ما حكم السَّعي في المسعى الجديد الذي أنشأته الحكومة السعودية؛ بغرض توسعة مكان السعي بين الصفا والمروة، وما حكم الإقدام على هذه التوسعة ابتداءً، حيث يَذكر بعض الناس أن عَرض المسعى مُحَدَّدٌ معروف لا تجوز الزيادة عليه، وأن الزيادة عليه افتئات على الدين واستدراك على الشرع؟
توسعة المسعى
أصل السعي لغةً هو: التَّصَرُّف في كل عملٍ، ومنه قوله تعالى: ﴿وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى﴾ [النجم: 39] أي: إلا ما عمل.
وقد يُطلَق أيضًا ويُراد منه أحد أمورٍ، منها:
القَصد؛ كما في قول القائل: "سعى الرجل". إذا قصد، وبه فُسِّر قوله تعالى: ﴿فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللهِ﴾ [الجمعة: 9] أي: فاقصدوا. ويقال: "سَعى لهم، وعليهم". أي: عمل لهم فكسب. ويقال: "سعى" إذا مشى.
أما في اصطلاح الشرع فالمراد به هو: قطع المسافة بين الصفا والمروة سبعَ مراتٍ ذهابًا وإيابًا بعد أن يكون الناسك قد طافَ بالبيت المُعَظَّم في الحج أو العمرة.
وقد اختلف العلماء في حكم السعي:
فذهب الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة إلى أنه ركنٌ من أركان الحج والعمرة لا يتم أحدهما إلا به.
وذهب الحنفية إلى أنه واجبٌ لا رُكن، فمن تركه -عندهم- فعليه دَمٌ وحَجُّه تام.
وذهب أحمد -في روايةٍ عنه- إلى أنه سُنَّة ولا يجب بتركه دمٌ، وهو مرويٌّ أيضًا عن بعض السلف.
لكنَّ القَدْر المتفق عليه بين الجميع هو أن السعي من جُملة المطلوبات الشرعية.
والصفا والمروة اللذان أناط الشرع الشريف الحكم بهما -في مثل قوله تعالى: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ البَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: 158]، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم للحجيج الذين أَهَلُّوا بالحج مفرَدًا: «أَحِلُّوا مِنْ إِحْرَامِكُمْ، فَطُوفُوا بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ...» الحديث. رواه البخاري ومسلم واللفظ له- هما الجبلان المتقابلان المعروفان بمكة المكرمة؛ الأول بسفح جبل أبي قُبَيسٍ، والثاني بسفح جبل قُعَيقِعان. يُنظر: "تاج العروس" للزَّبيدي (باب الهاء فصل الصاد، وفصل الميم)، و"شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام" للتقي الفاسي (2/ 218-258، ط. دار الكتب العلمية).
وهذا المسعى الواقع بين جبلي الصفا والمروة كان الناس في السابق قد بَنَوا على جانبيه الشرقي والغربي وطرفيه الجنوبي والشمالي دُورًا ومنازل وحوانيت مما أدى إلى ضيقه. (وَصَف ذلك بشيءٍ من التفصيل الدكتور عويد المطرفي -وهو ممن نشأ في هذه البقاع من صباه إلى شبابه وتابع التغيرات الطارئة على الجبلين والمسعى، وهو أيضًا أحد مؤلفي الأطلس التاريخي لمكة والمشاعر- في كتابه "رفع الأعلام بأدلة توسيع عرض المسعى المشعر الحرام")، فقامت الحكومة السعودية عام 1375هـ بإزالة هذه المباني بعد تعويض أصحابها؛ ليَتَمَحَّض المسعى بعد ذلك للسعي والتعبد ويتسع للمسلمين الراغبين في أداء عبادتهم ونسكهم، ثم حدث أن زاد عدد الحجاج والمعتمرين بعد ذلك ازديادًا عظيمًا، فارتأت الحكومة السعودية القيام بتوسعةٍ أخرى جديدة في عَرض المسعى؛ لأجل أن تُيسر للمسلمين أداء سعيهم مشفوعًا بتحقق سلامتهم.
والذي نراه هو أن السعي في المسعى الجديد سعيٌ صحيحٌ تَبْرأُ به الذمة وتَسقُط به المطالبة والتكليف؛ فقد قال تعالى: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ البَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: 158]؛ ففي هذه الآية الكريمة قد أَمَر الله تعالى بالسعي بين الصفا والمروة، فدَلَّ هذا -بالمنطوق- على أن كل ما كان بين الجبلين فهو مكان للسعي؛ لأن الآية أطلقت ولم تخص محلًّا دون محلٍّ مما هو بين الجبلين، والمسعى الجديد واقعٌ بين الجبلين.
وينبغي هنا أن نلفت النظر إلى أمور مهمة، بتقريرها وفهمها يتم الاستدلال على مشروعية المسعى الجديد وصحَّة السعي فيه:
أولها: أنَّ المعتبر في هذا المقام هو ما يَصْدُقُ عليه اسمُ الصفا والمروة لغةً؛ لأن الشَّرع قد خاطبنا باللسان العربي، فالأصل أن يُحمَل الكلام على معناه اللغوي إلا أن ينقله الشرع إلى معنىً خاص، فيقدم حينئذٍ المعنى الشرعي على المعنى اللغوي -كما هو مُقَرَّرٌ في أصول الفقه-، وليس هذا حاصلًا هنا.
والنبي صلى الله عليه وآله وسلم قد قام على موضعٍ مخصوصٍ من الصفا لا تُعرف عَينُه الآن، ثم سعى إلى المروة فقام على موضعٍ مخصوصٍ منها كذلك، ثم عاد في الشوط الثاني إلى الصفا ثم المروة، وهكذا سبعًا، ويُحتمل أنه قد قام وسعى في المرات التالية للمرة الأولى في نفس الطريق الأول والمواضع الأولى، ويُحتمل أن يكون قد وقع ذلك فيما يَقرب منه، ومع هذا فإنه لم يجئْ عنه صلى الله عليه وآله وسلم ولا عن أحدٍ من أصحابه شيءٌ يُخَصِّص محلًّا معينًا مما بين الصفا والمروة بأنه هو الذي يُسعى فيه دون غيره مما يقع بينهما، وذلك مُؤذِنٌ بأنَّ هذا التحديدَ والتقييدَ غيرُ مقصودٍ شرعًا.
يقول الشيخ عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني رحمه الله تعالى [ت1386هـ] في رسالته -المخطوطة- في توسعة المسعى بين الصفا والمروة: [وعدم مجيء شيء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في تحديد عَرض المسعى يُشعِر بأن تحديده غير مقصودٍ شرعًا، وإلا لكان -لتعرضه لمزاحمة الأبنية- أولى بالتحديد من عرفات ومزدلفة ومنًى، وقد ورد في تحديدها ما ورد] اهـ.
ولذلك أيضًا لم تتعرَّض كتب الفقه لتحديد المسافة العَرضية للمسعى بل تعرَّضت لتقرير أن مِن واجبات السعي استيفاءَ المسافة بين جبلي الصفا والمروة، وبعضُها قد ذكر تحديد المسافة الطولية وأنها مقدرةٌ بسبعمائةٍ وسبعةٍ وسبعين ذراعًا دون تعرُّضٍ للمسافة العَرضية، وهذا مُشعِرٌ بأنَّ مَدار الحُكم ومُتَعَلَّقَه في استيفاء المسافة الطولية هو أداء شعيرة السعي بين الجبلين بصرف النظر عن السعة العَرضية ما دام أنه يَصْدُق على الساعي أنه قد أَدَّى شعيرة السعي بينهما وفي حدودهما، فمدلول الحكم في تحديد العَرض هو مدلول كلمة جبل الصفا، وجبل المروة بكامل المدلول اللغوي لهذين الاسمين؛ لأنه لم يرد تحديدٌ شرعيٌ لهما ينافي هذا المدلول اللُّغَوي.
وقد سُئِل الإمامُ شمسُ الدين الرملي في "فتاويه" (2/ 86، ط. المكتبة الإسلامية): [هل ضُبِط عَرض المَسعى؟ فأجاب بقوله: لم أرَ من ضبطه، وسكوتهم عنه لعدم الاحتياج إليه؛ فإن الواجب استيعاب المسافة التي بين الصفا والمروة كل مرة بأن يلصق عقبه بما يذهب منه ورءوس أصابع رجليه بما يذهب إليه، والراكب يلصق حافر دابته] اهـ.
وقال أيضًا في "نهاية المحتاج": [ولم أرَ في كلامهم ضبط عَرض المسعى، وسكوتهم عنه؛ لعدم الاحتياج إليه؛ فإن الواجب استيعاب المسافة التي بين الصفا والمروة كل مرة، ولو الْتَوَى في سعيه عن محل السعي يسيرًا لم يضر كما نص عليه الشافعي رضي الله عنه] اهـ.
وأما ما ذكره بعض المؤرخين من أنَّ عَرض المسعى خمسة وثلاثون ذراعًا فليس ذلك تحديدًا شرعيًّا منهم لعَرض المسعى بحيث يكون مُلزمًا لا يَحِل الزيادةُ عليه، بل هو وَصفٌ للواقع الذي شاهدوه؛ حيث لم يحدد النبي صلى الله عليه وآله وسلم عَرض المسعى ولا حَدَّده المسلمون بحدود معلومة، فكان الواجب في السعي هو أن يكون بين الصفا والمروة على ما كانا عليه قبل أن تنالَهما التغييرات بالتكسير أو النسف أو البناء عليها أو بينهما.
قال العلامةُ الشيخ عبد الحميد الشَّرْواني في "حواشيه" المفيدة على "تحفة المحتاج" ما نصه: [هَذَا، وَلَك أَنْ تَقُولَ: الظَّاهِرُ أَنَّ التَّقْدِيرَ لِعَرْضِهِ -أَيْ المَسْعَى- بِخَمْسَةٍ وَثَلَاثِينَ أَوْ نَحْوِهَا عَلَى التَّقْرِيبِ إذْ لَا نَصَّ فِيهِ يُحْفَظُ عَنْ السُّنَّةِ، فَلَا يَضُرُّ الِالْتِوَاءُ الْيَسِيرُ لِذَلِكَ بِخِلَافِ الْكَثِيرِ، فَإِنَّهُ يَخْرُجُ عَنْ تَقْدِيرِ الْعَرْضِ وَلَوْ عَلَى التَّقْرِيبِ. فَلْيُتَأَمَّلْ] اهـ.
