هذه الهيئة التي عليها الناس في ختم القرآن صحيحةٌ وجائزةٌ شرعًا، وفي عموم الأدلة من القرآن والسنة وعمل السلف الصالح ما يدل على ذلك؛ فالتكبير من سورة الضحى عند ختم القرآن الكريم سنةٌ متبعةٌ ثابتةٌ عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والصحابة والتابعين فمن بعدهم، وهي قراءة ابن كثير رحمه الله تعالى، ووردت أيضًا عن بقية القُرّاء، مع إجماعهم على أن هذا التكبير ليس قرآنًا، وإنما هو ذكرٌ مشروعٌ بين سُوَرِ الختم لتعظيم الله تعالى.
وهذا ما عليه عمل المسلمين سلفًا وخلفًا، عند أهل الأمصار في سائر الأقطار، عند ختمهم القرآن الكريم في المحافل واجتماعهم في المجالس، وكثير منهم يقوم به في صلاة رمضان ولا يتركه عند الختم على أي حال كان.
والعلماء متفقون أيضًا على جواز قراءة سورة الإخلاص ثلاث مرات؛ فقد ورد في الخبر الصحيح أنها تعدل ثُلُثَ القرآن، فإذا قُرِئَت بالتكرار في الختم لا على جهة العرض وتلقي الرواية، وأُمِن مع ذلك مِن إيهام تكرارها في المصحف: فذلك جائز شرعًا ولا حرج فيه، وعليه عمل المسلمين من غير نكير.
وكذلك الحال في قراءة سورة الفاتحة وأول البقرة بعد الختم: فذلك أمرٌ جاء الشرع باستحبابه، وأخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن ذلك من أحب الأعمال إلى الله تعالى، وصحّت به الرواية من طريق ابن كثير رحمه الله تعالى؛ فإن آية الكرسي أعظم آية في القرآن، وخواتيم البقرة فيها الثناء على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعلى المؤمنين، ورفع الحرج عنهم وعدم المؤاخذة، وطلب العفو والمغفرة والرحمة والنصر، وفي ذلك تيمن بالقبول واستجابة الدعاء بعد القراءة.
وأما الذكر بأسماء الله الحسنى ثم الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم الدعاء: فداخل في مشروعية الدعاء عند ختم القرآن الكريم، وهو سُنّة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقد فعلها الصحابة والتابعون، ونص الفقهاء على مشروعيتها؛ لقول الله تعالى: ﴿وَللهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا﴾ [الأعراف: 180]، والأمر المطلق بالدعاء يقتضي عموم الأزمنة والأمكنة والأشخاص والأحوال، فلا يجوز تخصيصه أو تقييده بحال دون حال إلا بدليل، وإلا كان ابتداعًا بتضييق ما وسعه الله سبحانه وتعالى.
فليتق الله أولئك المنكرون على المسلمين عبادتهم، وليحذروا من التقول على الله بغير علم، وليكونوا عالمين بما يأمرون به وينهون عنه، مدركين لمآلات الأحكام قبل أن التصدر للفُتيا.
حكم ختم القرآن جماعة
هذا الذي عليه عمل الناس في هيئة ختم القرآن الكريم جائزٌ شرعًا؛ لأن منه ما هو مشروع بخصوصه، ومنه ما هو داخل في عمومات الأدلة من الكتاب أو السنة وجرى عليه عمل السلف من غير نكير، وإنما القراءة سُنّةٌ مُتَّبَعَةٌ يأخذها الخلف عن السلف، ولا يجوز رميُ المسلمين ببدعة الضلالة في شيء من ذلك، وتفصيل ذلك على النحو الآتي:
أما التكبير من سورة الضحى: فهو سنة متبعةٌ ثابتةٌ عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والصحابة والتابعين فمن بعدهم، وهي قراءة أهل مكة التي اشتهر بها ابن كثير رحمه الله تعالى، وذلك عند ختم القرآن الكريم؛ في الصلاة وخارجها، ووردت أيضًا عن بقية القُرّاء، مع إجماعهم على أن هذا التكبير ليس قرآنًا، وإنما هو ذكر مشروع بين سُوَرِ الختم لتعظيم الله تعالى.
قال شيخ القُرّاء في زمنه الإمام شمس الدين محمد بن محمد بن محمد بن الجزري في كتاب "النشر في القراءات العشر" (2/ 410-411، ط. المطبعة التجارية الكبرى): [اعلم أن التكبير صح عند أهل مكة: قُرّائهم، وعلمائهم، وأئمتهم، ومن روى عنهم- صِحّةً استفاضت واشتهرت وذاعت وانتشرت، حتى بلغت حد التواتر، وصحت أيضًا عن أبي عمرو من رواية السوسي، وعن أبي جعفر من رواية العمري، ووردت أيضًا عن سائر القُرّاء، وبه كان يأخذ ابن حبش وأبو الحسين الخبازي عن الجميع، وحكى ذلك الإمام أبو الفضل الرازي وأبو القاسم الهذلي والحافظ أبو العلاء.
وقد صار على هذا العمل عند أهل الأمصار في سائر الأقطار عند ختمهم في المحافل واجتماعهم في المجالس لدى الأماثل، وكثير منهم يقوم به في صلاة رمضان ولا يتركه عند الختم على أي حال كان اهـ. وقال مَكِّيٌّ بن أبي طالب: وروي أن أهل مكة كانوا يكبرون في آخر كل ختمة من خاتمة وَالضُّحى لكل القُرّاء؛ لابن كثير وغيره، سنةً نقلوها عن شيوخهم. اهـ. وقال الأهوازي: والتكبير عند أهل مكة في آخر القرآن سنة مأثورة يستعملونه في قراءتهم في الدروس والصلاة. انتهى. وكان بعضهم يأخذ به في جميع سور القرآن اهـ.
قال الحافظ أبو عمرو الداني في كتابه "جامع البيان": كان ابن كثير من طريق القواس والبزي وغيرهما يكبر في الصلاة والعرض من آخر سورة (والضحى) مع فراغه من كل سورة إلى آخر: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ﴾، فإذا كبر في (الناس) قرأ فاتحة الكتاب وخمس آيات من أول سورة البقرة على عدد الكوفيين إلى قوله: ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾، ثم دعا بدعاء الختمة، قال: وهذا يُسَمَّى الحَالَّ المُرْتَحِل، وله في فعله هذا دلائل مستفيضة جاءت من آثار مَرْوِيَّةٍ ورد التوقيفُ بها عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأخبار مشهورة مستفيضة جاءت عن الصحابة والتابعين والخالفين.
وقال أبو الطيب عبد المنعم بن غلبون: وهذه سنة مأثورة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وعن الصحابة والتابعين، وهي سنة بمكة لا يتركونها البتة، ولا يعتبرون رواية البزي وغيره.
وقال أبو الفتح فارس بن أحمد: لا نقول إنه لا بد لمن ختم أن يفعله، لكن من فعله فحسن، ومن لم يفعله فلا حرج عليه، وهو سنة مأثورة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وعن الصحابة والتابعين] اهـ.
وقال في أرجوزته الشهيرة "طَيِّبَةِ النَّشْر":
وسُـــــــنّةُ التكبير عند الختْـــــــــمِ صحَّتْ عن المَكِّينَ أهلِ العلم
في كل حــــالٍ ولدى الصـــــلاةِ سُلْسِــــــــــلَ عن أئمـــــةٍ ثِقَـــــــــــــــاتِ
من أول انشراحٍ أَوْ من الضحى مِن آخرٍ أو أولٍ قد صُحِّحــــا
للناس هكــــذا وقبـــلُ إن تُـــــــــرِدْ هَلِّلْ، وبعضٌ بعــــــــدَ لله حَمِــــــــدْ
ثم اقرأ الحمــــدَ وخمسَ البقره إن شئت حِــلًّا وارتحـــالًا ذَكَره
وقال الحافظ جلال الدين السيوطي في "الإتقان في علوم القرآن" (2/ 708-711، ط. مجمع الملك فهد): [يُستَحَبُّ التكبير من الضحى إلى آخر القرآن، وهي قراءة المكيين. أخرج البيهقي في "الشعب" وابن خزيمة من طريق ابن أبي بزة: سمعت عكرمة بن سليمان قال: قرأت على إسماعيل بن عبد الله المكي، فلما بلغت الضحى قال: كبر حتى تختم، فإني قرأت على عبد الله بن كثير فأمرني بذلك، وقال: قرأت على محمد فأمرني بذلك. وأخبر مجاهد أنه قرأ على ابن عباس رضي الله عنهما فأمره بذلك. وأخبر ابن عباس أنه قرأ على أبيّ بن كعب رضي الله عنه فأمره بذلك، كذا أخرجناه موقوفًا. ثم أخرجه البيهقي من وجه آخر عن ابن أبي بزة مرفوعًا. وأخرجه من هذا الوجه -أعني المرفوع- الحاكمُ في "مستدركه" وصححه، وله طرق كثيرة عن البزي.
وعن موسى بن هارون قال: قال لي البزي: قال لي محمد بن إدريس الشافعي: إن تركت التكبير فقدت سنة من سنن نبيك. قال الحافظ عماد الدين بن كثير: وهذا يقتضي تصحيحه للحديث.
وروى أبو العلاء الهمذاني عن البزي أن الأصل في ذلك أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم انقطع عنه الوحي فقال المشركون: قلا محمدًا ربُّه، فنزلت سورة الضحى، فكبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم. قال ابن كثير: ولم يرد ذلك بإسناد يحكم عليه بصحة ولا ضعف. وقال الحليمي: نكتة التكبير التشبيه للقراءة بصوم رمضان إذا أكمل عدته يكبر، فكذا هنا يكبر إذا أكمل عدة السورة] اهـ.
وهذا هو المعتمد عند الشافعية والحنابلة وغيرهم من الفقهاء:
ففي "الفتاوى الحديثية الكبرى" للعلّامة ابن حجر الهيتمي شيخ الشافعية في زمنه (ص: 224-225، ط. مصطفى الحلبي): [وسئل -نفع الله بعلومه وأمدنا بمدده-: هل ورد حديث صحيح في مشروعية التكبير في أواخر قصار المفصل؟ فإن قلتم: نعم فهل هو خاص في حق غير المصلي؟ فإن قلتم: نعم فهل نقل ندبه في حق المصلي عن أحد من الأئمة؟ فإن قلتم بسنيته فما ابتداؤه وانتهاؤه، وهل يندب معه زيادة (لا إله إلا الله) كما هو المعمول؟
فأجاب -نفع الله به وأعاد علينا وعلى المسلمين من بركاته- بقوله:
حديث التكبير ورد من طرق كثيرة عن أحمد بن محمد بن أبي بزة البزي قال: سمعت عكرمة بن سليمان يقول: قرأت على إسماعيل بن عبد الله بن قسطنطين فلما بلغت: ﴿وَالضُّحَى﴾ قال لي: كبر عند خاتمة كل سورة حتى تختم، وأخبره أنه قرأ على مجاهد فأمره بذلك، وأخبره مجاهد أن ابن عباس رضي الله عنهما أمره بذلك، وأخبره ابن عباس بأن أبي بن كعب رضي الله عنه أمره بذلك، وأخبر أبي بن كعب بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمره بذلك، وقد أخرجه الحاكم أبو عبد الله في "صحيحه المستدرك" عن البزي، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجه البخاري ولا مسلم، انتهي.
وقد يعارضه تضعيف أبي حاتم والعقيلي للبزي. ويجاب بأن هذا التضعيف غير مقبول، فقد رواه عن البزي الأئمة الثقات، وكفاه فخرًا وتوثيقًا قول إمامنا الشافعي رضي الله عنه: إن تركت التكبير تركت سنة، وفي رواية: يا أبا الحسن والله لئن تركت التكبير فقد تركت سنة من سنن نبيك، وقال الحافظ العماد ابن كثير: وهذا من الشافعي يقتضي تصحيحه لهذا الحديث. ومما يقتضي صحته أيضًا أن أحمد بن حنبل رواه عن أبي بكر الأعين عن البزي. وكان أحمد يجتنب المنكرات فلو كان منكرًا ما رواه.
وقد صح عند أهل مكة فقهائهم وعلمائهم ومن روى عنهم، وصحته استفاضت وانتشرت حتى بلغت حد التواتر، وصحت أيضًا عن أبي عمرو من رواية السوسي، ووردت أيضًا عن سائر القراء، وصار عليه العمل عند أهل الأمصار في سائر الأعصار.
واختلفوا في ابتدائه؛ فقيل: من أول سورة الضحى، والجمهور على أنه من أول سورة ألم نشرح، وفي انتهائه؛ فجمهور المغاربة والمشارقة وغيرهم على أنه إلى آخر الناس، وجمهور المشارقة على أنه أولها ولا يكبر آخرها، والوجهان مبنيان على أنه هل هو لأول السورة أو لآخرها؟ وفي ذلك خلاف طويل بين القراء، والراجح منه الظاهر من النصوص أنه من آخر الضحى إلى آخر الناس.
ولا فرق في ندب التكبير بين المصلي وغيره، فقد نقل أبو الحسن السخاوي بسنده عن أبي يزيد القشري قال: صلَّيت بالناس خلف المقام بالمسجد الحرام في التراويح في شهر رمضان، فلما كانت ليلة الجمعة كبرت من خاتمة الضحى إلى آخر القرآن في الصلاة، فلما سلمت التفت فإذا بأبي عبد الله محمد بن إدريس الشافعي رضي الله عنه فقال: أحسنت أصبت السنة.
ورواه الحافظ أبو عمرو الداني عن ابن جريج عن مجاهد رضي الله عنه. قال ابن جريج: فأولى أن يفعله الرجل إمامًا كان أو غير إمام، وأمر ابن جريج غير واحد من الأئمة بفعله.
ونقل سفيان بن عيينة، عن صدقة بن عبد الله بن كثير أنه كان يؤم الناس من أكثر من سبعين سنة، وكان إذا ختم القرآن كبر.
فثبت بما ذكرناه عن الشافعي رضي الله عنه وبعض مشايخه وغيرهم أنه سنة في الصلاة.
ومن ثم جرى عليه من أئمتنا المتأخرين الإمام المجتهد أبو شامة رحمه الله، ولقد بالغ التاج الفزاري في الثناء عليه حتى قال: عجبت له كيف قلد الشافعي رحمه الله، والإمامان أبو الحسن السخاوي، وأبو إسحاق الجعبري.
وممن أفتى به وعمل في التراويح شيخ الشافعية في عصره أبو الثناء محمود بن محمد بن جملة الإمام والخطيب بالجامع الأموي بدمشق.
قال الإمام الحافظ المتقن شيخ القراء في عصره أبو الخير محمد بن محمد الجزري الشافعي: ورأيت أن غير واحد من شيوخنا يعمل به ويأمر من يعمل به في صلاة التراويح وفي الإحياء في ليالي رمضان، حتى كان بعضهم إذا وصل في الإحياء إلى الضحى قام بما بقي من القرآن في ركعة واحدة يكبر في كل سورة، فإذا انتهى إلى: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ﴾ [الناس: 1] كبر في آخرها، ثم يكبر للركوع، وإذا قام في الركعة الثانية قرأ الفاتحة وما تيسر من سورة البقرة، وفعلت أنا كذلك مرات لما كنت أقوم بالإحياء إمامًا بدمشق ومصر.انتهى.
ثم إن قلنا: التكبير لآخر السورة كان بين آخرها وبين الركوع، وإن قلنا لأولها كان بين تكبير القيام والبسملة أول السورة، ووقع لبعض الشافعية من المتأخرين الإنكار على من كبر في الصلاة فرد ذلك عليه غير واحد، وشنعوا عليه في هذا الإنكار.
قال ابن الجوزي: ولم أر للحنفية ولا للمالكية نقلًا بعد التتبع، وأما الحنابلة ففي فروعهم لابن مفلح: وهل يكبر لختمه من الضحى أو ألم نشرح آخر كل سورة فيه روايتان، ولم يستحبه الحنابلة القراء غير ابن كثير، وقيل: ويهلل، انتهى.
وأما صيغته فلم يختلف مثبتوه أنها: الله أكبر، وهي التي رواها الجمهور عن البزي، وروى عنه آخرون التهليل قبلها، فتصير: لا إله إلا الله، والله أكبر، وهي ثابتة عند البزي فلتعمل، ومن ثم قال شيخ الإسلام عبد الرحمن الرازي الشافعي رحمه الله في وسطه في العشر: وقد رأيت المشايخ يؤثرون ذلك في الصلاة فرقا بينها وبين تكبير الركوع، ونقل عن البزي أيضًا زيادة: ولله الحمد بعد أكبر، وروى جمع عن قنبل، وروى عنه آخرون التهليل أيضًا وقطع به غير واحد. قال الداني: الوجهان -يعني: التهليل مع التكبير، والتكبير وحده- عن البزي وقنبل صحيحان مشهوران مستعملان جيدان. والله سبحانه وتعالى أعلم] اهـ.
وعند الحنابلة يستحب أصل التكبير في الختم، ومنهم من استحب معه التهليل أيضًا:
قال العلّامة ابن مفلح في "الآداب الشرعية" (2/ 295-296، ط. مؤسسة الرسالة): [واستحب أحمد التكبير من أول سورة الضحى إلى أن يختم. ذكره ابن تميم وغيره، وهو قراءة أهل مكة أخذها البزي عن ابن كثير وأخذها ابن كثير عن مجاهد وأخذها مجاهد عن ابن عباس وأخذها ابن عباس عن أبي بن كعب وأخذها أبي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. روى ذلك جماعة منهم: البغوي في "تفسيره"، والسبب في ذلك انقطاع الوحي، وهذا حديث غريب؛ رواية أحمد بن محمد بن عبد الله البزي، وهو ثبت في القراءة ضعيف في الحديث، وقال أبو حاتم الرازي: هذا حديث منكر.
وقال أبو البركات: يستحب ذلك من سورة: ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ﴾ وقال في الشرح: استحسن أبو عبد الله التكبير عند آخر كل سورة ومن الضحى إلى أن يختم؛ لأنه روي عن أبي بن كعب أنه قرأ على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأمره بذلك رواه القاضي. وعن البزي أيضًا مثل هذا، وعن قنبل هكذا والذي قبله، وعنه أيضًا: لا تكبير كما هو قول سائر القراء. وقال الماوردي: كان ابن عباس يفصل بين كل سورتين بالتكبير ومن الضحى وهو راوي قراء مكة. وقال الآمدي: يهلل ويكبر وهو قول عن البزي، وسائر القراء على خلافه] اهـ.
وقد نص أهل الأداء على أنه يجوز لمن يقرأ بقراءة حفص أن يَسبِقَ التكبيرَ بالتهليل ويُتْبِعَه بالتحميد، وشنعوا على من أنكر ذلك، ولا شك أن قولهم في ذلك هو المقدم على قول غيرهم:
قال الشيخ عبد الفتاح السيد عجمي المرصفي في كتابه "هداية القاري إلى تجويد كلام الباري" (2/ 586-587، ط. مكتبة طيبة): [ولا التفات إلى من أنكر التهليل والتحميد مع التكبير عند سُوَر الختم في رواية حفص؛ فقد أجازه له غير واحد من الثقات، بل أجازه لكل القُرّاء العشرة في هذا المكان؛ لأنه محلّ إطناب وتلذذ بذكر الله تعالى، وقد شنّع صاحب "عمدة الخلان شرح زبدة العرفان" على من أنكر ذلك، وعبارته: "وكذا لا يُمنَع القارئُ من التهليل والتحميد من آخر الضحى إلى آخر الناس في قراءة أحد من الأئمة إذا كان بنية التشكر والتعظيم والتبرك، فلا عبرة برأي بعض المتعصبين من حيث يُجَوِّزُون التكبير فقط لحفص عند الختم بين كل سورتين وأواخرها من لدن سورة الضحى إلى سورة الناس، وينكر أخذ التهليل والتحميد فيها، ويزعمون أن أخذ التهليل والتحميد لحفص ولغيره سوى البزي من أشراط الساعة، وإلى الله المشتكى من هذه الخصلة ذات الشناعة" اهـ منه بلفظه] اهـ.
وعلى ذلك: فالتكبير عند الختم سنة متبعة صحيحة نص عليها أهل القراءة المعتبرون فيها، والقراءة سُنّةٌ مُتَّبَعَةٌ يتلقاها الخلف عن السلف، ولا عبرة بقولِ مَن أنكرها؛ فإنما يُؤخَذُ كلُّ فنٍّ وعلمٍ من أهله المشتغلين به لا من غيرهم.
وأما قراءة سورة الإخلاص ثلاث مرات: فالعلماء متفقون على أن فعل ذلك جائز في أصله؛ عملًا بالخبر الصحيح الوارد في كونها تعدل ثُلُثَ القرآن، ولكنهم اختلفوا في استحباب تكرارها ثلاثًا عند الختم، مع نصهم على أن تكرارها هو الذي جرت عليه عادة الناس ومضى عليه عملهم، واختلفوا أيضًا هل تكرر إذا كان الختم في الصلاة:
فعند الحنفية في استحسان تكرارها ثلاثًا عند الختم خارج الصلاة قولان، والاستحسان هو قول الأكثر، غير أنهم لم يستحسنوا تكرارها إذا كان الختم في الصلاة المكتوبة:
جاء في "الفتاوى الهندية" (5/ 317، ط. دار الفكر): [قراءة ﴿قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ﴾ ثلاث مرات عَقِيبَ الختم لم يستحسنها بعض المشايخ، واستحسنها أكثر المشايخ لجبر نقصان دخل في قراءة البعض، إلّا أن يكون ختم القرآن في الصلاة المكتوبة فلا يزيد على مرة واحدة؛ كذا في "الغرائب"، ولا بأس باجتماعهم على قراءة الإخلاص جهرًا عند ختم القرآن، ولو قرأ واحد واستمع الباقون فهو أولى؛ كذا في "القنية"] اهـ.
وفي "فتاوى قاضي خان" (1/ 164، ط. المطبعة الأميرية ببولاق، بهامش الفتاوى الهندية): [وقراءة سورة الإخلاص ثلاث مرات عند ختم القرآن يستحسنه مشايخ العراق رحمهم الله تعالى، إلا أن يكون الختم في المكتوبة فلا يكرر سورة الإخلاص] اهـ.
وقال العلّامة الكمال بن الهمام في "شرح فتح القدير" (1/ 343، ط. دار الفكر): [وقراءتها ثلاثا عند الختم خارج الصلاة اختلف المشايخ في استحبابه، واستحسنه مشايخ العراق، وفي المكتوبة لا يزيد على مرة] اهـ.
والشافعية يستحسنون تكرارها عند الختم:
قال الإمام التاج السبكي في "طبقات الشافعية الكبرى" (10/ 285-286، ط. هجر): [حضرت الوالد رحمه الله -يعني الإمام تقي الدين السبكي شيخ الشافعية في زمنه- مرة في ختمة وقد وصل القُرّاء إلى سورة الإخلاص؛ فقرؤوها ثلاث مرات على العادة، وكان على يمينه قاضي القضاة عماد الدين علي بن أحمد الطرسوسي الحنفي، فالتفت إلى الشيخ الإمام وقال: في خاطري دائما أن أسأل عن الحكمة في إطباق الناس على تكريرها ثلاثًا.
