة تجعل الزواج في حقه واجبًا، ولذا قسم العلماء الزواج إلى الأحكام التكليفية الخمسة.

قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (9/ 110، ط. دار المعرفة): [وقد قسم العلماء الرجل في التزويج إلى أقسام: الأول التائق إليه القادر على مؤنه الخائف على نفسه، فهذا يندب له النكاح عند الجميع، وزاد الحنابلة في رواية أنه يجب، وبذلك قال أبو عوانة الإسفراييني من الشافعية وصرح به في صحيحه، ونقله المصيصي في شرح مختصر الجويني وجهًا، وهو قول داود وأتباعه ... الذين قالوا بوجوبه قيدوه بما إذا لم يندفع التوقان بالتسري، فإذا لم يندفع تعين التزويج، وقد صرَّح بذلك ابن حزم فقال: وفُرِضَ على كل قادرٍ على الوطء إن وجد ما يتزوج به أو يتسرى أن يفعل أحدهما، فإن عجز عن ذلك فليكثر من الصوم، وهو قول جماعة من السلف. وقال ابن دقيق العيد: قسم بعض الفقهاء النكاح إلى الأحكام الخمسة، وجعل الوجوب فيما إذا خاف العنت وقدر على النكاح وتعذر التسري، وكذا حكاه القرطبي عن بعض علمائهم وهو المازري؛ قال: فالوجوب في حق من لا يَنْكَفُّ عن الزنا إلا به كما تقدم] اهـ.

والحكم فيمن خشي على نفسه الوقوع في الفاحشة إن لم يتزوج أن يتزوج إن استطاع، فإن لم يستطع وكان أصله موسرًا وجب على الأصل أن يُعِينَ فرعَه في الزواج في هذه الحالة.

والدليل على ذلك عموم قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا﴾ [التحريم: 6].

ويمكن الاستدلال بقوله تعالى: ﴿وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ﴾ [النور: 32]، وهذا أمر عامٌّ، وأول ما يتوجه إلى الأولياء ما داموا ميسوري الحال.

كما أن ما ورد النص بذكر وجوبه إنما هو للدلالة على ما يتضرر الابن بفقده، فيدخل غير المنصوص عليه بالقياس.

كما أن ترك الوطء أحيانًا ينتج منه آفات مرضية، ومن أجلها صرَّح بعض الفقهاء بجواز فساد صومه بل وإفساد صوم غيره، قال الإمام البهوتي في "كشاف القناع عن متن الإقناع" (2/ 311، ط. دار الكتب العلمية): [(ومن به شبق يخاف أن ينشق ذكره) أو أنثياه أو مثانته (جامع وقضى ولا يكفر نصًّا) نقله إسماعيل بن سعيد الشالنجي. قال أحمد: يجامع ولا يكفر ويقضي يومًا مكانه، وذلك أنه إذا أخذ الرجل هذا ولم يجامع خيف عليه أن ينشق فرجه. (وإن اندفعت شهوته بغيره) أي: غير الجماع (كالاستمناء بيده أو يد زوجته أو) يد (جاريته ونحوه) كالمفاخذة (لم يجز) له الوطء كالصائل يندفع بالأسهل لا ينتقل إلى غيره. (وكذا إن أمكنه أن لا يفسد صوم زوجته) أو أَمَته (المسلمة البالغة بأن يطأ زوجته أو أَمَته الكتابيتين أو) يطأ (زوجته أو أَمَته الصغيرتين) أو المجنونتين (أو) اندفعت شهوته بالوطء (دون الفرْج) فلا يباح له إفساد صومها لعدم الضرورة إليه، قلت: ولعل قياس ذلك إذا أمكنه وطء من لزمها الإمساك كمن طهرت ونحوها في أثناء النهار؛ لأن الإمساك دون الصوم الشرعي خصوصًا فيما فيه خلاف في وجوبه (وإلا) أي: وإن لم يمكنه عدم إفساد صوم الزوجة أو الأَمة المسلمة البالغة (جاز) له إفساد صومها (للضرورة) كأكل الميتة للمضطر. (ومع الضرورة إلى وطء حائض وصائمة بالغ) بأن لم يكن له غيرهما (فوطء الصائمة أولى) من وطء الحائض؛ لأن تحريم وطء الحائض بنص القرآن، (وإن لم تكن) الزوجة أو الأمة الصائمة (بالغًا وجب اجتناب الحائض) للاستغناء عنه بلا محذور، فيطأ الصغيرة وكذا المجنونة. (وإن تعذر قضاؤه) أي: ذي الشبق (لدوام شبقه فَكَكَبِيرٍ عجز عن الصوم على ما تقدم) فيطعم لكل يوم مسكينًا ولا قضاء إلا مع عذر معتاد كمرض أو سفر فلا إطعام ولا قضاء كما تقدم في الكبير، ولعل حكم زوجته أو أَمته التي ليس له غيرها كذلك. (وحكم المريض الذي ينتفع بالجماع) في مرضه (حكم من خاف تشقَّق فرْجه) في جواز الوطء مع الكفارة وإفساد صوم زوجته وأَمته وعدمه] اهـ.