الثاني: أن المسعى الذي هدمته الحكومة السعودية مؤخرًا ليس هو المسعى الذي كان في العهد النبوي ولا في عهد الصحابة رضوان الله عليهم، بل أصل المسعى قد أُخذ من عَرضه بزحف المباني عليه شرقًا وغربًا عبر العصور اللاحقة؛ ويؤكد ذلك ما ورد عَنْ يَحْيَى بْنِ عُثْمَانَ بْنِ الْأَرْقَمِ قال: حَدَّثَنِي جَدِّي عُثْمَانُ بْنُ الْأَرْقَمِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: أَنَا ابْنُ سُبُعِ الْإِسْلَامِ، أَسْلَمَ أَبِي سَابِعَ سَبْعَةٍ، وَكَانَتْ دَارُهُ عَلَى الصَّفَا، وَهِيَ الدَّارُ الَّتِي كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآله وسَلَّمَ يَكُونُ فِيهَا فِي الْإِسْلَامِ، وَفِيهَا دَعَا النَّاسَ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَأَسْلَمَ فِيهَا قَوْمٌ كَثِيرٌ، وَقَالَ رَسُولُ اﷲ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الإثْنَيْنِ فِيهَا: «اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ بِأَحَبِّ الرَّجُلَيْنِ إِلَيْكَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَوْ عَمْرِو بْنِ هِشَامٍ»، فَجَاءَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ مِنَ الْغَدِ بَكْرَةً، فَأَسْلَمَ فِي دَارِ الْأَرْقَمِ، وَخَرَجُوا مِنْهَا وَكَبَّرُوا وَطَافُوا بِالْبَيْتِ ظَاهِرِينَ، وَدُعِيَتْ دَارُ الْأَرْقَمِ دَارُ الْإِسْلَامِ، وَتَصَدَّقَ بِهَا الْأَرْقَمُ عَلَى وَلَدِهِ، فَقَرَأْتُ نُسْخَةَ صَدَقَةِ الْأَرْقَمِ بِدَارِهِ: بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هَذَا مَا قَضَى الْأَرْقَمُ فِي رَبْعِهِ مَا حَازَ الصَّفَا، أَنَّهَا صَدَقَةٌ بِمَكَانِهَا مِنَ الْحَرَمِ لَا تُبَاعُ، وَلَا تُورَّثُ، شَهِدَ هِشَامُ بْنُ الْعَاصِ، وَفُلَانٌ مَوْلَى هِشَامِ بْنِ الْعَاصِ، قَالَ: فَلَمْ تَزَلْ هَذِهِ الدَّارُ صَدَقَةً قَائِمَةً فِيهَا وَلَدُهُ يَسْكُنُونَ وَيُؤَاجِرُونَ وَيَأْخُذُونَ عَلَيْهَا حَتَّى كَانَ زَمَنُ أَبِي جَعْفَرٍ... قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ -أَحَدُ رُواةِ الحَدِيث-: فَأَخْبَرَنِي أَبِي، عَنْ يَحْيَى بْنِ عِمْرَانَ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ الْأَرْقَمِ، قَالَ: إِنِّي لَأَعْلَمُ الْيَوْمَ الَّذِي وَقَعَ فِي نَفْسِ أَبِي جَعْفَرٍ أَنَّهُ يَسْعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فِي حَجَّةٍ حَجَّهَا وَنَحْنُ عَلَى ظَهْرِ الدَّارِ، فَيَمُرُّ تَحْتَنَا لَوْ أَشَاءُ أَنْ آخُذَ قَلَنْسُوَتَهُ لَأَخَذْتُهَا، وَإنَّهُ لَيَنْظُرُ إِلَيْنَا مِنْ حِينِ يَهْبِطُ الْوَادِيَ حَتَّى يَصْعَدَ إِلَى الصَّفَا... الحديث. رواه الإمام الحاكم في "المستدرك"، وسكت عنه الذهبي في "التلخيص".
والشاهد من هذا الحديث أن دار الأرقم كانت على الصفا قديمًا، ودار الأرقم موضعها معروفٌ في القديم والحديث لم يتغير، والخريطة التي أعدَّتْها هيئةُ المساحة المصرية عام 1947م توضح أن دار الأرقم تبعد أكثر من ثلاثين مترًا عن حدود منتهى عَرض المسعى في التوسعة السعودية الأولى، ومشروع المسعى الجديد يمتد إلى شرق المسعى عشرين مترًا، فيكون هذا الامتداد داخلًا في حيِّزِ المسعى الحقيقي.
الثالث: أن جبلي الصفا والمروة قد تعرَّضا عبر الأزمان لتغيرات من تكسيرٍ وتشذيبٍ وتسويةٍ مع سطح الأرض، من هذه التغيرات ما هو بفعل عوامل الطبيعة، ومنها ما هو بتدخل الإنسان؛ ففي عام 1375هـ تم تقطيع أكتاف جبل الصفا وفتح عليها شارع لمرور السيارات، ثم في عام 1401هـ تمت إزالة هذا الشارع وقطع الجبل من أصله وفصل موضع الصفا عن الجبل، وفتح بينه وبين الجبل الأصلي طريق متسع للمشاة بين ما بقي من أصل الجبل وبين جُـدُر الصفا.
وهذه التغيرات قد أدت إلى أن يتغير حجم الجبل عمَّا كان في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وما قبله، ومعلومٌ أن إزالة جزء من صخور الجبلين لا يُغَيِّر الحكم الشرعي في السعي بين مكاني هذه الصخور ولو سُوِّيا بالأرض.
ونظير هذا ما ذكره الفقهاء، ومنهم: سيدي أحمد الدردير في "شرحه الكبير على مختصر خليل" من كتب المالكية (1/ 224-225، ط. دار إحياء الكتب العربية، مع "حاشية الدسوقي") من أنه: [لو هُدِمَت الْكَعْبَةُ وَنُقِلَ حَجَرُهَا وَنُسِيَ مَحَلُّهَا، حَمَاهَا اللهُ تَعَالَى بِفَضْلِهِ مِنْ ذَلِكَ، فَالْوَاجِبُ إذْ ذَاكَ الِاجْتِهَادُ فِي اسْتِقْبَالِ جِهَتِهَا اتِّفَاقًا] اهـ.
فزوال جِرمها لا يوجب زوال وجوب استقبال مكانها، فكأنَّ لها وجودًا حُكميًّا، فكذلك ما نحن فيه، فإن ما تمت إزالته من جِرم الصفا والمروة حتى وإن لم يكن له وجودٌ حقيقي فإن له وجودًا حُكميًّا فيصحُّ السعيُ في حدوده.
ولما هَمَّت الحكومة السعودية بالتوسعة الأخيرة استكتبت غير واحدٍ من العلماء، ومنهم من عاش في مكة من طفولته إلى شيخوخته ورآها على طبيعتها لم تتغير معالمها قبل حدوث توسعة الحرم المكي الشريف، كما استدعت مجموعةً من كبار السن من أفاضل شيوخ مكة المكرمة ممن كانوا يقطنون منطقة الصفا والمروة أصغرُهُم قد تجاوز السبعين عامًا وأدلوا بشهاداتهم أمام قاضي مكة وسجلت شهاداتهم، وكان حاصلُ كلام هؤلاء وأولئك هو أن جبلي الصفا والمروة كانا ممتدين فيما مضى بأكثر مما هو واقعٌ اليوم بمسافة تشمل وتستوعب الزيادة الحادثة.
ومن المقرر أن أمثال هذه الشهادات والنقول كافيةٌ في باب الإثبات؛ يقول الإمام ابن القيم في "إعلام الموقعين" (2/ 282، ط. دار الكتب العلمية): [وَأَمَّا نَقْلُ الْأَعْيَانِ وَتَعْيِينُ الْأَمَاكِنِ فَكَنَقْلِهِمْ الصَّاعَ وَالْمُدَّ وَتَعْيِينُ مَوْضِعِ الْمِنْبَرِ وَمَوْقِفِهِ لِلصَّلَاةِ وَالْقَبْرِ وَالْحُجْرَةِ وَمَسْجِدِ قُبَاءَ وَتَعْيِينُ الرَّوْضَةِ وَالْبَقِيعِ وَالْمُصَلَّى وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَنَقْلُ هَذَا جَارٍ مَجْرَى نَقْلِ مَوَاضِعِ الْمَنَاسِكِ كَالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَمِنًى وَمَوَاضِعِ الْجَمَرَاتِ وَمُزْدَلِفَةَ وَعَرَفَةَ وَمَوَاضِعِ الْإِحْرَامِ كَذِي الْحُلَيْفَةِ وَالْجُحْفَةِ وَغَيْرِهِمَا] اهـ.
وقد قامت هيئة المساحة الجيولوجية السعودية أيضًا باختبار عينات جبل الصفا والمنطقة التي ستشملها توسعة المسعى في الجهة الشرقية، فأثبتت في تقريرها أن جبل الصفا لسانٌ من أبي قبيس لديه امتداد سطحي بالناحية الشرقية مسامت للمشعر بما يقارب ثلاثين مترًا، وأن جبل المروة يمتد امتدادًا سطحيًّا مسامتًا للمشعر الحالي بما يقارب واحدًا وثلاثين مترًا، وهذا يُعَضِّد أيضًا ما نقله الشهود.
والاعتراضُ بأننا متعبَّدون بالظاهر وأن استعمال المعارف الجيولوجية بالتنقيب في باطن الأرض تَكَلُّفٌ لم يأمرنا الله تعالى به حتى نمتثل ما شرعه غيرُ سديدٍ؛ لأننا لا نَتَكلَّف مجرد استخراج مستور بل إننا نبحث عما يدل على ما كان ظاهرًا ومشاهدًا ومعلومًا من امتداد جبلي الصفا والمروة وتمت إزالته، فأخذ عينةٍ من باطن الأرض في مثل هذه الحال ضرورة لإثبات ما كان ظاهرًا وأزيل؛ لأن مكونات الجبل واحدة في أعلاه وفي أسفله.
الرابع: من المقرر في قواعد الشريعة أن الزيادة المتصلة تتبع أصلها، وأن الزيادة لها حُكم المَزيد فيه، وأن ما جاوَر الشيء أَخَذ حُكمه، وهذه القواعد كلُّها تنطبق على المسعى الجديد من حيث اتصاله بمكان المسعى القديم، والاعتراضُ على تخريج هذه النازلة على هذه القواعد بأن المَشعَر توقيفي لا تجوز الزيادة عليه، وأن القول بإلحاق الزيادة بالمَزيد يجعل الأمر غير مُنضبط بحَدٍّ مُعَيَّن اعتراضٌ مدفوعٌ بأن المسعى الجديد لا يخرج عن حَيِّز التوقيف؛ حيث إنه في حدود ما بين الصفا والمروة غير خارج عنها- كما سبق بيانه-، فهو من الزيادة المعتبرة شرعًا، والقواعد المذكورة ليست مُرسَلَة بل هي مَضبوطة بكون الزيادة لا تخالف تحديدًا شرعيًّا، وهذا هو ما ندعيه هنا وقد دَلَّلنا عليه وذكرنا النقول التي تُعَضِّده.
الخامس: هذا التعديل الذي أجرته الحكومة السعودية مؤخرًا لم يكن هو التعديل الوحيد الذي حَدَث لعَرض المسعى؛ فقد نقل الأَثْبَاتُ من المؤرخين؛ كأبي الوليد الأزرقي في "تاريخه"، والفاكهي والقطب الحنفي في كتابه "الإعلام بأعلام بيت الله الحرام" وغيرهم خبر الزيادة التي أجراها المهدي العباسي في عَرض مَشعر المسعى، وقد استشكل القطب الحنفي ذلك، ثم أجاب عن هذا الإشكال فقال (ص: 105-106، ط. مكتبة الثقافة الدينية): [وأمَّا المكان الذي يُسعى فيه الآن فلا يتحقَّق أنه بعضٌ مِنَ المسْعَى الذي سعى فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو غيره، فكيف يصحُّ السعيُ فيه وقد حُوِّل عن محلِّه كما ذكر هؤلاء الثقات؟ ولعلَّ الجواب عن ذلك أنَّ المسعى في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان عريضًا، وبُنيت تلك الدور بعد ذلك في عَرْض المسعى القديم فهدمها المهدي وأدخل بعضها في المسجد الحرام، وترك بعضها للسعي فيه، ولم يحوَّل تحويلًا كليًّا، وإلا لأنكره علماء الدين من العلماء المجتهدين رضي الله عنهم أجمعين مع توافرهم إذ ذاك، فكان الإمامان أبو يوسف ومحمد بن الحسن رضي الله عنهما والإمام مالك رضي الله عنه موجودين، وقد أقرُّوا ذلك وسكتوا. وكذلك مَن صار بعد ذلك الوقت في رتبة الاجتهاد، كالإمام الشافعي وأحمد بن حنبل وبقية المجتهدين رضي الله عنهم فكان إجماعًا منهم رضي الله عنهم على صحة السعي من غير نكيرٍ نُقِل عنهم] اهـ.
والمتأمل في هذه الأمور السابقة كلِّها يَقطع بمشروعية السعي في المسعى الجديد، ويَقطع أيضًا بأن ما قام به ولاةُ الأمور في المملكة العربية السعودية من تعديلٍ في عَرض المسعى هو أمرٌ حَسَنٌ محمودٌ مُتَّسق مع مطلوبات الشرع ومقاصده؛ فهو من التعاون على البر والتقوى، وقد قال تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى﴾ [المائدة: 2].
وهو من تعظيم شعائر الله التي قال فيها عز مِن قائل: ﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾ [الحج: 32]؛ قال الإمام البيضاوي في "تفسيره" (295-296، ط. دار صادر، مع "حاشية الشهاب"): [﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ﴾ دين الله أو فرائض الحج ومواضع نسكه. ﴿فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾ فإن تعظيمها منه من أفعال ذوي تقوى القلوب] اهـ بتصرف.
ومن تعظيم شعائر الله إجلالُها والقيامُ بها والتزامُها ومراعاةُ أحكامها وشرائطها وتكميلُها على أكمل ما يقدر عليه العبد، وكذلك إعانةُ الغير على ذلك كله، ولا يخفى تَحَقُّق كل هذه المعاني في عملية التوسعة.
