لي قطعة أرض بَنَيت عليها بيتًا، ويحيط بي من الجهات الأربع بيوتٌ لجيراني، وقد استغل أحد هؤلاء الجيران بيته لعمل "ورشة للحدادة"، مع أن المنطقة سكنية، مما يؤذيني ويؤذي باقي الجيران جراء الضوضاء الشديدة والروائح الكريهة المنبعثة من الورشة، فهل يحق لنا منعه من مزاولة عمله، وتقديم محضر للشرطة من أجل إغلاق هذا المحل؟
حقوق الارتفاق
روى الشيخان عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِى بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ»، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ» متفق عليه، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ» رواه مسلم.
وهذه الأحاديث تؤكِّد على احترام الجار والإحسان إليه، وتبين أن له حقوقًا على جاره، فلا يؤذيه ولا يضره، وهذه الحقوق والواجبات ليست مخصوصة بالمسلم فقط، بل تتعدى إلى غير المسلم، وقد نظَّم الإسلام تعامل الجار مع جاره في جوانب متعددة، ومما نظَّمه الإسلام مسألة أحقية الجار بالانتفاع ببعض منافع ملكه إذا كان يترتب على انتفاعه بملكه إضرار بالجار، وللفقهاء في حكم هذه المسألة قولان:
القول الأول: أنه لا يُرتفق بمنافع الملك كالدار مثلًا إذا كان يترتب على هذا الارتفاق ضرر بالجار، وللجار الحق في منع جاره من هذا الانتفاع، فإن أبى رفع أمره إلى الحاكم، فإن لم يترتب ضررٌ فلا يمنع، وهو ما عليه الفتوى عند الحنفية، وهو مذهب المالكية، والأصح عند الشافعية، والصحيح عند الحنابلة، لكن الخلاف واقع بينهم في تفسير الضرر الذي يمنع به الشخص من الارتفاق بمنافع ملكه، فقد بيَّن العلَّامة ابن الهمام الحنفي بعد ذكره جملًا من صور هذه المسألة أن القياس في جنس هذه المسائل أن يَفعل صاحب الملك ما بدا له مطلقًا؛ لأنه يتصرف في خالص ملكه وإن كان يلحق الضرر بغيره، لكن يترك القياس في موضع يتعدى ضرره إلى غيره ضررًا فاحشًا، وهو المراد بالبيِّن فيما ذكر الصدر الشهيد، وهو ما يكون سببًا للهدم وما يوهن البناء سبب له، أو يخرج عن الانتفاع بالكلية وهو ما يمنع من الحوائج الأصلية كسد الضوء بالكلية على ما اختاروا الفتوى عليه، وأما التوسع في منع كل ضرر ما فيسد باب الانتفاع بملك الإنسان. انظر: "فتح القدير" (7/ 326، ط. دار الفكر).
يقول المحقق ابن عابدين بعد أن أورد ما قاله العلَّامة ابن الهمام: [انظر كيف جعل المفتى به القياس الذي يكون فيه الضرر بيِّنا لا مطلقًا، وإلا لزم أنه لو كانت له شجرة مملوكة يستظل بها جاره وأراد قطعها أن يمنع لتضرر الجار به كما قرره في "الفتح" قبله. قلتُ: وأفتى المولى أبو السعود أن سدَّ الضوء بالكلية ما يكون مانعًا من الكتابة، فعلى هذا لو كان للمكان كُوَّتان مثلًا فسد الجار ضوء إحداهما بالكلية لا يمنع إذا كان يمكن الكتابة بضوء الأخرى، والظاهر أن ضوء الباب لا يعتبر؛ لأنه يحتاج لغلقه لبرد ونحوه كما حررتُه في "تنقيح الحامدية". وفي "البحر": وذكر الرازي في كتاب "الاستحسان" لو أراد أن يبني في داره تنورًا للخبز الدائم كما يكون في الدكاكين أو رحى للطحن أو مدقات للقصَّارين لم يجز؛ لأنه يضر بجيرانه ضررًا فاحشًا لا يمكن التحرز عنه، فإنه يأتي منه الدخان الكثير، والرحى والدق يوهن البناء، بخلاف الحمام؛ لأنه لا يضر إلا بالنداوة ويمكن التحرز عنه بأن يبني حائطًا بينه وبين جاره، بخلاف التنور المعتاد في البيوت. اهـ. وصحَّح النسفي في حمام أن الضرر لو فاحشًا يمنع وإلا فلا] اهـ. "رد المحتار" (5/ 448، ط. دار الفكر).
فالواضح أن الحنفية يجعلون الضرر البيِّن ما يضر بالـمِلك دون المالك، ومثلهم الشافعية؛ ففي "شرح المنهج" للشيخ زكريا الأنصاري (3/ 565، ط. دار الفكر): [(ويتصرف كل) من الملاك (في ملكه بعادة) وإن أدى إلى ضرر جاره أو إتلاف ماله؛ كمن حفر بئر ماء أو حَشٍّ، فاختل به جدار جاره أو تغيَّر بما في الحش ماء بئره، (فإن جاوزها) أي العادة فيما ذكر (ضمن) بما جاوز فيه؛ كأن دق دقًّا عنيفًا أزعج الأبنية أو حبس الماء في ملكه، فانتشرت النداوة إلى جدار جاره، (وله أن يتخذه) أي ملكه ولو بحوانيت بزازين (حمامًا وإصطبلًا) وطاحونة (وحانوت حداد إن أحكم جدرانه) أي كل منها بما يليق بمقصوده؛ لأن ذلك لا يضر الملك وإن ضر المالك بنحو رائحة كريهة] اهـ. ومثل ذلك في "الإقناع" للخطيب الشربيني.
وخالف في ذلك المالكية والحنابلة، فالصور التي ذكروها صريحة في أن ما يضر بالمالك يمنع أيضًا كالذي يضر بالملك؛ جاء في "الشرح الصغير" للعلامة الدردير المالكي (3/ 485، ط. دار المعارف): [(و) قضى (بمنع دخان كحمام) وفرن ومطبخ وقمين (و) بمنع (رائحة كريهة؛ كدبغ) ورائحة مذبح ومسمط، والمراد الحادث من ذلك لا القديم (و) بمنع (مضر بجدار) حدث كدق، وطاحون، وبئر، وغرس شجر، (و) منع إحداث (إصطبل)؛ لما فيه من ضرر رائحة الزبل بالجدار وصوت الدواب، (و) بمنع (حانوت قبالة باب ولو بسكة نفذت) على الأصوب؛ لأن الحانوت أشد ضررًا من فتح الباب؛ لملازمة الجلوس به، ومحل المنع فيما ذكر (إن حدثت) لا إن كانت قديمة... (ولا) يقضى بمنع (صوت كمد) وهو دق القماش لتحسينه (ونحوه)؛ كحداد ونجار وصائغ لخفة ذلك؛ ولذا قال بعضهم: هذا ما لم يشتد ويدم، وإلا منع] اهـ.