ويقويه أيضًا ما ورد من فعل عمر بن عبد العزيز وهو من الخلفاء الراشدين أنه كان يعطي المحتاج إلى النكاح من بيت المال؛ فعن عاصم بن أبي حبيب قال: كان لعمر بن عبد العزيز منادٍ ينادي كل يوم: أين الغارمون؟ أين الناكحون؟ أين المساكين؟ أين اليتامى؟ ينظر: "تاريخ دمشق لابن عساكر" (45/ 194، ط. دار الفكر).

وبنحو ما ذكرنا قالت طائفة من أهل العلم:
قال الإمام البهوتي في "كشاف القناع" (5/ 486): [(و) يجب أيضًا (على من وجبت عليه النفقة لقريبه إعفاف من وجبت له نفقة من أب وإن علا و) من ابن وإن نزل وغيرهم كأخ وعم (إذا احتاج إلى النكاح لزوجة حرة أو سُرِّيَّةٍ تعفه أو يدفع) المنفق إليه مالا يتزوج به حرة أو يشتري به أَمة؛ لأن ذلك مما تدعو حاجته إليه ويستضر بفقده، فلزم على من تلزمه نفقته. ولا يشبه ذلك الحلوى فإنه لا يستضر بتركها (والتخيير) فيما ذكر (للملزوم بذلك) لأنه المخاطب به، فكانت الخيرة إليه فيه، فيقدم تعيينه على تعيين المعفوف (وليس له أن يزوجه قبيحة ولا أن يملكه إياها) أي أَمة قبيحة لعدم حصول الإعفاف بها (ولا) يزوجه ولا يملكه (كبيرة لا استمتاع بها) لعدم حصول المقصود بها (ولا أن يزوجه أَمة) لما فيه من الضرر عليه لاسترقاق أولاده (ولا يملك) القريب استرجاع ما دفع إليه من جارية ولا عوض ما زوجه به (إذا أيسر) لأنه واجب عليه كالنفقة لا يرجع بها بعد (ويقدم تعيين قريب إذا استوى المهر) على تعيين زوج لما سبق (وَيَصَّدَّقُ) الْمُنْفَقُ عَلَيْهِ (إذا ادعى أنه تَائِقٌ بلا يمين) لأنه الظاهر بمقتضى الجبلَّة (وإن ماتت) التي أعفه بها من زوجة أو أَمَة (أعفَّه ثانيًا) لأنه لا صنع له في ذلك (إلا إن طلَّق لغير عذر أو أعتق) السرية مجانًا بأن لم يجعل عتقها صداقها فلا يلزمه إعفافه ثانيًا، لأنه الذي فوَّت على نفسه] اهـ.