وكذلك فإن فيه من التيسير ورفع العنت عن المسلمين في أداء شعائرهم ومناسكهم ما هو واضح لكل ذي عينين، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم فيما رواه البخاريُّ ومسلمٌ عن أنس بن مالك رضي الله عنه واللفظ للبخاري: «يَسِّروا ولا تُعَسِّروا، وبَشِّروا ولا تُنَفِّروا».
كما أن فيه التَّحَرِّي لما يجب على ولي الأمر من رعايةٍ لمن يليهم، حيث تتزايد أعداد الحجيج والمعتمرين كل عام بما يوجب على ولي الأمر أن يأخذ في اعتباره هذا التزايد ويبحث عن طرق شرعية لمواجهته.
وفيه رعاية لمقصد حفظ النفس التي هي إحدى الضروريات الخمس التي يجب حفظها في كل المِلَل، وغير خافٍ ما يحدث من تهارج وتزاحم بين الحجيج قد يؤدي مع ضيق المسعى إلى تلف النفوس المعصومة، ومعلوم أن التزاحم في المناسك ليس مقصودًا شرعيًّا، والشرع قد نظر إلى التوسعة على الناسكين ووقايتهم من التدافع والتزاحم وراعاها، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم ما سُئِل عن شيء قُدِّم ولا أُخِّر في حجة الوداع إلا قال: «افْعَلْ وَلَا حَرَج» رواه البخاري، وليس هذا إلا لمنعِ التدافع والتزاحم.
والله سبحانه وتعالى أعلم.
أصل السعي لغةً هو: التَّصَرُّف في كل عملٍ، ومنه قوله تعالى: ﴿وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى﴾ [النجم: 39] أي: إلا ما عمل.
وقد يُطلَق أيضًا ويُراد منه أحد أمورٍ، منها:
القَصد؛ كما في قول القائل: "سعى الرجل". إذا قصد، وبه فُسِّر قوله تعالى: ﴿فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللهِ﴾ [الجمعة: 9] أي: فاقصدوا. ويقال: "سَعى لهم، وعليهم". أي: عمل لهم فكسب. ويقال: "سعى" إذا مشى.
أما في اصطلاح الشرع فالمراد به هو: قطع المسافة بين الصفا والمروة سبعَ مراتٍ ذهابًا وإيابًا بعد أن يكون الناسك قد طافَ بالبيت المُعَظَّم في الحج أو العمرة.
وقد اختلف العلماء في حكم السعي:
فذهب الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة إلى أنه ركنٌ من أركان الحج والعمرة لا يتم أحدهما إلا به.
وذهب الحنفية إلى أنه واجبٌ لا رُكن، فمن تركه -عندهم- فعليه دَمٌ وحَجُّه تام.
وذهب أحمد -في روايةٍ عنه- إلى أنه سُنَّة ولا يجب بتركه دمٌ، وهو مرويٌّ أيضًا عن بعض السلف.
لكنَّ القَدْر المتفق عليه بين الجميع هو أن السعي من جُملة المطلوبات الشرعية.
والصفا والمروة اللذان أناط الشرع الشريف الحكم بهما -في مثل قوله تعالى: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ البَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: 158]، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم للحجيج الذين أَهَلُّوا بالحج مفرَدًا: «أَحِلُّوا مِنْ إِحْرَامِكُمْ، فَطُوفُوا بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ...» الحديث. رواه البخاري ومسلم واللفظ له- هما الجبلان المتقابلان المعروفان بمكة المكرمة؛ الأول بسفح جبل أبي قُبَيسٍ، والثاني بسفح جبل قُعَيقِعان. يُنظر: "تاج العروس" للزَّبيدي (باب الهاء فصل الصاد، وفصل الميم)، و"شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام" للتقي الفاسي (2/ 218-258، ط. دار الكتب العلمية).
وهذا المسعى الواقع بين جبلي الصفا والمروة كان الناس في السابق قد بَنَوا على جانبيه الشرقي والغربي وطرفيه الجنوبي والشمالي دُورًا ومنازل وحوانيت مما أدى إلى ضيقه. (وَصَف ذلك بشيءٍ من التفصيل الدكتور عويد المطرفي -وهو ممن نشأ في هذه البقاع من صباه إلى شبابه وتابع التغيرات الطارئة على الجبلين والمسعى، وهو أيضًا أحد مؤلفي الأطلس التاريخي لمكة والمشاعر- في كتابه "رفع الأعلام بأدلة توسيع عرض المسعى المشعر الحرام")، فقامت الحكومة السعودية عام 1375هـ بإزالة هذه المباني بعد تعويض أصحابها؛ ليَتَمَحَّض المسعى بعد ذلك للسعي والتعبد ويتسع للمسلمين الراغبين في أداء عبادتهم ونسكهم، ثم حدث أن زاد عدد الحجاج والمعتمرين بعد ذلك ازديادًا عظيمًا، فارتأت الحكومة السعودية القيام بتوسعةٍ أخرى جديدة في عَرض المسعى؛ لأجل أن تُيسر للمسلمين أداء سعيهم مشفوعًا بتحقق سلامتهم.
والذي نراه هو أن السعي في المسعى الجديد سعيٌ صحيحٌ تَبْرأُ به الذمة وتَسقُط به المطالبة والتكليف؛ فقد قال تعالى: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ البَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: 158]؛ ففي هذه الآية الكريمة قد أَمَر الله تعالى بالسعي بين الصفا والمروة، فدَلَّ هذا -بالمنطوق- على أن كل ما كان بين الجبلين فهو مكان للسعي؛ لأن الآية أطلقت ولم تخص محلًّا دون محلٍّ مما هو بين الجبلين، والمسعى الجديد واقعٌ بين الجبلين.
وينبغي هنا أن نلفت النظر إلى أمور مهمة، بتقريرها وفهمها يتم الاستدلال على مشروعية المسعى الجديد وصحَّة السعي فيه:
أولها: أنَّ المعتبر في هذا المقام هو ما يَصْدُقُ عليه اسمُ الصفا والمروة لغةً؛ لأن الشَّرع قد خاطبنا باللسان العربي، فالأصل أن يُحمَل الكلام على معناه اللغوي إلا أن ينقله الشرع إلى معنىً خاص، فيقدم حينئذٍ المعنى الشرعي على المعنى اللغوي -كما هو مُقَرَّرٌ في أصول الفقه-، وليس هذا حاصلًا هنا.
والنبي صلى الله عليه وآله وسلم قد قام على موضعٍ مخصوصٍ من الصفا لا تُعرف عَينُه الآن، ثم سعى إلى المروة فقام على موضعٍ مخصوصٍ منها كذلك، ثم عاد في الشوط الثاني إلى الصفا ثم المروة، وهكذا سبعًا، ويُحتمل أنه قد قام وسعى في المرات التالية للمرة الأولى في نفس الطريق الأول والمواضع الأولى، ويُحتمل أن يكون قد وقع ذلك فيما يَقرب منه، ومع هذا فإنه لم يجئْ عنه صلى الله عليه وآله وسلم ولا عن أحدٍ من أصحابه شيءٌ يُخَصِّص محلًّا معينًا مما بين الصفا والمروة بأنه هو الذي يُسعى فيه دون غيره مما يقع بينهما، وذلك مُؤذِنٌ بأنَّ هذا التحديدَ والتقييدَ غيرُ مقصودٍ شرعًا.
يقول الشيخ عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني رحمه الله تعالى [ت1386هـ] في رسالته -المخطوطة- في توسعة المسعى بين الصفا والمروة: [وعدم مجيء شيء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في تحديد عَرض المسعى يُشعِر بأن تحديده غير مقصودٍ شرعًا، وإلا لكان -لتعرضه لمزاحمة الأبنية- أولى بالتحديد من عرفات ومزدلفة ومنًى، وقد ورد في تحديدها ما ورد] اهـ.
ولذلك أيضًا لم تتعرَّض كتب الفقه لتحديد المسافة العَرضية للمسعى بل تعرَّضت لتقرير أن مِن واجبات السعي استيفاءَ المسافة بين جبلي الصفا والمروة، وبعضُها قد ذكر تحديد المسافة الطولية وأنها مقدرةٌ بسبعمائةٍ وسبعةٍ وسبعين ذراعًا دون تعرُّضٍ للمسافة العَرضية، وهذا مُشعِرٌ بأنَّ مَدار الحُكم ومُتَعَلَّقَه في استيفاء المسافة الطولية هو أداء شعيرة السعي بين الجبلين بصرف النظر عن السعة العَرضية ما دام أنه يَصْدُق على الساعي أنه قد أَدَّى شعيرة السعي بينهما وفي حدودهما، فمدلول الحكم في تحديد العَرض هو مدلول كلمة جبل الصفا، وجبل المروة بكامل المدلول اللغوي لهذين الاسمين؛ لأنه لم يرد تحديدٌ شرعيٌ لهما ينافي هذا المدلول اللُّغَوي.
وقد سُئِل الإمامُ شمسُ الدين الرملي في "فتاويه" (2/ 86، ط. المكتبة الإسلامية): [هل ضُبِط عَرض المَسعى؟ فأجاب بقوله: لم أرَ من ضبطه، وسكوتهم عنه لعدم الاحتياج إليه؛ فإن الواجب استيعاب المسافة التي بين الصفا والمروة كل مرة بأن يلصق عقبه بما يذهب منه ورءوس أصابع رجليه بما يذهب إليه، والراكب يلصق حافر دابته] اهـ.
وقال أيضًا في "نهاية المحتاج": [ولم أرَ في كلامهم ضبط عَرض المسعى، وسكوتهم عنه؛ لعدم الاحتياج إليه؛ فإن الواجب استيعاب المسافة التي بين الصفا والمروة كل مرة، ولو الْتَوَى في سعيه عن محل السعي يسيرًا لم يضر كما نص عليه الشافعي رضي الله عنه] اهـ.
وأما ما ذكره بعض المؤرخين من أنَّ عَرض المسعى خمسة وثلاثون ذراعًا فليس ذلك تحديدًا شرعيًّا منهم لعَرض المسعى بحيث يكون مُلزمًا لا يَحِل الزيادةُ عليه، بل هو وَصفٌ للواقع الذي شاهدوه؛ حيث لم يحدد النبي صلى الله عليه وآله وسلم عَرض المسعى ولا حَدَّده المسلمون بحدود معلومة، فكان الواجب في السعي هو أن يكون بين الصفا والمروة على ما كانا عليه قبل أن تنالَهما التغييرات بالتكسير أو النسف أو البناء عليها أو بينهما.
قال العلامةُ الشيخ عبد الحميد الشَّرْواني في "حواشيه" المفيدة على "تحفة المحتاج" ما نصه: [هَذَا، وَلَك أَنْ تَقُولَ: الظَّاهِرُ أَنَّ التَّقْدِيرَ لِعَرْضِهِ -أَيْ المَسْعَى- بِخَمْسَةٍ وَثَلَاثِينَ أَوْ نَحْوِهَا عَلَى التَّقْرِيبِ إذْ لَا نَصَّ فِيهِ يُحْفَظُ عَنْ السُّنَّةِ، فَلَا يَضُرُّ الِالْتِوَاءُ الْيَسِيرُ لِذَلِكَ بِخِلَافِ الْكَثِيرِ، فَإِنَّهُ يَخْرُجُ عَنْ تَقْدِيرِ الْعَرْضِ وَلَوْ عَلَى التَّقْرِيبِ. فَلْيُتَأَمَّلْ] اهـ.