يقول العلامة الصاوي محشِّيًا على ما سبق من كلام العلامة الدردير: [قوله: (بمنع دخان كحمام) أي: بمنع إحداث ذي دخان تتضرر الجيران بسببه. وقوله: (وبمنع رائحة) أي: وقضى بمنع إحداث ذي رائحة كريهة. قوله: (كدبغ) أي: مدبغة، والمذبح المحل المعَدُّ للذبح، والمسمط: هو الإناء الذي يسمط فيه السقط؛ لإزالة ما فيه من الأقذار. ويمنع الشخص من تنفيض الحصر ونحوها على باب داره إذا أضرَّ الغبار بالمارة، ولا حجة له أنه إنما فعله على باب داره. قاله ابن حبيب] اهـ. ومثل هذه العبارات مذكورة في شروح "مختصر خليل".
وفي "كشاف القناع" للعلامة البهوتي الحنبلي (3/ 408، ط. دار الكتب العلمية): [(ويحرم) على الجار (إحداثه في ملكه ما يضر بجاره كحفر كنيف إلى جنب حائط جاره) يضره (وبناء حمام يتأذى بذلك ونصب تنور يتأذى) جاره (باستدامة دخانه، وعمل دكان قصارة أو حدادة يتأذى بكثرة دقه، و) يتأذى (بهز الحيطان) من ذلك (و) نصب (رحى) يتأذى بها جاره (وحفر بئر ينقطع بها ماء بئر جاره، وسقي، وإشعال نار يتعديان إليه) أي إلى الجار (ونحو ذلك) من كل ما يؤذيه... (وإن كان هذا الذي حصل منه الضرر) للجار من حمام ورحى ونحوهما (سابقًا) على ملك الجار (مثل من له في ملكه مدبغة ونحوها) من رحى وتنور (فأحيا إنسان إلى جانبه مواتًا أو بناه) أي بنى جانبه (دارًا) قلتُ: أو اشترى دارًا بجانبه بحيث (يتضرر) صاحب الملك المحدث (بذلك) المذكور من المدبغة ونحوها (لم يلزمه) أي صاحب المدبغة ونحوها (إزالة الضرر)؛ لأنه لم يحدث بملكه ما يضر بجاره، (وليس له) أي: الجار (منعه) أي: منع جاره من (تعلية داره ولو أفضى) إعلاؤه (إلى سد الفضاء عنه أو خاف) أي ليس للجار منع جاره من تعلية بنائه ولو خاف (نقص أجرة داره)] اهـ.
وحجة الجمهور في منعهم الارتفاق المضر بالجار عموم قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ» رواه أحمد وابن ماجه والحاكم وغيرهم، والنصوص الآمرة بحسن معاملة الجار والإحسان إليه وعدم الإضرار به.
القول الثاني: لا يمنع أحد من الانتفاع بملكه وإن كان يترتب عليه ضرر بالغير، فلا يملك الشخص منع جاره من الانتفاع بملكه ولو كان هذا الانتفاع يترتب عليه ضرر، وهو ما عليه متقدمو الحنفية، وهذا قضاءً، أما ديانة فإنهم قائلون بأنه يجب ديانة الكف عن كل ما يلحق ضررًا بالجار.
يقول الإمام الكاساني في "بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع" (6/ 264، ط. دار الكتب العلمية): [للمالك أن يتصرف في ملكه أي تصرف شاء سواء كان تصرفًا يتعدَّى ضرره إلى غيره أو لا يتعدى، فله أن يبني في ملكه مرحاضًا أو حمامًا أو رحى أو تنورًا، وله أن يقعد في بنائه حدادًا أو قصارًا، وله أن يحفر في ملكه بئرًا أو بالوعة أو ديماسًا وإن كان يهن من ذلك البناء ويتأذى به جاره، وليس لجاره أن يمنعه حتى لو طلب جاره تحويل ذلك لم يجبر عليه؛ لأن الملك مطلق للتصرف في الأصل، والمنع منه لعارض تعلق حق الغير، فإذا لم يوجد التعلق لا يمنع، إلا أن الامتناع عما يؤذي الجار ديانة واجبٌ؛ للحديث: قال صلى الله عليه وآله وسلم: «الْمُؤْمِنُ مَنْ أَمِنَ جَارُهُ بَوَائِقَهُ» ولو فعل شيئًا من ذلك حتى وهن البناء وسقط حائط الجار لا يضمن؛ لأنه لا صنع منه في ملك الغير] اهـ.
فالقائلون بهذا الرأي غلَّبوا أحقية التصرف في الملك حتى ولو أضر هذا التصرف بالغير، وقد يقال: إن هذا الحق مقيَّد بعدم الإضرار؛ وذلك لعموم الأحاديث الناهية عن الضرر -كما استدل بذلك الجمهور-؛ ولذلك فالراجح ما ذهب إليه أصحاب القول الأول من أن الارتفاق بمنافع الدار جائز ما لم يضر بجاره، وفي عصرنا الحاضر جرى وضع لوائح تنظيمية خاصة بشئون البيئة حُدِّدت فيها الشروط والأوصاف الخاصة للمناطق الصناعية وأصحاب الـحِرف والأعمال الصناعية، كما بُيِّنت أوصاف الأعمال الصناعية التي يجب إبعادها عن الأماكن السكنية؛ نظرًا لخطرها بسبب ما تلحقه من أضرار وإقلاق لراحة المواطنين، وخلاصة ما توصَّلت إليه هذه الأنظمة والقوانين يتلاقى ونظرة السادة المالكية والحنابلة بخصوص هذه المسألة.
وبناء على ما سبق وفي واقعة السؤال: فمِن حق السائل منع جاره من ممارسة مهنة الحدادة في داره -أي دار الجار- إذا كان يؤذيه ويؤذي باقي الجيران جرَّاء الضوضاء الشديدة والروائح الكريهة المنبعثة من بيت الجار لا سيما وأن المنطقة كما جاء في السؤال سكنية مما يستوجب بُعد أمثال مهنة الحدادة عن مناطق التجمع السكني، ولكن هذا المنع يكون عن طريق جهة الاختصاص وهي الجهات الإدارية التي تقدم إليها الشكوى، ثم تقوم هي بدورها بعد ذلك، ولا يكون من حقه أن يقوم هو بنفسه أو غيره بمنع هذا الرجل عن تأدية هذا العمل؛ لما في ذلك من افتئات على الجهات المختصة وهو ما لا يجوز.