فقال له الشيخ الإمام: لأنه قد ورد أنها تعدل ثلث القرآن فتحصل بذلك ختمة.
فقال القاضي عماد الدين: فلم لا يقرؤونها ثلاثًا بعد الواحدة التي تضمنتها الختمة ليحصل ختمتان؟
فقال الشيخ الإمام: مقصود الناس تحقيق ختمة واحدة؛ فإن القارئ إذا وصل إليها فقرأها ثم أعادها مرتين كان على يقين من حصول ختمة: إما التي قرأها من الفاتحة إلى آخر القرآن، وإمّا ثوابها بقراءة الإخلاص ثلاثًا. وليس المقصود ختمة أخرى. وهذا معنى مليح] اهـ.
وقال الإمام الزركشي في "البرهان في علوم القرآن" (1/ 473-474، ط. دار إحياء الكتب العربية): [مما جرت به العادة من تكرير سورة الإخلاص عند الختم نص الإمام أحمد على المنع، ولكن عمل الناس على خلافه] اهـ.
ونحوه للعلامة ابن حجر الهيتمي في "الفتاوى الحديثية" (ص: 233، ط. مصطفى الحلبي).
والمعتمد عند الشافعية أن تكرار سورة الإخلاص عند الختم في الصلاة خلافُ الأَوْلى فقط، وليس سُنّةً ولا مكروهًا؛ لأنه لم يَرِدْ فيه نهي مخصوص:
جاء في "الفتاوى الفقهية الكبرى" للعلامة ابن حجر الهيتمي (1/ 184، ط. دار الفكر): [وسئل نفع الله تعالى به عن تكرير سورة الإخلاص في التراويح: هل يُسَنُّ؟ وإذا قلتم "لا" فهل يُكْرَه أم لا؟ وقد رأيت في "المعلمات" لابن شهبة: أن تكرير سورة الإخلاص في التراويح ثلاثًا كرهها بعض السلف، قال: لمخالفتها المعهود عمن تقدم؛ ولأنها في المصحف مرة فلتكن في التلاوة مرة اهـ فهل كلامه مقرَّرٌ معتمد أم لا؟ بينوا ذلك وأوضحوه لا عدمكم المسلمون.
فأجاب فسح الله في مدته بقوله: تكرير قراءة سورة الإخلاص أو غيرها في ركعة أو كل ركعة من التراويح ليس بسنة ولا يقال مكروه على قواعدنا لأنه لم يرد فيه نهي مخصوص] اهـ.
قال العلامة أبو بكر شطا الدمياطي في "حاشية إعانة الطالبين" (1/ 307، ط. دار الفكر) تعقيبًا على فتوى العلامة ابن حجر: [الذي فيها أن قراءة القرآن في جميع الشهر أولى وأفضل، وأن تكرير سورة الإخلاص أو غيرها في ركعةٍ ما خلافُ الأَوْلى فقط، وليس بسنة ولا بمكروه] اهـ.
وعند الحنابلة رأيان:
فنقلوا عن الإمام أحمد المنع من ذلك، ولكن المذكور في كتبهم أنه إن فُعِل فلا بأس به؛ حملًا للمنع على عدم الاستحباب، أو على أن المقصود به تكرارها داخل الصلاة:
قال العلّامة ابن مفلح في "الآداب الشرعية" (2/ 296): [وإذا قرأ سورة الإخلاص مع غيرها قرأها مرة واحدة ولا يكرر ثلاثًا؛ نص عليه، وقال ابن تميم: منع أحمد القارئ من تكرار سورة الإخلاص ثلاثًا إذا وصل إليها] اهـ.
وقال الشيخ الرحيباني الحنبلي في "مطالب أولي النهى في شرح المنتهى" (1/ 605، ط. المكتب الإسلامي): [(ولا يكرر سورة الصمد..)؛ لأنه لم يبلغه فيه أثر صحيح، (فإن فعل) ذلك (فلا بأس)، لكن تركه أولى] اهـ.
غير أن مِن محققي الحنابلة مَن استحب تكرارها على كل حال؛ في الختم وغيره، وحكى الخلاف في تكرارها في الصلاة:
قال العلّامة نجم الدين الطوفي الحنبلي في رسالته "إيضاح البيان عن معنى أم القرآن" (مطبوعة بتحقيق: علي حسين البواب، ضمن "مجلة البحوث الإسلامية" الصادرة عن الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء بالسعودية، عدد: 36، ص: 356): [ينبَغي لِمَن تَلا هذه السُّوَر الثلاثَ (يعني: الزلزلة، والإخلاص، والكافرون) مُنفرِدَةً، أو في جُملةِ القُرآنِ، بادِئًا مِن أوَّلِه، أو مِن آخره، في غيرِ الصَّلاة: أنْ يُكَرّرَ سُورَةَ "الزلزلة" مَرّتين، وسُورَةَ "الإخلاصِ" ثلاثًا، وسُورَةَ "الكافرونَ" أربَعًا؛ لِيستَكمِل بِذلكَ ثَلاثَ خَتَماتٍ. أما في الصلاة ففي تكرار السورة خلاف مشهور، وتفصيل بين الفرض والنفل] اهـ.
والتحقيق أن النهي عن التكرار محمول على نفي كونه مِن سُنّة القراءة المُتَّبَعة التي تُؤخَذ بالتلقي عن السلف؛ وخشية أن يُظَنَّ أنها كذلك في المصحف؛ فهو من الفقه الذرائعي الذي يزول بزوال سببه ولا يُتَوَسَّع فيه، وقد بين أهل القراءة والأداء أن تكرار سورة الإخلاص ليس من سُنّة التلقي وعرض القراءة، وأنه شيء لم يُقرَأْ به في أسانيد الرواية في القراءة:
يقول الإمام ابن الجزري في "طيبة النشر في القراءات العشر" (2/ 451): [وأما ما يعتمده بعض القراء من تكرار قراءة: ﴿قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ﴾ عند الختم ثلاث مرات: فهو شيء لم نقرأ به، ولا أعلم أحدًا نص عليه من أصحابنا القراء، ولا الفقهاء سوى أبي الفخر حامد بن علي بن حسنويه القزويني في كتابه "حلية القراءة" فإنه قال فيه ما نصُّه: والقراء كلهم قرؤوا سورة الإخلاص مرة واحدة، غير الهرواني عن الأعشى؛ فإنه أخذ بإعادتها ثلاث دفعات، والمأثور دفعة واحدة. انتهى.
قلت: والهَرَواني هذا هو بفتح الهاء والراء، وهو القاضي أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن الحسين الجعفي الحنفي الكوفي، كان فقيهًا كبيرًا، قال الخطيب البغدادي: كان من عاصره بالكوفة يقول: لم يكن بالكوفة من زمن ابن مسعود إلى وقته أحد أفقه منه. انتهى. وقرأ برواية الأعشى على محمد بن الحسن بن يونس عن قراءته بها على أبي الحسن علي بن الحسن بن عبد الرحمن الكسائي الكوفي صاحب محمد بن غالب صاحب الأعشى، والظاهر أن ذلك كان اختيارًا من الهرواني؛ فإن هذا لم يُعْرَفْ في رواية الأعشى، ولا ذكره أحد من علمائنا عنه، بل الذين قرؤوا برواية الأعشى على الهرواني هذا -كأبي علي البغدادي صاحب "الروضة" وأبي علي غلام الهراس شيخ أبي العز وكالشرمقاني والعطار شيخي ابن سوار وكأبي الفضل الخزاعي- لم يذكر أحد منهم ذلك عن الهرواني، ولو ثبت عندهم روايةً لذكروه بلا شك؛ فلذلك قلنا: إنه يكون اختيارًا منه، والرجل كان فقيهًا عالمًا أهلًا للاختيار، فلعله رأى ذلك.
وصار العمل على هذا في أكثر البلاد عند الختم في غير الروايات. والصواب ما عليه السلف؛ لئلا يُعتَقَدَ أن ذلك سنة، ولهذا نص أئمةُ الحنابلة على أنه لا يكرر سورة الصمد، وقالوا: وعنه -يعنون عن أحمد- لا يجوز. والله الموفق] اهـ.
فالرواية المأخوذة عن أهل الأداء في تلقي القرآن هي عدم تكرار سورة الإخلاص، وإليهم المرجع في معرفة ذلك فلا يُقرَأُ بغيره في التلقي وعرض القراءة؛ لأن الرواية مبناها على التوقيف. وأما تكرارها في الختم فمسألة فقهية تتعلق بفهم الأدلة الشرعية واستنباط الأحكام منها، وبابُ الدراية أوسع من باب الرواية؛ فليس كل ما جاز درايةً صح روايةً.
فإذا قُرِئَ بالتكرار في الختم لا على جهة العرض وتلقي الرواية، وأُمِن مع ذلك مِن إيهام تكرارها في المصحف: فذلك جائز شرعًا ولا حرج فيه. وعليه العمل في أمصار الإسلام.
بل إن تكرار سورة الإخلاص عند الختم كان معروفًا عند السلف، حتى قبل الهرواني والأعشى؛ فقد روى الدينوري في "المجالسة وجواهر العلم" (3/ 374، ط. دار ابن حزم): [حدثنا عبيد بن إبراهيم الحربي؛ قال: سمعت سفيان يقول: صليت ببشر الحافي في شهر رمضان، فلما أردت أن أختم قرأت: ﴿قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ﴾ ثلاث مرات، فقال لي بشر: عمن أخذت هذا؟ قلت: عن شيوخنا بخراسان، قال: إنما هي في المصحف مرة واحدة، وأنزلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مرة واحدة] اهـ.
وسفيان بن عيينة ولد سنة سبع ومائة وتوفي سنة ثمان وتسعين ومائة، وقد نقل تكرار سورة الإخلاص في الختم عن شيوخه بخراسان، وقد قرأ القرآن وهو ابن أربع عشرة سنة -كما في (تاريخ ابن أبي خيثمة، 3/ 267، ط. دار الفاروق)-، وأخذ القراءة عن حميد بن قيس الأعرج المتوفى سنة ثلاثين ومائة، وهذا كله يشير إلى أن ذلك مما جرى عليه العمل قديمًا، وإنما عاب عليه بشر رحمه الله تكرارها في الصلاة؛ بناءً على أنها مفردة في المصحف، ولا يخفى أن نزولها مرة واحدة وعدم تكرارها في كتاب الله لا ينفي استحباب تكرارها في غير الختم، فكذلك عند الختم.
وأما قراءة سورة الفاتحة وأول البقرة بعد الختم: فهو أمر جاء الشرع باستحبابه، وأخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن ذلك أحب الأعمال إلى الله تعالى:
قال الحافظ جلال الدين السيوطي في "الإتقان" (2/ 714-715): [يُسَنُّ إذا فرغ من الختمة أن يشرع في أخرى عقب الختم؛ لحديث الترمذي وغيره: «أَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللهِ الْحَالُّ الْمُرْتَحِلُ؛ الَّذِي يَضْرِبُ مِنْ أَوَّلِ الْقُرْآنِ إِلَى آخِرِهِ كُلَّمَا حَلَّ ارْتَحَلَ»، وأخرج الدانيُّ بسند حسن عن ابن عباس عن أبيّ بن كعب أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا قرأ: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ﴾ افتتح من الحمد، ثم قرأ من البقرة إلى: ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾، ثم دعا بدعاء الختمة، ثم قام] اهـ.
وقد جرى على ذلك عمل الناس، وصح ذلك من قراءة ابن كثير رحمه الله تعالى:
قال الإمام القرطبي في تفسيره "الجامع لأحكام القرآن" (1/ 30، ط. دار عالم الكتب): [ومن حرمته: أن يفتتحه كلما ختمه؛ حتى لا يكون كهيئة المهجور، ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا ختم يقرأ من أول القرآن قدر خمس آيات؛ لئلا يكون في هيئة المهجور، وروى ابن عباس رضي الله عنهما قال: «جَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: عَلَيْكَ بِالْحَالِّ الْمُرْتَحِلِ، قَالَ: وَمَا الْحَالُّ الْمُرْتَحِلُ؟ قَالَ: صَاحِبُ الْقُرْآنِ؛ يَضْرِبُ مِنْ أَوَّلِهِ حَتَّى يَبْلُغَ آخِرَهُ، ثُمَّ يَضْرِبُ فِي أَوَّلِهِ؛ كُلَّمَا حَلَّ ارْتَحَلَ»] اهـ.
وقال الإمام ابن الجزري في "النشر" (2/ 411): [قال الحافظ أبو عمرو الداني في كتابه "جامع البيان": كان ابن كثير من طريق القواس والبزي وغيرهما يكبر في الصلاة والعرض من آخر سورة ﴿وَالضُّحَى﴾ مع فراغه من كل سورة إلى آخر ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ﴾، فإذا كبر في (الناس) قرأ فاتحة الكتاب وخمس آيات من أول سورة البقرة على عدد الكوفيين إلى قوله: ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾، ثم دعا بدعاء الختمة، قال: وهذا يُسَمَّى (الحال المرتحل)، وله في فعله هذا دلائل مستفيضة؛ جاءت من آثار مروية ورد التوقيف بها عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأخبار مشهورة مستفيضة جاءت عن الصحابة والتابعين والخالفين] اهـ.
ثم قال ابن الجزري (2/ 444): [وصار العمل على هذا في أمصار المسلمين؛ في قراءة ابن كثير وغيرها، وقراءة العرض وغيرها، حتى لا يكاد أحد يختم إلا ويشرع في الأخرى؛ سواء ختم ما شرع فيه أو لم يختمه، نوى ختمها أو لم ينوه، بل جعل ذلك عندهم من سنة الختم، ويسمون من يفعل هذا (الحال المرتحل)؛ أي الذي حل في قراءته آخر الختمة وارتحل إلى ختمة أخرى] اهـ.
وعند الحنابلة: يستحب للقارئ إذا فرغ من الختمة أن يشرع في أخرى، لكنهم نقلوا عن الإمام أحمد المنع من قراءة الفاتحة وأول البقرة، مع نصهم على أن القارئ إن فعل ذلك فلا بأس:
قال الشيخ الرحيباني الحنبلي في "مطالب أولي النهى" (1/ 605): [ويستحب إذا فرغ من الختمة أن يشرع في أخرى؛ لحديث أنس رضي الله عنه: «خَيْرُ الْأَعْمَالِ: الْحِلُّ وَالرِّحْلَةُ»، قيل وما هما؟ قال: «افْتِتَاحُ الْقُرْآنِ وَخَتْمُهُ».. (ولا يقرأ الفاتحة وخمسا) أي: خمس آيات (من) أول (البقرة عقب الختم نصًّا)؛ لأنه لم يبلغه فيه أثر صحيح، (فإن فعل) ذلك (فلا بأس)، لكن تركه أولى] اهـ.
وقال الإمام ابن الجزري في "النشر" (2/ 449-450): [لا نقول إن ذلك لازم لكل قارئ، بل نقول كما قال أئمتنا فارس بن أحمد وغيره: من فعله فحسن، ومن لم يفعله فلا حرج عليه] اهـ.
وقد ذكر الإمام موفق الدين أبو محمد عبد الله بن قدامة المقدسي الحنبلي رحمه الله في كتابه "المغني" (2/ 126) أن أبا طالب صاحب الإمام أحمد قال: [سألت أحمد: إذا قرأ ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ﴾ يقرأ من البقرة شيئًا؟ قال: لا. فلم يستحب أن يصل ختمة بقراءة شيء. انتهى. فحمله الشيخ موفق الدين على عدم الاستحباب وقال: لعله لم يثبت عنده فيه أثر صحيح يصير إليه. انتهى.
وفيه نظر؛ إذ يحتمل أن يكون فهم من السائل أن ذلك لازم، فقال: لا، ويحتمل أنه أراد قبل أن يدعو؛ ففي كتاب "الفروع" للإمام الفقيه شمس الدين محمد بن مفلح الحنبلي: ولا يقرأ الفاتحة وخمسًا من البقرة، نص عليه، قال الآمدي: يعني قبل الدعاء، وقيل: يُستَحَبُّ. فحمل نص أحمد بقوله (لا) على أن يكون قبل الدعاء، بل ينبغي أن يكون دعاؤه عقيب قراءة سورة الناس كما سيأتي نص أحمد رحمه الله، وذكر قولًا آخر له بالاستحباب. والله أعلم] اهـ.
وقال العلّامة إسماعيل حقي البروسوي في "روح البيان" (10/ 425، ط. دار إحياء التراث العربي): [رُويَ عن ابن كثير رحمه الله أنه كان إذا انتهى في آخر الختمة إلى ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ﴾ قرأ سورة ﴿الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ وخمس آيات من أول سورة البقرة على عدد الكوفي، وهو إلى: ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾؛ لأن هذا يُسَمَّى (الحالَّ المُرْتَحِلَ)، ومعناه: أنه حل في قراءته آخر الختمة وارتحل إلى ختمة أخرى؛ إرغامًا للشيطان، وصار العمل على هذا في أمصار المسلمين، في قراءة ابن كثير وغيرها، وورد النص عن الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله أن من قرأ سورة الناس يدعو عقب ذلك؛ فلم يَسْتَحِبَّ أن يصل ختمه بقراءة شيء، ورُوِيَ عنه قولٌ آخرُ بالاستحباب] اهـ.
وعليه: فقراءة الفاتحة وأول البقرة في آخر الختمة من الأمور المستحبة شرعًا، ولا مانع من قراءة آية الكرسي وخواتيم البقرة بعد ذلك؛ فإن آية الكرسي هي أعظم آية في القرآن، وخواتيم البقرة فيها الثناء على النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين بكمال الإيمان، وانقياد المؤمنين وطاعتهم لربهم ودعاؤهم بالتخفيف ورفع الحرج وعدم المؤاخذة وطلب العفو والمغفرة والرحمة والنصر، وفي ذلك تيمن بالقبول واستجابة الدعاء بعد القراءة؛ حيث قال الله تعالى: قد فعلتُ.
وأما الذكر بأسماء الله الحسنى ثم الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم الدعاء: فكل ذلك داخل في مشروعية الدعاء عند ختم القرآن الكريم، وهو سُنّة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقد فعلها الصحابة والتابعون، ونص الفقهاء على مشروعيتها؛ جاء في "الفتاوى الهندية" (5/ 317، ط. دار الفكر): [ويستحب له أن يجمع أهله وولده عند الختم ويدعو لهم, كذا في "الينابيع"] اهـ.
قال الإمام النووي الشافعي في "الأذكار" (ص: 104-105، ط. دار الفكر): [روى ابن أبي داود بإسنادين صحيحين عن قتادة التابعي الجليل الإمام صاحب أنس رضي الله عنه قال: "كان أنس بن مالك رضي الله عنه إذا ختم القرآن جمع أهله ودعا".
وروى بأسانيد صحيحة عن الحكم بن عُتَيْبَة قال: أرسل إليّ مجاهد وعبدة بن أبي لبابة فقالا: "إنا أرسلنا إليك لأنا أردنا أن نختم القرآن، والدعاء مستجاب عند ختم القرآن"، وفي بعض رواياته الصحيحة: أنه كان يقال: إن الرحمة تنزل عند خاتمة القرآن.
وروى بإسناده الصحيح عن مجاهد قال: كانوا يجتمعون عند ختم القرآن يقولون: إن الرحمة تنزل عند ختم القرآن.
ويستحب الدعاء عقب الختمة استحبابًا متأكدًا شديدًا؛ لما قدمناه... وينبغي أن يُلِحَّ في الدعاء، وأن يدعو بالأمور المهمة والكلمات الجامعة، وأن يكون معظم ذلك أو كله في أمور الآخرة وأمور المسلمين وصلاح سلطانهم وسائر ولاة أمورهم، وفي توفيقهم للطاعات، وعصمتهم من المخالفات، وتعاونهم على البر والتقوى، وقيامهم بالحق واجتماعهم عليه، وظهورهم على أعداء الدين وسائر المخالفين... وإذا فرغ من الختمة فالمستحب أن يشرع في أخرى متصلًا بالختم؛ فقد استحبه السلف] اهـ.
وقال الإمام الحافظ جلال الدين السيوطي الشافعي في "الإتقان" (2/ 713-714): [يُسَنُّ الدعاءُ عقب الختم؛ لحديث الطبراني وغيره عن العرباض بن سارية مرفوعًا: «مَنْ خَتَمَ الْقُرْآنَ فَلَهُ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ»، وفي "الشعب" من حديث أنس مرفوعًا: «مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ وَحَمِدَ الرَّبَّ وَصَلَّى عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ وَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ: فَقَدْ طَلَبَ الْخَيْرَ مَكَانَهُ»] اهـ.
وعند الحنابلة: أن الدعاء بعد الختم مستحب، بل نص الإمام أحمد على استحبابه في الصلاة:
وعقد العلّامة ابن القيِّم الحنبلي فصلًا ماتعًا في كتابه "جلاء الأفهام في فضل الصلاة والسلام على محمد خير الأنام" لبيان أن ختم القرآن من مواطن الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما أنه من مواطن الدعاء؛ فقال (ص: 402-403، ط. دار العروبة): [الموطن السابع عشر من مواطن الصلاة عليه: عقب ختم القرآن؛ وهذا لأن المحل محل دعاء، وقد نص الإمام أحمد رحمه الله تعالى على الدعاء عَقِيبَ الختمة؛ فقال في رواية أبي الحارث: كان أنس إذا ختم القرآن جمع أهله ولده، وقال في رواية يوسف بن موسى وقد سُئِلَ عن الرجل يختم القرآن فيجتمع إليه قوم فيدعون، قال: نعم؛ رأيتُ معمرًا يفعله إذا ختم، وقال في رواية حرب: أَسْتَحِبُّ إذا ختم الرجلُ القرآنَ أن يجمع أهله ويدعو... ونص أحمد رحمه الله تعالى على استحباب ذلك في صلاة التراويح؛ قال حنبل: سمعت أحمد يقول في ختم القرآن: إذا فرغتَ من قراءتك ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ﴾ فارفع يديك في الدعاء قبل الركوع، قلت: إلى أي شيء تذهب في هذا؟ قال: رأيتُ أهلَ مكة يفعلونه، وكان سفيان بن عيينة يفعله معهم بمكة. قال عباس بن عبد العظيم: وكذلك أدركتُ الناس بالبصرة وبمكة، ويَروِي أهلُ المدينة في هذا أشياء، وذُكِرَ عن عثمان بن عفان رضي الله عنه، وقال الفضل بن زياد: سألت أبا عبد الله: أختم القرآن: أجعله في التراويح أو في الوتر؟ قال: اجعله في التراويح؛ حتى يكون لنا دعاء بين اثنين، قلت: كيف أصنع؟ قال: إذا فرغت من آخر القرآن فارفع يديك قبل أن تركع، وادع بنا ونحن في الصلاة، وأَطِلِ القيام، قلت: بِمَ أدعو؟ قال: بما شئتَ، قال: ففعلتُ كما أَمرَني وهو خلفي يدعو قائمًا ويرفع يديه. وإذا كان هذا من آكد مواطن الدعاء وأَحَقِّها بالإجابة فهو مِن آكد مواطن الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم] اهـ.