الثاني: أن المسعى الذي هدمته الحكومة السعودية مؤخرًا ليس هو المسعى الذي كان في العهد النبوي ولا في عهد الصحابة رضوان الله عليهم، بل أصل المسعى قد أُخذ من عَرضه بزحف المباني عليه شرقًا وغربًا عبر العصور اللاحقة؛ ويؤكد ذلك ما ورد عَنْ يَحْيَى بْنِ عُثْمَانَ بْنِ الْأَرْقَمِ قال: حَدَّثَنِي جَدِّي عُثْمَانُ بْنُ الْأَرْقَمِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: أَنَا ابْنُ سُبُعِ الْإِسْلَامِ، أَسْلَمَ أَبِي سَابِعَ سَبْعَةٍ، وَكَانَتْ دَارُهُ عَلَى الصَّفَا، وَهِيَ الدَّارُ الَّتِي كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآله وسَلَّمَ يَكُونُ فِيهَا فِي الْإِسْلَامِ، وَفِيهَا دَعَا النَّاسَ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَأَسْلَمَ فِيهَا قَوْمٌ كَثِيرٌ، وَقَالَ رَسُولُ اﷲ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الإثْنَيْنِ فِيهَا: «اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ بِأَحَبِّ الرَّجُلَيْنِ إِلَيْكَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَوْ عَمْرِو بْنِ هِشَامٍ»، فَجَاءَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ مِنَ الْغَدِ بَكْرَةً، فَأَسْلَمَ فِي دَارِ الْأَرْقَمِ، وَخَرَجُوا مِنْهَا وَكَبَّرُوا وَطَافُوا بِالْبَيْتِ ظَاهِرِينَ، وَدُعِيَتْ دَارُ الْأَرْقَمِ دَارُ الْإِسْلَامِ، وَتَصَدَّقَ بِهَا الْأَرْقَمُ عَلَى وَلَدِهِ، فَقَرَأْتُ نُسْخَةَ صَدَقَةِ الْأَرْقَمِ بِدَارِهِ: بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هَذَا مَا قَضَى الْأَرْقَمُ فِي رَبْعِهِ مَا حَازَ الصَّفَا، أَنَّهَا صَدَقَةٌ بِمَكَانِهَا مِنَ الْحَرَمِ لَا تُبَاعُ، وَلَا تُورَّثُ، شَهِدَ هِشَامُ بْنُ الْعَاصِ، وَفُلَانٌ مَوْلَى هِشَامِ بْنِ الْعَاصِ، قَالَ: فَلَمْ تَزَلْ هَذِهِ الدَّارُ صَدَقَةً قَائِمَةً فِيهَا وَلَدُهُ يَسْكُنُونَ وَيُؤَاجِرُونَ وَيَأْخُذُونَ عَلَيْهَا حَتَّى كَانَ زَمَنُ أَبِي جَعْفَرٍ... قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ -أَحَدُ رُواةِ الحَدِيث-: فَأَخْبَرَنِي أَبِي، عَنْ يَحْيَى بْنِ عِمْرَانَ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ الْأَرْقَمِ، قَالَ: إِنِّي لَأَعْلَمُ الْيَوْمَ الَّذِي وَقَعَ فِي نَفْسِ أَبِي جَعْفَرٍ أَنَّهُ يَسْعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فِي حَجَّةٍ حَجَّهَا وَنَحْنُ عَلَى ظَهْرِ الدَّارِ، فَيَمُرُّ تَحْتَنَا لَوْ أَشَاءُ أَنْ آخُذَ قَلَنْسُوَتَهُ لَأَخَذْتُهَا، وَإنَّهُ لَيَنْظُرُ إِلَيْنَا مِنْ حِينِ يَهْبِطُ الْوَادِيَ حَتَّى يَصْعَدَ إِلَى الصَّفَا... الحديث. رواه الإمام الحاكم في "المستدرك"، وسكت عنه الذهبي في "التلخيص".
والشاهد من هذا الحديث أن دار الأرقم كانت على الصفا قديمًا، ودار الأرقم موضعها معروفٌ في القديم والحديث لم يتغير، والخريطة التي أعدَّتْها هيئةُ المساحة المصرية عام 1947م توضح أن دار الأرقم تبعد أكثر من ثلاثين مترًا عن حدود منتهى عَرض المسعى في التوسعة السعودية الأولى، ومشروع المسعى الجديد يمتد إلى شرق المسعى عشرين مترًا، فيكون هذا الامتداد داخلًا في حيِّزِ المسعى الحقيقي.
الثالث: أن جبلي الصفا والمروة قد تعرَّضا عبر الأزمان لتغيرات من تكسيرٍ وتشذيبٍ وتسويةٍ مع سطح الأرض، من هذه التغيرات ما هو بفعل عوامل الطبيعة، ومنها ما هو بتدخل الإنسان؛ ففي عام 1375هـ تم تقطيع أكتاف جبل الصفا وفتح عليها شارع لمرور السيارات، ثم في عام 1401هـ تمت إزالة هذا الشارع وقطع الجبل من أصله وفصل موضع الصفا عن الجبل، وفتح بينه وبين الجبل الأصلي طريق متسع للمشاة بين ما بقي من أصل الجبل وبين جُـدُر الصفا.
وهذه التغيرات قد أدت إلى أن يتغير حجم الجبل عمَّا كان في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وما قبله، ومعلومٌ أن إزالة جزء من صخور الجبلين لا يُغَيِّر الحكم الشرعي في السعي بين مكاني هذه الصخور ولو سُوِّيا بالأرض.
ونظير هذا ما ذكره الفقهاء، ومنهم: سيدي أحمد الدردير في "شرحه الكبير على مختصر خليل" من كتب المالكية (1/ 224-225، ط. دار إحياء الكتب العربية، مع "حاشية الدسوقي") من أنه: [لو هُدِمَت الْكَعْبَةُ وَنُقِلَ حَجَرُهَا وَنُسِيَ مَحَلُّهَا، حَمَاهَا اللهُ تَعَالَى بِفَضْلِهِ مِنْ ذَلِكَ، فَالْوَاجِبُ إذْ ذَاكَ الِاجْتِهَادُ فِي اسْتِقْبَالِ جِهَتِهَا اتِّفَاقًا] اهـ.
فزوال جِرمها لا يوجب زوال وجوب استقبال مكانها، فكأنَّ لها وجودًا حُكميًّا، فكذلك ما نحن فيه، فإن ما تمت إزالته من جِرم الصفا والمروة حتى وإن لم يكن له وجودٌ حقيقي فإن له وجودًا حُكميًّا فيصحُّ السعيُ في حدوده.
ولما هَمَّت الحكومة السعودية بالتوسعة الأخيرة استكتبت غير واحدٍ من العلماء، ومنهم من عاش في مكة من طفولته إلى شيخوخته ورآها على طبيعتها لم تتغير معالمها قبل حدوث توسعة الحرم المكي الشريف، كما استدعت مجموعةً من كبار السن من أفاضل شيوخ مكة المكرمة ممن كانوا يقطنون منطقة الصفا والمروة أصغرُهُم قد تجاوز السبعين عامًا وأدلوا بشهاداتهم أمام قاضي مكة وسجلت شهاداتهم، وكان حاصلُ كلام هؤلاء وأولئك هو أن جبلي الصفا والمروة كانا ممتدين فيما مضى بأكثر مما هو واقعٌ اليوم بمسافة تشمل وتستوعب الزيادة الحادثة.
ومن المقرر أن أمثال هذه الشهادات والنقول كافيةٌ في باب الإثبات؛ يقول الإمام ابن القيم في "إعلام الموقعين" (2/ 282، ط. دار الكتب العلمية): [وَأَمَّا نَقْلُ الْأَعْيَانِ وَتَعْيِينُ الْأَمَاكِنِ فَكَنَقْلِهِمْ الصَّاعَ وَالْمُدَّ وَتَعْيِينُ مَوْضِعِ الْمِنْبَرِ وَمَوْقِفِهِ لِلصَّلَاةِ وَالْقَبْرِ وَالْحُجْرَةِ وَمَسْجِدِ قُبَاءَ وَتَعْيِينُ الرَّوْضَةِ وَالْبَقِيعِ وَالْمُصَلَّى وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَنَقْلُ هَذَا جَارٍ مَجْرَى نَقْلِ مَوَاضِعِ الْمَنَاسِكِ كَالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَمِنًى وَمَوَاضِعِ الْجَمَرَاتِ وَمُزْدَلِفَةَ وَعَرَفَةَ وَمَوَاضِعِ الْإِحْرَامِ كَذِي الْحُلَيْفَةِ وَالْجُحْفَةِ وَغَيْرِهِمَا] اهـ.
وقد قامت هيئة المساحة الجيولوجية السعودية أيضًا باختبار عينات جبل الصفا والمنطقة التي ستشملها توسعة المسعى في الجهة الشرقية، فأثبتت في تقريرها أن جبل الصفا لسانٌ من أبي قبيس لديه امتداد سطحي بالناحية الشرقية مسامت للمشعر بما يقارب ثلاثين مترًا، وأن جبل المروة يمتد امتدادًا سطحيًّا مسامتًا للمشعر الحالي بما يقارب واحدًا وثلاثين مترًا، وهذا يُعَضِّد أيضًا ما نقله الشهود.
والاعتراضُ بأننا متعبَّدون بالظاهر وأن استعمال المعارف الجيولوجية بالتنقيب في باطن الأرض تَكَلُّفٌ لم يأمرنا الله تعالى به حتى نمتثل ما شرعه غيرُ سديدٍ؛ لأننا لا نَتَكلَّف مجرد استخراج مستور بل إننا نبحث عما يدل على ما كان ظاهرًا ومشاهدًا ومعلومًا من امتداد جبلي الصفا والمروة وتمت إزالته، فأخذ عينةٍ من باطن الأرض في مثل هذه الحال ضرورة لإثبات ما كان ظاهرًا وأزيل؛ لأن مكونات الجبل واحدة في أعلاه وفي أسفله.
الرابع: من المقرر في قواعد الشريعة أن الزيادة المتصلة تتبع أصلها، وأن الزيادة لها حُكم المَزيد فيه، وأن ما جاوَر الشيء أَخَذ حُكمه، وهذه القواعد كلُّها تنطبق على المسعى الجديد من حيث اتصاله بمكان المسعى القديم، والاعتراضُ على تخريج هذه النازلة على هذه القواعد بأن المَشعَر توقيفي لا تجوز الزيادة عليه، وأن القول بإلحاق الزيادة بالمَزيد يجعل الأمر غير مُنضبط بحَدٍّ مُعَيَّن اعتراضٌ مدفوعٌ بأن المسعى الجديد لا يخرج عن حَيِّز التوقيف؛ حيث إنه في حدود ما بين الصفا والمروة غير خارج عنها- كما سبق بيانه-، فهو من الزيادة المعتبرة شرعًا، والقواعد المذكورة ليست مُرسَلَة بل هي مَضبوطة بكون الزيادة لا تخالف تحديدًا شرعيًّا، وهذا هو ما ندعيه هنا وقد دَلَّلنا عليه وذكرنا النقول التي تُعَضِّده.
الخامس: هذا التعديل الذي أجرته الحكومة السعودية مؤخرًا لم يكن هو التعديل الوحيد الذي حَدَث لعَرض المسعى؛ فقد نقل الأَثْبَاتُ من المؤرخين؛ كأبي الوليد الأزرقي في "تاريخه"، والفاكهي والقطب الحنفي في كتابه "الإعلام بأعلام بيت الله الحرام" وغيرهم خبر الزيادة التي أجراها المهدي العباسي في عَرض مَشعر المسعى، وقد استشكل القطب الحنفي ذلك، ثم أجاب عن هذا الإشكال فقال (ص: 105-106، ط. مكتبة الثقافة الدينية): [وأمَّا المكان الذي يُسعى فيه الآن فلا يتحقَّق أنه بعضٌ مِنَ المسْعَى الذي سعى فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو غيره، فكيف يصحُّ السعيُ فيه وقد حُوِّل عن محلِّه كما ذكر هؤلاء الثقات؟ ولعلَّ الجواب عن ذلك أنَّ المسعى في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان عريضًا، وبُنيت تلك الدور بعد ذلك في عَرْض المسعى القديم فهدمها المهدي وأدخل بعضها في المسجد الحرام، وترك بعضها للسعي فيه، ولم يحوَّل تحويلًا كليًّا، وإلا لأنكره علماء الدين من العلماء المجتهدين رضي الله عنهم أجمعين مع توافرهم إذ ذاك، فكان الإمامان أبو يوسف ومحمد بن الحسن رضي الله عنهما والإمام مالك رضي الله عنه موجودين، وقد أقرُّوا ذلك وسكتوا. وكذلك مَن صار بعد ذلك الوقت في رتبة الاجتهاد، كالإمام الشافعي وأحمد بن حنبل وبقية المجتهدين رضي الله عنهم فكان إجماعًا منهم رضي الله عنهم على صحة السعي من غير نكيرٍ نُقِل عنهم] اهـ.