وقال الإمام ابن قدامة في "المغني" (8/ 217، ط. مكتبة القاهرة): [قَالَ أَصْحَابُنَا: وَعَلَى الْأَبِ إعْفَافُ ابْنِهِ إذَا كَانَتْ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ، وَكَانَ مُحْتَاجًا إلَى إعْفَافِهِ. وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَجِبُ ذَلِكَ عَلَيْهِ. وَلَنَا أَنَّهُ مِنْ عَمُودَيْ نَسَبِهِ، وَتَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ، فَيَلْزَمُهُ إعْفَافُهُ عِنْدَ حَاجَتِهِ إلَيْهِ كَأَبِيهِ. قَالَ الْقَاضِي: وَكَذَلِكَ يَجِيءُ فِي كُلِّ مَنْ لَزِمَتْهُ نَفَقَتُهُ؛ مِنْ أَخٍ أَوْ عَمٍّ أَوْ غَيْرِهِمْ؛ لِأَنَّ أَحْمَدَ قَدْ نَصَّ فِي الْعَبْدِ: يَلْزَمُهُ أَنْ يُزَوِّجَهُ إذَا طَلَبَ ذَلِكَ، وَإِلَّا بِيعَ عَلَيْهِ. وَكُلُّ منْ لَزِمَهُ إعْفَافُهُ لَزِمَتْهُ نَفَقَةُ زَوْجَتِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنَ الْإِعْفَافِ إلَّا بِذَلِكَ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ الْأَبَ نَفَقَةُ زَوْجَةِ الِابْنِ. وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ الِابْنَ كَانَ يَجِدُ نَفَقَتَهَا] اهـ.

وقد ذهب كثير من أهل العلم إلى عكس ما ذكرنا، فقالوا بعدم وجوب الإعفاف على الأب، لكنهم أوجبوا ذلك للأب على الابن.

قال شيخ الإسلام زكريا الأنصاري في "أسنى المطالب" (3/ 189، ط. دار الكتاب الإسلامي): [(الطَّرَفُ الثَّالِثُ إعْفَافُ الْأَبِ الْحُرِّ وَلَوْ كَافِرًا لَا الْوَلَدِ وَاجِبٌ) عَلَى ابْنِهِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ وُجُوهِ حَاجَاتِهِ الْمُهِمَّةِ، فَيَجِبُ عَلَى ابْنِهِ الْقَادِرِ عَلَيْهِ (كَنَفَقَتِهِ) وَلِئَلَّا يُعَرِّضَهُ لِلزِّنَا، وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِحُرْمَةِ الْأُبُوَّةِ، وَلَيْسَ مِنَ الْمُصَاحَبَةِ بِالْمَعْرُوفِ الْمَأْمُورِ بِهَا، وَلِأَنَّهُ إذَا احْتَمَلَ لِإِبْقَائِهِ -أي الوالد- فَوَاتَ نَفْسِ الِابْنِ -أي حياته- كَمَا فِي الْقَوَدِ فَفَوَاتُ مَالِهِ أَوْلَى، فَعُلِمَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ إعْفَافُ الْأُمِّ. قَالَ الْإِمَامُ: بَلْ لَا يُتَصَوَّرُ إذْ لَا مُؤْنَةَ عَلَيْهَا فِي النِّكَاحِ، وَلَا إعْفَافُ الْأَبِ غَيْرِ الْحُرِّ؛ لِأَنَّ نِكَاحَهُ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ لَا يَصِحُّ، وَبِإِذْنِهِ يَقْتَضِي تَعَلُّقَ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ بِكَسْبِهِ وَمَالِ تِجَارَتِهِ إنْ كَانَ لَهُ ذَلِكَ، وَبِذِمَّتِهِ إنْ لَمْ يَكُنْ، وَلَا إعْفَافُ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّ حُرْمَتَهُ دُونَ حُرْمَةِ الْأَبِ (فَلَوْ قَدَرَ الْأَبُ عَلَيْهَا) أَيْ عَلَى النَّفَقَةِ (دُونَ) مُؤْنَةِ (الْإِعْفَافِ لَزِمَ الْوَلَدَ) إعْفَافُهُ لِحَاجَتِهِ إلَيْهِ] اهـ.

وفي "الروضة" للإمام النووي (9/ 86، ط. المكتب الإسلامي): [علل الإمام عدم لزوم نفقة زوجة الابن للأب بأنه لا يلزم الأب إعفاف الابن] اهـ.