والله سبحانه وتعالى أعلم.
روى الشيخان عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِى بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ»، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ» متفق عليه، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ» رواه مسلم.
وهذه الأحاديث تؤكِّد على احترام الجار والإحسان إليه، وتبين أن له حقوقًا على جاره، فلا يؤذيه ولا يضره، وهذه الحقوق والواجبات ليست مخصوصة بالمسلم فقط، بل تتعدى إلى غير المسلم، وقد نظَّم الإسلام تعامل الجار مع جاره في جوانب متعددة، ومما نظَّمه الإسلام مسألة أحقية الجار بالانتفاع ببعض منافع ملكه إذا كان يترتب على انتفاعه بملكه إضرار بالجار، وللفقهاء في حكم هذه المسألة قولان:
القول الأول: أنه لا يُرتفق بمنافع الملك كالدار مثلًا إذا كان يترتب على هذا الارتفاق ضرر بالجار، وللجار الحق في منع جاره من هذا الانتفاع، فإن أبى رفع أمره إلى الحاكم، فإن لم يترتب ضررٌ فلا يمنع، وهو ما عليه الفتوى عند الحنفية، وهو مذهب المالكية، والأصح عند الشافعية، والصحيح عند الحنابلة، لكن الخلاف واقع بينهم في تفسير الضرر الذي يمنع به الشخص من الارتفاق بمنافع ملكه، فقد بيَّن العلَّامة ابن الهمام الحنفي بعد ذكره جملًا من صور هذه المسألة أن القياس في جنس هذه المسائل أن يَفعل صاحب الملك ما بدا له مطلقًا؛ لأنه يتصرف في خالص ملكه وإن كان يلحق الضرر بغيره، لكن يترك القياس في موضع يتعدى ضرره إلى غيره ضررًا فاحشًا، وهو المراد بالبيِّن فيما ذكر الصدر الشهيد، وهو ما يكون سببًا للهدم وما يوهن البناء سبب له، أو يخرج عن الانتفاع بالكلية وهو ما يمنع من الحوائج الأصلية كسد الضوء بالكلية على ما اختاروا الفتوى عليه، وأما التوسع في منع كل ضرر ما فيسد باب الانتفاع بملك الإنسان. انظر: "فتح القدير" (7/ 326، ط. دار الفكر).
يقول المحقق ابن عابدين بعد أن أورد ما قاله العلَّامة ابن الهمام: [انظر كيف جعل المفتى به القياس الذي يكون فيه الضرر بيِّنا لا مطلقًا، وإلا لزم أنه لو كانت له شجرة مملوكة يستظل بها جاره وأراد قطعها أن يمنع لتضرر الجار به كما قرره في "الفتح" قبله. قلتُ: وأفتى المولى أبو السعود أن سدَّ الضوء بالكلية ما يكون مانعًا من الكتابة، فعلى هذا لو كان للمكان كُوَّتان مثلًا فسد الجار ضوء إحداهما بالكلية لا يمنع إذا كان يمكن الكتابة بضوء الأخرى، والظاهر أن ضوء الباب لا يعتبر؛ لأنه يحتاج لغلقه لبرد ونحوه كما حررتُه في "تنقيح الحامدية". وفي "البحر": وذكر الرازي في كتاب "الاستحسان" لو أراد أن يبني في داره تنورًا للخبز الدائم كما يكون في الدكاكين أو رحى للطحن أو مدقات للقصَّارين لم يجز؛ لأنه يضر بجيرانه ضررًا فاحشًا لا يمكن التحرز عنه، فإنه يأتي منه الدخان الكثير، والرحى والدق يوهن البناء، بخلاف الحمام؛ لأنه لا يضر إلا بالنداوة ويمكن التحرز عنه بأن يبني حائطًا بينه وبين جاره، بخلاف التنور المعتاد في البيوت. اهـ. وصحَّح النسفي في حمام أن الضرر لو فاحشًا يمنع وإلا فلا] اهـ. "رد المحتار" (5/ 448، ط. دار الفكر).
فالواضح أن الحنفية يجعلون الضرر البيِّن ما يضر بالـمِلك دون المالك، ومثلهم الشافعية؛ ففي "شرح المنهج" للشيخ زكريا الأنصاري (3/ 565، ط. دار الفكر): [(ويتصرف كل) من الملاك (في ملكه بعادة) وإن أدى إلى ضرر جاره أو إتلاف ماله؛ كمن حفر بئر ماء أو حَشٍّ، فاختل به جدار جاره أو تغيَّر بما في الحش ماء بئره، (فإن جاوزها) أي العادة فيما ذكر (ضمن) بما جاوز فيه؛ كأن دق دقًّا عنيفًا أزعج الأبنية أو حبس الماء في ملكه، فانتشرت النداوة إلى جدار جاره، (وله أن يتخذه) أي ملكه ولو بحوانيت بزازين (حمامًا وإصطبلًا) وطاحونة (وحانوت حداد إن أحكم جدرانه) أي كل منها بما يليق بمقصوده؛ لأن ذلك لا يضر الملك وإن ضر المالك بنحو رائحة كريهة] اهـ. ومثل ذلك في "الإقناع" للخطيب الشربيني.
وخالف في ذلك المالكية والحنابلة، فالصور التي ذكروها صريحة في أن ما يضر بالمالك يمنع أيضًا كالذي يضر بالملك؛ جاء في "الشرح الصغير" للعلامة الدردير المالكي (3/ 485، ط. دار المعارف): [(و) قضى (بمنع دخان كحمام) وفرن ومطبخ وقمين (و) بمنع (رائحة كريهة؛ كدبغ) ورائحة مذبح ومسمط، والمراد الحادث من ذلك لا القديم (و) بمنع (مضر بجدار) حدث كدق، وطاحون، وبئر، وغرس شجر، (و) منع إحداث (إصطبل)؛ لما فيه من ضرر رائحة الزبل بالجدار وصوت الدواب، (و) بمنع (حانوت قبالة باب ولو بسكة نفذت) على الأصوب؛ لأن الحانوت أشد ضررًا من فتح الباب؛ لملازمة الجلوس به، ومحل المنع فيما ذكر (إن حدثت) لا إن كانت قديمة... (ولا) يقضى بمنع (صوت كمد) وهو دق القماش لتحسينه (ونحوه)؛ كحداد ونجار وصائغ لخفة ذلك؛ ولذا قال بعضهم: هذا ما لم يشتد ويدم، وإلا منع] اهـ.