والمتأمل في هذه الأمور السابقة كلِّها يَقطع بمشروعية السعي في المسعى الجديد، ويَقطع أيضًا بأن ما قام به ولاةُ الأمور في المملكة العربية السعودية من تعديلٍ في عَرض المسعى هو أمرٌ حَسَنٌ محمودٌ مُتَّسق مع مطلوبات الشرع ومقاصده؛ فهو من التعاون على البر والتقوى، وقد قال تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى﴾ [المائدة: 2].
وهو من تعظيم شعائر الله التي قال فيها عز مِن قائل: ﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾ [الحج: 32]؛ قال الإمام البيضاوي في "تفسيره" (295-296، ط. دار صادر، مع "حاشية الشهاب"): [﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ﴾ دين الله أو فرائض الحج ومواضع نسكه. ﴿فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾ فإن تعظيمها منه من أفعال ذوي تقوى القلوب] اهـ بتصرف.
ومن تعظيم شعائر الله إجلالُها والقيامُ بها والتزامُها ومراعاةُ أحكامها وشرائطها وتكميلُها على أكمل ما يقدر عليه العبد، وكذلك إعانةُ الغير على ذلك كله، ولا يخفى تَحَقُّق كل هذه المعاني في عملية التوسعة.
وكذلك فإن فيه من التيسير ورفع العنت عن المسلمين في أداء شعائرهم ومناسكهم ما هو واضح لكل ذي عينين، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم فيما رواه البخاريُّ ومسلمٌ عن أنس بن مالك رضي الله عنه واللفظ للبخاري: «يَسِّروا ولا تُعَسِّروا، وبَشِّروا ولا تُنَفِّروا».
كما أن فيه التَّحَرِّي لما يجب على ولي الأمر من رعايةٍ لمن يليهم، حيث تتزايد أعداد الحجيج والمعتمرين كل عام بما يوجب على ولي الأمر أن يأخذ في اعتباره هذا التزايد ويبحث عن طرق شرعية لمواجهته.
وفيه رعاية لمقصد حفظ النفس التي هي إحدى الضروريات الخمس التي يجب حفظها في كل المِلَل، وغير خافٍ ما يحدث من تهارج وتزاحم بين الحجيج قد يؤدي مع ضيق المسعى إلى تلف النفوس المعصومة، ومعلوم أن التزاحم في المناسك ليس مقصودًا شرعيًّا، والشرع قد نظر إلى التوسعة على الناسكين ووقايتهم من التدافع والتزاحم وراعاها، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم ما سُئِل عن شيء قُدِّم ولا أُخِّر في حجة الوداع إلا قال: «افْعَلْ وَلَا حَرَج» رواه البخاري، وليس هذا إلا لمنعِ التدافع والتزاحم.
والله سبحانه وتعالى أعلم.
توسعة المسعى
ما حكم السَّعي في المسعى الجديد الذي أنشأته الحكومة السعودية؛ بغرض توسعة مكان السعي بين الصفا والمروة، وما حكم الإقدام على هذه التوسعة ابتداءً، حيث يَذكر بعض الناس أن عَرض المسعى مُحَدَّدٌ معروف لا تجوز الزيادة عليه، وأن الزيادة عليه افتئات على الدين واستدراك على الشرع؟
أصل السعي لغةً هو: التَّصَرُّف في كل عملٍ، ومنه قوله تعالى: ﴿وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى﴾ [النجم: 39] أي: إلا ما عمل.
وقد يُطلَق أيضًا ويُراد منه أحد أمورٍ، منها:
القَصد؛ كما في قول القائل: "سعى الرجل". إذا قصد، وبه فُسِّر قوله تعالى: ﴿فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللهِ﴾ [الجمعة: 9] أي: فاقصدوا. ويقال: "سَعى لهم، وعليهم". أي: عمل لهم فكسب. ويقال: "سعى" إذا مشى.
أما في اصطلاح الشرع فالمراد به هو: قطع المسافة بين الصفا والمروة سبعَ مراتٍ ذهابًا وإيابًا بعد أن يكون الناسك قد طافَ بالبيت المُعَظَّم في الحج أو العمرة.
وقد اختلف العلماء في حكم السعي:
فذهب الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة إلى أنه ركنٌ من أركان الحج والعمرة لا يتم أحدهما إلا به.
وذهب الحنفية إلى أنه واجبٌ لا رُكن، فمن تركه -عندهم- فعليه دَمٌ وحَجُّه تام.
وذهب أحمد -في روايةٍ عنه- إلى أنه سُنَّة ولا يجب بتركه دمٌ، وهو مرويٌّ أيضًا عن بعض السلف.
لكنَّ القَدْر المتفق عليه بين الجميع هو أن السعي من جُملة المطلوبات الشرعية.
والصفا والمروة اللذان أناط الشرع الشريف الحكم بهما -في مثل قوله تعالى: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ البَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: 158]، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم للحجيج الذين أَهَلُّوا بالحج مفرَدًا: «أَحِلُّوا مِنْ إِحْرَامِكُمْ، فَطُوفُوا بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ...» الحديث. رواه البخاري ومسلم واللفظ له- هما الجبلان المتقابلان المعروفان بمكة المكرمة؛ الأول بسفح جبل أبي قُبَيسٍ، والثاني بسفح جبل قُعَيقِعان. يُنظر: "تاج العروس" للزَّبيدي (باب الهاء فصل الصاد، وفصل الميم)، و"شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام" للتقي الفاسي (2/ 218-258، ط. دار الكتب العلمية).
وهذا المسعى الواقع بين جبلي الصفا والمروة كان الناس في السابق قد بَنَوا على جانبيه الشرقي والغربي وطرفيه الجنوبي والشمالي دُورًا ومنازل وحوانيت مما أدى إلى ضيقه. (وَصَف ذلك بشيءٍ من التفصيل الدكتور عويد المطرفي -وهو ممن نشأ في هذه البقاع من صباه إلى شبابه وتابع التغيرات الطارئة على الجبلين والمسعى، وهو أيضًا أحد مؤلفي الأطلس التاريخي لمكة والمشاعر- في كتابه "رفع الأعلام بأدلة توسيع عرض المسعى المشعر الحرام")، فقامت الحكومة السعودية عام 1375هـ بإزالة هذه المباني بعد تعويض أصحابها؛ ليَتَمَحَّض المسعى بعد ذلك للسعي والتعبد ويتسع للمسلمين الراغبين في أداء عبادتهم ونسكهم، ثم حدث أن زاد عدد الحجاج والمعتمرين بعد ذلك ازديادًا عظيمًا، فارتأت الحكومة السعودية القيام بتوسعةٍ أخرى جديدة في عَرض المسعى؛ لأجل أن تُيسر للمسلمين أداء سعيهم مشفوعًا بتحقق سلامتهم.
والذي نراه هو أن السعي في المسعى الجديد سعيٌ صحيحٌ تَبْرأُ به الذمة وتَسقُط به المطالبة والتكليف؛ فقد قال تعالى: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ البَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: 158]؛ ففي هذه الآية الكريمة قد أَمَر الله تعالى بالسعي بين الصفا والمروة، فدَلَّ هذا -بالمنطوق- على أن كل ما كان بين الجبلين فهو مكان للسعي؛ لأن الآية أطلقت ولم تخص محلًّا دون محلٍّ مما هو بين الجبلين، والمسعى الجديد واقعٌ بين الجبلين.
وينبغي هنا أن نلفت النظر إلى أمور مهمة، بتقريرها وفهمها يتم الاستدلال على مشروعية المسعى الجديد وصحَّة السعي فيه:
أولها: أنَّ المعتبر في هذا المقام هو ما يَصْدُقُ عليه اسمُ الصفا والمروة لغةً؛ لأن الشَّرع قد خاطبنا باللسان العربي، فالأصل أن يُحمَل الكلام على معناه اللغوي إلا أن ينقله الشرع إلى معنىً خاص، فيقدم حينئذٍ المعنى الشرعي على المعنى اللغوي -كما هو مُقَرَّرٌ في أصول الفقه-، وليس هذا حاصلًا هنا.
والنبي صلى الله عليه وآله وسلم قد قام على موضعٍ مخصوصٍ من الصفا لا تُعرف عَينُه الآن، ثم سعى إلى المروة فقام على موضعٍ مخصوصٍ منها كذلك، ثم عاد في الشوط الثاني إلى الصفا ثم المروة، وهكذا سبعًا، ويُحتمل أنه قد قام وسعى في المرات التالية للمرة الأولى في نفس الطريق الأول والمواضع الأولى، ويُحتمل أن يكون قد وقع ذلك فيما يَقرب منه، ومع هذا فإنه لم يجئْ عنه صلى الله عليه وآله وسلم ولا عن أحدٍ من أصحابه شيءٌ يُخَصِّص محلًّا معينًا مما بين الصفا والمروة بأنه هو الذي يُسعى فيه دون غيره مما يقع بينهما، وذلك مُؤذِنٌ بأنَّ هذا التحديدَ والتقييدَ غيرُ مقصودٍ شرعًا.
يقول الشيخ عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني رحمه الله تعالى [ت1386هـ] في رسالته -المخطوطة- في توسعة المسعى بين الصفا والمروة: [وعدم مجيء شيء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في تحديد عَرض المسعى يُشعِر بأن تحديده غير مقصودٍ شرعًا، وإلا لكان -لتعرضه لمزاحمة الأبنية- أولى بالتحديد من عرفات ومزدلفة ومنًى، وقد ورد في تحديدها ما ورد] اهـ.
ولذلك أيضًا لم تتعرَّض كتب الفقه لتحديد المسافة العَرضية للمسعى بل تعرَّضت لتقرير أن مِن واجبات السعي استيفاءَ المسافة بين جبلي الصفا والمروة، وبعضُها قد ذكر تحديد المسافة الطولية وأنها مقدرةٌ بسبعمائةٍ وسبعةٍ وسبعين ذراعًا دون تعرُّضٍ للمسافة العَرضية، وهذا مُشعِرٌ بأنَّ مَدار الحُكم ومُتَعَلَّقَه في استيفاء المسافة الطولية هو أداء شعيرة السعي بين الجبلين بصرف النظر عن السعة العَرضية ما دام أنه يَصْدُق على الساعي أنه قد أَدَّى شعيرة السعي بينهما وفي حدودهما، فمدلول الحكم في تحديد العَرض هو مدلول كلمة جبل الصفا، وجبل المروة بكامل المدلول اللغوي لهذين الاسمين؛ لأنه لم يرد تحديدٌ شرعيٌ لهما ينافي هذا المدلول اللُّغَوي.
وقد سُئِل الإمامُ شمسُ الدين الرملي في "فتاويه" (2/ 86، ط. المكتبة الإسلامية): [هل ضُبِط عَرض المَسعى؟ فأجاب بقوله: لم أرَ من ضبطه، وسكوتهم عنه لعدم الاحتياج إليه؛ فإن الواجب استيعاب المسافة التي بين الصفا والمروة كل مرة بأن يلصق عقبه بما يذهب منه ورءوس أصابع رجليه بما يذهب إليه، والراكب يلصق حافر دابته] اهـ.
وقال أيضًا في "نهاية المحتاج": [ولم أرَ في كلامهم ضبط عَرض المسعى، وسكوتهم عنه؛ لعدم الاحتياج إليه؛ فإن الواجب استيعاب المسافة التي بين الصفا والمروة كل مرة، ولو الْتَوَى في سعيه عن محل السعي يسيرًا لم يضر كما نص عليه الشافعي رضي الله عنه] اهـ.
وأما ما ذكره بعض المؤرخين من أنَّ عَرض المسعى خمسة وثلاثون ذراعًا فليس ذلك تحديدًا شرعيًّا منهم لعَرض المسعى بحيث يكون مُلزمًا لا يَحِل الزيادةُ عليه، بل هو وَصفٌ للواقع الذي شاهدوه؛ حيث لم يحدد النبي صلى الله عليه وآله وسلم عَرض المسعى ولا حَدَّده المسلمون بحدود معلومة، فكان الواجب في السعي هو أن يكون بين الصفا والمروة على ما كانا عليه قبل أن تنالَهما التغييرات بالتكسير أو النسف أو البناء عليها أو بينهما.