وأما الدعاء بأسماء الله الحسنى فهو مشروع بنص قوله تعالى: ﴿وَللهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا﴾ [الأعراف: 180]، وقوله سبحانه: ﴿قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى﴾ [الإسراء: 110]، والأمر المطلق بالدعاء يقتضي عموم الأزمنة والأمكنة والأشخاص والأحوال، فلا يجوز تخصيصه أو تقييده بحال دون حال إلا بدليل، وإلا كان ابتداعًا بتضييق ما وسعه الله سبحانه وتعالى.
وعليه: فالدعاء بالأسماء الحسنى والصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع الدعاء بما تيسر هو من الأمور المستحبة المشروعة التي عليها عمل المسلمين، والطعن على ذلك بالبدعة طعن على علماء الأمة بالجهل والضلالة، فعلى المسلم أن يتقي الله تعالى فيما يقول، وأن يحذر من القول على الله تعالى بغير علم، وأن يكون عالمًا بما يأمر به وينهى عنه، وأن يكون مدركًا لمآلات الأحكام قبل أن يفتي.
والله سبحانه وتعالى أعلم.
هذا الذي عليه عمل الناس في هيئة ختم القرآن الكريم جائزٌ شرعًا؛ لأن منه ما هو مشروع بخصوصه، ومنه ما هو داخل في عمومات الأدلة من الكتاب أو السنة وجرى عليه عمل السلف من غير نكير، وإنما القراءة سُنّةٌ مُتَّبَعَةٌ يأخذها الخلف عن السلف، ولا يجوز رميُ المسلمين ببدعة الضلالة في شيء من ذلك، وتفصيل ذلك على النحو الآتي:
أما التكبير من سورة الضحى: فهو سنة متبعةٌ ثابتةٌ عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والصحابة والتابعين فمن بعدهم، وهي قراءة أهل مكة التي اشتهر بها ابن كثير رحمه الله تعالى، وذلك عند ختم القرآن الكريم؛ في الصلاة وخارجها، ووردت أيضًا عن بقية القُرّاء، مع إجماعهم على أن هذا التكبير ليس قرآنًا، وإنما هو ذكر مشروع بين سُوَرِ الختم لتعظيم الله تعالى.
قال شيخ القُرّاء في زمنه الإمام شمس الدين محمد بن محمد بن محمد بن الجزري في كتاب "النشر في القراءات العشر" (2/ 410-411، ط. المطبعة التجارية الكبرى): [اعلم أن التكبير صح عند أهل مكة: قُرّائهم، وعلمائهم، وأئمتهم، ومن روى عنهم- صِحّةً استفاضت واشتهرت وذاعت وانتشرت، حتى بلغت حد التواتر، وصحت أيضًا عن أبي عمرو من رواية السوسي، وعن أبي جعفر من رواية العمري، ووردت أيضًا عن سائر القُرّاء، وبه كان يأخذ ابن حبش وأبو الحسين الخبازي عن الجميع، وحكى ذلك الإمام أبو الفضل الرازي وأبو القاسم الهذلي والحافظ أبو العلاء.
وقد صار على هذا العمل عند أهل الأمصار في سائر الأقطار عند ختمهم في المحافل واجتماعهم في المجالس لدى الأماثل، وكثير منهم يقوم به في صلاة رمضان ولا يتركه عند الختم على أي حال كان اهـ. وقال مَكِّيٌّ بن أبي طالب: وروي أن أهل مكة كانوا يكبرون في آخر كل ختمة من خاتمة وَالضُّحى لكل القُرّاء؛ لابن كثير وغيره، سنةً نقلوها عن شيوخهم. اهـ. وقال الأهوازي: والتكبير عند أهل مكة في آخر القرآن سنة مأثورة يستعملونه في قراءتهم في الدروس والصلاة. انتهى. وكان بعضهم يأخذ به في جميع سور القرآن اهـ.
قال الحافظ أبو عمرو الداني في كتابه "جامع البيان": كان ابن كثير من طريق القواس والبزي وغيرهما يكبر في الصلاة والعرض من آخر سورة (والضحى) مع فراغه من كل سورة إلى آخر: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ﴾، فإذا كبر في (الناس) قرأ فاتحة الكتاب وخمس آيات من أول سورة البقرة على عدد الكوفيين إلى قوله: ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾، ثم دعا بدعاء الختمة، قال: وهذا يُسَمَّى الحَالَّ المُرْتَحِل، وله في فعله هذا دلائل مستفيضة جاءت من آثار مَرْوِيَّةٍ ورد التوقيفُ بها عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأخبار مشهورة مستفيضة جاءت عن الصحابة والتابعين والخالفين.
وقال أبو الطيب عبد المنعم بن غلبون: وهذه سنة مأثورة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وعن الصحابة والتابعين، وهي سنة بمكة لا يتركونها البتة، ولا يعتبرون رواية البزي وغيره.
وقال أبو الفتح فارس بن أحمد: لا نقول إنه لا بد لمن ختم أن يفعله، لكن من فعله فحسن، ومن لم يفعله فلا حرج عليه، وهو سنة مأثورة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وعن الصحابة والتابعين] اهـ.
وقال في أرجوزته الشهيرة "طَيِّبَةِ النَّشْر":
وسُـــــــنّةُ التكبير عند الختْـــــــــمِ صحَّتْ عن المَكِّينَ أهلِ العلم
في كل حــــالٍ ولدى الصـــــلاةِ سُلْسِــــــــــلَ عن أئمـــــةٍ ثِقَـــــــــــــــاتِ
من أول انشراحٍ أَوْ من الضحى مِن آخرٍ أو أولٍ قد صُحِّحــــا
للناس هكــــذا وقبـــلُ إن تُـــــــــرِدْ هَلِّلْ، وبعضٌ بعــــــــدَ لله حَمِــــــــدْ
ثم اقرأ الحمــــدَ وخمسَ البقره إن شئت حِــلًّا وارتحـــالًا ذَكَره
وقال الحافظ جلال الدين السيوطي في "الإتقان في علوم القرآن" (2/ 708-711، ط. مجمع الملك فهد): [يُستَحَبُّ التكبير من الضحى إلى آخر القرآن، وهي قراءة المكيين. أخرج البيهقي في "الشعب" وابن خزيمة من طريق ابن أبي بزة: سمعت عكرمة بن سليمان قال: قرأت على إسماعيل بن عبد الله المكي، فلما بلغت الضحى قال: كبر حتى تختم، فإني قرأت على عبد الله بن كثير فأمرني بذلك، وقال: قرأت على محمد فأمرني بذلك. وأخبر مجاهد أنه قرأ على ابن عباس رضي الله عنهما فأمره بذلك. وأخبر ابن عباس أنه قرأ على أبيّ بن كعب رضي الله عنه فأمره بذلك، كذا أخرجناه موقوفًا. ثم أخرجه البيهقي من وجه آخر عن ابن أبي بزة مرفوعًا. وأخرجه من هذا الوجه -أعني المرفوع- الحاكمُ في "مستدركه" وصححه، وله طرق كثيرة عن البزي.
وعن موسى بن هارون قال: قال لي البزي: قال لي محمد بن إدريس الشافعي: إن تركت التكبير فقدت سنة من سنن نبيك. قال الحافظ عماد الدين بن كثير: وهذا يقتضي تصحيحه للحديث.
وروى أبو العلاء الهمذاني عن البزي أن الأصل في ذلك أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم انقطع عنه الوحي فقال المشركون: قلا محمدًا ربُّه، فنزلت سورة الضحى، فكبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم. قال ابن كثير: ولم يرد ذلك بإسناد يحكم عليه بصحة ولا ضعف. وقال الحليمي: نكتة التكبير التشبيه للقراءة بصوم رمضان إذا أكمل عدته يكبر، فكذا هنا يكبر إذا أكمل عدة السورة] اهـ.
وهذا هو المعتمد عند الشافعية والحنابلة وغيرهم من الفقهاء:
ففي "الفتاوى الحديثية الكبرى" للعلّامة ابن حجر الهيتمي شيخ الشافعية في زمنه (ص: 224-225، ط. مصطفى الحلبي): [وسئل -نفع الله بعلومه وأمدنا بمدده-: هل ورد حديث صحيح في مشروعية التكبير في أواخر قصار المفصل؟ فإن قلتم: نعم فهل هو خاص في حق غير المصلي؟ فإن قلتم: نعم فهل نقل ندبه في حق المصلي عن أحد من الأئمة؟ فإن قلتم بسنيته فما ابتداؤه وانتهاؤه، وهل يندب معه زيادة (لا إله إلا الله) كما هو المعمول؟
فأجاب -نفع الله به وأعاد علينا وعلى المسلمين من بركاته- بقوله:
حديث التكبير ورد من طرق كثيرة عن أحمد بن محمد بن أبي بزة البزي قال: سمعت عكرمة بن سليمان يقول: قرأت على إسماعيل بن عبد الله بن قسطنطين فلما بلغت: ﴿وَالضُّحَى﴾ قال لي: كبر عند خاتمة كل سورة حتى تختم، وأخبره أنه قرأ على مجاهد فأمره بذلك، وأخبره مجاهد أن ابن عباس رضي الله عنهما أمره بذلك، وأخبره ابن عباس بأن أبي بن كعب رضي الله عنه أمره بذلك، وأخبر أبي بن كعب بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمره بذلك، وقد أخرجه الحاكم أبو عبد الله في "صحيحه المستدرك" عن البزي، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجه البخاري ولا مسلم، انتهي.
وقد يعارضه تضعيف أبي حاتم والعقيلي للبزي. ويجاب بأن هذا التضعيف غير مقبول، فقد رواه عن البزي الأئمة الثقات، وكفاه فخرًا وتوثيقًا قول إمامنا الشافعي رضي الله عنه: إن تركت التكبير تركت سنة، وفي رواية: يا أبا الحسن والله لئن تركت التكبير فقد تركت سنة من سنن نبيك، وقال الحافظ العماد ابن كثير: وهذا من الشافعي يقتضي تصحيحه لهذا الحديث. ومما يقتضي صحته أيضًا أن أحمد بن حنبل رواه عن أبي بكر الأعين عن البزي. وكان أحمد يجتنب المنكرات فلو كان منكرًا ما رواه.
وقد صح عند أهل مكة فقهائهم وعلمائهم ومن روى عنهم، وصحته استفاضت وانتشرت حتى بلغت حد التواتر، وصحت أيضًا عن أبي عمرو من رواية السوسي، ووردت أيضًا عن سائر القراء، وصار عليه العمل عند أهل الأمصار في سائر الأعصار.
واختلفوا في ابتدائه؛ فقيل: من أول سورة الضحى، والجمهور على أنه من أول سورة ألم نشرح، وفي انتهائه؛ فجمهور المغاربة والمشارقة وغيرهم على أنه إلى آخر الناس، وجمهور المشارقة على أنه أولها ولا يكبر آخرها، والوجهان مبنيان على أنه هل هو لأول السورة أو لآخرها؟ وفي ذلك خلاف طويل بين القراء، والراجح منه الظاهر من النصوص أنه من آخر الضحى إلى آخر الناس.
ولا فرق في ندب التكبير بين المصلي وغيره، فقد نقل أبو الحسن السخاوي بسنده عن أبي يزيد القشري قال: صلَّيت بالناس خلف المقام بالمسجد الحرام في التراويح في شهر رمضان، فلما كانت ليلة الجمعة كبرت من خاتمة الضحى إلى آخر القرآن في الصلاة، فلما سلمت التفت فإذا بأبي عبد الله محمد بن إدريس الشافعي رضي الله عنه فقال: أحسنت أصبت السنة.
ورواه الحافظ أبو عمرو الداني عن ابن جريج عن مجاهد رضي الله عنه. قال ابن جريج: فأولى أن يفعله الرجل إمامًا كان أو غير إمام، وأمر ابن جريج غير واحد من الأئمة بفعله.
ونقل سفيان بن عيينة، عن صدقة بن عبد الله بن كثير أنه كان يؤم الناس من أكثر من سبعين سنة، وكان إذا ختم القرآن كبر.
فثبت بما ذكرناه عن الشافعي رضي الله عنه وبعض مشايخه وغيرهم أنه سنة في الصلاة.
ومن ثم جرى عليه من أئمتنا المتأخرين الإمام المجتهد أبو شامة رحمه الله، ولقد بالغ التاج الفزاري في الثناء عليه حتى قال: عجبت له كيف قلد الشافعي رحمه الله، والإمامان أبو الحسن السخاوي، وأبو إسحاق الجعبري.
وممن أفتى به وعمل في التراويح شيخ الشافعية في عصره أبو الثناء محمود بن محمد بن جملة الإمام والخطيب بالجامع الأموي بدمشق.
قال الإمام الحافظ المتقن شيخ القراء في عصره أبو الخير محمد بن محمد الجزري الشافعي: ورأيت أن غير واحد من شيوخنا يعمل به ويأمر من يعمل به في صلاة التراويح وفي الإحياء في ليالي رمضان، حتى كان بعضهم إذا وصل في الإحياء إلى الضحى قام بما بقي من القرآن في ركعة واحدة يكبر في كل سورة، فإذا انتهى إلى: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ﴾ [الناس: 1] كبر في آخرها، ثم يكبر للركوع، وإذا قام في الركعة الثانية قرأ الفاتحة وما تيسر من سورة البقرة، وفعلت أنا كذلك مرات لما كنت أقوم بالإحياء إمامًا بدمشق ومصر.انتهى.
ثم إن قلنا: التكبير لآخر السورة كان بين آخرها وبين الركوع، وإن قلنا لأولها كان بين تكبير القيام والبسملة أول السورة، ووقع لبعض الشافعية من المتأخرين الإنكار على من كبر في الصلاة فرد ذلك عليه غير واحد، وشنعوا عليه في هذا الإنكار.
قال ابن الجوزي: ولم أر للحنفية ولا للمالكية نقلًا بعد التتبع، وأما الحنابلة ففي فروعهم لابن مفلح: وهل يكبر لختمه من الضحى أو ألم نشرح آخر كل سورة فيه روايتان، ولم يستحبه الحنابلة القراء غير ابن كثير، وقيل: ويهلل، انتهى.
وأما صيغته فلم يختلف مثبتوه أنها: الله أكبر، وهي التي رواها الجمهور عن البزي، وروى عنه آخرون التهليل قبلها، فتصير: لا إله إلا الله، والله أكبر، وهي ثابتة عند البزي فلتعمل، ومن ثم قال شيخ الإسلام عبد الرحمن الرازي الشافعي رحمه الله في وسطه في العشر: وقد رأيت المشايخ يؤثرون ذلك في الصلاة فرقا بينها وبين تكبير الركوع، ونقل عن البزي أيضًا زيادة: ولله الحمد بعد أكبر، وروى جمع عن قنبل، وروى عنه آخرون التهليل أيضًا وقطع به غير واحد. قال الداني: الوجهان -يعني: التهليل مع التكبير، والتكبير وحده- عن البزي وقنبل صحيحان مشهوران مستعملان جيدان. والله سبحانه وتعالى أعلم] اهـ.
وعند الحنابلة يستحب أصل التكبير في الختم، ومنهم من استحب معه التهليل أيضًا:
قال العلّامة ابن مفلح في "الآداب الشرعية" (2/ 295-296، ط. مؤسسة الرسالة): [واستحب أحمد التكبير من أول سورة الضحى إلى أن يختم. ذكره ابن تميم وغيره، وهو قراءة أهل مكة أخذها البزي عن ابن كثير وأخذها ابن كثير عن مجاهد وأخذها مجاهد عن ابن عباس وأخذها ابن عباس عن أبي بن كعب وأخذها أبي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. روى ذلك جماعة منهم: البغوي في "تفسيره"، والسبب في ذلك انقطاع الوحي، وهذا حديث غريب؛ رواية أحمد بن محمد بن عبد الله البزي، وهو ثبت في القراءة ضعيف في الحديث، وقال أبو حاتم الرازي: هذا حديث منكر.
وقال أبو البركات: يستحب ذلك من سورة: ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ﴾ وقال في الشرح: استحسن أبو عبد الله التكبير عند آخر كل سورة ومن الضحى إلى أن يختم؛ لأنه روي عن أبي بن كعب أنه قرأ على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأمره بذلك رواه القاضي. وعن البزي أيضًا مثل هذا، وعن قنبل هكذا والذي قبله، وعنه أيضًا: لا تكبير كما هو قول سائر القراء. وقال الماوردي: كان ابن عباس يفصل بين كل سورتين بالتكبير ومن الضحى وهو راوي قراء مكة. وقال الآمدي: يهلل ويكبر وهو قول عن البزي، وسائر القراء على خلافه] اهـ.
وقد نص أهل الأداء على أنه يجوز لمن يقرأ بقراءة حفص أن يَسبِقَ التكبيرَ بالتهليل ويُتْبِعَه بالتحميد، وشنعوا على من أنكر ذلك، ولا شك أن قولهم في ذلك هو المقدم على قول غيرهم:
قال الشيخ عبد الفتاح السيد عجمي المرصفي في كتابه "هداية القاري إلى تجويد كلام الباري" (2/ 586-587، ط. مكتبة طيبة): [ولا التفات إلى من أنكر التهليل والتحميد مع التكبير عند سُوَر الختم في رواية حفص؛ فقد أجازه له غير واحد من الثقات، بل أجازه لكل القُرّاء العشرة في هذا المكان؛ لأنه محلّ إطناب وتلذذ بذكر الله تعالى، وقد شنّع صاحب "عمدة الخلان شرح زبدة العرفان" على من أنكر ذلك، وعبارته: "وكذا لا يُمنَع القارئُ من التهليل والتحميد من آخر الضحى إلى آخر الناس في قراءة أحد من الأئمة إذا كان بنية التشكر والتعظيم والتبرك، فلا عبرة برأي بعض المتعصبين من حيث يُجَوِّزُون التكبير فقط لحفص عند الختم بين كل سورتين وأواخرها من لدن سورة الضحى إلى سورة الناس، وينكر أخذ التهليل والتحميد فيها، ويزعمون أن أخذ التهليل والتحميد لحفص ولغيره سوى البزي من أشراط الساعة، وإلى الله المشتكى من هذه الخصلة ذات الشناعة" اهـ منه بلفظه] اهـ.
وعلى ذلك: فالتكبير عند الختم سنة متبعة صحيحة نص عليها أهل القراءة المعتبرون فيها، والقراءة سُنّةٌ مُتَّبَعَةٌ يتلقاها الخلف عن السلف، ولا عبرة بقولِ مَن أنكرها؛ فإنما يُؤخَذُ كلُّ فنٍّ وعلمٍ من أهله المشتغلين به لا من غيرهم.
وأما قراءة سورة الإخلاص ثلاث مرات: فالعلماء متفقون على أن فعل ذلك جائز في أصله؛ عملًا بالخبر الصحيح الوارد في كونها تعدل ثُلُثَ القرآن، ولكنهم اختلفوا في استحباب تكرارها ثلاثًا عند الختم، مع نصهم على أن تكرارها هو الذي جرت عليه عادة الناس ومضى عليه عملهم، واختلفوا أيضًا هل تكرر إذا كان الختم في الصلاة:
فعند الحنفية في استحسان تكرارها ثلاثًا عند الختم خارج الصلاة قولان، والاستحسان هو قول الأكثر، غير أنهم لم يستحسنوا تكرارها إذا كان الختم في الصلاة المكتوبة:
جاء في "الفتاوى الهندية" (5/ 317، ط. دار الفكر): [قراءة ﴿قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ﴾ ثلاث مرات عَقِيبَ الختم لم يستحسنها بعض المشايخ، واستحسنها أكثر المشايخ لجبر نقصان دخل في قراءة البعض، إلّا أن يكون ختم القرآن في الصلاة المكتوبة فلا يزيد على مرة واحدة؛ كذا في "الغرائب"، ولا بأس باجتماعهم على قراءة الإخلاص جهرًا عند ختم القرآن، ولو قرأ واحد واستمع الباقون فهو أولى؛ كذا في "القنية"] اهـ.
وفي "فتاوى قاضي خان" (1/ 164، ط. المطبعة الأميرية ببولاق، بهامش الفتاوى الهندية): [وقراءة سورة الإخلاص ثلاث مرات عند ختم القرآن يستحسنه مشايخ العراق رحمهم الله تعالى، إلا أن يكون الختم في المكتوبة فلا يكرر سورة الإخلاص] اهـ.
وقال العلّامة الكمال بن الهمام في "شرح فتح القدير" (1/ 343، ط. دار الفكر): [وقراءتها ثلاثا عند الختم خارج الصلاة اختلف المشايخ في استحبابه، واستحسنه مشايخ العراق، وفي المكتوبة لا يزيد على مرة] اهـ.
والشافعية يستحسنون تكرارها عند الختم:
قال الإمام التاج السبكي في "طبقات الشافعية الكبرى" (10/ 285-286، ط. هجر): [حضرت الوالد رحمه الله -يعني الإمام تقي الدين السبكي شيخ الشافعية في زمنه- مرة في ختمة وقد وصل القُرّاء إلى سورة الإخلاص؛ فقرؤوها ثلاث مرات على العادة، وكان على يمينه قاضي القضاة عماد الدين علي بن أحمد الطرسوسي الحنفي، فالتفت إلى الشيخ الإمام وقال: في خاطري دائما أن أسأل عن الحكمة في إطباق الناس على تكريرها ثلاثًا.
فقال له الشيخ الإمام: لأنه قد ورد أنها تعدل ثلث القرآن فتحصل بذلك ختمة.
فقال القاضي عماد الدين: فلم لا يقرؤونها ثلاثًا بعد الواحدة التي تضمنتها الختمة ليحصل ختمتان؟
فقال الشيخ الإمام: مقصود الناس تحقيق ختمة واحدة؛ فإن القارئ إذا وصل إليها فقرأها ثم أعادها مرتين كان على يقين من حصول ختمة: إما التي قرأها من الفاتحة إلى آخر القرآن، وإمّا ثوابها بقراءة الإخلاص ثلاثًا. وليس المقصود ختمة أخرى. وهذا معنى مليح] اهـ.
وقال الإمام الزركشي في "البرهان في علوم القرآن" (1/ 473-474، ط. دار إحياء الكتب العربية): [مما جرت به العادة من تكرير سورة الإخلاص عند الختم نص الإمام أحمد على المنع، ولكن عمل الناس على خلافه] اهـ.
ونحوه للعلامة ابن حجر الهيتمي في "الفتاوى الحديثية" (ص: 233، ط. مصطفى الحلبي).