يقول العلامة الصاوي محشِّيًا على ما سبق من كلام العلامة الدردير: [قوله: (بمنع دخان كحمام) أي: بمنع إحداث ذي دخان تتضرر الجيران بسببه. وقوله: (وبمنع رائحة) أي: وقضى بمنع إحداث ذي رائحة كريهة. قوله: (كدبغ) أي: مدبغة، والمذبح المحل المعَدُّ للذبح، والمسمط: هو الإناء الذي يسمط فيه السقط؛ لإزالة ما فيه من الأقذار. ويمنع الشخص من تنفيض الحصر ونحوها على باب داره إذا أضرَّ الغبار بالمارة، ولا حجة له أنه إنما فعله على باب داره. قاله ابن حبيب] اهـ. ومثل هذه العبارات مذكورة في شروح "مختصر خليل".
وفي "كشاف القناع" للعلامة البهوتي الحنبلي (3/ 408، ط. دار الكتب العلمية): [(ويحرم) على الجار (إحداثه في ملكه ما يضر بجاره كحفر كنيف إلى جنب حائط جاره) يضره (وبناء حمام يتأذى بذلك ونصب تنور يتأذى) جاره (باستدامة دخانه، وعمل دكان قصارة أو حدادة يتأذى بكثرة دقه، و) يتأذى (بهز الحيطان) من ذلك (و) نصب (رحى) يتأذى بها جاره (وحفر بئر ينقطع بها ماء بئر جاره، وسقي، وإشعال نار يتعديان إليه) أي إلى الجار (ونحو ذلك) من كل ما يؤذيه... (وإن كان هذا الذي حصل منه الضرر) للجار من حمام ورحى ونحوهما (سابقًا) على ملك الجار (مثل من له في ملكه مدبغة ونحوها) من رحى وتنور (فأحيا إنسان إلى جانبه مواتًا أو بناه) أي بنى جانبه (دارًا) قلتُ: أو اشترى دارًا بجانبه بحيث (يتضرر) صاحب الملك المحدث (بذلك) المذكور من المدبغة ونحوها (لم يلزمه) أي صاحب المدبغة ونحوها (إزالة الضرر)؛ لأنه لم يحدث بملكه ما يضر بجاره، (وليس له) أي: الجار (منعه) أي: منع جاره من (تعلية داره ولو أفضى) إعلاؤه (إلى سد الفضاء عنه أو خاف) أي ليس للجار منع جاره من تعلية بنائه ولو خاف (نقص أجرة داره)] اهـ.
وحجة الجمهور في منعهم الارتفاق المضر بالجار عموم قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ» رواه أحمد وابن ماجه والحاكم وغيرهم، والنصوص الآمرة بحسن معاملة الجار والإحسان إليه وعدم الإضرار به.
القول الثاني: لا يمنع أحد من الانتفاع بملكه وإن كان يترتب عليه ضرر بالغير، فلا يملك الشخص منع جاره من الانتفاع بملكه ولو كان هذا الانتفاع يترتب عليه ضرر، وهو ما عليه متقدمو الحنفية، وهذا قضاءً، أما ديانة فإنهم قائلون بأنه يجب ديانة الكف عن كل ما يلحق ضررًا بالجار.
يقول الإمام الكاساني في "بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع" (6/ 264، ط. دار الكتب العلمية): [للمالك أن يتصرف في ملكه أي تصرف شاء سواء كان تصرفًا يتعدَّى ضرره إلى غيره أو لا يتعدى، فله أن يبني في ملكه مرحاضًا أو حمامًا أو رحى أو تنورًا، وله أن يقعد في بنائه حدادًا أو قصارًا، وله أن يحفر في ملكه بئرًا أو بالوعة أو ديماسًا وإن كان يهن من ذلك البناء ويتأذى به جاره، وليس لجاره أن يمنعه حتى لو طلب جاره تحويل ذلك لم يجبر عليه؛ لأن الملك مطلق للتصرف في الأصل، والمنع منه لعارض تعلق حق الغير، فإذا لم يوجد التعلق لا يمنع، إلا أن الامتناع عما يؤذي الجار ديانة واجبٌ؛ للحديث: قال صلى الله عليه وآله وسلم: «الْمُؤْمِنُ مَنْ أَمِنَ جَارُهُ بَوَائِقَهُ» ولو فعل شيئًا من ذلك حتى وهن البناء وسقط حائط الجار لا يضمن؛ لأنه لا صنع منه في ملك الغير] اهـ.
فالقائلون بهذا الرأي غلَّبوا أحقية التصرف في الملك حتى ولو أضر هذا التصرف بالغير، وقد يقال: إن هذا الحق مقيَّد بعدم الإضرار؛ وذلك لعموم الأحاديث الناهية عن الضرر -كما استدل بذلك الجمهور-؛ ولذلك فالراجح ما ذهب إليه أصحاب القول الأول من أن الارتفاق بمنافع الدار جائز ما لم يضر بجاره، وفي عصرنا الحاضر جرى وضع لوائح تنظيمية خاصة بشئون البيئة حُدِّدت فيها الشروط والأوصاف الخاصة للمناطق الصناعية وأصحاب الـحِرف والأعمال الصناعية، كما بُيِّنت أوصاف الأعمال الصناعية التي يجب إبعادها عن الأماكن السكنية؛ نظرًا لخطرها بسبب ما تلحقه من أضرار وإقلاق لراحة المواطنين، وخلاصة ما توصَّلت إليه هذه الأنظمة والقوانين يتلاقى ونظرة السادة المالكية والحنابلة بخصوص هذه المسألة.
وبناء على ما سبق وفي واقعة السؤال: فمِن حق السائل منع جاره من ممارسة مهنة الحدادة في داره -أي دار الجار- إذا كان يؤذيه ويؤذي باقي الجيران جرَّاء الضوضاء الشديدة والروائح الكريهة المنبعثة من بيت الجار لا سيما وأن المنطقة كما جاء في السؤال سكنية مما يستوجب بُعد أمثال مهنة الحدادة عن مناطق التجمع السكني، ولكن هذا المنع يكون عن طريق جهة الاختصاص وهي الجهات الإدارية التي تقدم إليها الشكوى، ثم تقوم هي بدورها بعد ذلك، ولا يكون من حقه أن يقوم هو بنفسه أو غيره بمنع هذا الرجل عن تأدية هذا العمل؛ لما في ذلك من افتئات على الجهات المختصة وهو ما لا يجوز.
والله سبحانه وتعالى أعلم.