قال العلامةُ الشيخ عبد الحميد الشَّرْواني في "حواشيه" المفيدة على "تحفة المحتاج" ما نصه: [هَذَا، وَلَك أَنْ تَقُولَ: الظَّاهِرُ أَنَّ التَّقْدِيرَ لِعَرْضِهِ -أَيْ المَسْعَى- بِخَمْسَةٍ وَثَلَاثِينَ أَوْ نَحْوِهَا عَلَى التَّقْرِيبِ إذْ لَا نَصَّ فِيهِ يُحْفَظُ عَنْ السُّنَّةِ، فَلَا يَضُرُّ الِالْتِوَاءُ الْيَسِيرُ لِذَلِكَ بِخِلَافِ الْكَثِيرِ، فَإِنَّهُ يَخْرُجُ عَنْ تَقْدِيرِ الْعَرْضِ وَلَوْ عَلَى التَّقْرِيبِ. فَلْيُتَأَمَّلْ] اهـ.
الثاني: أن المسعى الذي هدمته الحكومة السعودية مؤخرًا ليس هو المسعى الذي كان في العهد النبوي ولا في عهد الصحابة رضوان الله عليهم، بل أصل المسعى قد أُخذ من عَرضه بزحف المباني عليه شرقًا وغربًا عبر العصور اللاحقة؛ ويؤكد ذلك ما ورد عَنْ يَحْيَى بْنِ عُثْمَانَ بْنِ الْأَرْقَمِ قال: حَدَّثَنِي جَدِّي عُثْمَانُ بْنُ الْأَرْقَمِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: أَنَا ابْنُ سُبُعِ الْإِسْلَامِ، أَسْلَمَ أَبِي سَابِعَ سَبْعَةٍ، وَكَانَتْ دَارُهُ عَلَى الصَّفَا، وَهِيَ الدَّارُ الَّتِي كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآله وسَلَّمَ يَكُونُ فِيهَا فِي الْإِسْلَامِ، وَفِيهَا دَعَا النَّاسَ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَأَسْلَمَ فِيهَا قَوْمٌ كَثِيرٌ، وَقَالَ رَسُولُ اﷲ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الإثْنَيْنِ فِيهَا: «اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ بِأَحَبِّ الرَّجُلَيْنِ إِلَيْكَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَوْ عَمْرِو بْنِ هِشَامٍ»، فَجَاءَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ مِنَ الْغَدِ بَكْرَةً، فَأَسْلَمَ فِي دَارِ الْأَرْقَمِ، وَخَرَجُوا مِنْهَا وَكَبَّرُوا وَطَافُوا بِالْبَيْتِ ظَاهِرِينَ، وَدُعِيَتْ دَارُ الْأَرْقَمِ دَارُ الْإِسْلَامِ، وَتَصَدَّقَ بِهَا الْأَرْقَمُ عَلَى وَلَدِهِ، فَقَرَأْتُ نُسْخَةَ صَدَقَةِ الْأَرْقَمِ بِدَارِهِ: بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هَذَا مَا قَضَى الْأَرْقَمُ فِي رَبْعِهِ مَا حَازَ الصَّفَا، أَنَّهَا صَدَقَةٌ بِمَكَانِهَا مِنَ الْحَرَمِ لَا تُبَاعُ، وَلَا تُورَّثُ، شَهِدَ هِشَامُ بْنُ الْعَاصِ، وَفُلَانٌ مَوْلَى هِشَامِ بْنِ الْعَاصِ، قَالَ: فَلَمْ تَزَلْ هَذِهِ الدَّارُ صَدَقَةً قَائِمَةً فِيهَا وَلَدُهُ يَسْكُنُونَ وَيُؤَاجِرُونَ وَيَأْخُذُونَ عَلَيْهَا حَتَّى كَانَ زَمَنُ أَبِي جَعْفَرٍ... قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ -أَحَدُ رُواةِ الحَدِيث-: فَأَخْبَرَنِي أَبِي، عَنْ يَحْيَى بْنِ عِمْرَانَ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ الْأَرْقَمِ، قَالَ: إِنِّي لَأَعْلَمُ الْيَوْمَ الَّذِي وَقَعَ فِي نَفْسِ أَبِي جَعْفَرٍ أَنَّهُ يَسْعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فِي حَجَّةٍ حَجَّهَا وَنَحْنُ عَلَى ظَهْرِ الدَّارِ، فَيَمُرُّ تَحْتَنَا لَوْ أَشَاءُ أَنْ آخُذَ قَلَنْسُوَتَهُ لَأَخَذْتُهَا، وَإنَّهُ لَيَنْظُرُ إِلَيْنَا مِنْ حِينِ يَهْبِطُ الْوَادِيَ حَتَّى يَصْعَدَ إِلَى الصَّفَا... الحديث. رواه الإمام الحاكم في "المستدرك"، وسكت عنه الذهبي في "التلخيص".
والشاهد من هذا الحديث أن دار الأرقم كانت على الصفا قديمًا، ودار الأرقم موضعها معروفٌ في القديم والحديث لم يتغير، والخريطة التي أعدَّتْها هيئةُ المساحة المصرية عام 1947م توضح أن دار الأرقم تبعد أكثر من ثلاثين مترًا عن حدود منتهى عَرض المسعى في التوسعة السعودية الأولى، ومشروع المسعى الجديد يمتد إلى شرق المسعى عشرين مترًا، فيكون هذا الامتداد داخلًا في حيِّزِ المسعى الحقيقي.
الثالث: أن جبلي الصفا والمروة قد تعرَّضا عبر الأزمان لتغيرات من تكسيرٍ وتشذيبٍ وتسويةٍ مع سطح الأرض، من هذه التغيرات ما هو بفعل عوامل الطبيعة، ومنها ما هو بتدخل الإنسان؛ ففي عام 1375هـ تم تقطيع أكتاف جبل الصفا وفتح عليها شارع لمرور السيارات، ثم في عام 1401هـ تمت إزالة هذا الشارع وقطع الجبل من أصله وفصل موضع الصفا عن الجبل، وفتح بينه وبين الجبل الأصلي طريق متسع للمشاة بين ما بقي من أصل الجبل وبين جُـدُر الصفا.
وهذه التغيرات قد أدت إلى أن يتغير حجم الجبل عمَّا كان في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وما قبله، ومعلومٌ أن إزالة جزء من صخور الجبلين لا يُغَيِّر الحكم الشرعي في السعي بين مكاني هذه الصخور ولو سُوِّيا بالأرض.
ونظير هذا ما ذكره الفقهاء، ومنهم: سيدي أحمد الدردير في "شرحه الكبير على مختصر خليل" من كتب المالكية (1/ 224-225، ط. دار إحياء الكتب العربية، مع "حاشية الدسوقي") من أنه: [لو هُدِمَت الْكَعْبَةُ وَنُقِلَ حَجَرُهَا وَنُسِيَ مَحَلُّهَا، حَمَاهَا اللهُ تَعَالَى بِفَضْلِهِ مِنْ ذَلِكَ، فَالْوَاجِبُ إذْ ذَاكَ الِاجْتِهَادُ فِي اسْتِقْبَالِ جِهَتِهَا اتِّفَاقًا] اهـ.
فزوال جِرمها لا يوجب زوال وجوب استقبال مكانها، فكأنَّ لها وجودًا حُكميًّا، فكذلك ما نحن فيه، فإن ما تمت إزالته من جِرم الصفا والمروة حتى وإن لم يكن له وجودٌ حقيقي فإن له وجودًا حُكميًّا فيصحُّ السعيُ في حدوده.
ولما هَمَّت الحكومة السعودية بالتوسعة الأخيرة استكتبت غير واحدٍ من العلماء، ومنهم من عاش في مكة من طفولته إلى شيخوخته ورآها على طبيعتها لم تتغير معالمها قبل حدوث توسعة الحرم المكي الشريف، كما استدعت مجموعةً من كبار السن من أفاضل شيوخ مكة المكرمة ممن كانوا يقطنون منطقة الصفا والمروة أصغرُهُم قد تجاوز السبعين عامًا وأدلوا بشهاداتهم أمام قاضي مكة وسجلت شهاداتهم، وكان حاصلُ كلام هؤلاء وأولئك هو أن جبلي الصفا والمروة كانا ممتدين فيما مضى بأكثر مما هو واقعٌ اليوم بمسافة تشمل وتستوعب الزيادة الحادثة.
ومن المقرر أن أمثال هذه الشهادات والنقول كافيةٌ في باب الإثبات؛ يقول الإمام ابن القيم في "إعلام الموقعين" (2/ 282، ط. دار الكتب العلمية): [وَأَمَّا نَقْلُ الْأَعْيَانِ وَتَعْيِينُ الْأَمَاكِنِ فَكَنَقْلِهِمْ الصَّاعَ وَالْمُدَّ وَتَعْيِينُ مَوْضِعِ الْمِنْبَرِ وَمَوْقِفِهِ لِلصَّلَاةِ وَالْقَبْرِ وَالْحُجْرَةِ وَمَسْجِدِ قُبَاءَ وَتَعْيِينُ الرَّوْضَةِ وَالْبَقِيعِ وَالْمُصَلَّى وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَنَقْلُ هَذَا جَارٍ مَجْرَى نَقْلِ مَوَاضِعِ الْمَنَاسِكِ كَالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَمِنًى وَمَوَاضِعِ الْجَمَرَاتِ وَمُزْدَلِفَةَ وَعَرَفَةَ وَمَوَاضِعِ الْإِحْرَامِ كَذِي الْحُلَيْفَةِ وَالْجُحْفَةِ وَغَيْرِهِمَا] اهـ.
وقد قامت هيئة المساحة الجيولوجية السعودية أيضًا باختبار عينات جبل الصفا والمنطقة التي ستشملها توسعة المسعى في الجهة الشرقية، فأثبتت في تقريرها أن جبل الصفا لسانٌ من أبي قبيس لديه امتداد سطحي بالناحية الشرقية مسامت للمشعر بما يقارب ثلاثين مترًا، وأن جبل المروة يمتد امتدادًا سطحيًّا مسامتًا للمشعر الحالي بما يقارب واحدًا وثلاثين مترًا، وهذا يُعَضِّد أيضًا ما نقله الشهود.
والاعتراضُ بأننا متعبَّدون بالظاهر وأن استعمال المعارف الجيولوجية بالتنقيب في باطن الأرض تَكَلُّفٌ لم يأمرنا الله تعالى به حتى نمتثل ما شرعه غيرُ سديدٍ؛ لأننا لا نَتَكلَّف مجرد استخراج مستور بل إننا نبحث عما يدل على ما كان ظاهرًا ومشاهدًا ومعلومًا من امتداد جبلي الصفا والمروة وتمت إزالته، فأخذ عينةٍ من باطن الأرض في مثل هذه الحال ضرورة لإثبات ما كان ظاهرًا وأزيل؛ لأن مكونات الجبل واحدة في أعلاه وفي أسفله.
الرابع: من المقرر في قواعد الشريعة أن الزيادة المتصلة تتبع أصلها، وأن الزيادة لها حُكم المَزيد فيه، وأن ما جاوَر الشيء أَخَذ حُكمه، وهذه القواعد كلُّها تنطبق على المسعى الجديد من حيث اتصاله بمكان المسعى القديم، والاعتراضُ على تخريج هذه النازلة على هذه القواعد بأن المَشعَر توقيفي لا تجوز الزيادة عليه، وأن القول بإلحاق الزيادة بالمَزيد يجعل الأمر غير مُنضبط بحَدٍّ مُعَيَّن اعتراضٌ مدفوعٌ بأن المسعى الجديد لا يخرج عن حَيِّز التوقيف؛ حيث إنه في حدود ما بين الصفا والمروة غير خارج عنها- كما سبق بيانه-، فهو من الزيادة المعتبرة شرعًا، والقواعد المذكورة ليست مُرسَلَة بل هي مَضبوطة بكون الزيادة لا تخالف تحديدًا شرعيًّا، وهذا هو ما ندعيه هنا وقد دَلَّلنا عليه وذكرنا النقول التي تُعَضِّده.