والمعتمد عند الشافعية أن تكرار سورة الإخلاص عند الختم في الصلاة خلافُ الأَوْلى فقط، وليس سُنّةً ولا مكروهًا؛ لأنه لم يَرِدْ فيه نهي مخصوص:
جاء في "الفتاوى الفقهية الكبرى" للعلامة ابن حجر الهيتمي (1/ 184، ط. دار الفكر): [وسئل نفع الله تعالى به عن تكرير سورة الإخلاص في التراويح: هل يُسَنُّ؟ وإذا قلتم "لا" فهل يُكْرَه أم لا؟ وقد رأيت في "المعلمات" لابن شهبة: أن تكرير سورة الإخلاص في التراويح ثلاثًا كرهها بعض السلف، قال: لمخالفتها المعهود عمن تقدم؛ ولأنها في المصحف مرة فلتكن في التلاوة مرة اهـ فهل كلامه مقرَّرٌ معتمد أم لا؟ بينوا ذلك وأوضحوه لا عدمكم المسلمون.
فأجاب فسح الله في مدته بقوله: تكرير قراءة سورة الإخلاص أو غيرها في ركعة أو كل ركعة من التراويح ليس بسنة ولا يقال مكروه على قواعدنا لأنه لم يرد فيه نهي مخصوص] اهـ.
قال العلامة أبو بكر شطا الدمياطي في "حاشية إعانة الطالبين" (1/ 307، ط. دار الفكر) تعقيبًا على فتوى العلامة ابن حجر: [الذي فيها أن قراءة القرآن في جميع الشهر أولى وأفضل، وأن تكرير سورة الإخلاص أو غيرها في ركعةٍ ما خلافُ الأَوْلى فقط، وليس بسنة ولا بمكروه] اهـ.
وعند الحنابلة رأيان:
فنقلوا عن الإمام أحمد المنع من ذلك، ولكن المذكور في كتبهم أنه إن فُعِل فلا بأس به؛ حملًا للمنع على عدم الاستحباب، أو على أن المقصود به تكرارها داخل الصلاة:
قال العلّامة ابن مفلح في "الآداب الشرعية" (2/ 296): [وإذا قرأ سورة الإخلاص مع غيرها قرأها مرة واحدة ولا يكرر ثلاثًا؛ نص عليه، وقال ابن تميم: منع أحمد القارئ من تكرار سورة الإخلاص ثلاثًا إذا وصل إليها] اهـ.
وقال الشيخ الرحيباني الحنبلي في "مطالب أولي النهى في شرح المنتهى" (1/ 605، ط. المكتب الإسلامي): [(ولا يكرر سورة الصمد..)؛ لأنه لم يبلغه فيه أثر صحيح، (فإن فعل) ذلك (فلا بأس)، لكن تركه أولى] اهـ.
غير أن مِن محققي الحنابلة مَن استحب تكرارها على كل حال؛ في الختم وغيره، وحكى الخلاف في تكرارها في الصلاة:
قال العلّامة نجم الدين الطوفي الحنبلي في رسالته "إيضاح البيان عن معنى أم القرآن" (مطبوعة بتحقيق: علي حسين البواب، ضمن "مجلة البحوث الإسلامية" الصادرة عن الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء بالسعودية، عدد: 36، ص: 356): [ينبَغي لِمَن تَلا هذه السُّوَر الثلاثَ (يعني: الزلزلة، والإخلاص، والكافرون) مُنفرِدَةً، أو في جُملةِ القُرآنِ، بادِئًا مِن أوَّلِه، أو مِن آخره، في غيرِ الصَّلاة: أنْ يُكَرّرَ سُورَةَ "الزلزلة" مَرّتين، وسُورَةَ "الإخلاصِ" ثلاثًا، وسُورَةَ "الكافرونَ" أربَعًا؛ لِيستَكمِل بِذلكَ ثَلاثَ خَتَماتٍ. أما في الصلاة ففي تكرار السورة خلاف مشهور، وتفصيل بين الفرض والنفل] اهـ.
والتحقيق أن النهي عن التكرار محمول على نفي كونه مِن سُنّة القراءة المُتَّبَعة التي تُؤخَذ بالتلقي عن السلف؛ وخشية أن يُظَنَّ أنها كذلك في المصحف؛ فهو من الفقه الذرائعي الذي يزول بزوال سببه ولا يُتَوَسَّع فيه، وقد بين أهل القراءة والأداء أن تكرار سورة الإخلاص ليس من سُنّة التلقي وعرض القراءة، وأنه شيء لم يُقرَأْ به في أسانيد الرواية في القراءة:
يقول الإمام ابن الجزري في "طيبة النشر في القراءات العشر" (2/ 451): [وأما ما يعتمده بعض القراء من تكرار قراءة: ﴿قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ﴾ عند الختم ثلاث مرات: فهو شيء لم نقرأ به، ولا أعلم أحدًا نص عليه من أصحابنا القراء، ولا الفقهاء سوى أبي الفخر حامد بن علي بن حسنويه القزويني في كتابه "حلية القراءة" فإنه قال فيه ما نصُّه: والقراء كلهم قرؤوا سورة الإخلاص مرة واحدة، غير الهرواني عن الأعشى؛ فإنه أخذ بإعادتها ثلاث دفعات، والمأثور دفعة واحدة. انتهى.
قلت: والهَرَواني هذا هو بفتح الهاء والراء، وهو القاضي أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن الحسين الجعفي الحنفي الكوفي، كان فقيهًا كبيرًا، قال الخطيب البغدادي: كان من عاصره بالكوفة يقول: لم يكن بالكوفة من زمن ابن مسعود إلى وقته أحد أفقه منه. انتهى. وقرأ برواية الأعشى على محمد بن الحسن بن يونس عن قراءته بها على أبي الحسن علي بن الحسن بن عبد الرحمن الكسائي الكوفي صاحب محمد بن غالب صاحب الأعشى، والظاهر أن ذلك كان اختيارًا من الهرواني؛ فإن هذا لم يُعْرَفْ في رواية الأعشى، ولا ذكره أحد من علمائنا عنه، بل الذين قرؤوا برواية الأعشى على الهرواني هذا -كأبي علي البغدادي صاحب "الروضة" وأبي علي غلام الهراس شيخ أبي العز وكالشرمقاني والعطار شيخي ابن سوار وكأبي الفضل الخزاعي- لم يذكر أحد منهم ذلك عن الهرواني، ولو ثبت عندهم روايةً لذكروه بلا شك؛ فلذلك قلنا: إنه يكون اختيارًا منه، والرجل كان فقيهًا عالمًا أهلًا للاختيار، فلعله رأى ذلك.
وصار العمل على هذا في أكثر البلاد عند الختم في غير الروايات. والصواب ما عليه السلف؛ لئلا يُعتَقَدَ أن ذلك سنة، ولهذا نص أئمةُ الحنابلة على أنه لا يكرر سورة الصمد، وقالوا: وعنه -يعنون عن أحمد- لا يجوز. والله الموفق] اهـ.
فالرواية المأخوذة عن أهل الأداء في تلقي القرآن هي عدم تكرار سورة الإخلاص، وإليهم المرجع في معرفة ذلك فلا يُقرَأُ بغيره في التلقي وعرض القراءة؛ لأن الرواية مبناها على التوقيف. وأما تكرارها في الختم فمسألة فقهية تتعلق بفهم الأدلة الشرعية واستنباط الأحكام منها، وبابُ الدراية أوسع من باب الرواية؛ فليس كل ما جاز درايةً صح روايةً.
فإذا قُرِئَ بالتكرار في الختم لا على جهة العرض وتلقي الرواية، وأُمِن مع ذلك مِن إيهام تكرارها في المصحف: فذلك جائز شرعًا ولا حرج فيه. وعليه العمل في أمصار الإسلام.
بل إن تكرار سورة الإخلاص عند الختم كان معروفًا عند السلف، حتى قبل الهرواني والأعشى؛ فقد روى الدينوري في "المجالسة وجواهر العلم" (3/ 374، ط. دار ابن حزم): [حدثنا عبيد بن إبراهيم الحربي؛ قال: سمعت سفيان يقول: صليت ببشر الحافي في شهر رمضان، فلما أردت أن أختم قرأت: ﴿قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ﴾ ثلاث مرات، فقال لي بشر: عمن أخذت هذا؟ قلت: عن شيوخنا بخراسان، قال: إنما هي في المصحف مرة واحدة، وأنزلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مرة واحدة] اهـ.
وسفيان بن عيينة ولد سنة سبع ومائة وتوفي سنة ثمان وتسعين ومائة، وقد نقل تكرار سورة الإخلاص في الختم عن شيوخه بخراسان، وقد قرأ القرآن وهو ابن أربع عشرة سنة -كما في (تاريخ ابن أبي خيثمة، 3/ 267، ط. دار الفاروق)-، وأخذ القراءة عن حميد بن قيس الأعرج المتوفى سنة ثلاثين ومائة، وهذا كله يشير إلى أن ذلك مما جرى عليه العمل قديمًا، وإنما عاب عليه بشر رحمه الله تكرارها في الصلاة؛ بناءً على أنها مفردة في المصحف، ولا يخفى أن نزولها مرة واحدة وعدم تكرارها في كتاب الله لا ينفي استحباب تكرارها في غير الختم، فكذلك عند الختم.
وأما قراءة سورة الفاتحة وأول البقرة بعد الختم: فهو أمر جاء الشرع باستحبابه، وأخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن ذلك أحب الأعمال إلى الله تعالى:
قال الحافظ جلال الدين السيوطي في "الإتقان" (2/ 714-715): [يُسَنُّ إذا فرغ من الختمة أن يشرع في أخرى عقب الختم؛ لحديث الترمذي وغيره: «أَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللهِ الْحَالُّ الْمُرْتَحِلُ؛ الَّذِي يَضْرِبُ مِنْ أَوَّلِ الْقُرْآنِ إِلَى آخِرِهِ كُلَّمَا حَلَّ ارْتَحَلَ»، وأخرج الدانيُّ بسند حسن عن ابن عباس عن أبيّ بن كعب أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا قرأ: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ﴾ افتتح من الحمد، ثم قرأ من البقرة إلى: ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾، ثم دعا بدعاء الختمة، ثم قام] اهـ.
وقد جرى على ذلك عمل الناس، وصح ذلك من قراءة ابن كثير رحمه الله تعالى:
قال الإمام القرطبي في تفسيره "الجامع لأحكام القرآن" (1/ 30، ط. دار عالم الكتب): [ومن حرمته: أن يفتتحه كلما ختمه؛ حتى لا يكون كهيئة المهجور، ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا ختم يقرأ من أول القرآن قدر خمس آيات؛ لئلا يكون في هيئة المهجور، وروى ابن عباس رضي الله عنهما قال: «جَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: عَلَيْكَ بِالْحَالِّ الْمُرْتَحِلِ، قَالَ: وَمَا الْحَالُّ الْمُرْتَحِلُ؟ قَالَ: صَاحِبُ الْقُرْآنِ؛ يَضْرِبُ مِنْ أَوَّلِهِ حَتَّى يَبْلُغَ آخِرَهُ، ثُمَّ يَضْرِبُ فِي أَوَّلِهِ؛ كُلَّمَا حَلَّ ارْتَحَلَ»] اهـ.
وقال الإمام ابن الجزري في "النشر" (2/ 411): [قال الحافظ أبو عمرو الداني في كتابه "جامع البيان": كان ابن كثير من طريق القواس والبزي وغيرهما يكبر في الصلاة والعرض من آخر سورة ﴿وَالضُّحَى﴾ مع فراغه من كل سورة إلى آخر ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ﴾، فإذا كبر في (الناس) قرأ فاتحة الكتاب وخمس آيات من أول سورة البقرة على عدد الكوفيين إلى قوله: ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾، ثم دعا بدعاء الختمة، قال: وهذا يُسَمَّى (الحال المرتحل)، وله في فعله هذا دلائل مستفيضة؛ جاءت من آثار مروية ورد التوقيف بها عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأخبار مشهورة مستفيضة جاءت عن الصحابة والتابعين والخالفين] اهـ.
ثم قال ابن الجزري (2/ 444): [وصار العمل على هذا في أمصار المسلمين؛ في قراءة ابن كثير وغيرها، وقراءة العرض وغيرها، حتى لا يكاد أحد يختم إلا ويشرع في الأخرى؛ سواء ختم ما شرع فيه أو لم يختمه، نوى ختمها أو لم ينوه، بل جعل ذلك عندهم من سنة الختم، ويسمون من يفعل هذا (الحال المرتحل)؛ أي الذي حل في قراءته آخر الختمة وارتحل إلى ختمة أخرى] اهـ.
وعند الحنابلة: يستحب للقارئ إذا فرغ من الختمة أن يشرع في أخرى، لكنهم نقلوا عن الإمام أحمد المنع من قراءة الفاتحة وأول البقرة، مع نصهم على أن القارئ إن فعل ذلك فلا بأس:
قال الشيخ الرحيباني الحنبلي في "مطالب أولي النهى" (1/ 605): [ويستحب إذا فرغ من الختمة أن يشرع في أخرى؛ لحديث أنس رضي الله عنه: «خَيْرُ الْأَعْمَالِ: الْحِلُّ وَالرِّحْلَةُ»، قيل وما هما؟ قال: «افْتِتَاحُ الْقُرْآنِ وَخَتْمُهُ».. (ولا يقرأ الفاتحة وخمسا) أي: خمس آيات (من) أول (البقرة عقب الختم نصًّا)؛ لأنه لم يبلغه فيه أثر صحيح، (فإن فعل) ذلك (فلا بأس)، لكن تركه أولى] اهـ.
وقال الإمام ابن الجزري في "النشر" (2/ 449-450): [لا نقول إن ذلك لازم لكل قارئ، بل نقول كما قال أئمتنا فارس بن أحمد وغيره: من فعله فحسن، ومن لم يفعله فلا حرج عليه] اهـ.
وقد ذكر الإمام موفق الدين أبو محمد عبد الله بن قدامة المقدسي الحنبلي رحمه الله في كتابه "المغني" (2/ 126) أن أبا طالب صاحب الإمام أحمد قال: [سألت أحمد: إذا قرأ ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ﴾ يقرأ من البقرة شيئًا؟ قال: لا. فلم يستحب أن يصل ختمة بقراءة شيء. انتهى. فحمله الشيخ موفق الدين على عدم الاستحباب وقال: لعله لم يثبت عنده فيه أثر صحيح يصير إليه. انتهى.
وفيه نظر؛ إذ يحتمل أن يكون فهم من السائل أن ذلك لازم، فقال: لا، ويحتمل أنه أراد قبل أن يدعو؛ ففي كتاب "الفروع" للإمام الفقيه شمس الدين محمد بن مفلح الحنبلي: ولا يقرأ الفاتحة وخمسًا من البقرة، نص عليه، قال الآمدي: يعني قبل الدعاء، وقيل: يُستَحَبُّ. فحمل نص أحمد بقوله (لا) على أن يكون قبل الدعاء، بل ينبغي أن يكون دعاؤه عقيب قراءة سورة الناس كما سيأتي نص أحمد رحمه الله، وذكر قولًا آخر له بالاستحباب. والله أعلم] اهـ.
وقال العلّامة إسماعيل حقي البروسوي في "روح البيان" (10/ 425، ط. دار إحياء التراث العربي): [رُويَ عن ابن كثير رحمه الله أنه كان إذا انتهى في آخر الختمة إلى ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ﴾ قرأ سورة ﴿الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ وخمس آيات من أول سورة البقرة على عدد الكوفي، وهو إلى: ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾؛ لأن هذا يُسَمَّى (الحالَّ المُرْتَحِلَ)، ومعناه: أنه حل في قراءته آخر الختمة وارتحل إلى ختمة أخرى؛ إرغامًا للشيطان، وصار العمل على هذا في أمصار المسلمين، في قراءة ابن كثير وغيرها، وورد النص عن الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله أن من قرأ سورة الناس يدعو عقب ذلك؛ فلم يَسْتَحِبَّ أن يصل ختمه بقراءة شيء، ورُوِيَ عنه قولٌ آخرُ بالاستحباب] اهـ.
وعليه: فقراءة الفاتحة وأول البقرة في آخر الختمة من الأمور المستحبة شرعًا، ولا مانع من قراءة آية الكرسي وخواتيم البقرة بعد ذلك؛ فإن آية الكرسي هي أعظم آية في القرآن، وخواتيم البقرة فيها الثناء على النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين بكمال الإيمان، وانقياد المؤمنين وطاعتهم لربهم ودعاؤهم بالتخفيف ورفع الحرج وعدم المؤاخذة وطلب العفو والمغفرة والرحمة والنصر، وفي ذلك تيمن بالقبول واستجابة الدعاء بعد القراءة؛ حيث قال الله تعالى: قد فعلتُ.
وأما الذكر بأسماء الله الحسنى ثم الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم الدعاء: فكل ذلك داخل في مشروعية الدعاء عند ختم القرآن الكريم، وهو سُنّة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقد فعلها الصحابة والتابعون، ونص الفقهاء على مشروعيتها؛ جاء في "الفتاوى الهندية" (5/ 317، ط. دار الفكر): [ويستحب له أن يجمع أهله وولده عند الختم ويدعو لهم, كذا في "الينابيع"] اهـ.
قال الإمام النووي الشافعي في "الأذكار" (ص: 104-105، ط. دار الفكر): [روى ابن أبي داود بإسنادين صحيحين عن قتادة التابعي الجليل الإمام صاحب أنس رضي الله عنه قال: "كان أنس بن مالك رضي الله عنه إذا ختم القرآن جمع أهله ودعا".
وروى بأسانيد صحيحة عن الحكم بن عُتَيْبَة قال: أرسل إليّ مجاهد وعبدة بن أبي لبابة فقالا: "إنا أرسلنا إليك لأنا أردنا أن نختم القرآن، والدعاء مستجاب عند ختم القرآن"، وفي بعض رواياته الصحيحة: أنه كان يقال: إن الرحمة تنزل عند خاتمة القرآن.
وروى بإسناده الصحيح عن مجاهد قال: كانوا يجتمعون عند ختم القرآن يقولون: إن الرحمة تنزل عند ختم القرآن.
ويستحب الدعاء عقب الختمة استحبابًا متأكدًا شديدًا؛ لما قدمناه... وينبغي أن يُلِحَّ في الدعاء، وأن يدعو بالأمور المهمة والكلمات الجامعة، وأن يكون معظم ذلك أو كله في أمور الآخرة وأمور المسلمين وصلاح سلطانهم وسائر ولاة أمورهم، وفي توفيقهم للطاعات، وعصمتهم من المخالفات، وتعاونهم على البر والتقوى، وقيامهم بالحق واجتماعهم عليه، وظهورهم على أعداء الدين وسائر المخالفين... وإذا فرغ من الختمة فالمستحب أن يشرع في أخرى متصلًا بالختم؛ فقد استحبه السلف] اهـ.
وقال الإمام الحافظ جلال الدين السيوطي الشافعي في "الإتقان" (2/ 713-714): [يُسَنُّ الدعاءُ عقب الختم؛ لحديث الطبراني وغيره عن العرباض بن سارية مرفوعًا: «مَنْ خَتَمَ الْقُرْآنَ فَلَهُ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ»، وفي "الشعب" من حديث أنس مرفوعًا: «مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ وَحَمِدَ الرَّبَّ وَصَلَّى عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ وَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ: فَقَدْ طَلَبَ الْخَيْرَ مَكَانَهُ»] اهـ.
وعند الحنابلة: أن الدعاء بعد الختم مستحب، بل نص الإمام أحمد على استحبابه في الصلاة:
وعقد العلّامة ابن القيِّم الحنبلي فصلًا ماتعًا في كتابه "جلاء الأفهام في فضل الصلاة والسلام على محمد خير الأنام" لبيان أن ختم القرآن من مواطن الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما أنه من مواطن الدعاء؛ فقال (ص: 402-403، ط. دار العروبة): [الموطن السابع عشر من مواطن الصلاة عليه: عقب ختم القرآن؛ وهذا لأن المحل محل دعاء، وقد نص الإمام أحمد رحمه الله تعالى على الدعاء عَقِيبَ الختمة؛ فقال في رواية أبي الحارث: كان أنس إذا ختم القرآن جمع أهله ولده، وقال في رواية يوسف بن موسى وقد سُئِلَ عن الرجل يختم القرآن فيجتمع إليه قوم فيدعون، قال: نعم؛ رأيتُ معمرًا يفعله إذا ختم، وقال في رواية حرب: أَسْتَحِبُّ إذا ختم الرجلُ القرآنَ أن يجمع أهله ويدعو... ونص أحمد رحمه الله تعالى على استحباب ذلك في صلاة التراويح؛ قال حنبل: سمعت أحمد يقول في ختم القرآن: إذا فرغتَ من قراءتك ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ﴾ فارفع يديك في الدعاء قبل الركوع، قلت: إلى أي شيء تذهب في هذا؟ قال: رأيتُ أهلَ مكة يفعلونه، وكان سفيان بن عيينة يفعله معهم بمكة. قال عباس بن عبد العظيم: وكذلك أدركتُ الناس بالبصرة وبمكة، ويَروِي أهلُ المدينة في هذا أشياء، وذُكِرَ عن عثمان بن عفان رضي الله عنه، وقال الفضل بن زياد: سألت أبا عبد الله: أختم القرآن: أجعله في التراويح أو في الوتر؟ قال: اجعله في التراويح؛ حتى يكون لنا دعاء بين اثنين، قلت: كيف أصنع؟ قال: إذا فرغت من آخر القرآن فارفع يديك قبل أن تركع، وادع بنا ونحن في الصلاة، وأَطِلِ القيام، قلت: بِمَ أدعو؟ قال: بما شئتَ، قال: ففعلتُ كما أَمرَني وهو خلفي يدعو قائمًا ويرفع يديه. وإذا كان هذا من آكد مواطن الدعاء وأَحَقِّها بالإجابة فهو مِن آكد مواطن الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم] اهـ.
وأما الدعاء بأسماء الله الحسنى فهو مشروع بنص قوله تعالى: ﴿وَللهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا﴾ [الأعراف: 180]، وقوله سبحانه: ﴿قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى﴾ [الإسراء: 110]، والأمر المطلق بالدعاء يقتضي عموم الأزمنة والأمكنة والأشخاص والأحوال، فلا يجوز تخصيصه أو تقييده بحال دون حال إلا بدليل، وإلا كان ابتداعًا بتضييق ما وسعه الله سبحانه وتعالى.
وعليه: فالدعاء بالأسماء الحسنى والصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع الدعاء بما تيسر هو من الأمور المستحبة المشروعة التي عليها عمل المسلمين، والطعن على ذلك بالبدعة طعن على علماء الأمة بالجهل والضلالة، فعلى المسلم أن يتقي الله تعالى فيما يقول، وأن يحذر من القول على الله تعالى بغير علم، وأن يكون عالمًا بما يأمر به وينهى عنه، وأن يكون مدركًا لمآلات الأحكام قبل أن يفتي.
والله سبحانه وتعالى أعلم.