حقوق الارتفاق
لي قطعة أرض بَنَيت عليها بيتًا، ويحيط بي من الجهات الأربع بيوتٌ لجيراني، وقد استغل أحد هؤلاء الجيران بيته لعمل "ورشة للحدادة"، مع أن المنطقة سكنية، مما يؤذيني ويؤذي باقي الجيران جراء الضوضاء الشديدة والروائح الكريهة المنبعثة من الورشة، فهل يحق لنا منعه من مزاولة عمله، وتقديم محضر للشرطة من أجل إغلاق هذا المحل؟
روى الشيخان عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِى بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ»، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ» متفق عليه، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ» رواه مسلم.
وهذه الأحاديث تؤكِّد على احترام الجار والإحسان إليه، وتبين أن له حقوقًا على جاره، فلا يؤذيه ولا يضره، وهذه الحقوق والواجبات ليست مخصوصة بالمسلم فقط، بل تتعدى إلى غير المسلم، وقد نظَّم الإسلام تعامل الجار مع جاره في جوانب متعددة، ومما نظَّمه الإسلام مسألة أحقية الجار بالانتفاع ببعض منافع ملكه إذا كان يترتب على انتفاعه بملكه إضرار بالجار، وللفقهاء في حكم هذه المسألة قولان:
القول الأول: أنه لا يُرتفق بمنافع الملك كالدار مثلًا إذا كان يترتب على هذا الارتفاق ضرر بالجار، وللجار الحق في منع جاره من هذا الانتفاع، فإن أبى رفع أمره إلى الحاكم، فإن لم يترتب ضررٌ فلا يمنع، وهو ما عليه الفتوى عند الحنفية، وهو مذهب المالكية، والأصح عند الشافعية، والصحيح عند الحنابلة، لكن الخلاف واقع بينهم في تفسير الضرر الذي يمنع به الشخص من الارتفاق بمنافع ملكه، فقد بيَّن العلَّامة ابن الهمام الحنفي بعد ذكره جملًا من صور هذه المسألة أن القياس في جنس هذه المسائل أن يَفعل صاحب الملك ما بدا له مطلقًا؛ لأنه يتصرف في خالص ملكه وإن كان يلحق الضرر بغيره، لكن يترك القياس في موضع يتعدى ضرره إلى غيره ضررًا فاحشًا، وهو المراد بالبيِّن فيما ذكر الصدر الشهيد، وهو ما يكون سببًا للهدم وما يوهن البناء سبب له، أو يخرج عن الانتفاع بالكلية وهو ما يمنع من الحوائج الأصلية كسد الضوء بالكلية على ما اختاروا الفتوى عليه، وأما التوسع في منع كل ضرر ما فيسد باب الانتفاع بملك الإنسان. انظر: "فتح القدير" (7/ 326، ط. دار الفكر).
يقول المحقق ابن عابدين بعد أن أورد ما قاله العلَّامة ابن الهمام: [انظر كيف جعل المفتى به القياس الذي يكون فيه الضرر بيِّنا لا مطلقًا، وإلا لزم أنه لو كانت له شجرة مملوكة يستظل بها جاره وأراد قطعها أن يمنع لتضرر الجار به كما قرره في "الفتح" قبله. قلتُ: وأفتى المولى أبو السعود أن سدَّ الضوء بالكلية ما يكون مانعًا من الكتابة، فعلى هذا لو كان للمكان كُوَّتان مثلًا فسد الجار ضوء إحداهما بالكلية لا يمنع إذا كان يمكن الكتابة بضوء الأخرى، والظاهر أن ضوء الباب لا يعتبر؛ لأنه يحتاج لغلقه لبرد ونحوه كما حررتُه في "تنقيح الحامدية". وفي "البحر": وذكر الرازي في كتاب "الاستحسان" لو أراد أن يبني في داره تنورًا للخبز الدائم كما يكون في الدكاكين أو رحى للطحن أو مدقات للقصَّارين لم يجز؛ لأنه يضر بجيرانه ضررًا فاحشًا لا يمكن التحرز عنه، فإنه يأتي منه الدخان الكثير، والرحى والدق يوهن البناء، بخلاف الحمام؛ لأنه لا يضر إلا بالنداوة ويمكن التحرز عنه بأن يبني حائطًا بينه وبين جاره، بخلاف التنور المعتاد في البيوت. اهـ. وصحَّح النسفي في حمام أن الضرر لو فاحشًا يمنع وإلا فلا] اهـ. "رد المحتار" (5/ 448، ط. دار الفكر).
فالواضح أن الحنفية يجعلون الضرر البيِّن ما يضر بالـمِلك دون المالك، ومثلهم الشافعية؛ ففي "شرح المنهج" للشيخ زكريا الأنصاري (3/ 565، ط. دار الفكر): [(ويتصرف كل) من الملاك (في ملكه بعادة) وإن أدى إلى ضرر جاره أو إتلاف ماله؛ كمن حفر بئر ماء أو حَشٍّ، فاختل به جدار جاره أو تغيَّر بما في الحش ماء بئره، (فإن جاوزها) أي العادة فيما ذكر (ضمن) بما جاوز فيه؛ كأن دق دقًّا عنيفًا أزعج الأبنية أو حبس الماء في ملكه، فانتشرت النداوة إلى جدار جاره، (وله أن يتخذه) أي ملكه ولو بحوانيت بزازين (حمامًا وإصطبلًا) وطاحونة (وحانوت حداد إن أحكم جدرانه) أي كل منها بما يليق بمقصوده؛ لأن ذلك لا يضر الملك وإن ضر المالك بنحو رائحة كريهة] اهـ. ومثل ذلك في "الإقناع" للخطيب الشربيني.
وخالف في ذلك المالكية والحنابلة، فالصور التي ذكروها صريحة في أن ما يضر بالمالك يمنع أيضًا كالذي يضر بالملك؛ جاء في "الشرح الصغير" للعلامة الدردير المالكي (3/ 485، ط. دار المعارف): [(و) قضى (بمنع دخان كحمام) وفرن ومطبخ وقمين (و) بمنع (رائحة كريهة؛ كدبغ) ورائحة مذبح ومسمط، والمراد الحادث من ذلك لا القديم (و) بمنع (مضر بجدار) حدث كدق، وطاحون، وبئر، وغرس شجر، (و) منع إحداث (إصطبل)؛ لما فيه من ضرر رائحة الزبل بالجدار وصوت الدواب، (و) بمنع (حانوت قبالة باب ولو بسكة نفذت) على الأصوب؛ لأن الحانوت أشد ضررًا من فتح الباب؛ لملازمة الجلوس به، ومحل المنع فيما ذكر (إن حدثت) لا إن كانت قديمة... (ولا) يقضى بمنع (صوت كمد) وهو دق القماش لتحسينه (ونحوه)؛ كحداد ونجار وصائغ لخفة ذلك؛ ولذا قال بعضهم: هذا ما لم يشتد ويدم، وإلا منع] اهـ.