وما ذكروه من تعليلات غيرُ قوي، وبعض أدلتهم في وجوب إعفاف الآباء هو أيضًا دليلٌ على وجوب إعفاف الأبناء، كقولهم: "لِأَنَّهُ مِنْ وُجُوهِ حَاجَاتِهِ الْمُهِمَّةِ... وَلِئَلَّا يُعَرِّضَهُ لِلزِّنَا". فهو كذلك للابن، بل هو أشد؛ لقوة الشهوة في الأبناء غالبًا أكثر منها في الآباء.

كما أن الضرر اللاحق من ترك الوطء أشدُّ من الضرر اللاحق بسبب النفقة أحيانًا، وقد صرَّح بهذا بعض أهل العلم في مسألة غياب السيد عن أم ولده وتضررها بذلك.

قال الإمام المرداوي في "الإنصاف" (9/ 410، ط. دار إحياء التراث العربي): [فائدة: لو غاب عن أم ولده، واحتاجت إلى النفقة: زُوِّجَتْ على الصحيح من المذهب، قال في الفروع: زُوِّجَتْ في الأصح، وقيل: لا تُزَوَّج. ولو احتاجت إلى الوطء: لم تزوج. قدمه في الفروع. وقال: ويتوجه الجواز عند من جعله كنفقة. قلت: وهذا عين الصواب، والضرر اللاحق بذلك أعظمُ من الضرر اللاحق بسبب النفقة. واختاره ابن رجب في كتاب له سماه: "القول الصواب في تزويج أمهات أولاد الغياب"، ذكر فيه أحكام زواجها وزواج الإماء وامرأة المفقود، وأطال في ذلك وأجاد، واستدل لصحة نكاحها بكلام الأصحاب ونصوص الإمام أحمد رحمه الله] اهـ.

فالراجح وجوب الإنفاق على الابن للزواج إن احتاج إليه وخشي على نفسه الوقوع في الفاحشة، ما دام أصلُه من أبٍ أو جدٍّ أو من تلزمه نفقتُه موسرًا.
والله سبحانه وتعالى أعلم.

التفاصيل ....

يحتاج بعض الأبناء إلى الزواج، وقد يصل الأمر أحيانًا إلى أنهم يشعرون بالحرج الشديد من خشية الوقوع في الفاحشة، ولا سبيل إلا أن يقوموا بإعفاف أنفسهم بالزواج، ويطالبون آباءهم بمساعدتهم في ذلك.

وقد يَرِدُ على المكلف حالة تجعل الزواج في حقه واجبًا، ولذا قسم العلماء الزواج إلى الأحكام التكليفية الخمسة.

قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (9/ 110، ط. دار المعرفة): [وقد قسم العلماء الرجل في التزويج إلى أقسام: الأول التائق إليه القادر على مؤنه الخائف على نفسه، فهذا يندب له النكاح عند الجميع، وزاد الحنابلة في رواية أنه يجب، وبذلك قال أبو عوانة الإسفراييني من الشافعية وصرح به في صحيحه، ونقله المصيصي في شرح مختصر الجويني وجهًا، وهو قول داود وأتباعه ... الذين قالوا بوجوبه قيدوه بما إذا لم يندفع التوقان بالتسري، فإذا لم يندفع تعين التزويج، وقد صرَّح بذلك ابن حزم فقال: وفُرِضَ على كل قادرٍ على الوطء إن وجد ما يتزوج به أو يتسرى أن يفعل أحدهما، فإن عجز عن ذلك فليكثر من الصوم، وهو قول جماعة من السلف. وقال ابن دقيق العيد: قسم بعض الفقهاء النكاح إلى الأحكام الخمسة، وجعل الوجوب فيما إذا خاف العنت وقدر على النكاح وتعذر التسري، وكذا حكاه القرطبي عن بعض علمائهم وهو المازري؛ قال: فالوجوب في حق من لا يَنْكَفُّ عن الزنا إلا به كما تقدم] اهـ.

والحكم فيمن خشي على نفسه الوقوع في الفاحشة إن لم يتزوج أن يتزوج إن استطاع، فإن لم يستطع وكان أصله موسرًا وجب على الأصل أن يُعِينَ فرعَه في الزواج في هذه الحالة.

والدليل على ذلك عموم قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا﴾ [التحريم: 6].