حكم ختم القرآن جماعة
هذه الهيئة التي عليها الناس في ختم القرآن صحيحةٌ وجائزةٌ شرعًا، وفي عموم الأدلة من القرآن والسنة وعمل السلف الصالح ما يدل على ذلك؛ فالتكبير من سورة الضحى عند ختم القرآن الكريم سنةٌ متبعةٌ ثابتةٌ عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والصحابة والتابعين فمن بعدهم، وهي قراءة ابن كثير رحمه الله تعالى، ووردت أيضًا عن بقية القُرّاء، مع إجماعهم على أن هذا التكبير ليس قرآنًا، وإنما هو ذكرٌ مشروعٌ بين سُوَرِ الختم لتعظيم الله تعالى.
وهذا ما عليه عمل المسلمين سلفًا وخلفًا، عند أهل الأمصار في سائر الأقطار، عند ختمهم القرآن الكريم في المحافل واجتماعهم في المجالس، وكثير منهم يقوم به في صلاة رمضان ولا يتركه عند الختم على أي حال كان.
والعلماء متفقون أيضًا على جواز قراءة سورة الإخلاص ثلاث مرات؛ فقد ورد في الخبر الصحيح أنها تعدل ثُلُثَ القرآن، فإذا قُرِئَت بالتكرار في الختم لا على جهة العرض وتلقي الرواية، وأُمِن مع ذلك مِن إيهام تكرارها في المصحف: فذلك جائز شرعًا ولا حرج فيه، وعليه عمل المسلمين من غير نكير.
وكذلك الحال في قراءة سورة الفاتحة وأول البقرة بعد الختم: فذلك أمرٌ جاء الشرع باستحبابه، وأخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن ذلك من أحب الأعمال إلى الله تعالى، وصحّت به الرواية من طريق ابن كثير رحمه الله تعالى؛ فإن آية الكرسي أعظم آية في القرآن، وخواتيم البقرة فيها الثناء على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعلى المؤمنين، ورفع الحرج عنهم وعدم المؤاخذة، وطلب العفو والمغفرة والرحمة والنصر، وفي ذلك تيمن بالقبول واستجابة الدعاء بعد القراءة.
وأما الذكر بأسماء الله الحسنى ثم الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم الدعاء: فداخل في مشروعية الدعاء عند ختم القرآن الكريم، وهو سُنّة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقد فعلها الصحابة والتابعون، ونص الفقهاء على مشروعيتها؛ لقول الله تعالى: ﴿وَللهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا﴾ [الأعراف: 180]، والأمر المطلق بالدعاء يقتضي عموم الأزمنة والأمكنة والأشخاص والأحوال، فلا يجوز تخصيصه أو تقييده بحال دون حال إلا بدليل، وإلا كان ابتداعًا بتضييق ما وسعه الله سبحانه وتعالى.
فليتق الله أولئك المنكرون على المسلمين عبادتهم، وليحذروا من التقول على الله بغير علم، وليكونوا عالمين بما يأمرون به وينهون عنه، مدركين لمآلات الأحكام قبل أن التصدر للفُتيا.
هذا الذي عليه عمل الناس في هيئة ختم القرآن الكريم جائزٌ شرعًا؛ لأن منه ما هو مشروع بخصوصه، ومنه ما هو داخل في عمومات الأدلة من الكتاب أو السنة وجرى عليه عمل السلف من غير نكير، وإنما القراءة سُنّةٌ مُتَّبَعَةٌ يأخذها الخلف عن السلف، ولا يجوز رميُ المسلمين ببدعة الضلالة في شيء من ذلك، وتفصيل ذلك على النحو الآتي:
أما التكبير من سورة الضحى: فهو سنة متبعةٌ ثابتةٌ عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والصحابة والتابعين فمن بعدهم، وهي قراءة أهل مكة التي اشتهر بها ابن كثير رحمه الله تعالى، وذلك عند ختم القرآن الكريم؛ في الصلاة وخارجها، ووردت أيضًا عن بقية القُرّاء، مع إجماعهم على أن هذا التكبير ليس قرآنًا، وإنما هو ذكر مشروع بين سُوَرِ الختم لتعظيم الله تعالى.
قال شيخ القُرّاء في زمنه الإمام شمس الدين محمد بن محمد بن محمد بن الجزري في كتاب "النشر في القراءات العشر" (2/ 410-411، ط. المطبعة التجارية الكبرى): [اعلم أن التكبير صح عند أهل مكة: قُرّائهم، وعلمائهم، وأئمتهم، ومن روى عنهم- صِحّةً استفاضت واشتهرت وذاعت وانتشرت، حتى بلغت حد التواتر، وصحت أيضًا عن أبي عمرو من رواية السوسي، وعن أبي جعفر من رواية العمري، ووردت أيضًا عن سائر القُرّاء، وبه كان يأخذ ابن حبش وأبو الحسين الخبازي عن الجميع، وحكى ذلك الإمام أبو الفضل الرازي وأبو القاسم الهذلي والحافظ أبو العلاء.
وقد صار على هذا العمل عند أهل الأمصار في سائر الأقطار عند ختمهم في المحافل واجتماعهم في المجالس لدى الأماثل، وكثير منهم يقوم به في صلاة رمضان ولا يتركه عند الختم على أي حال كان اهـ. وقال مَكِّيٌّ بن أبي طالب: وروي أن أهل مكة كانوا يكبرون في آخر كل ختمة من خاتمة وَالضُّحى لكل القُرّاء؛ لابن كثير وغيره، سنةً نقلوها عن شيوخهم. اهـ. وقال الأهوازي: والتكبير عند أهل مكة في آخر القرآن سنة مأثورة يستعملونه في قراءتهم في الدروس والصلاة. انتهى. وكان بعضهم يأخذ به في جميع سور القرآن اهـ.
قال الحافظ أبو عمرو الداني في كتابه "جامع البيان": كان ابن كثير من طريق القواس والبزي وغيرهما يكبر في الصلاة والعرض من آخر سورة (والضحى) مع فراغه من كل سورة إلى آخر: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ﴾، فإذا كبر في (الناس) قرأ فاتحة الكتاب وخمس آيات من أول سورة البقرة على عدد الكوفيين إلى قوله: ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾، ثم دعا بدعاء الختمة، قال: وهذا يُسَمَّى الحَالَّ المُرْتَحِل، وله في فعله هذا دلائل مستفيضة جاءت من آثار مَرْوِيَّةٍ ورد التوقيفُ بها عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأخبار مشهورة مستفيضة جاءت عن الصحابة والتابعين والخالفين.
وقال أبو الطيب عبد المنعم بن غلبون: وهذه سنة مأثورة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وعن الصحابة والتابعين، وهي سنة بمكة لا يتركونها البتة، ولا يعتبرون رواية البزي وغيره.
وقال أبو الفتح فارس بن أحمد: لا نقول إنه لا بد لمن ختم أن يفعله، لكن من فعله فحسن، ومن لم يفعله فلا حرج عليه، وهو سنة مأثورة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وعن الصحابة والتابعين] اهـ.
وقال في أرجوزته الشهيرة "طَيِّبَةِ النَّشْر":
وسُـــــــنّةُ التكبير عند الختْـــــــــمِ صحَّتْ عن المَكِّينَ أهلِ العلم
في كل حــــالٍ ولدى الصـــــلاةِ سُلْسِــــــــــلَ عن أئمـــــةٍ ثِقَـــــــــــــــاتِ
من أول انشراحٍ أَوْ من الضحى مِن آخرٍ أو أولٍ قد صُحِّحــــا
للناس هكــــذا وقبـــلُ إن تُـــــــــرِدْ هَلِّلْ، وبعضٌ بعــــــــدَ لله حَمِــــــــدْ
ثم اقرأ الحمــــدَ وخمسَ البقره إن شئت حِــلًّا وارتحـــالًا ذَكَره
وقال الحافظ جلال الدين السيوطي في "الإتقان في علوم القرآن" (2/ 708-711، ط. مجمع الملك فهد): [يُستَحَبُّ التكبير من الضحى إلى آخر القرآن، وهي قراءة المكيين. أخرج البيهقي في "الشعب" وابن خزيمة من طريق ابن أبي بزة: سمعت عكرمة بن سليمان قال: قرأت على إسماعيل بن عبد الله المكي، فلما بلغت الضحى قال: كبر حتى تختم، فإني قرأت على عبد الله بن كثير فأمرني بذلك، وقال: قرأت على محمد فأمرني بذلك. وأخبر مجاهد أنه قرأ على ابن عباس رضي الله عنهما فأمره بذلك. وأخبر ابن عباس أنه قرأ على أبيّ بن كعب رضي الله عنه فأمره بذلك، كذا أخرجناه موقوفًا. ثم أخرجه البيهقي من وجه آخر عن ابن أبي بزة مرفوعًا. وأخرجه من هذا الوجه -أعني المرفوع- الحاكمُ في "مستدركه" وصححه، وله طرق كثيرة عن البزي.
وعن موسى بن هارون قال: قال لي البزي: قال لي محمد بن إدريس الشافعي: إن تركت التكبير فقدت سنة من سنن نبيك. قال الحافظ عماد الدين بن كثير: وهذا يقتضي تصحيحه للحديث.
وروى أبو العلاء الهمذاني عن البزي أن الأصل في ذلك أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم انقطع عنه الوحي فقال المشركون: قلا محمدًا ربُّه، فنزلت سورة الضحى، فكبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم. قال ابن كثير: ولم يرد ذلك بإسناد يحكم عليه بصحة ولا ضعف. وقال الحليمي: نكتة التكبير التشبيه للقراءة بصوم رمضان إذا أكمل عدته يكبر، فكذا هنا يكبر إذا أكمل عدة السورة] اهـ.
وهذا هو المعتمد عند الشافعية والحنابلة وغيرهم من الفقهاء:
ففي "الفتاوى الحديثية الكبرى" للعلّامة ابن حجر الهيتمي شيخ الشافعية في زمنه (ص: 224-225، ط. مصطفى الحلبي): [وسئل -نفع الله بعلومه وأمدنا بمدده-: هل ورد حديث صحيح في مشروعية التكبير في أواخر قصار المفصل؟ فإن قلتم: نعم فهل هو خاص في حق غير المصلي؟ فإن قلتم: نعم فهل نقل ندبه في حق المصلي عن أحد من الأئمة؟ فإن قلتم بسنيته فما ابتداؤه وانتهاؤه، وهل يندب معه زيادة (لا إله إلا الله) كما هو المعمول؟
فأجاب -نفع الله به وأعاد علينا وعلى المسلمين من بركاته- بقوله:
حديث التكبير ورد من طرق كثيرة عن أحمد بن محمد بن أبي بزة البزي قال: سمعت عكرمة بن سليمان يقول: قرأت على إسماعيل بن عبد الله بن قسطنطين فلما بلغت: ﴿وَالضُّحَى﴾ قال لي: كبر عند خاتمة كل سورة حتى تختم، وأخبره أنه قرأ على مجاهد فأمره بذلك، وأخبره مجاهد أن ابن عباس رضي الله عنهما أمره بذلك، وأخبره ابن عباس بأن أبي بن كعب رضي الله عنه أمره بذلك، وأخبر أبي بن كعب بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمره بذلك، وقد أخرجه الحاكم أبو عبد الله في "صحيحه المستدرك" عن البزي، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجه البخاري ولا مسلم، انتهي.
وقد يعارضه تضعيف أبي حاتم والعقيلي للبزي. ويجاب بأن هذا التضعيف غير مقبول، فقد رواه عن البزي الأئمة الثقات، وكفاه فخرًا وتوثيقًا قول إمامنا الشافعي رضي الله عنه: إن تركت التكبير تركت سنة، وفي رواية: يا أبا الحسن والله لئن تركت التكبير فقد تركت سنة من سنن نبيك، وقال الحافظ العماد ابن كثير: وهذا من الشافعي يقتضي تصحيحه لهذا الحديث. ومما يقتضي صحته أيضًا أن أحمد بن حنبل رواه عن أبي بكر الأعين عن البزي. وكان أحمد يجتنب المنكرات فلو كان منكرًا ما رواه.
وقد صح عند أهل مكة فقهائهم وعلمائهم ومن روى عنهم، وصحته استفاضت وانتشرت حتى بلغت حد التواتر، وصحت أيضًا عن أبي عمرو من رواية السوسي، ووردت أيضًا عن سائر القراء، وصار عليه العمل عند أهل الأمصار في سائر الأعصار.
واختلفوا في ابتدائه؛ فقيل: من أول سورة الضحى، والجمهور على أنه من أول سورة ألم نشرح، وفي انتهائه؛ فجمهور المغاربة والمشارقة وغيرهم على أنه إلى آخر الناس، وجمهور المشارقة على أنه أولها ولا يكبر آخرها، والوجهان مبنيان على أنه هل هو لأول السورة أو لآخرها؟ وفي ذلك خلاف طويل بين القراء، والراجح منه الظاهر من النصوص أنه من آخر الضحى إلى آخر الناس.
ولا فرق في ندب التكبير بين المصلي وغيره، فقد نقل أبو الحسن السخاوي بسنده عن أبي يزيد القشري قال: صلَّيت بالناس خلف المقام بالمسجد الحرام في التراويح في شهر رمضان، فلما كانت ليلة الجمعة كبرت من خاتمة الضحى إلى آخر القرآن في الصلاة، فلما سلمت التفت فإذا بأبي عبد الله محمد بن إدريس الشافعي رضي الله عنه فقال: أحسنت أصبت السنة.
ورواه الحافظ أبو عمرو الداني عن ابن جريج عن مجاهد رضي الله عنه. قال ابن جريج: فأولى أن يفعله الرجل إمامًا كان أو غير إمام، وأمر ابن جريج غير واحد من الأئمة بفعله.
ونقل سفيان بن عيينة، عن صدقة بن عبد الله بن كثير أنه كان يؤم الناس من أكثر من سبعين سنة، وكان إذا ختم القرآن كبر.
فثبت بما ذكرناه عن الشافعي رضي الله عنه وبعض مشايخه وغيرهم أنه سنة في الصلاة.
ومن ثم جرى عليه من أئمتنا المتأخرين الإمام المجتهد أبو شامة رحمه الله، ولقد بالغ التاج الفزاري في الثناء عليه حتى قال: عجبت له كيف قلد الشافعي رحمه الله، والإمامان أبو الحسن السخاوي، وأبو إسحاق الجعبري.
وممن أفتى به وعمل في التراويح شيخ الشافعية في عصره أبو الثناء محمود بن محمد بن جملة الإمام والخطيب بالجامع الأموي بدمشق.
قال الإمام الحافظ المتقن شيخ القراء في عصره أبو الخير محمد بن محمد الجزري الشافعي: ورأيت أن غير واحد من شيوخنا يعمل به ويأمر من يعمل به في صلاة التراويح وفي الإحياء في ليالي رمضان، حتى كان بعضهم إذا وصل في الإحياء إلى الضحى قام بما بقي من القرآن في ركعة واحدة يكبر في كل سورة، فإذا انتهى إلى: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ﴾ [الناس: 1] كبر في آخرها، ثم يكبر للركوع، وإذا قام في الركعة الثانية قرأ الفاتحة وما تيسر من سورة البقرة، وفعلت أنا كذلك مرات لما كنت أقوم بالإحياء إمامًا بدمشق ومصر.انتهى.
ثم إن قلنا: التكبير لآخر السورة كان بين آخرها وبين الركوع، وإن قلنا لأولها كان بين تكبير القيام والبسملة أول السورة، ووقع لبعض الشافعية من المتأخرين الإنكار على من كبر في الصلاة فرد ذلك عليه غير واحد، وشنعوا عليه في هذا الإنكار.
قال ابن الجوزي: ولم أر للحنفية ولا للمالكية نقلًا بعد التتبع، وأما الحنابلة ففي فروعهم لابن مفلح: وهل يكبر لختمه من الضحى أو ألم نشرح آخر كل سورة فيه روايتان، ولم يستحبه الحنابلة القراء غير ابن كثير، وقيل: ويهلل، انتهى.
وأما صيغته فلم يختلف مثبتوه أنها: الله أكبر، وهي التي رواها الجمهور عن البزي، وروى عنه آخرون التهليل قبلها، فتصير: لا إله إلا الله، والله أكبر، وهي ثابتة عند البزي فلتعمل، ومن ثم قال شيخ الإسلام عبد الرحمن الرازي الشافعي رحمه الله في وسطه في العشر: وقد رأيت المشايخ يؤثرون ذلك في الصلاة فرقا بينها وبين تكبير الركوع، ونقل عن البزي أيضًا زيادة: ولله الحمد بعد أكبر، وروى جمع عن قنبل، وروى عنه آخرون التهليل أيضًا وقطع به غير واحد. قال الداني: الوجهان -يعني: التهليل مع التكبير، والتكبير وحده- عن البزي وقنبل صحيحان مشهوران مستعملان جيدان. والله سبحانه وتعالى أعلم] اهـ.
وعند الحنابلة يستحب أصل التكبير في الختم، ومنهم من استحب معه التهليل أيضًا:
قال العلّامة ابن مفلح في "الآداب الشرعية" (2/ 295-296، ط. مؤسسة الرسالة): [واستحب أحمد التكبير من أول سورة الضحى إلى أن يختم. ذكره ابن تميم وغيره، وهو قراءة أهل مكة أخذها البزي عن ابن كثير وأخذها ابن كثير عن مجاهد وأخذها مجاهد عن ابن عباس وأخذها ابن عباس عن أبي بن كعب وأخذها أبي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. روى ذلك جماعة منهم: البغوي في "تفسيره"، والسبب في ذلك انقطاع الوحي، وهذا حديث غريب؛ رواية أحمد بن محمد بن عبد الله البزي، وهو ثبت في القراءة ضعيف في الحديث، وقال أبو حاتم الرازي: هذا حديث منكر.
وقال أبو البركات: يستحب ذلك من سورة: ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ﴾ وقال في الشرح: استحسن أبو عبد الله التكبير عند آخر كل سورة ومن الضحى إلى أن يختم؛ لأنه روي عن أبي بن كعب أنه قرأ على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأمره بذلك رواه القاضي. وعن البزي أيضًا مثل هذا، وعن قنبل هكذا والذي قبله، وعنه أيضًا: لا تكبير كما هو قول سائر القراء. وقال الماوردي: كان ابن عباس يفصل بين كل سورتين بالتكبير ومن الضحى وهو راوي قراء مكة. وقال الآمدي: يهلل ويكبر وهو قول عن البزي، وسائر القراء على خلافه] اهـ.
وقد نص أهل الأداء على أنه يجوز لمن يقرأ بقراءة حفص أن يَسبِقَ التكبيرَ بالتهليل ويُتْبِعَه بالتحميد، وشنعوا على من أنكر ذلك، ولا شك أن قولهم في ذلك هو المقدم على قول غيرهم:
قال الشيخ عبد الفتاح السيد عجمي المرصفي في كتابه "هداية القاري إلى تجويد كلام الباري" (2/ 586-587، ط. مكتبة طيبة): [ولا التفات إلى من أنكر التهليل والتحميد مع التكبير عند سُوَر الختم في رواية حفص؛ فقد أجازه له غير واحد من الثقات، بل أجازه لكل القُرّاء العشرة في هذا المكان؛ لأنه محلّ إطناب وتلذذ بذكر الله تعالى، وقد شنّع صاحب "عمدة الخلان شرح زبدة العرفان" على من أنكر ذلك، وعبارته: "وكذا لا يُمنَع القارئُ من التهليل والتحميد من آخر الضحى إلى آخر الناس في قراءة أحد من الأئمة إذا كان بنية التشكر والتعظيم والتبرك، فلا عبرة برأي بعض المتعصبين من حيث يُجَوِّزُون التكبير فقط لحفص عند الختم بين كل سورتين وأواخرها من لدن سورة الضحى إلى سورة الناس، وينكر أخذ التهليل والتحميد فيها، ويزعمون أن أخذ التهليل والتحميد لحفص ولغيره سوى البزي من أشراط الساعة، وإلى الله المشتكى من هذه الخصلة ذات الشناعة" اهـ منه بلفظه] اهـ.
وعلى ذلك: فالتكبير عند الختم سنة متبعة صحيحة نص عليها أهل القراءة المعتبرون فيها، والقراءة سُنّةٌ مُتَّبَعَةٌ يتلقاها الخلف عن السلف، ولا عبرة بقولِ مَن أنكرها؛ فإنما يُؤخَذُ كلُّ فنٍّ وعلمٍ من أهله المشتغلين به لا من غيرهم.
وأما قراءة سورة الإخلاص ثلاث مرات: فالعلماء متفقون على أن فعل ذلك جائز في أصله؛ عملًا بالخبر الصحيح الوارد في كونها تعدل ثُلُثَ القرآن، ولكنهم اختلفوا في استحباب تكرارها ثلاثًا عند الختم، مع نصهم على أن تكرارها هو الذي جرت عليه عادة الناس ومضى عليه عملهم، واختلفوا أيضًا هل تكرر إذا كان الختم في الصلاة:
فعند الحنفية في استحسان تكرارها ثلاثًا عند الختم خارج الصلاة قولان، والاستحسان هو قول الأكثر، غير أنهم لم يستحسنوا تكرارها إذا كان الختم في الصلاة المكتوبة:
جاء في "الفتاوى الهندية" (5/ 317، ط. دار الفكر): [قراءة ﴿قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ﴾ ثلاث مرات عَقِيبَ الختم لم يستحسنها بعض المشايخ، واستحسنها أكثر المشايخ لجبر نقصان دخل في قراءة البعض، إلّا أن يكون ختم القرآن في الصلاة المكتوبة فلا يزيد على مرة واحدة؛ كذا في "الغرائب"، ولا بأس باجتماعهم على قراءة الإخلاص جهرًا عند ختم القرآن، ولو قرأ واحد واستمع الباقون فهو أولى؛ كذا في "القنية"] اهـ.
وفي "فتاوى قاضي خان" (1/ 164، ط. المطبعة الأميرية ببولاق، بهامش الفتاوى الهندية): [وقراءة سورة الإخلاص ثلاث مرات عند ختم القرآن يستحسنه مشايخ العراق رحمهم الله تعالى، إلا أن يكون الختم في المكتوبة فلا يكرر سورة الإخلاص] اهـ.
وقال العلّامة الكمال بن الهمام في "شرح فتح القدير" (1/ 343، ط. دار الفكر): [وقراءتها ثلاثا عند الختم خارج الصلاة اختلف المشايخ في استحبابه، واستحسنه مشايخ العراق، وفي المكتوبة لا يزيد على مرة] اهـ.
والشافعية يستحسنون تكرارها عند الختم:
قال الإمام التاج السبكي في "طبقات الشافعية الكبرى" (10/ 285-286، ط. هجر): [حضرت الوالد رحمه الله -يعني الإمام تقي الدين السبكي شيخ الشافعية في زمنه- مرة في ختمة وقد وصل القُرّاء إلى سورة الإخلاص؛ فقرؤوها ثلاث مرات على العادة، وكان على يمينه قاضي القضاة عماد الدين علي بن أحمد الطرسوسي الحنفي، فالتفت إلى الشيخ الإمام وقال: في خاطري دائما أن أسأل عن الحكمة في إطباق الناس على تكريرها ثلاثًا.