يقول العلامة الصاوي محشِّيًا على ما سبق من كلام العلامة الدردير: [قوله: (بمنع دخان كحمام) أي: بمنع إحداث ذي دخان تتضرر الجيران بسببه. وقوله: (وبمنع رائحة) أي: وقضى بمنع إحداث ذي رائحة كريهة. قوله: (كدبغ) أي: مدبغة، والمذبح المحل المعَدُّ للذبح، والمسمط: هو الإناء الذي يسمط فيه السقط؛ لإزالة ما فيه من الأقذار. ويمنع الشخص من تنفيض الحصر ونحوها على باب داره إذا أضرَّ الغبار بالمارة، ولا حجة له أنه إنما فعله على باب داره. قاله ابن حبيب] اهـ. ومثل هذه العبارات مذكورة في شروح "مختصر خليل".
وفي "كشاف القناع" للعلامة البهوتي الحنبلي (3/ 408، ط. دار الكتب العلمية): [(ويحرم) على الجار (إحداثه في ملكه ما يضر بجاره كحفر كنيف إلى جنب حائط جاره) يضره (وبناء حمام يتأذى بذلك ونصب تنور يتأذى) جاره (باستدامة دخانه، وعمل دكان قصارة أو حدادة يتأذى بكثرة دقه، و) يتأذى (بهز الحيطان) من ذلك (و) نصب (رحى) يتأذى بها جاره (وحفر بئر ينقطع بها ماء بئر جاره، وسقي، وإشعال نار يتعديان إليه) أي إلى الجار (ونحو ذلك) من كل ما يؤذيه... (وإن كان هذا الذي حصل منه الضرر) للجار من حمام ورحى ونحوهما (سابقًا) على ملك الجار (مثل من له في ملكه مدبغة ونحوها) من رحى وتنور (فأحيا إنسان إلى جانبه مواتًا أو بناه) أي بنى جانبه (دارًا) قلتُ: أو اشترى دارًا بجانبه بحيث (يتضرر) صاحب الملك المحدث (بذلك) المذكور من المدبغة ونحوها (لم يلزمه) أي صاحب المدبغة ونحوها (إزالة الضرر)؛ لأنه لم يحدث بملكه ما يضر بجاره، (وليس له) أي: الجار (منعه) أي: منع جاره من (تعلية داره ولو أفضى) إعلاؤه (إلى سد الفضاء عنه أو خاف) أي ليس للجار منع جاره من تعلية بنائه ولو خاف (نقص أجرة داره)] اهـ.
وحجة الجمهور في منعهم الارتفاق المضر بالجار عموم قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ» رواه أحمد وابن ماجه والحاكم وغيرهم، والنصوص الآمرة بحسن معاملة الجار والإحسان إليه وعدم الإضرار به.
القول الثاني: لا يمنع أحد من الانتفاع بملكه وإن كان يترتب عليه ضرر بالغير، فلا يملك الشخص منع جاره من الانتفاع بملكه ولو كان هذا الانتفاع يترتب عليه ضرر، وهو ما عليه متقدمو الحنفية، وهذا قضاءً، أما ديانة فإنهم قائلون بأنه يجب ديانة الكف عن كل ما يلحق ضررًا بالجار.
يقول الإمام الكاساني في "بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع" (6/ 264، ط. دار الكتب العلمية): [للمالك أن يتصرف في ملكه أي تصرف شاء سواء كان تصرفًا يتعدَّى ضرره إلى غيره أو لا يتعدى، فله أن يبني في ملكه مرحاضًا أو حمامًا أو رحى أو تنورًا، وله أن يقعد في بنائه حدادًا أو قصارًا، وله أن يحفر في ملكه بئرًا أو بالوعة أو ديماسًا وإن كان يهن من ذلك البناء ويتأذى به جاره، وليس لجاره أن يمنعه حتى لو طلب جاره تحويل ذلك لم يجبر عليه؛ لأن الملك مطلق للتصرف في الأصل، والمنع منه لعارض تعلق حق الغير، فإذا لم يوجد التعلق لا يمنع، إلا أن الامتناع عما يؤذي الجار ديانة واجبٌ؛ للحديث: قال صلى الله عليه وآله وسلم: «الْمُؤْمِنُ مَنْ أَمِنَ جَارُهُ بَوَائِقَهُ» ولو فعل شيئًا من ذلك حتى وهن البناء وسقط حائط الجار لا يضمن؛ لأنه لا صنع منه في ملك الغير] اهـ.
فالقائلون بهذا الرأي غلَّبوا أحقية التصرف في الملك حتى ولو أضر هذا التصرف بالغير، وقد يقال: إن هذا الحق مقيَّد بعدم الإضرار؛ وذلك لعموم الأحاديث الناهية عن الضرر -كما استدل بذلك الجمهور-؛ ولذلك فالراجح ما ذهب إليه أصحاب القول الأول من أن الارتفاق بمنافع الدار جائز ما لم يضر بجاره، وفي عصرنا الحاضر جرى وضع لوائح تنظيمية خاصة بشئون البيئة حُدِّدت فيها الشروط والأوصاف الخاصة للمناطق الصناعية وأصحاب الـحِرف والأعمال الصناعية، كما بُيِّنت أوصاف الأعمال الصناعية التي يجب إبعادها عن الأماكن السكنية؛ نظرًا لخطرها بسبب ما تلحقه من أضرار وإقلاق لراحة المواطنين، وخلاصة ما توصَّلت إليه هذه الأنظمة والقوانين يتلاقى ونظرة السادة المالكية والحنابلة بخصوص هذه المسألة.
وبناء على ما سبق وفي واقعة السؤال: فمِن حق السائل منع جاره من ممارسة مهنة الحدادة في داره -أي دار الجار- إذا كان يؤذيه ويؤذي باقي الجيران جرَّاء الضوضاء الشديدة والروائح الكريهة المنبعثة من بيت الجار لا سيما وأن المنطقة كما جاء في السؤال سكنية مما يستوجب بُعد أمثال مهنة الحدادة عن مناطق التجمع السكني، ولكن هذا المنع يكون عن طريق جهة الاختصاص وهي الجهات الإدارية التي تقدم إليها الشكوى، ثم تقوم هي بدورها بعد ذلك، ولا يكون من حقه أن يقوم هو بنفسه أو غيره بمنع هذا الرجل عن تأدية هذا العمل؛ لما في ذلك من افتئات على الجهات المختصة وهو ما لا يجوز.