ويمكن الاستدلال بقوله تعالى: ﴿وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ﴾ [النور: 32]، وهذا أمر عامٌّ، وأول ما يتوجه إلى الأولياء ما داموا ميسوري الحال.

كما أن ما ورد النص بذكر وجوبه إنما هو للدلالة على ما يتضرر الابن بفقده، فيدخل غير المنصوص عليه بالقياس.

كما أن ترك الوطء أحيانًا ينتج منه آفات مرضية، ومن أجلها صرَّح بعض الفقهاء بجواز فساد صومه بل وإفساد صوم غيره، قال الإمام البهوتي في "كشاف القناع عن متن الإقناع" (2/ 311، ط. دار الكتب العلمية): [(ومن به شبق يخاف أن ينشق ذكره) أو أنثياه أو مثانته (جامع وقضى ولا يكفر نصًّا) نقله إسماعيل بن سعيد الشالنجي. قال أحمد: يجامع ولا يكفر ويقضي يومًا مكانه، وذلك أنه إذا أخذ الرجل هذا ولم يجامع خيف عليه أن ينشق فرجه. (وإن اندفعت شهوته بغيره) أي: غير الجماع (كالاستمناء بيده أو يد زوجته أو) يد (جاريته ونحوه) كالمفاخذة (لم يجز) له الوطء كالصائل يندفع بالأسهل لا ينتقل إلى غيره. (وكذا إن أمكنه أن لا يفسد صوم زوجته) أو أَمَته (المسلمة البالغة بأن يطأ زوجته أو أَمَته الكتابيتين أو) يطأ (زوجته أو أَمَته الصغيرتين) أو المجنونتين (أو) اندفعت شهوته بالوطء (دون الفرْج) فلا يباح له إفساد صومها لعدم الضرورة إليه، قلت: ولعل قياس ذلك إذا أمكنه وطء من لزمها الإمساك كمن طهرت ونحوها في أثناء النهار؛ لأن الإمساك دون الصوم الشرعي خصوصًا فيما فيه خلاف في وجوبه (وإلا) أي: وإن لم يمكنه عدم إفساد صوم الزوجة أو الأَمة المسلمة البالغة (جاز) له إفساد صومها (للضرورة) كأكل الميتة للمضطر. (ومع الضرورة إلى وطء حائض وصائمة بالغ) بأن لم يكن له غيرهما (فوطء الصائمة أولى) من وطء الحائض؛ لأن تحريم وطء الحائض بنص القرآن، (وإن لم تكن) الزوجة أو الأمة الصائمة (بالغًا وجب اجتناب الحائض) للاستغناء عنه بلا محذور، فيطأ الصغيرة وكذا المجنونة. (وإن تعذر قضاؤه) أي: ذي الشبق (لدوام شبقه فَكَكَبِيرٍ عجز عن الصوم على ما تقدم) فيطعم لكل يوم مسكينًا ولا قضاء إلا مع عذر معتاد كمرض أو سفر فلا إطعام ولا قضاء كما تقدم في الكبير، ولعل حكم زوجته أو أَمته التي ليس له غيرها كذلك. (وحكم المريض الذي ينتفع بالجماع) في مرضه (حكم من خاف تشقَّق فرْجه) في جواز الوطء مع الكفارة وإفساد صوم زوجته وأَمته وعدمه] اهـ.

ويقويه أيضًا ما ورد من فعل عمر بن عبد العزيز وهو من الخلفاء الراشدين أنه كان يعطي المحتاج إلى النكاح من بيت المال؛ فعن عاصم بن أبي حبيب قال: كان لعمر بن عبد العزيز منادٍ ينادي كل يوم: أين الغارمون؟ أين الناكحون؟ أين المساكين؟ أين اليتامى؟ ينظر: "تاريخ دمشق لابن عساكر" (45/ 194، ط. دار الفكر).