فقال له الشيخ الإمام: لأنه قد ورد أنها تعدل ثلث القرآن فتحصل بذلك ختمة.
فقال القاضي عماد الدين: فلم لا يقرؤونها ثلاثًا بعد الواحدة التي تضمنتها الختمة ليحصل ختمتان؟
فقال الشيخ الإمام: مقصود الناس تحقيق ختمة واحدة؛ فإن القارئ إذا وصل إليها فقرأها ثم أعادها مرتين كان على يقين من حصول ختمة: إما التي قرأها من الفاتحة إلى آخر القرآن، وإمّا ثوابها بقراءة الإخلاص ثلاثًا. وليس المقصود ختمة أخرى. وهذا معنى مليح] اهـ.
وقال الإمام الزركشي في "البرهان في علوم القرآن" (1/ 473-474، ط. دار إحياء الكتب العربية): [مما جرت به العادة من تكرير سورة الإخلاص عند الختم نص الإمام أحمد على المنع، ولكن عمل الناس على خلافه] اهـ.
ونحوه للعلامة ابن حجر الهيتمي في "الفتاوى الحديثية" (ص: 233، ط. مصطفى الحلبي).
والمعتمد عند الشافعية أن تكرار سورة الإخلاص عند الختم في الصلاة خلافُ الأَوْلى فقط، وليس سُنّةً ولا مكروهًا؛ لأنه لم يَرِدْ فيه نهي مخصوص:
جاء في "الفتاوى الفقهية الكبرى" للعلامة ابن حجر الهيتمي (1/ 184، ط. دار الفكر): [وسئل نفع الله تعالى به عن تكرير سورة الإخلاص في التراويح: هل يُسَنُّ؟ وإذا قلتم "لا" فهل يُكْرَه أم لا؟ وقد رأيت في "المعلمات" لابن شهبة: أن تكرير سورة الإخلاص في التراويح ثلاثًا كرهها بعض السلف، قال: لمخالفتها المعهود عمن تقدم؛ ولأنها في المصحف مرة فلتكن في التلاوة مرة اهـ فهل كلامه مقرَّرٌ معتمد أم لا؟ بينوا ذلك وأوضحوه لا عدمكم المسلمون.
فأجاب فسح الله في مدته بقوله: تكرير قراءة سورة الإخلاص أو غيرها في ركعة أو كل ركعة من التراويح ليس بسنة ولا يقال مكروه على قواعدنا لأنه لم يرد فيه نهي مخصوص] اهـ.
قال العلامة أبو بكر شطا الدمياطي في "حاشية إعانة الطالبين" (1/ 307، ط. دار الفكر) تعقيبًا على فتوى العلامة ابن حجر: [الذي فيها أن قراءة القرآن في جميع الشهر أولى وأفضل، وأن تكرير سورة الإخلاص أو غيرها في ركعةٍ ما خلافُ الأَوْلى فقط، وليس بسنة ولا بمكروه] اهـ.
وعند الحنابلة رأيان:
فنقلوا عن الإمام أحمد المنع من ذلك، ولكن المذكور في كتبهم أنه إن فُعِل فلا بأس به؛ حملًا للمنع على عدم الاستحباب، أو على أن المقصود به تكرارها داخل الصلاة:
قال العلّامة ابن مفلح في "الآداب الشرعية" (2/ 296): [وإذا قرأ سورة الإخلاص مع غيرها قرأها مرة واحدة ولا يكرر ثلاثًا؛ نص عليه، وقال ابن تميم: منع أحمد القارئ من تكرار سورة الإخلاص ثلاثًا إذا وصل إليها] اهـ.
وقال الشيخ الرحيباني الحنبلي في "مطالب أولي النهى في شرح المنتهى" (1/ 605، ط. المكتب الإسلامي): [(ولا يكرر سورة الصمد..)؛ لأنه لم يبلغه فيه أثر صحيح، (فإن فعل) ذلك (فلا بأس)، لكن تركه أولى] اهـ.
غير أن مِن محققي الحنابلة مَن استحب تكرارها على كل حال؛ في الختم وغيره، وحكى الخلاف في تكرارها في الصلاة:
قال العلّامة نجم الدين الطوفي الحنبلي في رسالته "إيضاح البيان عن معنى أم القرآن" (مطبوعة بتحقيق: علي حسين البواب، ضمن "مجلة البحوث الإسلامية" الصادرة عن الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء بالسعودية، عدد: 36، ص: 356): [ينبَغي لِمَن تَلا هذه السُّوَر الثلاثَ (يعني: الزلزلة، والإخلاص، والكافرون) مُنفرِدَةً، أو في جُملةِ القُرآنِ، بادِئًا مِن أوَّلِه، أو مِن آخره، في غيرِ الصَّلاة: أنْ يُكَرّرَ سُورَةَ "الزلزلة" مَرّتين، وسُورَةَ "الإخلاصِ" ثلاثًا، وسُورَةَ "الكافرونَ" أربَعًا؛ لِيستَكمِل بِذلكَ ثَلاثَ خَتَماتٍ. أما في الصلاة ففي تكرار السورة خلاف مشهور، وتفصيل بين الفرض والنفل] اهـ.
والتحقيق أن النهي عن التكرار محمول على نفي كونه مِن سُنّة القراءة المُتَّبَعة التي تُؤخَذ بالتلقي عن السلف؛ وخشية أن يُظَنَّ أنها كذلك في المصحف؛ فهو من الفقه الذرائعي الذي يزول بزوال سببه ولا يُتَوَسَّع فيه، وقد بين أهل القراءة والأداء أن تكرار سورة الإخلاص ليس من سُنّة التلقي وعرض القراءة، وأنه شيء لم يُقرَأْ به في أسانيد الرواية في القراءة:
يقول الإمام ابن الجزري في "طيبة النشر في القراءات العشر" (2/ 451): [وأما ما يعتمده بعض القراء من تكرار قراءة: ﴿قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ﴾ عند الختم ثلاث مرات: فهو شيء لم نقرأ به، ولا أعلم أحدًا نص عليه من أصحابنا القراء، ولا الفقهاء سوى أبي الفخر حامد بن علي بن حسنويه القزويني في كتابه "حلية القراءة" فإنه قال فيه ما نصُّه: والقراء كلهم قرؤوا سورة الإخلاص مرة واحدة، غير الهرواني عن الأعشى؛ فإنه أخذ بإعادتها ثلاث دفعات، والمأثور دفعة واحدة. انتهى.
قلت: والهَرَواني هذا هو بفتح الهاء والراء، وهو القاضي أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن الحسين الجعفي الحنفي الكوفي، كان فقيهًا كبيرًا، قال الخطيب البغدادي: كان من عاصره بالكوفة يقول: لم يكن بالكوفة من زمن ابن مسعود إلى وقته أحد أفقه منه. انتهى. وقرأ برواية الأعشى على محمد بن الحسن بن يونس عن قراءته بها على أبي الحسن علي بن الحسن بن عبد الرحمن الكسائي الكوفي صاحب محمد بن غالب صاحب الأعشى، والظاهر أن ذلك كان اختيارًا من الهرواني؛ فإن هذا لم يُعْرَفْ في رواية الأعشى، ولا ذكره أحد من علمائنا عنه، بل الذين قرؤوا برواية الأعشى على الهرواني هذا -كأبي علي البغدادي صاحب "الروضة" وأبي علي غلام الهراس شيخ أبي العز وكالشرمقاني والعطار شيخي ابن سوار وكأبي الفضل الخزاعي- لم يذكر أحد منهم ذلك عن الهرواني، ولو ثبت عندهم روايةً لذكروه بلا شك؛ فلذلك قلنا: إنه يكون اختيارًا منه، والرجل كان فقيهًا عالمًا أهلًا للاختيار، فلعله رأى ذلك.
وصار العمل على هذا في أكثر البلاد عند الختم في غير الروايات. والصواب ما عليه السلف؛ لئلا يُعتَقَدَ أن ذلك سنة، ولهذا نص أئمةُ الحنابلة على أنه لا يكرر سورة الصمد، وقالوا: وعنه -يعنون عن أحمد- لا يجوز. والله الموفق] اهـ.
فالرواية المأخوذة عن أهل الأداء في تلقي القرآن هي عدم تكرار سورة الإخلاص، وإليهم المرجع في معرفة ذلك فلا يُقرَأُ بغيره في التلقي وعرض القراءة؛ لأن الرواية مبناها على التوقيف. وأما تكرارها في الختم فمسألة فقهية تتعلق بفهم الأدلة الشرعية واستنباط الأحكام منها، وبابُ الدراية أوسع من باب الرواية؛ فليس كل ما جاز درايةً صح روايةً.
فإذا قُرِئَ بالتكرار في الختم لا على جهة العرض وتلقي الرواية، وأُمِن مع ذلك مِن إيهام تكرارها في المصحف: فذلك جائز شرعًا ولا حرج فيه. وعليه العمل في أمصار الإسلام.
بل إن تكرار سورة الإخلاص عند الختم كان معروفًا عند السلف، حتى قبل الهرواني والأعشى؛ فقد روى الدينوري في "المجالسة وجواهر العلم" (3/ 374، ط. دار ابن حزم): [حدثنا عبيد بن إبراهيم الحربي؛ قال: سمعت سفيان يقول: صليت ببشر الحافي في شهر رمضان، فلما أردت أن أختم قرأت: ﴿قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ﴾ ثلاث مرات، فقال لي بشر: عمن أخذت هذا؟ قلت: عن شيوخنا بخراسان، قال: إنما هي في المصحف مرة واحدة، وأنزلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مرة واحدة] اهـ.
وسفيان بن عيينة ولد سنة سبع ومائة وتوفي سنة ثمان وتسعين ومائة، وقد نقل تكرار سورة الإخلاص في الختم عن شيوخه بخراسان، وقد قرأ القرآن وهو ابن أربع عشرة سنة -كما في (تاريخ ابن أبي خيثمة، 3/ 267، ط. دار الفاروق)-، وأخذ القراءة عن حميد بن قيس الأعرج المتوفى سنة ثلاثين ومائة، وهذا كله يشير إلى أن ذلك مما جرى عليه العمل قديمًا، وإنما عاب عليه بشر رحمه الله تكرارها في الصلاة؛ بناءً على أنها مفردة في المصحف، ولا يخفى أن نزولها مرة واحدة وعدم تكرارها في كتاب الله لا ينفي استحباب تكرارها في غير الختم، فكذلك عند الختم.
وأما قراءة سورة الفاتحة وأول البقرة بعد الختم: فهو أمر جاء الشرع باستحبابه، وأخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن ذلك أحب الأعمال إلى الله تعالى:
قال الحافظ جلال الدين السيوطي في "الإتقان" (2/ 714-715): [يُسَنُّ إذا فرغ من الختمة أن يشرع في أخرى عقب الختم؛ لحديث الترمذي وغيره: «أَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللهِ الْحَالُّ الْمُرْتَحِلُ؛ الَّذِي يَضْرِبُ مِنْ أَوَّلِ الْقُرْآنِ إِلَى آخِرِهِ كُلَّمَا حَلَّ ارْتَحَلَ»، وأخرج الدانيُّ بسند حسن عن ابن عباس عن أبيّ بن كعب أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا قرأ: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ﴾ افتتح من الحمد، ثم قرأ من البقرة إلى: ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾، ثم دعا بدعاء الختمة، ثم قام] اهـ.
وقد جرى على ذلك عمل الناس، وصح ذلك من قراءة ابن كثير رحمه الله تعالى:
قال الإمام القرطبي في تفسيره "الجامع لأحكام القرآن" (1/ 30، ط. دار عالم الكتب): [ومن حرمته: أن يفتتحه كلما ختمه؛ حتى لا يكون كهيئة المهجور، ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا ختم يقرأ من أول القرآن قدر خمس آيات؛ لئلا يكون في هيئة المهجور، وروى ابن عباس رضي الله عنهما قال: «جَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: عَلَيْكَ بِالْحَالِّ الْمُرْتَحِلِ، قَالَ: وَمَا الْحَالُّ الْمُرْتَحِلُ؟ قَالَ: صَاحِبُ الْقُرْآنِ؛ يَضْرِبُ مِنْ أَوَّلِهِ حَتَّى يَبْلُغَ آخِرَهُ، ثُمَّ يَضْرِبُ فِي أَوَّلِهِ؛ كُلَّمَا حَلَّ ارْتَحَلَ»] اهـ.
وقال الإمام ابن الجزري في "النشر" (2/ 411): [قال الحافظ أبو عمرو الداني في كتابه "جامع البيان": كان ابن كثير من طريق القواس والبزي وغيرهما يكبر في الصلاة والعرض من آخر سورة ﴿وَالضُّحَى﴾ مع فراغه من كل سورة إلى آخر ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ﴾، فإذا كبر في (الناس) قرأ فاتحة الكتاب وخمس آيات من أول سورة البقرة على عدد الكوفيين إلى قوله: ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾، ثم دعا بدعاء الختمة، قال: وهذا يُسَمَّى (الحال المرتحل)، وله في فعله هذا دلائل مستفيضة؛ جاءت من آثار مروية ورد التوقيف بها عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأخبار مشهورة مستفيضة جاءت عن الصحابة والتابعين والخالفين] اهـ.
ثم قال ابن الجزري (2/ 444): [وصار العمل على هذا في أمصار المسلمين؛ في قراءة ابن كثير وغيرها، وقراءة العرض وغيرها، حتى لا يكاد أحد يختم إلا ويشرع في الأخرى؛ سواء ختم ما شرع فيه أو لم يختمه، نوى ختمها أو لم ينوه، بل جعل ذلك عندهم من سنة الختم، ويسمون من يفعل هذا (الحال المرتحل)؛ أي الذي حل في قراءته آخر الختمة وارتحل إلى ختمة أخرى] اهـ.
وعند الحنابلة: يستحب للقارئ إذا فرغ من الختمة أن يشرع في أخرى، لكنهم نقلوا عن الإمام أحمد المنع من قراءة الفاتحة وأول البقرة، مع نصهم على أن القارئ إن فعل ذلك فلا بأس:
قال الشيخ الرحيباني الحنبلي في "مطالب أولي النهى" (1/ 605): [ويستحب إذا فرغ من الختمة أن يشرع في أخرى؛ لحديث أنس رضي الله عنه: «خَيْرُ الْأَعْمَالِ: الْحِلُّ وَالرِّحْلَةُ»، قيل وما هما؟ قال: «افْتِتَاحُ الْقُرْآنِ وَخَتْمُهُ».. (ولا يقرأ الفاتحة وخمسا) أي: خمس آيات (من) أول (البقرة عقب الختم نصًّا)؛ لأنه لم يبلغه فيه أثر صحيح، (فإن فعل) ذلك (فلا بأس)، لكن تركه أولى] اهـ.
وقال الإمام ابن الجزري في "النشر" (2/ 449-450): [لا نقول إن ذلك لازم لكل قارئ، بل نقول كما قال أئمتنا فارس بن أحمد وغيره: من فعله فحسن، ومن لم يفعله فلا حرج عليه] اهـ.
وقد ذكر الإمام موفق الدين أبو محمد عبد الله بن قدامة المقدسي الحنبلي رحمه الله في كتابه "المغني" (2/ 126) أن أبا طالب صاحب الإمام أحمد قال: [سألت أحمد: إذا قرأ ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ﴾ يقرأ من البقرة شيئًا؟ قال: لا. فلم يستحب أن يصل ختمة بقراءة شيء. انتهى. فحمله الشيخ موفق الدين على عدم الاستحباب وقال: لعله لم يثبت عنده فيه أثر صحيح يصير إليه. انتهى.
وفيه نظر؛ إذ يحتمل أن يكون فهم من السائل أن ذلك لازم، فقال: لا، ويحتمل أنه أراد قبل أن يدعو؛ ففي كتاب "الفروع" للإمام الفقيه شمس الدين محمد بن مفلح الحنبلي: ولا يقرأ الفاتحة وخمسًا من البقرة، نص عليه، قال الآمدي: يعني قبل الدعاء، وقيل: يُستَحَبُّ. فحمل نص أحمد بقوله (لا) على أن يكون قبل الدعاء، بل ينبغي أن يكون دعاؤه عقيب قراءة سورة الناس كما سيأتي نص أحمد رحمه الله، وذكر قولًا آخر له بالاستحباب. والله أعلم] اهـ.
وقال العلّامة إسماعيل حقي البروسوي في "روح البيان" (10/ 425، ط. دار إحياء التراث العربي): [رُويَ عن ابن كثير رحمه الله أنه كان إذا انتهى في آخر الختمة إلى ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ﴾ قرأ سورة ﴿الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ وخمس آيات من أول سورة البقرة على عدد الكوفي، وهو إلى: ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾؛ لأن هذا يُسَمَّى (الحالَّ المُرْتَحِلَ)، ومعناه: أنه حل في قراءته آخر الختمة وارتحل إلى ختمة أخرى؛ إرغامًا للشيطان، وصار العمل على هذا في أمصار المسلمين، في قراءة ابن كثير وغيرها، وورد النص عن الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله أن من قرأ سورة الناس يدعو عقب ذلك؛ فلم يَسْتَحِبَّ أن يصل ختمه بقراءة شيء، ورُوِيَ عنه قولٌ آخرُ بالاستحباب] اهـ.
وعليه: فقراءة الفاتحة وأول البقرة في آخر الختمة من الأمور المستحبة شرعًا، ولا مانع من قراءة آية الكرسي وخواتيم البقرة بعد ذلك؛ فإن آية الكرسي هي أعظم آية في القرآن، وخواتيم البقرة فيها الثناء على النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين بكمال الإيمان، وانقياد المؤمنين وطاعتهم لربهم ودعاؤهم بالتخفيف ورفع الحرج وعدم المؤاخذة وطلب العفو والمغفرة والرحمة والنصر، وفي ذلك تيمن بالقبول واستجابة الدعاء بعد القراءة؛ حيث قال الله تعالى: قد فعلتُ.
وأما الذكر بأسماء الله الحسنى ثم الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم الدعاء: فكل ذلك داخل في مشروعية الدعاء عند ختم القرآن الكريم، وهو سُنّة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقد فعلها الصحابة والتابعون، ونص الفقهاء على مشروعيتها؛ جاء في "الفتاوى الهندية" (5/ 317، ط. دار الفكر): [ويستحب له أن يجمع أهله وولده عند الختم ويدعو لهم, كذا في "الينابيع"] اهـ.
قال الإمام النووي الشافعي في "الأذكار" (ص: 104-105، ط. دار الفكر): [روى ابن أبي داود بإسنادين صحيحين عن قتادة التابعي الجليل الإمام صاحب أنس رضي الله عنه قال: "كان أنس بن مالك رضي الله عنه إذا ختم القرآن جمع أهله ودعا".
وروى بأسانيد صحيحة عن الحكم بن عُتَيْبَة قال: أرسل إليّ مجاهد وعبدة بن أبي لبابة فقالا: "إنا أرسلنا إليك لأنا أردنا أن نختم القرآن، والدعاء مستجاب عند ختم القرآن"، وفي بعض رواياته الصحيحة: أنه كان يقال: إن الرحمة تنزل عند خاتمة القرآن.
وروى بإسناده الصحيح عن مجاهد قال: كانوا يجتمعون عند ختم القرآن يقولون: إن الرحمة تنزل عند ختم القرآن.
ويستحب الدعاء عقب الختمة استحبابًا متأكدًا شديدًا؛ لما قدمناه... وينبغي أن يُلِحَّ في الدعاء، وأن يدعو بالأمور المهمة والكلمات الجامعة، وأن يكون معظم ذلك أو كله في أمور الآخرة وأمور المسلمين وصلاح سلطانهم وسائر ولاة أمورهم، وفي توفيقهم للطاعات، وعصمتهم من المخالفات، وتعاونهم على البر والتقوى، وقيامهم بالحق واجتماعهم عليه، وظهورهم على أعداء الدين وسائر المخالفين... وإذا فرغ من الختمة فالمستحب أن يشرع في أخرى متصلًا بالختم؛ فقد استحبه السلف] اهـ.
وقال الإمام الحافظ جلال الدين السيوطي الشافعي في "الإتقان" (2/ 713-714): [يُسَنُّ الدعاءُ عقب الختم؛ لحديث الطبراني وغيره عن العرباض بن سارية مرفوعًا: «مَنْ خَتَمَ الْقُرْآنَ فَلَهُ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ»، وفي "الشعب" من حديث أنس مرفوعًا: «مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ وَحَمِدَ الرَّبَّ وَصَلَّى عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ وَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ: فَقَدْ طَلَبَ الْخَيْرَ مَكَانَهُ»] اهـ.
وعند الحنابلة: أن الدعاء بعد الختم مستحب، بل نص الإمام أحمد على استحبابه في الصلاة:
وعقد العلّامة ابن القيِّم الحنبلي فصلًا ماتعًا في كتابه "جلاء الأفهام في فضل الصلاة والسلام على محمد خير الأنام" لبيان أن ختم القرآن من مواطن الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما أنه من مواطن الدعاء؛ فقال (ص: 402-403، ط. دار العروبة): [الموطن السابع عشر من مواطن الصلاة عليه: عقب ختم القرآن؛ وهذا لأن المحل محل دعاء، وقد نص الإمام أحمد رحمه الله تعالى على الدعاء عَقِيبَ الختمة؛ فقال في رواية أبي الحارث: كان أنس إذا ختم القرآن جمع أهله ولده، وقال في رواية يوسف بن موسى وقد سُئِلَ عن الرجل يختم القرآن فيجتمع إليه قوم فيدعون، قال: نعم؛ رأيتُ معمرًا يفعله إذا ختم، وقال في رواية حرب: أَسْتَحِبُّ إذا ختم الرجلُ القرآنَ أن يجمع أهله ويدعو... ونص أحمد رحمه الله تعالى على استحباب ذلك في صلاة التراويح؛ قال حنبل: سمعت أحمد يقول في ختم القرآن: إذا فرغتَ من قراءتك ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ﴾ فارفع يديك في الدعاء قبل الركوع، قلت: إلى أي شيء تذهب في هذا؟ قال: رأيتُ أهلَ مكة يفعلونه، وكان سفيان بن عيينة يفعله معهم بمكة. قال عباس بن عبد العظيم: وكذلك أدركتُ الناس بالبصرة وبمكة، ويَروِي أهلُ المدينة في هذا أشياء، وذُكِرَ عن عثمان بن عفان رضي الله عنه، وقال الفضل بن زياد: سألت أبا عبد الله: أختم القرآن: أجعله في التراويح أو في الوتر؟ قال: اجعله في التراويح؛ حتى يكون لنا دعاء بين اثنين، قلت: كيف أصنع؟ قال: إذا فرغت من آخر القرآن فارفع يديك قبل أن تركع، وادع بنا ونحن في الصلاة، وأَطِلِ القيام، قلت: بِمَ أدعو؟ قال: بما شئتَ، قال: ففعلتُ كما أَمرَني وهو خلفي يدعو قائمًا ويرفع يديه. وإذا كان هذا من آكد مواطن الدعاء وأَحَقِّها بالإجابة فهو مِن آكد مواطن الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم] اهـ.