والله سبحانه وتعالى أعلم.
روى الشيخان عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِى بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ»، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ» متفق عليه، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ» رواه مسلم.
وهذه الأحاديث تؤكِّد على احترام الجار والإحسان إليه، وتبين أن له حقوقًا على جاره، فلا يؤذيه ولا يضره، وهذه الحقوق والواجبات ليست مخصوصة بالمسلم فقط، بل تتعدى إلى غير المسلم، وقد نظَّم الإسلام تعامل الجار مع جاره في جوانب متعددة، ومما نظَّمه الإسلام مسألة أحقية الجار بالانتفاع ببعض منافع ملكه إذا كان يترتب على انتفاعه بملكه إضرار بالجار، وللفقهاء في حكم هذه المسألة قولان:
القول الأول: أنه لا يُرتفق بمنافع الملك كالدار مثلًا إذا كان يترتب على هذا الارتفاق ضرر بالجار، وللجار الحق في منع جاره من هذا الانتفاع، فإن أبى رفع أمره إلى الحاكم، فإن لم يترتب ضررٌ فلا يمنع، وهو ما عليه الفتوى عند الحنفية، وهو مذهب المالكية، والأصح عند الشافعية، والصحيح عند الحنابلة، لكن الخلاف واقع بينهم في تفسير الضرر الذي يمنع به الشخص من الارتفاق بمنافع ملكه، فقد بيَّن العلَّامة ابن الهمام الحنفي بعد ذكره جملًا من صور هذه المسألة أن القياس في جنس هذه المسائل أن يَفعل صاحب الملك ما بدا له مطلقًا؛ لأنه يتصرف في خالص ملكه وإن كان يلحق الضرر بغيره، لكن يترك القياس في موضع يتعدى ضرره إلى غيره ضررًا فاحشًا، وهو المراد بالبيِّن فيما ذكر الصدر الشهيد، وهو ما يكون سببًا للهدم وما يوهن البناء سبب له، أو يخرج عن الانتفاع بالكلية وهو ما يمنع من الحوائج الأصلية كسد الضوء بالكلية على ما اختاروا الفتوى عليه، وأما التوسع في منع كل ضرر ما فيسد باب الانتفاع بملك الإنسان. انظر: "فتح القدير" (7/ 326، ط. دار الفكر).
يقول المحقق ابن عابدين بعد أن أورد ما قاله العلَّامة ابن الهمام: [انظر كيف جعل المفتى به القياس الذي يكون فيه الضرر بيِّنا لا مطلقًا، وإلا لزم أنه لو كانت له شجرة مملوكة يستظل بها جاره وأراد قطعها أن يمنع لتضرر الجار به كما قرره في "الفتح" قبله. قلتُ: وأفتى المولى أبو السعود أن سدَّ الضوء بالكلية ما يكون مانعًا من الكتابة، فعلى هذا لو كان للمكان كُوَّتان مثلًا فسد الجار ضوء إحداهما بالكلية لا يمنع إذا كان يمكن الكتابة بضوء الأخرى، والظاهر أن ضوء الباب لا يعتبر؛ لأنه يحتاج لغلقه لبرد ونحوه كما حررتُه في "تنقيح الحامدية". وفي "البحر": وذكر الرازي في كتاب "الاستحسان" لو أراد أن يبني في داره تنورًا للخبز الدائم كما يكون في الدكاكين أو رحى للطحن أو مدقات للقصَّارين لم يجز؛ لأنه يضر بجيرانه ضررًا فاحشًا لا يمكن التحرز عنه، فإنه يأتي منه الدخان الكثير، والرحى والدق يوهن البناء، بخلاف الحمام؛ لأنه لا يضر إلا بالنداوة ويمكن التحرز عنه بأن يبني حائطًا بينه وبين جاره، بخلاف التنور المعتاد في البيوت. اهـ. وصحَّح النسفي في حمام أن الضرر لو فاحشًا يمنع وإلا فلا] اهـ. "رد المحتار" (5/ 448، ط. دار الفكر).
فالواضح أن الحنفية يجعلون الضرر البيِّن ما يضر بالـمِلك دون المالك، ومثلهم الشافعية؛ ففي "شرح المنهج" للشيخ زكريا الأنصاري (3/ 565، ط. دار الفكر): [(ويتصرف كل) من الملاك (في ملكه بعادة) وإن أدى إلى ضرر جاره أو إتلاف ماله؛ كمن حفر بئر ماء أو حَشٍّ، فاختل به جدار جاره أو تغيَّر بما في الحش ماء بئره، (فإن جاوزها) أي العادة فيما ذكر (ضمن) بما جاوز فيه؛ كأن دق دقًّا عنيفًا أزعج الأبنية أو حبس الماء في ملكه، فانتشرت النداوة إلى جدار جاره، (وله أن يتخذه) أي ملكه ولو بحوانيت بزازين (حمامًا وإصطبلًا) وطاحونة (وحانوت حداد إن أحكم جدرانه) أي كل منها بما يليق بمقصوده؛ لأن ذلك لا يضر الملك وإن ضر المالك بنحو رائحة كريهة] اهـ. ومثل ذلك في "الإقناع" للخطيب الشربيني.
وخالف في ذلك المالكية والحنابلة، فالصور التي ذكروها صريحة في أن ما يضر بالمالك يمنع أيضًا كالذي يضر بالملك؛ جاء في "الشرح الصغير" للعلامة الدردير المالكي (3/ 485، ط. دار المعارف): [(و) قضى (بمنع دخان كحمام) وفرن ومطبخ وقمين (و) بمنع (رائحة كريهة؛ كدبغ) ورائحة مذبح ومسمط، والمراد الحادث من ذلك لا القديم (و) بمنع (مضر بجدار) حدث كدق، وطاحون، وبئر، وغرس شجر، (و) منع إحداث (إصطبل)؛ لما فيه من ضرر رائحة الزبل بالجدار وصوت الدواب، (و) بمنع (حانوت قبالة باب ولو بسكة نفذت) على الأصوب؛ لأن الحانوت أشد ضررًا من فتح الباب؛ لملازمة الجلوس به، ومحل المنع فيما ذكر (إن حدثت) لا إن كانت قديمة... (ولا) يقضى بمنع (صوت كمد) وهو دق القماش لتحسينه (ونحوه)؛ كحداد ونجار وصائغ لخفة ذلك؛ ولذا قال بعضهم: هذا ما لم يشتد ويدم، وإلا منع] اهـ.