وبنحو ما ذكرنا قالت طائفة من أهل العلم:
قال الإمام البهوتي في "كشاف القناع" (5/ 486): [(و) يجب أيضًا (على من وجبت عليه النفقة لقريبه إعفاف من وجبت له نفقة من أب وإن علا و) من ابن وإن نزل وغيرهم كأخ وعم (إذا احتاج إلى النكاح لزوجة حرة أو سُرِّيَّةٍ تعفه أو يدفع) المنفق إليه مالا يتزوج به حرة أو يشتري به أَمة؛ لأن ذلك مما تدعو حاجته إليه ويستضر بفقده، فلزم على من تلزمه نفقته. ولا يشبه ذلك الحلوى فإنه لا يستضر بتركها (والتخيير) فيما ذكر (للملزوم بذلك) لأنه المخاطب به، فكانت الخيرة إليه فيه، فيقدم تعيينه على تعيين المعفوف (وليس له أن يزوجه قبيحة ولا أن يملكه إياها) أي أَمة قبيحة لعدم حصول الإعفاف بها (ولا) يزوجه ولا يملكه (كبيرة لا استمتاع بها) لعدم حصول المقصود بها (ولا أن يزوجه أَمة) لما فيه من الضرر عليه لاسترقاق أولاده (ولا يملك) القريب استرجاع ما دفع إليه من جارية ولا عوض ما زوجه به (إذا أيسر) لأنه واجب عليه كالنفقة لا يرجع بها بعد (ويقدم تعيين قريب إذا استوى المهر) على تعيين زوج لما سبق (وَيَصَّدَّقُ) الْمُنْفَقُ عَلَيْهِ (إذا ادعى أنه تَائِقٌ بلا يمين) لأنه الظاهر بمقتضى الجبلَّة (وإن ماتت) التي أعفه بها من زوجة أو أَمَة (أعفَّه ثانيًا) لأنه لا صنع له في ذلك (إلا إن طلَّق لغير عذر أو أعتق) السرية مجانًا بأن لم يجعل عتقها صداقها فلا يلزمه إعفافه ثانيًا، لأنه الذي فوَّت على نفسه] اهـ.

وقال الإمام ابن قدامة في "المغني" (8/ 217، ط. مكتبة القاهرة): [قَالَ أَصْحَابُنَا: وَعَلَى الْأَبِ إعْفَافُ ابْنِهِ إذَا كَانَتْ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ، وَكَانَ مُحْتَاجًا إلَى إعْفَافِهِ. وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَجِبُ ذَلِكَ عَلَيْهِ. وَلَنَا أَنَّهُ مِنْ عَمُودَيْ نَسَبِهِ، وَتَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ، فَيَلْزَمُهُ إعْفَافُهُ عِنْدَ حَاجَتِهِ إلَيْهِ كَأَبِيهِ. قَالَ الْقَاضِي: وَكَذَلِكَ يَجِيءُ فِي كُلِّ مَنْ لَزِمَتْهُ نَفَقَتُهُ؛ مِنْ أَخٍ أَوْ عَمٍّ أَوْ غَيْرِهِمْ؛ لِأَنَّ أَحْمَدَ قَدْ نَصَّ فِي الْعَبْدِ: يَلْزَمُهُ أَنْ يُزَوِّجَهُ إذَا طَلَبَ ذَلِكَ، وَإِلَّا بِيعَ عَلَيْهِ. وَكُلُّ منْ لَزِمَهُ إعْفَافُهُ لَزِمَتْهُ نَفَقَةُ زَوْجَتِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنَ الْإِعْفَافِ إلَّا بِذَلِكَ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ الْأَبَ نَفَقَةُ زَوْجَةِ الِابْنِ. وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ الِابْنَ كَانَ يَجِدُ نَفَقَتَهَا] اهـ.

وقد ذهب كثير من أهل العلم إلى عكس ما ذكرنا، فقالوا بعدم وجوب الإعفاف على الأب، لكنهم أوجبوا ذلك للأب على الابن.