وأما الدعاء بأسماء الله الحسنى فهو مشروع بنص قوله تعالى: ﴿وَللهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا﴾ [الأعراف: 180]، وقوله سبحانه: ﴿قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى﴾ [الإسراء: 110]، والأمر المطلق بالدعاء يقتضي عموم الأزمنة والأمكنة والأشخاص والأحوال، فلا يجوز تخصيصه أو تقييده بحال دون حال إلا بدليل، وإلا كان ابتداعًا بتضييق ما وسعه الله سبحانه وتعالى.
وعليه: فالدعاء بالأسماء الحسنى والصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع الدعاء بما تيسر هو من الأمور المستحبة المشروعة التي عليها عمل المسلمين، والطعن على ذلك بالبدعة طعن على علماء الأمة بالجهل والضلالة، فعلى المسلم أن يتقي الله تعالى فيما يقول، وأن يحذر من القول على الله تعالى بغير علم، وأن يكون عالمًا بما يأمر به وينهى عنه، وأن يكون مدركًا لمآلات الأحكام قبل أن يفتي.
والله سبحانه وتعالى أعلم.
هذا الذي عليه عمل الناس في هيئة ختم القرآن الكريم جائزٌ شرعًا؛ لأن منه ما هو مشروع بخصوصه، ومنه ما هو داخل في عمومات الأدلة من الكتاب أو السنة وجرى عليه عمل السلف من غير نكير، وإنما القراءة سُنّةٌ مُتَّبَعَةٌ يأخذها الخلف عن السلف، ولا يجوز رميُ المسلمين ببدعة الضلالة في شيء من ذلك، وتفصيل ذلك على النحو الآتي:
أما التكبير من سورة الضحى: فهو سنة متبعةٌ ثابتةٌ عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والصحابة والتابعين فمن بعدهم، وهي قراءة أهل مكة التي اشتهر بها ابن كثير رحمه الله تعالى، وذلك عند ختم القرآن الكريم؛ في الصلاة وخارجها، ووردت أيضًا عن بقية القُرّاء، مع إجماعهم على أن هذا التكبير ليس قرآنًا، وإنما هو ذكر مشروع بين سُوَرِ الختم لتعظيم الله تعالى.
قال شيخ القُرّاء في زمنه الإمام شمس الدين محمد بن محمد بن محمد بن الجزري في كتاب "النشر في القراءات العشر" (2/ 410-411، ط. المطبعة التجارية الكبرى): [اعلم أن التكبير صح عند أهل مكة: قُرّائهم، وعلمائهم، وأئمتهم، ومن روى عنهم- صِحّةً استفاضت واشتهرت وذاعت وانتشرت، حتى بلغت حد التواتر، وصحت أيضًا عن أبي عمرو من رواية السوسي، وعن أبي جعفر من رواية العمري، ووردت أيضًا عن سائر القُرّاء، وبه كان يأخذ ابن حبش وأبو الحسين الخبازي عن الجميع، وحكى ذلك الإمام أبو الفضل الرازي وأبو القاسم الهذلي والحافظ أبو العلاء.
وقد صار على هذا العمل عند أهل الأمصار في سائر الأقطار عند ختمهم في المحافل واجتماعهم في المجالس لدى الأماثل، وكثير منهم يقوم به في صلاة رمضان ولا يتركه عند الختم على أي حال كان اهـ. وقال مَكِّيٌّ بن أبي طالب: وروي أن أهل مكة كانوا يكبرون في آخر كل ختمة من خاتمة وَالضُّحى لكل القُرّاء؛ لابن كثير وغيره، سنةً نقلوها عن شيوخهم. اهـ. وقال الأهوازي: والتكبير عند أهل مكة في آخر القرآن سنة مأثورة يستعملونه في قراءتهم في الدروس والصلاة. انتهى. وكان بعضهم يأخذ به في جميع سور القرآن اهـ.
قال الحافظ أبو عمرو الداني في كتابه "جامع البيان": كان ابن كثير من طريق القواس والبزي وغيرهما يكبر في الصلاة والعرض من آخر سورة (والضحى) مع فراغه من كل سورة إلى آخر: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ﴾، فإذا كبر في (الناس) قرأ فاتحة الكتاب وخمس آيات من أول سورة البقرة على عدد الكوفيين إلى قوله: ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾، ثم دعا بدعاء الختمة، قال: وهذا يُسَمَّى الحَالَّ المُرْتَحِل، وله في فعله هذا دلائل مستفيضة جاءت من آثار مَرْوِيَّةٍ ورد التوقيفُ بها عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأخبار مشهورة مستفيضة جاءت عن الصحابة والتابعين والخالفين.
وقال أبو الطيب عبد المنعم بن غلبون: وهذه سنة مأثورة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وعن الصحابة والتابعين، وهي سنة بمكة لا يتركونها البتة، ولا يعتبرون رواية البزي وغيره.
وقال أبو الفتح فارس بن أحمد: لا نقول إنه لا بد لمن ختم أن يفعله، لكن من فعله فحسن، ومن لم يفعله فلا حرج عليه، وهو سنة مأثورة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وعن الصحابة والتابعين] اهـ.
وقال في أرجوزته الشهيرة "طَيِّبَةِ النَّشْر":
وسُـــــــنّةُ التكبير عند الختْـــــــــمِ صحَّتْ عن المَكِّينَ أهلِ العلم
في كل حــــالٍ ولدى الصـــــلاةِ سُلْسِــــــــــلَ عن أئمـــــةٍ ثِقَـــــــــــــــاتِ
من أول انشراحٍ أَوْ من الضحى مِن آخرٍ أو أولٍ قد صُحِّحــــا
للناس هكــــذا وقبـــلُ إن تُـــــــــرِدْ هَلِّلْ، وبعضٌ بعــــــــدَ لله حَمِــــــــدْ
ثم اقرأ الحمــــدَ وخمسَ البقره إن شئت حِــلًّا وارتحـــالًا ذَكَره
وقال الحافظ جلال الدين السيوطي في "الإتقان في علوم القرآن" (2/ 708-711، ط. مجمع الملك فهد): [يُستَحَبُّ التكبير من الضحى إلى آخر القرآن، وهي قراءة المكيين. أخرج البيهقي في "الشعب" وابن خزيمة من طريق ابن أبي بزة: سمعت عكرمة بن سليمان قال: قرأت على إسماعيل بن عبد الله المكي، فلما بلغت الضحى قال: كبر حتى تختم، فإني قرأت على عبد الله بن كثير فأمرني بذلك، وقال: قرأت على محمد فأمرني بذلك. وأخبر مجاهد أنه قرأ على ابن عباس رضي الله عنهما فأمره بذلك. وأخبر ابن عباس أنه قرأ على أبيّ بن كعب رضي الله عنه فأمره بذلك، كذا أخرجناه موقوفًا. ثم أخرجه البيهقي من وجه آخر عن ابن أبي بزة مرفوعًا. وأخرجه من هذا الوجه -أعني المرفوع- الحاكمُ في "مستدركه" وصححه، وله طرق كثيرة عن البزي.
وعن موسى بن هارون قال: قال لي البزي: قال لي محمد بن إدريس الشافعي: إن تركت التكبير فقدت سنة من سنن نبيك. قال الحافظ عماد الدين بن كثير: وهذا يقتضي تصحيحه للحديث.
وروى أبو العلاء الهمذاني عن البزي أن الأصل في ذلك أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم انقطع عنه الوحي فقال المشركون: قلا محمدًا ربُّه، فنزلت سورة الضحى، فكبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم. قال ابن كثير: ولم يرد ذلك بإسناد يحكم عليه بصحة ولا ضعف. وقال الحليمي: نكتة التكبير التشبيه للقراءة بصوم رمضان إذا أكمل عدته يكبر، فكذا هنا يكبر إذا أكمل عدة السورة] اهـ.
وهذا هو المعتمد عند الشافعية والحنابلة وغيرهم من الفقهاء:
ففي "الفتاوى الحديثية الكبرى" للعلّامة ابن حجر الهيتمي شيخ الشافعية في زمنه (ص: 224-225، ط. مصطفى الحلبي): [وسئل -نفع الله بعلومه وأمدنا بمدده-: هل ورد حديث صحيح في مشروعية التكبير في أواخر قصار المفصل؟ فإن قلتم: نعم فهل هو خاص في حق غير المصلي؟ فإن قلتم: نعم فهل نقل ندبه في حق المصلي عن أحد من الأئمة؟ فإن قلتم بسنيته فما ابتداؤه وانتهاؤه، وهل يندب معه زيادة (لا إله إلا الله) كما هو المعمول؟
فأجاب -نفع الله به وأعاد علينا وعلى المسلمين من بركاته- بقوله:
حديث التكبير ورد من طرق كثيرة عن أحمد بن محمد بن أبي بزة البزي قال: سمعت عكرمة بن سليمان يقول: قرأت على إسماعيل بن عبد الله بن قسطنطين فلما بلغت: ﴿وَالضُّحَى﴾ قال لي: كبر عند خاتمة كل سورة حتى تختم، وأخبره أنه قرأ على مجاهد فأمره بذلك، وأخبره مجاهد أن ابن عباس رضي الله عنهما أمره بذلك، وأخبره ابن عباس بأن أبي بن كعب رضي الله عنه أمره بذلك، وأخبر أبي بن كعب بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمره بذلك، وقد أخرجه الحاكم أبو عبد الله في "صحيحه المستدرك" عن البزي، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجه البخاري ولا مسلم، انتهي.
وقد يعارضه تضعيف أبي حاتم والعقيلي للبزي. ويجاب بأن هذا التضعيف غير مقبول، فقد رواه عن البزي الأئمة الثقات، وكفاه فخرًا وتوثيقًا قول إمامنا الشافعي رضي الله عنه: إن تركت التكبير تركت سنة، وفي رواية: يا أبا الحسن والله لئن تركت التكبير فقد تركت سنة من سنن نبيك، وقال الحافظ العماد ابن كثير: وهذا من الشافعي يقتضي تصحيحه لهذا الحديث. ومما يقتضي صحته أيضًا أن أحمد بن حنبل رواه عن أبي بكر الأعين عن البزي. وكان أحمد يجتنب المنكرات فلو كان منكرًا ما رواه.
وقد صح عند أهل مكة فقهائهم وعلمائهم ومن روى عنهم، وصحته استفاضت وانتشرت حتى بلغت حد التواتر، وصحت أيضًا عن أبي عمرو من رواية السوسي، ووردت أيضًا عن سائر القراء، وصار عليه العمل عند أهل الأمصار في سائر الأعصار.
واختلفوا في ابتدائه؛ فقيل: من أول سورة الضحى، والجمهور على أنه من أول سورة ألم نشرح، وفي انتهائه؛ فجمهور المغاربة والمشارقة وغيرهم على أنه إلى آخر الناس، وجمهور المشارقة على أنه أولها ولا يكبر آخرها، والوجهان مبنيان على أنه هل هو لأول السورة أو لآخرها؟ وفي ذلك خلاف طويل بين القراء، والراجح منه الظاهر من النصوص أنه من آخر الضحى إلى آخر الناس.
ولا فرق في ندب التكبير بين المصلي وغيره، فقد نقل أبو الحسن السخاوي بسنده عن أبي يزيد القشري قال: صلَّيت بالناس خلف المقام بالمسجد الحرام في التراويح في شهر رمضان، فلما كانت ليلة الجمعة كبرت من خاتمة الضحى إلى آخر القرآن في الصلاة، فلما سلمت التفت فإذا بأبي عبد الله محمد بن إدريس الشافعي رضي الله عنه فقال: أحسنت أصبت السنة.
ورواه الحافظ أبو عمرو الداني عن ابن جريج عن مجاهد رضي الله عنه. قال ابن جريج: فأولى أن يفعله الرجل إمامًا كان أو غير إمام، وأمر ابن جريج غير واحد من الأئمة بفعله.
ونقل سفيان بن عيينة، عن صدقة بن عبد الله بن كثير أنه كان يؤم الناس من أكثر من سبعين سنة، وكان إذا ختم القرآن كبر.
فثبت بما ذكرناه عن الشافعي رضي الله عنه وبعض مشايخه وغيرهم أنه سنة في الصلاة.
ومن ثم جرى عليه من أئمتنا المتأخرين الإمام المجتهد أبو شامة رحمه الله، ولقد بالغ التاج الفزاري في الثناء عليه حتى قال: عجبت له كيف قلد الشافعي رحمه الله، والإمامان أبو الحسن السخاوي، وأبو إسحاق الجعبري.
وممن أفتى به وعمل في التراويح شيخ الشافعية في عصره أبو الثناء محمود بن محمد بن جملة الإمام والخطيب بالجامع الأموي بدمشق.
قال الإمام الحافظ المتقن شيخ القراء في عصره أبو الخير محمد بن محمد الجزري الشافعي: ورأيت أن غير واحد من شيوخنا يعمل به ويأمر من يعمل به في صلاة التراويح وفي الإحياء في ليالي رمضان، حتى كان بعضهم إذا وصل في الإحياء إلى الضحى قام بما بقي من القرآن في ركعة واحدة يكبر في كل سورة، فإذا انتهى إلى: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ﴾ [الناس: 1] كبر في آخرها، ثم يكبر للركوع، وإذا قام في الركعة الثانية قرأ الفاتحة وما تيسر من سورة البقرة، وفعلت أنا كذلك مرات لما كنت أقوم بالإحياء إمامًا بدمشق ومصر.انتهى.
ثم إن قلنا: التكبير لآخر السورة كان بين آخرها وبين الركوع، وإن قلنا لأولها كان بين تكبير القيام والبسملة أول السورة، ووقع لبعض الشافعية من المتأخرين الإنكار على من كبر في الصلاة فرد ذلك عليه غير واحد، وشنعوا عليه في هذا الإنكار.
قال ابن الجوزي: ولم أر للحنفية ولا للمالكية نقلًا بعد التتبع، وأما الحنابلة ففي فروعهم لابن مفلح: وهل يكبر لختمه من الضحى أو ألم نشرح آخر كل سورة فيه روايتان، ولم يستحبه الحنابلة القراء غير ابن كثير، وقيل: ويهلل، انتهى.
وأما صيغته فلم يختلف مثبتوه أنها: الله أكبر، وهي التي رواها الجمهور عن البزي، وروى عنه آخرون التهليل قبلها، فتصير: لا إله إلا الله، والله أكبر، وهي ثابتة عند البزي فلتعمل، ومن ثم قال شيخ الإسلام عبد الرحمن الرازي الشافعي رحمه الله في وسطه في العشر: وقد رأيت المشايخ يؤثرون ذلك في الصلاة فرقا بينها وبين تكبير الركوع، ونقل عن البزي أيضًا زيادة: ولله الحمد بعد أكبر، وروى جمع عن قنبل، وروى عنه آخرون التهليل أيضًا وقطع به غير واحد. قال الداني: الوجهان -يعني: التهليل مع التكبير، والتكبير وحده- عن البزي وقنبل صحيحان مشهوران مستعملان جيدان. والله سبحانه وتعالى أعلم] اهـ.
وعند الحنابلة يستحب أصل التكبير في الختم، ومنهم من استحب معه التهليل أيضًا:
قال العلّامة ابن مفلح في "الآداب الشرعية" (2/ 295-296، ط. مؤسسة الرسالة): [واستحب أحمد التكبير من أول سورة الضحى إلى أن يختم. ذكره ابن تميم وغيره، وهو قراءة أهل مكة أخذها البزي عن ابن كثير وأخذها ابن كثير عن مجاهد وأخذها مجاهد عن ابن عباس وأخذها ابن عباس عن أبي بن كعب وأخذها أبي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. روى ذلك جماعة منهم: البغوي في "تفسيره"، والسبب في ذلك انقطاع الوحي، وهذا حديث غريب؛ رواية أحمد بن محمد بن عبد الله البزي، وهو ثبت في القراءة ضعيف في الحديث، وقال أبو حاتم الرازي: هذا حديث منكر.
وقال أبو البركات: يستحب ذلك من سورة: ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ﴾ وقال في الشرح: استحسن أبو عبد الله التكبير عند آخر كل سورة ومن الضحى إلى أن يختم؛ لأنه روي عن أبي بن كعب أنه قرأ على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأمره بذلك رواه القاضي. وعن البزي أيضًا مثل هذا، وعن قنبل هكذا والذي قبله، وعنه أيضًا: لا تكبير كما هو قول سائر القراء. وقال الماوردي: كان ابن عباس يفصل بين كل سورتين بالتكبير ومن الضحى وهو راوي قراء مكة. وقال الآمدي: يهلل ويكبر وهو قول عن البزي، وسائر القراء على خلافه] اهـ.
وقد نص أهل الأداء على أنه يجوز لمن يقرأ بقراءة حفص أن يَسبِقَ التكبيرَ بالتهليل ويُتْبِعَه بالتحميد، وشنعوا على من أنكر ذلك، ولا شك أن قولهم في ذلك هو المقدم على قول غيرهم:
قال الشيخ عبد الفتاح السيد عجمي المرصفي في كتابه "هداية القاري إلى تجويد كلام الباري" (2/ 586-587، ط. مكتبة طيبة): [ولا التفات إلى من أنكر التهليل والتحميد مع التكبير عند سُوَر الختم في رواية حفص؛ فقد أجازه له غير واحد من الثقات، بل أجازه لكل القُرّاء العشرة في هذا المكان؛ لأنه محلّ إطناب وتلذذ بذكر الله تعالى، وقد شنّع صاحب "عمدة الخلان شرح زبدة العرفان" على من أنكر ذلك، وعبارته: "وكذا لا يُمنَع القارئُ من التهليل والتحميد من آخر الضحى إلى آخر الناس في قراءة أحد من الأئمة إذا كان بنية التشكر والتعظيم والتبرك، فلا عبرة برأي بعض المتعصبين من حيث يُجَوِّزُون التكبير فقط لحفص عند الختم بين كل سورتين وأواخرها من لدن سورة الضحى إلى سورة الناس، وينكر أخذ التهليل والتحميد فيها، ويزعمون أن أخذ التهليل والتحميد لحفص ولغيره سوى البزي من أشراط الساعة، وإلى الله المشتكى من هذه الخصلة ذات الشناعة" اهـ منه بلفظه] اهـ.
وعلى ذلك: فالتكبير عند الختم سنة متبعة صحيحة نص عليها أهل القراءة المعتبرون فيها، والقراءة سُنّةٌ مُتَّبَعَةٌ يتلقاها الخلف عن السلف، ولا عبرة بقولِ مَن أنكرها؛ فإنما يُؤخَذُ كلُّ فنٍّ وعلمٍ من أهله المشتغلين به لا من غيرهم.
وأما قراءة سورة الإخلاص ثلاث مرات: فالعلماء متفقون على أن فعل ذلك جائز في أصله؛ عملًا بالخبر الصحيح الوارد في كونها تعدل ثُلُثَ القرآن، ولكنهم اختلفوا في استحباب تكرارها ثلاثًا عند الختم، مع نصهم على أن تكرارها هو الذي جرت عليه عادة الناس ومضى عليه عملهم، واختلفوا أيضًا هل تكرر إذا كان الختم في الصلاة:
فعند الحنفية في استحسان تكرارها ثلاثًا عند الختم خارج الصلاة قولان، والاستحسان هو قول الأكثر، غير أنهم لم يستحسنوا تكرارها إذا كان الختم في الصلاة المكتوبة:
جاء في "الفتاوى الهندية" (5/ 317، ط. دار الفكر): [قراءة ﴿قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ﴾ ثلاث مرات عَقِيبَ الختم لم يستحسنها بعض المشايخ، واستحسنها أكثر المشايخ لجبر نقصان دخل في قراءة البعض، إلّا أن يكون ختم القرآن في الصلاة المكتوبة فلا يزيد على مرة واحدة؛ كذا في "الغرائب"، ولا بأس باجتماعهم على قراءة الإخلاص جهرًا عند ختم القرآن، ولو قرأ واحد واستمع الباقون فهو أولى؛ كذا في "القنية"] اهـ.
وفي "فتاوى قاضي خان" (1/ 164، ط. المطبعة الأميرية ببولاق، بهامش الفتاوى الهندية): [وقراءة سورة الإخلاص ثلاث مرات عند ختم القرآن يستحسنه مشايخ العراق رحمهم الله تعالى، إلا أن يكون الختم في المكتوبة فلا يكرر سورة الإخلاص] اهـ.
وقال العلّامة الكمال بن الهمام في "شرح فتح القدير" (1/ 343، ط. دار الفكر): [وقراءتها ثلاثا عند الختم خارج الصلاة اختلف المشايخ في استحبابه، واستحسنه مشايخ العراق، وفي المكتوبة لا يزيد على مرة] اهـ.
والشافعية يستحسنون تكرارها عند الختم:
قال الإمام التاج السبكي في "طبقات الشافعية الكبرى" (10/ 285-286، ط. هجر): [حضرت الوالد رحمه الله -يعني الإمام تقي الدين السبكي شيخ الشافعية في زمنه- مرة في ختمة وقد وصل القُرّاء إلى سورة الإخلاص؛ فقرؤوها ثلاث مرات على العادة، وكان على يمينه قاضي القضاة عماد الدين علي بن أحمد الطرسوسي الحنفي، فالتفت إلى الشيخ الإمام وقال: في خاطري دائما أن أسأل عن الحكمة في إطباق الناس على تكريرها ثلاثًا.
فقال له الشيخ الإمام: لأنه قد ورد أنها تعدل ثلث القرآن فتحصل بذلك ختمة.
فقال القاضي عماد الدين: فلم لا يقرؤونها ثلاثًا بعد الواحدة التي تضمنتها الختمة ليحصل ختمتان؟
فقال الشيخ الإمام: مقصود الناس تحقيق ختمة واحدة؛ فإن القارئ إذا وصل إليها فقرأها ثم أعادها مرتين كان على يقين من حصول ختمة: إما التي قرأها من الفاتحة إلى آخر القرآن، وإمّا ثوابها بقراءة الإخلاص ثلاثًا. وليس المقصود ختمة أخرى. وهذا معنى مليح] اهـ.
وقال الإمام الزركشي في "البرهان في علوم القرآن" (1/ 473-474، ط. دار إحياء الكتب العربية): [مما جرت به العادة من تكرير سورة الإخلاص عند الختم نص الإمام أحمد على المنع، ولكن عمل الناس على خلافه] اهـ.
ونحوه للعلامة ابن حجر الهيتمي في "الفتاوى الحديثية" (ص: 233، ط. مصطفى الحلبي).