الخامس: هذا التعديل الذي أجرته الحكومة السعودية مؤخرًا لم يكن هو التعديل الوحيد الذي حَدَث لعَرض المسعى؛ فقد نقل الأَثْبَاتُ من المؤرخين؛ كأبي الوليد الأزرقي في "تاريخه"، والفاكهي والقطب الحنفي في كتابه "الإعلام بأعلام بيت الله الحرام" وغيرهم خبر الزيادة التي أجراها المهدي العباسي في عَرض مَشعر المسعى، وقد استشكل القطب الحنفي ذلك، ثم أجاب عن هذا الإشكال فقال (ص: 105-106، ط. مكتبة الثقافة الدينية): [وأمَّا المكان الذي يُسعى فيه الآن فلا يتحقَّق أنه بعضٌ مِنَ المسْعَى الذي سعى فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو غيره، فكيف يصحُّ السعيُ فيه وقد حُوِّل عن محلِّه كما ذكر هؤلاء الثقات؟ ولعلَّ الجواب عن ذلك أنَّ المسعى في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان عريضًا، وبُنيت تلك الدور بعد ذلك في عَرْض المسعى القديم فهدمها المهدي وأدخل بعضها في المسجد الحرام، وترك بعضها للسعي فيه، ولم يحوَّل تحويلًا كليًّا، وإلا لأنكره علماء الدين من العلماء المجتهدين رضي الله عنهم أجمعين مع توافرهم إذ ذاك، فكان الإمامان أبو يوسف ومحمد بن الحسن رضي الله عنهما والإمام مالك رضي الله عنه موجودين، وقد أقرُّوا ذلك وسكتوا. وكذلك مَن صار بعد ذلك الوقت في رتبة الاجتهاد، كالإمام الشافعي وأحمد بن حنبل وبقية المجتهدين رضي الله عنهم فكان إجماعًا منهم رضي الله عنهم على صحة السعي من غير نكيرٍ نُقِل عنهم] اهـ.
والمتأمل في هذه الأمور السابقة كلِّها يَقطع بمشروعية السعي في المسعى الجديد، ويَقطع أيضًا بأن ما قام به ولاةُ الأمور في المملكة العربية السعودية من تعديلٍ في عَرض المسعى هو أمرٌ حَسَنٌ محمودٌ مُتَّسق مع مطلوبات الشرع ومقاصده؛ فهو من التعاون على البر والتقوى، وقد قال تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى﴾ [المائدة: 2].
وهو من تعظيم شعائر الله التي قال فيها عز مِن قائل: ﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾ [الحج: 32]؛ قال الإمام البيضاوي في "تفسيره" (295-296، ط. دار صادر، مع "حاشية الشهاب"): [﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ﴾ دين الله أو فرائض الحج ومواضع نسكه. ﴿فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾ فإن تعظيمها منه من أفعال ذوي تقوى القلوب] اهـ بتصرف.
ومن تعظيم شعائر الله إجلالُها والقيامُ بها والتزامُها ومراعاةُ أحكامها وشرائطها وتكميلُها على أكمل ما يقدر عليه العبد، وكذلك إعانةُ الغير على ذلك كله، ولا يخفى تَحَقُّق كل هذه المعاني في عملية التوسعة.
وكذلك فإن فيه من التيسير ورفع العنت عن المسلمين في أداء شعائرهم ومناسكهم ما هو واضح لكل ذي عينين، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم فيما رواه البخاريُّ ومسلمٌ عن أنس بن مالك رضي الله عنه واللفظ للبخاري: «يَسِّروا ولا تُعَسِّروا، وبَشِّروا ولا تُنَفِّروا».
كما أن فيه التَّحَرِّي لما يجب على ولي الأمر من رعايةٍ لمن يليهم، حيث تتزايد أعداد الحجيج والمعتمرين كل عام بما يوجب على ولي الأمر أن يأخذ في اعتباره هذا التزايد ويبحث عن طرق شرعية لمواجهته.
وفيه رعاية لمقصد حفظ النفس التي هي إحدى الضروريات الخمس التي يجب حفظها في كل المِلَل، وغير خافٍ ما يحدث من تهارج وتزاحم بين الحجيج قد يؤدي مع ضيق المسعى إلى تلف النفوس المعصومة، ومعلوم أن التزاحم في المناسك ليس مقصودًا شرعيًّا، والشرع قد نظر إلى التوسعة على الناسكين ووقايتهم من التدافع والتزاحم وراعاها، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم ما سُئِل عن شيء قُدِّم ولا أُخِّر في حجة الوداع إلا قال: «افْعَلْ وَلَا حَرَج» رواه البخاري، وليس هذا إلا لمنعِ التدافع والتزاحم.
والله سبحانه وتعالى أعلم.
أصل السعي لغةً هو: التَّصَرُّف في كل عملٍ، ومنه قوله تعالى: ﴿وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى﴾ [النجم: 39] أي: إلا ما عمل.
وقد يُطلَق أيضًا ويُراد منه أحد أمورٍ، منها:
القَصد؛ كما في قول القائل: "سعى الرجل". إذا قصد، وبه فُسِّر قوله تعالى: ﴿فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللهِ﴾ [الجمعة: 9] أي: فاقصدوا. ويقال: "سَعى لهم، وعليهم". أي: عمل لهم فكسب. ويقال: "سعى" إذا مشى.
أما في اصطلاح الشرع فالمراد به هو: قطع المسافة بين الصفا والمروة سبعَ مراتٍ ذهابًا وإيابًا بعد أن يكون الناسك قد طافَ بالبيت المُعَظَّم في الحج أو العمرة.
وقد اختلف العلماء في حكم السعي:
فذهب الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة إلى أنه ركنٌ من أركان الحج والعمرة لا يتم أحدهما إلا به.
وذهب الحنفية إلى أنه واجبٌ لا رُكن، فمن تركه -عندهم- فعليه دَمٌ وحَجُّه تام.
وذهب أحمد -في روايةٍ عنه- إلى أنه سُنَّة ولا يجب بتركه دمٌ، وهو مرويٌّ أيضًا عن بعض السلف.
لكنَّ القَدْر المتفق عليه بين الجميع هو أن السعي من جُملة المطلوبات الشرعية.
والصفا والمروة اللذان أناط الشرع الشريف الحكم بهما -في مثل قوله تعالى: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ البَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: 158]، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم للحجيج الذين أَهَلُّوا بالحج مفرَدًا: «أَحِلُّوا مِنْ إِحْرَامِكُمْ، فَطُوفُوا بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ...» الحديث. رواه البخاري ومسلم واللفظ له- هما الجبلان المتقابلان المعروفان بمكة المكرمة؛ الأول بسفح جبل أبي قُبَيسٍ، والثاني بسفح جبل قُعَيقِعان. يُنظر: "تاج العروس" للزَّبيدي (باب الهاء فصل الصاد، وفصل الميم)، و"شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام" للتقي الفاسي (2/ 218-258، ط. دار الكتب العلمية).
وهذا المسعى الواقع بين جبلي الصفا والمروة كان الناس في السابق قد بَنَوا على جانبيه الشرقي والغربي وطرفيه الجنوبي والشمالي دُورًا ومنازل وحوانيت مما أدى إلى ضيقه. (وَصَف ذلك بشيءٍ من التفصيل الدكتور عويد المطرفي -وهو ممن نشأ في هذه البقاع من صباه إلى شبابه وتابع التغيرات الطارئة على الجبلين والمسعى، وهو أيضًا أحد مؤلفي الأطلس التاريخي لمكة والمشاعر- في كتابه "رفع الأعلام بأدلة توسيع عرض المسعى المشعر الحرام")، فقامت الحكومة السعودية عام 1375هـ بإزالة هذه المباني بعد تعويض أصحابها؛ ليَتَمَحَّض المسعى بعد ذلك للسعي والتعبد ويتسع للمسلمين الراغبين في أداء عبادتهم ونسكهم، ثم حدث أن زاد عدد الحجاج والمعتمرين بعد ذلك ازديادًا عظيمًا، فارتأت الحكومة السعودية القيام بتوسعةٍ أخرى جديدة في عَرض المسعى؛ لأجل أن تُيسر للمسلمين أداء سعيهم مشفوعًا بتحقق سلامتهم.
والذي نراه هو أن السعي في المسعى الجديد سعيٌ صحيحٌ تَبْرأُ به الذمة وتَسقُط به المطالبة والتكليف؛ فقد قال تعالى: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ البَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: 158]؛ ففي هذه الآية الكريمة قد أَمَر الله تعالى بالسعي بين الصفا والمروة، فدَلَّ هذا -بالمنطوق- على أن كل ما كان بين الجبلين فهو مكان للسعي؛ لأن الآية أطلقت ولم تخص محلًّا دون محلٍّ مما هو بين الجبلين، والمسعى الجديد واقعٌ بين الجبلين.
وينبغي هنا أن نلفت النظر إلى أمور مهمة، بتقريرها وفهمها يتم الاستدلال على مشروعية المسعى الجديد وصحَّة السعي فيه:
أولها: أنَّ المعتبر في هذا المقام هو ما يَصْدُقُ عليه اسمُ الصفا والمروة لغةً؛ لأن الشَّرع قد خاطبنا باللسان العربي، فالأصل أن يُحمَل الكلام على معناه اللغوي إلا أن ينقله الشرع إلى معنىً خاص، فيقدم حينئذٍ المعنى الشرعي على المعنى اللغوي -كما هو مُقَرَّرٌ في أصول الفقه-، وليس هذا حاصلًا هنا.
والنبي صلى الله عليه وآله وسلم قد قام على موضعٍ مخصوصٍ من الصفا لا تُعرف عَينُه الآن، ثم سعى إلى المروة فقام على موضعٍ مخصوصٍ منها كذلك، ثم عاد في الشوط الثاني إلى الصفا ثم المروة، وهكذا سبعًا، ويُحتمل أنه قد قام وسعى في المرات التالية للمرة الأولى في نفس الطريق الأول والمواضع الأولى، ويُحتمل أن يكون قد وقع ذلك فيما يَقرب منه، ومع هذا فإنه لم يجئْ عنه صلى الله عليه وآله وسلم ولا عن أحدٍ من أصحابه شيءٌ يُخَصِّص محلًّا معينًا مما بين الصفا والمروة بأنه هو الذي يُسعى فيه دون غيره مما يقع بينهما، وذلك مُؤذِنٌ بأنَّ هذا التحديدَ والتقييدَ غيرُ مقصودٍ شرعًا.
يقول الشيخ عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني رحمه الله تعالى [ت1386هـ] في رسالته -المخطوطة- في توسعة المسعى بين الصفا والمروة: [وعدم مجيء شيء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في تحديد عَرض المسعى يُشعِر بأن تحديده غير مقصودٍ شرعًا، وإلا لكان -لتعرضه لمزاحمة الأبنية- أولى بالتحديد من عرفات ومزدلفة ومنًى، وقد ورد في تحديدها ما ورد] اهـ.
ولذلك أيضًا لم تتعرَّض كتب الفقه لتحديد المسافة العَرضية للمسعى بل تعرَّضت لتقرير أن مِن واجبات السعي استيفاءَ المسافة بين جبلي الصفا والمروة، وبعضُها قد ذكر تحديد المسافة الطولية وأنها مقدرةٌ بسبعمائةٍ وسبعةٍ وسبعين ذراعًا دون تعرُّضٍ للمسافة العَرضية، وهذا مُشعِرٌ بأنَّ مَدار الحُكم ومُتَعَلَّقَه في استيفاء المسافة الطولية هو أداء شعيرة السعي بين الجبلين بصرف النظر عن السعة العَرضية ما دام أنه يَصْدُق على الساعي أنه قد أَدَّى شعيرة السعي بينهما وفي حدودهما، فمدلول الحكم في تحديد العَرض هو مدلول كلمة جبل الصفا، وجبل المروة بكامل المدلول اللغوي لهذين الاسمين؛ لأنه لم يرد تحديدٌ شرعيٌ لهما ينافي هذا المدلول اللُّغَوي.
وقد سُئِل الإمامُ شمسُ الدين الرملي في "فتاويه" (2/ 86، ط. المكتبة الإسلامية): [هل ضُبِط عَرض المَسعى؟ فأجاب بقوله: لم أرَ من ضبطه، وسكوتهم عنه لعدم الاحتياج إليه؛ فإن الواجب استيعاب المسافة التي بين الصفا والمروة كل مرة بأن يلصق عقبه بما يذهب منه ورءوس أصابع رجليه بما يذهب إليه، والراكب يلصق حافر دابته] اهـ.