قال شيخ الإسلام زكريا الأنصاري في "أسنى المطالب" (3/ 189، ط. دار الكتاب الإسلامي): [(الطَّرَفُ الثَّالِثُ إعْفَافُ الْأَبِ الْحُرِّ وَلَوْ كَافِرًا لَا الْوَلَدِ وَاجِبٌ) عَلَى ابْنِهِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ وُجُوهِ حَاجَاتِهِ الْمُهِمَّةِ، فَيَجِبُ عَلَى ابْنِهِ الْقَادِرِ عَلَيْهِ (كَنَفَقَتِهِ) وَلِئَلَّا يُعَرِّضَهُ لِلزِّنَا، وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِحُرْمَةِ الْأُبُوَّةِ، وَلَيْسَ مِنَ الْمُصَاحَبَةِ بِالْمَعْرُوفِ الْمَأْمُورِ بِهَا، وَلِأَنَّهُ إذَا احْتَمَلَ لِإِبْقَائِهِ -أي الوالد- فَوَاتَ نَفْسِ الِابْنِ -أي حياته- كَمَا فِي الْقَوَدِ فَفَوَاتُ مَالِهِ أَوْلَى، فَعُلِمَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ إعْفَافُ الْأُمِّ. قَالَ الْإِمَامُ: بَلْ لَا يُتَصَوَّرُ إذْ لَا مُؤْنَةَ عَلَيْهَا فِي النِّكَاحِ، وَلَا إعْفَافُ الْأَبِ غَيْرِ الْحُرِّ؛ لِأَنَّ نِكَاحَهُ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ لَا يَصِحُّ، وَبِإِذْنِهِ يَقْتَضِي تَعَلُّقَ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ بِكَسْبِهِ وَمَالِ تِجَارَتِهِ إنْ كَانَ لَهُ ذَلِكَ، وَبِذِمَّتِهِ إنْ لَمْ يَكُنْ، وَلَا إعْفَافُ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّ حُرْمَتَهُ دُونَ حُرْمَةِ الْأَبِ (فَلَوْ قَدَرَ الْأَبُ عَلَيْهَا) أَيْ عَلَى النَّفَقَةِ (دُونَ) مُؤْنَةِ (الْإِعْفَافِ لَزِمَ الْوَلَدَ) إعْفَافُهُ لِحَاجَتِهِ إلَيْهِ] اهـ.

وفي "الروضة" للإمام النووي (9/ 86، ط. المكتب الإسلامي): [علل الإمام عدم لزوم نفقة زوجة الابن للأب بأنه لا يلزم الأب إعفاف الابن] اهـ.

وما ذكروه من تعليلات غيرُ قوي، وبعض أدلتهم في وجوب إعفاف الآباء هو أيضًا دليلٌ على وجوب إعفاف الأبناء، كقولهم: "لِأَنَّهُ مِنْ وُجُوهِ حَاجَاتِهِ الْمُهِمَّةِ... وَلِئَلَّا يُعَرِّضَهُ لِلزِّنَا". فهو كذلك للابن، بل هو أشد؛ لقوة الشهوة في الأبناء غالبًا أكثر منها في الآباء.

كما أن الضرر اللاحق من ترك الوطء أشدُّ من الضرر اللاحق بسبب النفقة أحيانًا، وقد صرَّح بهذا بعض أهل العلم في مسألة غياب السيد عن أم ولده وتضررها بذلك.

قال الإمام المرداوي في "الإنصاف" (9/ 410، ط. دار إحياء التراث العربي): [فائدة: لو غاب عن أم ولده، واحتاجت إلى النفقة: زُوِّجَتْ على الصحيح من المذهب، قال في الفروع: زُوِّجَتْ في الأصح، وقيل: لا تُزَوَّج. ولو احتاجت إلى الوطء: لم تزوج. قدمه في الفروع. وقال: ويتوجه الجواز عند من جعله كنفقة. قلت: وهذا عين الصواب، والضرر اللاحق بذلك أعظمُ من الضرر اللاحق بسبب النفقة. واختاره ابن رجب في كتاب له سماه: "القول الصواب في تزويج أمهات أولاد الغياب"، ذكر فيه أحكام زواجها وزواج الإماء وامرأة المفقود، وأطال في ذلك وأجاد، واستدل لصحة نكاحها بكلام الأصحاب ونصوص الإمام أحمد رحمه الله] اهـ.

فالراجح وجوب الإنفاق على الابن للزواج إن احتاج إليه وخشي على نفسه الوقوع في الفاحشة، ما دام أصلُه من أبٍ أو جدٍّ أو من تلزمه نفقتُه موسرًا.
والله سبحانه وتعالى أعلم.

اقرأ أيضا
;