والمعتمد عند الشافعية أن تكرار سورة الإخلاص عند الختم في الصلاة خلافُ الأَوْلى فقط، وليس سُنّةً ولا مكروهًا؛ لأنه لم يَرِدْ فيه نهي مخصوص:
جاء في "الفتاوى الفقهية الكبرى" للعلامة ابن حجر الهيتمي (1/ 184، ط. دار الفكر): [وسئل نفع الله تعالى به عن تكرير سورة الإخلاص في التراويح: هل يُسَنُّ؟ وإذا قلتم "لا" فهل يُكْرَه أم لا؟ وقد رأيت في "المعلمات" لابن شهبة: أن تكرير سورة الإخلاص في التراويح ثلاثًا كرهها بعض السلف، قال: لمخالفتها المعهود عمن تقدم؛ ولأنها في المصحف مرة فلتكن في التلاوة مرة اهـ فهل كلامه مقرَّرٌ معتمد أم لا؟ بينوا ذلك وأوضحوه لا عدمكم المسلمون.
فأجاب فسح الله في مدته بقوله: تكرير قراءة سورة الإخلاص أو غيرها في ركعة أو كل ركعة من التراويح ليس بسنة ولا يقال مكروه على قواعدنا لأنه لم يرد فيه نهي مخصوص] اهـ.
قال العلامة أبو بكر شطا الدمياطي في "حاشية إعانة الطالبين" (1/ 307، ط. دار الفكر) تعقيبًا على فتوى العلامة ابن حجر: [الذي فيها أن قراءة القرآن في جميع الشهر أولى وأفضل، وأن تكرير سورة الإخلاص أو غيرها في ركعةٍ ما خلافُ الأَوْلى فقط، وليس بسنة ولا بمكروه] اهـ.
وعند الحنابلة رأيان:
فنقلوا عن الإمام أحمد المنع من ذلك، ولكن المذكور في كتبهم أنه إن فُعِل فلا بأس به؛ حملًا للمنع على عدم الاستحباب، أو على أن المقصود به تكرارها داخل الصلاة:
قال العلّامة ابن مفلح في "الآداب الشرعية" (2/ 296): [وإذا قرأ سورة الإخلاص مع غيرها قرأها مرة واحدة ولا يكرر ثلاثًا؛ نص عليه، وقال ابن تميم: منع أحمد القارئ من تكرار سورة الإخلاص ثلاثًا إذا وصل إليها] اهـ.
وقال الشيخ الرحيباني الحنبلي في "مطالب أولي النهى في شرح المنتهى" (1/ 605، ط. المكتب الإسلامي): [(ولا يكرر سورة الصمد..)؛ لأنه لم يبلغه فيه أثر صحيح، (فإن فعل) ذلك (فلا بأس)، لكن تركه أولى] اهـ.
غير أن مِن محققي الحنابلة مَن استحب تكرارها على كل حال؛ في الختم وغيره، وحكى الخلاف في تكرارها في الصلاة:
قال العلّامة نجم الدين الطوفي الحنبلي في رسالته "إيضاح البيان عن معنى أم القرآن" (مطبوعة بتحقيق: علي حسين البواب، ضمن "مجلة البحوث الإسلامية" الصادرة عن الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء بالسعودية، عدد: 36، ص: 356): [ينبَغي لِمَن تَلا هذه السُّوَر الثلاثَ (يعني: الزلزلة، والإخلاص، والكافرون) مُنفرِدَةً، أو في جُملةِ القُرآنِ، بادِئًا مِن أوَّلِه، أو مِن آخره، في غيرِ الصَّلاة: أنْ يُكَرّرَ سُورَةَ "الزلزلة" مَرّتين، وسُورَةَ "الإخلاصِ" ثلاثًا، وسُورَةَ "الكافرونَ" أربَعًا؛ لِيستَكمِل بِذلكَ ثَلاثَ خَتَماتٍ. أما في الصلاة ففي تكرار السورة خلاف مشهور، وتفصيل بين الفرض والنفل] اهـ.
والتحقيق أن النهي عن التكرار محمول على نفي كونه مِن سُنّة القراءة المُتَّبَعة التي تُؤخَذ بالتلقي عن السلف؛ وخشية أن يُظَنَّ أنها كذلك في المصحف؛ فهو من الفقه الذرائعي الذي يزول بزوال سببه ولا يُتَوَسَّع فيه، وقد بين أهل القراءة والأداء أن تكرار سورة الإخلاص ليس من سُنّة التلقي وعرض القراءة، وأنه شيء لم يُقرَأْ به في أسانيد الرواية في القراءة:
يقول الإمام ابن الجزري في "طيبة النشر في القراءات العشر" (2/ 451): [وأما ما يعتمده بعض القراء من تكرار قراءة: ﴿قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ﴾ عند الختم ثلاث مرات: فهو شيء لم نقرأ به، ولا أعلم أحدًا نص عليه من أصحابنا القراء، ولا الفقهاء سوى أبي الفخر حامد بن علي بن حسنويه القزويني في كتابه "حلية القراءة" فإنه قال فيه ما نصُّه: والقراء كلهم قرؤوا سورة الإخلاص مرة واحدة، غير الهرواني عن الأعشى؛ فإنه أخذ بإعادتها ثلاث دفعات، والمأثور دفعة واحدة. انتهى.
قلت: والهَرَواني هذا هو بفتح الهاء والراء، وهو القاضي أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن الحسين الجعفي الحنفي الكوفي، كان فقيهًا كبيرًا، قال الخطيب البغدادي: كان من عاصره بالكوفة يقول: لم يكن بالكوفة من زمن ابن مسعود إلى وقته أحد أفقه منه. انتهى. وقرأ برواية الأعشى على محمد بن الحسن بن يونس عن قراءته بها على أبي الحسن علي بن الحسن بن عبد الرحمن الكسائي الكوفي صاحب محمد بن غالب صاحب الأعشى، والظاهر أن ذلك كان اختيارًا من الهرواني؛ فإن هذا لم يُعْرَفْ في رواية الأعشى، ولا ذكره أحد من علمائنا عنه، بل الذين قرؤوا برواية الأعشى على الهرواني هذا -كأبي علي البغدادي صاحب "الروضة" وأبي علي غلام الهراس شيخ أبي العز وكالشرمقاني والعطار شيخي ابن سوار وكأبي الفضل الخزاعي- لم يذكر أحد منهم ذلك عن الهرواني، ولو ثبت عندهم روايةً لذكروه بلا شك؛ فلذلك قلنا: إنه يكون اختيارًا منه، والرجل كان فقيهًا عالمًا أهلًا للاختيار، فلعله رأى ذلك.
وصار العمل على هذا في أكثر البلاد عند الختم في غير الروايات. والصواب ما عليه السلف؛ لئلا يُعتَقَدَ أن ذلك سنة، ولهذا نص أئمةُ الحنابلة على أنه لا يكرر سورة الصمد، وقالوا: وعنه -يعنون عن أحمد- لا يجوز. والله الموفق] اهـ.
فالرواية المأخوذة عن أهل الأداء في تلقي القرآن هي عدم تكرار سورة الإخلاص، وإليهم المرجع في معرفة ذلك فلا يُقرَأُ بغيره في التلقي وعرض القراءة؛ لأن الرواية مبناها على التوقيف. وأما تكرارها في الختم فمسألة فقهية تتعلق بفهم الأدلة الشرعية واستنباط الأحكام منها، وبابُ الدراية أوسع من باب الرواية؛ فليس كل ما جاز درايةً صح روايةً.
فإذا قُرِئَ بالتكرار في الختم لا على جهة العرض وتلقي الرواية، وأُمِن مع ذلك مِن إيهام تكرارها في المصحف: فذلك جائز شرعًا ولا حرج فيه. وعليه العمل في أمصار الإسلام.
بل إن تكرار سورة الإخلاص عند الختم كان معروفًا عند السلف، حتى قبل الهرواني والأعشى؛ فقد روى الدينوري في "المجالسة وجواهر العلم" (3/ 374، ط. دار ابن حزم): [حدثنا عبيد بن إبراهيم الحربي؛ قال: سمعت سفيان يقول: صليت ببشر الحافي في شهر رمضان، فلما أردت أن أختم قرأت: ﴿قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ﴾ ثلاث مرات، فقال لي بشر: عمن أخذت هذا؟ قلت: عن شيوخنا بخراسان، قال: إنما هي في المصحف مرة واحدة، وأنزلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مرة واحدة] اهـ.
وسفيان بن عيينة ولد سنة سبع ومائة وتوفي سنة ثمان وتسعين ومائة، وقد نقل تكرار سورة الإخلاص في الختم عن شيوخه بخراسان، وقد قرأ القرآن وهو ابن أربع عشرة سنة -كما في (تاريخ ابن أبي خيثمة، 3/ 267، ط. دار الفاروق)-، وأخذ القراءة عن حميد بن قيس الأعرج المتوفى سنة ثلاثين ومائة، وهذا كله يشير إلى أن ذلك مما جرى عليه العمل قديمًا، وإنما عاب عليه بشر رحمه الله تكرارها في الصلاة؛ بناءً على أنها مفردة في المصحف، ولا يخفى أن نزولها مرة واحدة وعدم تكرارها في كتاب الله لا ينفي استحباب تكرارها في غير الختم، فكذلك عند الختم.
وأما قراءة سورة الفاتحة وأول البقرة بعد الختم: فهو أمر جاء الشرع باستحبابه، وأخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن ذلك أحب الأعمال إلى الله تعالى:
قال الحافظ جلال الدين السيوطي في "الإتقان" (2/ 714-715): [يُسَنُّ إذا فرغ من الختمة أن يشرع في أخرى عقب الختم؛ لحديث الترمذي وغيره: «أَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللهِ الْحَالُّ الْمُرْتَحِلُ؛ الَّذِي يَضْرِبُ مِنْ أَوَّلِ الْقُرْآنِ إِلَى آخِرِهِ كُلَّمَا حَلَّ ارْتَحَلَ»، وأخرج الدانيُّ بسند حسن عن ابن عباس عن أبيّ بن كعب أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا قرأ: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ﴾ افتتح من الحمد، ثم قرأ من البقرة إلى: ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾، ثم دعا بدعاء الختمة، ثم قام] اهـ.
وقد جرى على ذلك عمل الناس، وصح ذلك من قراءة ابن كثير رحمه الله تعالى:
قال الإمام القرطبي في تفسيره "الجامع لأحكام القرآن" (1/ 30، ط. دار عالم الكتب): [ومن حرمته: أن يفتتحه كلما ختمه؛ حتى لا يكون كهيئة المهجور، ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا ختم يقرأ من أول القرآن قدر خمس آيات؛ لئلا يكون في هيئة المهجور، وروى ابن عباس رضي الله عنهما قال: «جَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: عَلَيْكَ بِالْحَالِّ الْمُرْتَحِلِ، قَالَ: وَمَا الْحَالُّ الْمُرْتَحِلُ؟ قَالَ: صَاحِبُ الْقُرْآنِ؛ يَضْرِبُ مِنْ أَوَّلِهِ حَتَّى يَبْلُغَ آخِرَهُ، ثُمَّ يَضْرِبُ فِي أَوَّلِهِ؛ كُلَّمَا حَلَّ ارْتَحَلَ»] اهـ.
وقال الإمام ابن الجزري في "النشر" (2/ 411): [قال الحافظ أبو عمرو الداني في كتابه "جامع البيان": كان ابن كثير من طريق القواس والبزي وغيرهما يكبر في الصلاة والعرض من آخر سورة ﴿وَالضُّحَى﴾ مع فراغه من كل سورة إلى آخر ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ﴾، فإذا كبر في (الناس) قرأ فاتحة الكتاب وخمس آيات من أول سورة البقرة على عدد الكوفيين إلى قوله: ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾، ثم دعا بدعاء الختمة، قال: وهذا يُسَمَّى (الحال المرتحل)، وله في فعله هذا دلائل مستفيضة؛ جاءت من آثار مروية ورد التوقيف بها عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأخبار مشهورة مستفيضة جاءت عن الصحابة والتابعين والخالفين] اهـ.
ثم قال ابن الجزري (2/ 444): [وصار العمل على هذا في أمصار المسلمين؛ في قراءة ابن كثير وغيرها، وقراءة العرض وغيرها، حتى لا يكاد أحد يختم إلا ويشرع في الأخرى؛ سواء ختم ما شرع فيه أو لم يختمه، نوى ختمها أو لم ينوه، بل جعل ذلك عندهم من سنة الختم، ويسمون من يفعل هذا (الحال المرتحل)؛ أي الذي حل في قراءته آخر الختمة وارتحل إلى ختمة أخرى] اهـ.
وعند الحنابلة: يستحب للقارئ إذا فرغ من الختمة أن يشرع في أخرى، لكنهم نقلوا عن الإمام أحمد المنع من قراءة الفاتحة وأول البقرة، مع نصهم على أن القارئ إن فعل ذلك فلا بأس:
قال الشيخ الرحيباني الحنبلي في "مطالب أولي النهى" (1/ 605): [ويستحب إذا فرغ من الختمة أن يشرع في أخرى؛ لحديث أنس رضي الله عنه: «خَيْرُ الْأَعْمَالِ: الْحِلُّ وَالرِّحْلَةُ»، قيل وما هما؟ قال: «افْتِتَاحُ الْقُرْآنِ وَخَتْمُهُ».. (ولا يقرأ الفاتحة وخمسا) أي: خمس آيات (من) أول (البقرة عقب الختم نصًّا)؛ لأنه لم يبلغه فيه أثر صحيح، (فإن فعل) ذلك (فلا بأس)، لكن تركه أولى] اهـ.
وقال الإمام ابن الجزري في "النشر" (2/ 449-450): [لا نقول إن ذلك لازم لكل قارئ، بل نقول كما قال أئمتنا فارس بن أحمد وغيره: من فعله فحسن، ومن لم يفعله فلا حرج عليه] اهـ.
وقد ذكر الإمام موفق الدين أبو محمد عبد الله بن قدامة المقدسي الحنبلي رحمه الله في كتابه "المغني" (2/ 126) أن أبا طالب صاحب الإمام أحمد قال: [سألت أحمد: إذا قرأ ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ﴾ يقرأ من البقرة شيئًا؟ قال: لا. فلم يستحب أن يصل ختمة بقراءة شيء. انتهى. فحمله الشيخ موفق الدين على عدم الاستحباب وقال: لعله لم يثبت عنده فيه أثر صحيح يصير إليه. انتهى.
وفيه نظر؛ إذ يحتمل أن يكون فهم من السائل أن ذلك لازم، فقال: لا، ويحتمل أنه أراد قبل أن يدعو؛ ففي كتاب "الفروع" للإمام الفقيه شمس الدين محمد بن مفلح الحنبلي: ولا يقرأ الفاتحة وخمسًا من البقرة، نص عليه، قال الآمدي: يعني قبل الدعاء، وقيل: يُستَحَبُّ. فحمل نص أحمد بقوله (لا) على أن يكون قبل الدعاء، بل ينبغي أن يكون دعاؤه عقيب قراءة سورة الناس كما سيأتي نص أحمد رحمه الله، وذكر قولًا آخر له بالاستحباب. والله أعلم] اهـ.
وقال العلّامة إسماعيل حقي البروسوي في "روح البيان" (10/ 425، ط. دار إحياء التراث العربي): [رُويَ عن ابن كثير رحمه الله أنه كان إذا انتهى في آخر الختمة إلى ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ﴾ قرأ سورة ﴿الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ وخمس آيات من أول سورة البقرة على عدد الكوفي، وهو إلى: ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾؛ لأن هذا يُسَمَّى (الحالَّ المُرْتَحِلَ)، ومعناه: أنه حل في قراءته آخر الختمة وارتحل إلى ختمة أخرى؛ إرغامًا للشيطان، وصار العمل على هذا في أمصار المسلمين، في قراءة ابن كثير وغيرها، وورد النص عن الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله أن من قرأ سورة الناس يدعو عقب ذلك؛ فلم يَسْتَحِبَّ أن يصل ختمه بقراءة شيء، ورُوِيَ عنه قولٌ آخرُ بالاستحباب] اهـ.
وعليه: فقراءة الفاتحة وأول البقرة في آخر الختمة من الأمور المستحبة شرعًا، ولا مانع من قراءة آية الكرسي وخواتيم البقرة بعد ذلك؛ فإن آية الكرسي هي أعظم آية في القرآن، وخواتيم البقرة فيها الثناء على النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين بكمال الإيمان، وانقياد المؤمنين وطاعتهم لربهم ودعاؤهم بالتخفيف ورفع الحرج وعدم المؤاخذة وطلب العفو والمغفرة والرحمة والنصر، وفي ذلك تيمن بالقبول واستجابة الدعاء بعد القراءة؛ حيث قال الله تعالى: قد فعلتُ.
وأما الذكر بأسماء الله الحسنى ثم الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم الدعاء: فكل ذلك داخل في مشروعية الدعاء عند ختم القرآن الكريم، وهو سُنّة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقد فعلها الصحابة والتابعون، ونص الفقهاء على مشروعيتها؛ جاء في "الفتاوى الهندية" (5/ 317، ط. دار الفكر): [ويستحب له أن يجمع أهله وولده عند الختم ويدعو لهم, كذا في "الينابيع"] اهـ.
قال الإمام النووي الشافعي في "الأذكار" (ص: 104-105، ط. دار الفكر): [روى ابن أبي داود بإسنادين صحيحين عن قتادة التابعي الجليل الإمام صاحب أنس رضي الله عنه قال: "كان أنس بن مالك رضي الله عنه إذا ختم القرآن جمع أهله ودعا".
وروى بأسانيد صحيحة عن الحكم بن عُتَيْبَة قال: أرسل إليّ مجاهد وعبدة بن أبي لبابة فقالا: "إنا أرسلنا إليك لأنا أردنا أن نختم القرآن، والدعاء مستجاب عند ختم القرآن"، وفي بعض رواياته الصحيحة: أنه كان يقال: إن الرحمة تنزل عند خاتمة القرآن.
وروى بإسناده الصحيح عن مجاهد قال: كانوا يجتمعون عند ختم القرآن يقولون: إن الرحمة تنزل عند ختم القرآن.
ويستحب الدعاء عقب الختمة استحبابًا متأكدًا شديدًا؛ لما قدمناه... وينبغي أن يُلِحَّ في الدعاء، وأن يدعو بالأمور المهمة والكلمات الجامعة، وأن يكون معظم ذلك أو كله في أمور الآخرة وأمور المسلمين وصلاح سلطانهم وسائر ولاة أمورهم، وفي توفيقهم للطاعات، وعصمتهم من المخالفات، وتعاونهم على البر والتقوى، وقيامهم بالحق واجتماعهم عليه، وظهورهم على أعداء الدين وسائر المخالفين... وإذا فرغ من الختمة فالمستحب أن يشرع في أخرى متصلًا بالختم؛ فقد استحبه السلف] اهـ.
وقال الإمام الحافظ جلال الدين السيوطي الشافعي في "الإتقان" (2/ 713-714): [يُسَنُّ الدعاءُ عقب الختم؛ لحديث الطبراني وغيره عن العرباض بن سارية مرفوعًا: «مَنْ خَتَمَ الْقُرْآنَ فَلَهُ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ»، وفي "الشعب" من حديث أنس مرفوعًا: «مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ وَحَمِدَ الرَّبَّ وَصَلَّى عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ وَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ: فَقَدْ طَلَبَ الْخَيْرَ مَكَانَهُ»] اهـ.
وعند الحنابلة: أن الدعاء بعد الختم مستحب، بل نص الإمام أحمد على استحبابه في الصلاة:
وعقد العلّامة ابن القيِّم الحنبلي فصلًا ماتعًا في كتابه "جلاء الأفهام في فضل الصلاة والسلام على محمد خير الأنام" لبيان أن ختم القرآن من مواطن الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما أنه من مواطن الدعاء؛ فقال (ص: 402-403، ط. دار العروبة): [الموطن السابع عشر من مواطن الصلاة عليه: عقب ختم القرآن؛ وهذا لأن المحل محل دعاء، وقد نص الإمام أحمد رحمه الله تعالى على الدعاء عَقِيبَ الختمة؛ فقال في رواية أبي الحارث: كان أنس إذا ختم القرآن جمع أهله ولده، وقال في رواية يوسف بن موسى وقد سُئِلَ عن الرجل يختم القرآن فيجتمع إليه قوم فيدعون، قال: نعم؛ رأيتُ معمرًا يفعله إذا ختم، وقال في رواية حرب: أَسْتَحِبُّ إذا ختم الرجلُ القرآنَ أن يجمع أهله ويدعو... ونص أحمد رحمه الله تعالى على استحباب ذلك في صلاة التراويح؛ قال حنبل: سمعت أحمد يقول في ختم القرآن: إذا فرغتَ من قراءتك ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ﴾ فارفع يديك في الدعاء قبل الركوع، قلت: إلى أي شيء تذهب في هذا؟ قال: رأيتُ أهلَ مكة يفعلونه، وكان سفيان بن عيينة يفعله معهم بمكة. قال عباس بن عبد العظيم: وكذلك أدركتُ الناس بالبصرة وبمكة، ويَروِي أهلُ المدينة في هذا أشياء، وذُكِرَ عن عثمان بن عفان رضي الله عنه، وقال الفضل بن زياد: سألت أبا عبد الله: أختم القرآن: أجعله في التراويح أو في الوتر؟ قال: اجعله في التراويح؛ حتى يكون لنا دعاء بين اثنين، قلت: كيف أصنع؟ قال: إذا فرغت من آخر القرآن فارفع يديك قبل أن تركع، وادع بنا ونحن في الصلاة، وأَطِلِ القيام، قلت: بِمَ أدعو؟ قال: بما شئتَ، قال: ففعلتُ كما أَمرَني وهو خلفي يدعو قائمًا ويرفع يديه. وإذا كان هذا من آكد مواطن الدعاء وأَحَقِّها بالإجابة فهو مِن آكد مواطن الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم] اهـ.
وأما الدعاء بأسماء الله الحسنى فهو مشروع بنص قوله تعالى: ﴿وَللهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا﴾ [الأعراف: 180]، وقوله سبحانه: ﴿قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى﴾ [الإسراء: 110]، والأمر المطلق بالدعاء يقتضي عموم الأزمنة والأمكنة والأشخاص والأحوال، فلا يجوز تخصيصه أو تقييده بحال دون حال إلا بدليل، وإلا كان ابتداعًا بتضييق ما وسعه الله سبحانه وتعالى.
وعليه: فالدعاء بالأسماء الحسنى والصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع الدعاء بما تيسر هو من الأمور المستحبة المشروعة التي عليها عمل المسلمين، والطعن على ذلك بالبدعة طعن على علماء الأمة بالجهل والضلالة، فعلى المسلم أن يتقي الله تعالى فيما يقول، وأن يحذر من القول على الله تعالى بغير علم، وأن يكون عالمًا بما يأمر به وينهى عنه، وأن يكون مدركًا لمآلات الأحكام قبل أن يفتي.
والله سبحانه وتعالى أعلم.