يقول العلامة الصاوي محشِّيًا على ما سبق من كلام العلامة الدردير: [قوله: (بمنع دخان كحمام) أي: بمنع إحداث ذي دخان تتضرر الجيران بسببه. وقوله: (وبمنع رائحة) أي: وقضى بمنع إحداث ذي رائحة كريهة. قوله: (كدبغ) أي: مدبغة، والمذبح المحل المعَدُّ للذبح، والمسمط: هو الإناء الذي يسمط فيه السقط؛ لإزالة ما فيه من الأقذار. ويمنع الشخص من تنفيض الحصر ونحوها على باب داره إذا أضرَّ الغبار بالمارة، ولا حجة له أنه إنما فعله على باب داره. قاله ابن حبيب] اهـ. ومثل هذه العبارات مذكورة في شروح "مختصر خليل".
وفي "كشاف القناع" للعلامة البهوتي الحنبلي (3/ 408، ط. دار الكتب العلمية): [(ويحرم) على الجار (إحداثه في ملكه ما يضر بجاره كحفر كنيف إلى جنب حائط جاره) يضره (وبناء حمام يتأذى بذلك ونصب تنور يتأذى) جاره (باستدامة دخانه، وعمل دكان قصارة أو حدادة يتأذى بكثرة دقه، و) يتأذى (بهز الحيطان) من ذلك (و) نصب (رحى) يتأذى بها جاره (وحفر بئر ينقطع بها ماء بئر جاره، وسقي، وإشعال نار يتعديان إليه) أي إلى الجار (ونحو ذلك) من كل ما يؤذيه... (وإن كان هذا الذي حصل منه الضرر) للجار من حمام ورحى ونحوهما (سابقًا) على ملك الجار (مثل من له في ملكه مدبغة ونحوها) من رحى وتنور (فأحيا إنسان إلى جانبه مواتًا أو بناه) أي بنى جانبه (دارًا) قلتُ: أو اشترى دارًا بجانبه بحيث (يتضرر) صاحب الملك المحدث (بذلك) المذكور من المدبغة ونحوها (لم يلزمه) أي صاحب المدبغة ونحوها (إزالة الضرر)؛ لأنه لم يحدث بملكه ما يضر بجاره، (وليس له) أي: الجار (منعه) أي: منع جاره من (تعلية داره ولو أفضى) إعلاؤه (إلى سد الفضاء عنه أو خاف) أي ليس للجار منع جاره من تعلية بنائه ولو خاف (نقص أجرة داره)] اهـ.
وحجة الجمهور في منعهم الارتفاق المضر بالجار عموم قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ» رواه أحمد وابن ماجه والحاكم وغيرهم، والنصوص الآمرة بحسن معاملة الجار والإحسان إليه وعدم الإضرار به.
القول الثاني: لا يمنع أحد من الانتفاع بملكه وإن كان يترتب عليه ضرر بالغير، فلا يملك الشخص منع جاره من الانتفاع بملكه ولو كان هذا الانتفاع يترتب عليه ضرر، وهو ما عليه متقدمو الحنفية، وهذا قضاءً، أما ديانة فإنهم قائلون بأنه يجب ديانة الكف عن كل ما يلحق ضررًا بالجار.
يقول الإمام الكاساني في "بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع" (6/ 264، ط. دار الكتب العلمية): [للمالك أن يتصرف في ملكه أي تصرف شاء سواء كان تصرفًا يتعدَّى ضرره إلى غيره أو لا يتعدى، فله أن يبني في ملكه مرحاضًا أو حمامًا أو رحى أو تنورًا، وله أن يقعد في بنائه حدادًا أو قصارًا، وله أن يحفر في ملكه بئرًا أو بالوعة أو ديماسًا وإن كان يهن من ذلك البناء ويتأذى به جاره، وليس لجاره أن يمنعه حتى لو طلب جاره تحويل ذلك لم يجبر عليه؛ لأن الملك مطلق للتصرف في الأصل، والمنع منه لعارض تعلق حق الغير، فإذا لم يوجد التعلق لا يمنع، إلا أن الامتناع عما يؤذي الجار ديانة واجبٌ؛ للحديث: قال صلى الله عليه وآله وسلم: «الْمُؤْمِنُ مَنْ أَمِنَ جَارُهُ بَوَائِقَهُ» ولو فعل شيئًا من ذلك حتى وهن البناء وسقط حائط الجار لا يضمن؛ لأنه لا صنع منه في ملك الغير] اهـ.
فالقائلون بهذا الرأي غلَّبوا أحقية التصرف في الملك حتى ولو أضر هذا التصرف بالغير، وقد يقال: إن هذا الحق مقيَّد بعدم الإضرار؛ وذلك لعموم الأحاديث الناهية عن الضرر -كما استدل بذلك الجمهور-؛ ولذلك فالراجح ما ذهب إليه أصحاب القول الأول من أن الارتفاق بمنافع الدار جائز ما لم يضر بجاره، وفي عصرنا الحاضر جرى وضع لوائح تنظيمية خاصة بشئون البيئة حُدِّدت فيها الشروط والأوصاف الخاصة للمناطق الصناعية وأصحاب الـحِرف والأعمال الصناعية، كما بُيِّنت أوصاف الأعمال الصناعية التي يجب إبعادها عن الأماكن السكنية؛ نظرًا لخطرها بسبب ما تلحقه من أضرار وإقلاق لراحة المواطنين، وخلاصة ما توصَّلت إليه هذه الأنظمة والقوانين يتلاقى ونظرة السادة المالكية والحنابلة بخصوص هذه المسألة.
وبناء على ما سبق وفي واقعة السؤال: فمِن حق السائل منع جاره من ممارسة مهنة الحدادة في داره -أي دار الجار- إذا كان يؤذيه ويؤذي باقي الجيران جرَّاء الضوضاء الشديدة والروائح الكريهة المنبعثة من بيت الجار لا سيما وأن المنطقة كما جاء في السؤال سكنية مما يستوجب بُعد أمثال مهنة الحدادة عن مناطق التجمع السكني، ولكن هذا المنع يكون عن طريق جهة الاختصاص وهي الجهات الإدارية التي تقدم إليها الشكوى، ثم تقوم هي بدورها بعد ذلك، ولا يكون من حقه أن يقوم هو بنفسه أو غيره بمنع هذا الرجل عن تأدية هذا العمل؛ لما في ذلك من افتئات على الجهات المختصة وهو ما لا يجوز.
والله سبحانه وتعالى أعلم.