وقال أيضًا في "نهاية المحتاج": [ولم أرَ في كلامهم ضبط عَرض المسعى، وسكوتهم عنه؛ لعدم الاحتياج إليه؛ فإن الواجب استيعاب المسافة التي بين الصفا والمروة كل مرة، ولو الْتَوَى في سعيه عن محل السعي يسيرًا لم يضر كما نص عليه الشافعي رضي الله عنه] اهـ.
وأما ما ذكره بعض المؤرخين من أنَّ عَرض المسعى خمسة وثلاثون ذراعًا فليس ذلك تحديدًا شرعيًّا منهم لعَرض المسعى بحيث يكون مُلزمًا لا يَحِل الزيادةُ عليه، بل هو وَصفٌ للواقع الذي شاهدوه؛ حيث لم يحدد النبي صلى الله عليه وآله وسلم عَرض المسعى ولا حَدَّده المسلمون بحدود معلومة، فكان الواجب في السعي هو أن يكون بين الصفا والمروة على ما كانا عليه قبل أن تنالَهما التغييرات بالتكسير أو النسف أو البناء عليها أو بينهما.
قال العلامةُ الشيخ عبد الحميد الشَّرْواني في "حواشيه" المفيدة على "تحفة المحتاج" ما نصه: [هَذَا، وَلَك أَنْ تَقُولَ: الظَّاهِرُ أَنَّ التَّقْدِيرَ لِعَرْضِهِ -أَيْ المَسْعَى- بِخَمْسَةٍ وَثَلَاثِينَ أَوْ نَحْوِهَا عَلَى التَّقْرِيبِ إذْ لَا نَصَّ فِيهِ يُحْفَظُ عَنْ السُّنَّةِ، فَلَا يَضُرُّ الِالْتِوَاءُ الْيَسِيرُ لِذَلِكَ بِخِلَافِ الْكَثِيرِ، فَإِنَّهُ يَخْرُجُ عَنْ تَقْدِيرِ الْعَرْضِ وَلَوْ عَلَى التَّقْرِيبِ. فَلْيُتَأَمَّلْ] اهـ.
الثاني: أن المسعى الذي هدمته الحكومة السعودية مؤخرًا ليس هو المسعى الذي كان في العهد النبوي ولا في عهد الصحابة رضوان الله عليهم، بل أصل المسعى قد أُخذ من عَرضه بزحف المباني عليه شرقًا وغربًا عبر العصور اللاحقة؛ ويؤكد ذلك ما ورد عَنْ يَحْيَى بْنِ عُثْمَانَ بْنِ الْأَرْقَمِ قال: حَدَّثَنِي جَدِّي عُثْمَانُ بْنُ الْأَرْقَمِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: أَنَا ابْنُ سُبُعِ الْإِسْلَامِ، أَسْلَمَ أَبِي سَابِعَ سَبْعَةٍ، وَكَانَتْ دَارُهُ عَلَى الصَّفَا، وَهِيَ الدَّارُ الَّتِي كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآله وسَلَّمَ يَكُونُ فِيهَا فِي الْإِسْلَامِ، وَفِيهَا دَعَا النَّاسَ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَأَسْلَمَ فِيهَا قَوْمٌ كَثِيرٌ، وَقَالَ رَسُولُ اﷲ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الإثْنَيْنِ فِيهَا: «اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ بِأَحَبِّ الرَّجُلَيْنِ إِلَيْكَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَوْ عَمْرِو بْنِ هِشَامٍ»، فَجَاءَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ مِنَ الْغَدِ بَكْرَةً، فَأَسْلَمَ فِي دَارِ الْأَرْقَمِ، وَخَرَجُوا مِنْهَا وَكَبَّرُوا وَطَافُوا بِالْبَيْتِ ظَاهِرِينَ، وَدُعِيَتْ دَارُ الْأَرْقَمِ دَارُ الْإِسْلَامِ، وَتَصَدَّقَ بِهَا الْأَرْقَمُ عَلَى وَلَدِهِ، فَقَرَأْتُ نُسْخَةَ صَدَقَةِ الْأَرْقَمِ بِدَارِهِ: بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هَذَا مَا قَضَى الْأَرْقَمُ فِي رَبْعِهِ مَا حَازَ الصَّفَا، أَنَّهَا صَدَقَةٌ بِمَكَانِهَا مِنَ الْحَرَمِ لَا تُبَاعُ، وَلَا تُورَّثُ، شَهِدَ هِشَامُ بْنُ الْعَاصِ، وَفُلَانٌ مَوْلَى هِشَامِ بْنِ الْعَاصِ، قَالَ: فَلَمْ تَزَلْ هَذِهِ الدَّارُ صَدَقَةً قَائِمَةً فِيهَا وَلَدُهُ يَسْكُنُونَ وَيُؤَاجِرُونَ وَيَأْخُذُونَ عَلَيْهَا حَتَّى كَانَ زَمَنُ أَبِي جَعْفَرٍ... قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ -أَحَدُ رُواةِ الحَدِيث-: فَأَخْبَرَنِي أَبِي، عَنْ يَحْيَى بْنِ عِمْرَانَ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ الْأَرْقَمِ، قَالَ: إِنِّي لَأَعْلَمُ الْيَوْمَ الَّذِي وَقَعَ فِي نَفْسِ أَبِي جَعْفَرٍ أَنَّهُ يَسْعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فِي حَجَّةٍ حَجَّهَا وَنَحْنُ عَلَى ظَهْرِ الدَّارِ، فَيَمُرُّ تَحْتَنَا لَوْ أَشَاءُ أَنْ آخُذَ قَلَنْسُوَتَهُ لَأَخَذْتُهَا، وَإنَّهُ لَيَنْظُرُ إِلَيْنَا مِنْ حِينِ يَهْبِطُ الْوَادِيَ حَتَّى يَصْعَدَ إِلَى الصَّفَا... الحديث. رواه الإمام الحاكم في "المستدرك"، وسكت عنه الذهبي في "التلخيص".
والشاهد من هذا الحديث أن دار الأرقم كانت على الصفا قديمًا، ودار الأرقم موضعها معروفٌ في القديم والحديث لم يتغير، والخريطة التي أعدَّتْها هيئةُ المساحة المصرية عام 1947م توضح أن دار الأرقم تبعد أكثر من ثلاثين مترًا عن حدود منتهى عَرض المسعى في التوسعة السعودية الأولى، ومشروع المسعى الجديد يمتد إلى شرق المسعى عشرين مترًا، فيكون هذا الامتداد داخلًا في حيِّزِ المسعى الحقيقي.
الثالث: أن جبلي الصفا والمروة قد تعرَّضا عبر الأزمان لتغيرات من تكسيرٍ وتشذيبٍ وتسويةٍ مع سطح الأرض، من هذه التغيرات ما هو بفعل عوامل الطبيعة، ومنها ما هو بتدخل الإنسان؛ ففي عام 1375هـ تم تقطيع أكتاف جبل الصفا وفتح عليها شارع لمرور السيارات، ثم في عام 1401هـ تمت إزالة هذا الشارع وقطع الجبل من أصله وفصل موضع الصفا عن الجبل، وفتح بينه وبين الجبل الأصلي طريق متسع للمشاة بين ما بقي من أصل الجبل وبين جُـدُر الصفا.
وهذه التغيرات قد أدت إلى أن يتغير حجم الجبل عمَّا كان في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وما قبله، ومعلومٌ أن إزالة جزء من صخور الجبلين لا يُغَيِّر الحكم الشرعي في السعي بين مكاني هذه الصخور ولو سُوِّيا بالأرض.
ونظير هذا ما ذكره الفقهاء، ومنهم: سيدي أحمد الدردير في "شرحه الكبير على مختصر خليل" من كتب المالكية (1/ 224-225، ط. دار إحياء الكتب العربية، مع "حاشية الدسوقي") من أنه: [لو هُدِمَت الْكَعْبَةُ وَنُقِلَ حَجَرُهَا وَنُسِيَ مَحَلُّهَا، حَمَاهَا اللهُ تَعَالَى بِفَضْلِهِ مِنْ ذَلِكَ، فَالْوَاجِبُ إذْ ذَاكَ الِاجْتِهَادُ فِي اسْتِقْبَالِ جِهَتِهَا اتِّفَاقًا] اهـ.
فزوال جِرمها لا يوجب زوال وجوب استقبال مكانها، فكأنَّ لها وجودًا حُكميًّا، فكذلك ما نحن فيه، فإن ما تمت إزالته من جِرم الصفا والمروة حتى وإن لم يكن له وجودٌ حقيقي فإن له وجودًا حُكميًّا فيصحُّ السعيُ في حدوده.
ولما هَمَّت الحكومة السعودية بالتوسعة الأخيرة استكتبت غير واحدٍ من العلماء، ومنهم من عاش في مكة من طفولته إلى شيخوخته ورآها على طبيعتها لم تتغير معالمها قبل حدوث توسعة الحرم المكي الشريف، كما استدعت مجموعةً من كبار السن من أفاضل شيوخ مكة المكرمة ممن كانوا يقطنون منطقة الصفا والمروة أصغرُهُم قد تجاوز السبعين عامًا وأدلوا بشهاداتهم أمام قاضي مكة وسجلت شهاداتهم، وكان حاصلُ كلام هؤلاء وأولئك هو أن جبلي الصفا والمروة كانا ممتدين فيما مضى بأكثر مما هو واقعٌ اليوم بمسافة تشمل وتستوعب الزيادة الحادثة.
ومن المقرر أن أمثال هذه الشهادات والنقول كافيةٌ في باب الإثبات؛ يقول الإمام ابن القيم في "إعلام الموقعين" (2/ 282، ط. دار الكتب العلمية): [وَأَمَّا نَقْلُ الْأَعْيَانِ وَتَعْيِينُ الْأَمَاكِنِ فَكَنَقْلِهِمْ الصَّاعَ وَالْمُدَّ وَتَعْيِينُ مَوْضِعِ الْمِنْبَرِ وَمَوْقِفِهِ لِلصَّلَاةِ وَالْقَبْرِ وَالْحُجْرَةِ وَمَسْجِدِ قُبَاءَ وَتَعْيِينُ الرَّوْضَةِ وَالْبَقِيعِ وَالْمُصَلَّى وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَنَقْلُ هَذَا جَارٍ مَجْرَى نَقْلِ مَوَاضِعِ الْمَنَاسِكِ كَالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَمِنًى وَمَوَاضِعِ الْجَمَرَاتِ وَمُزْدَلِفَةَ وَعَرَفَةَ وَمَوَاضِعِ الْإِحْرَامِ كَذِي الْحُلَيْفَةِ وَالْجُحْفَةِ وَغَيْرِهِمَا] اهـ.
وقد قامت هيئة المساحة الجيولوجية السعودية أيضًا باختبار عينات جبل الصفا والمنطقة التي ستشملها توسعة المسعى في الجهة الشرقية، فأثبتت في تقريرها أن جبل الصفا لسانٌ من أبي قبيس لديه امتداد سطحي بالناحية الشرقية مسامت للمشعر بما يقارب ثلاثين مترًا، وأن جبل المروة يمتد امتدادًا سطحيًّا مسامتًا للمشعر الحالي بما يقارب واحدًا وثلاثين مترًا، وهذا يُعَضِّد أيضًا ما نقله الشهود.
والاعتراضُ بأننا متعبَّدون بالظاهر وأن استعمال المعارف الجيولوجية بالتنقيب في باطن الأرض تَكَلُّفٌ لم يأمرنا الله تعالى به حتى نمتثل ما شرعه غيرُ سديدٍ؛ لأننا لا نَتَكلَّف مجرد استخراج مستور بل إننا نبحث عما يدل على ما كان ظاهرًا ومشاهدًا ومعلومًا من امتداد جبلي الصفا والمروة وتمت إزالته، فأخذ عينةٍ من باطن الأرض في مثل هذه الحال ضرورة لإثبات ما كان ظاهرًا وأزيل؛ لأن مكونات الجبل واحدة في أعلاه وفي أسفله.
الرابع: من المقرر في قواعد الشريعة أن الزيادة المتصلة تتبع أصلها، وأن الزيادة لها حُكم المَزيد فيه، وأن ما جاوَر الشيء أَخَذ حُكمه، وهذه القواعد كلُّها تنطبق على المسعى الجديد من حيث اتصاله بمكان المسعى القديم، والاعتراضُ على تخريج هذه النازلة على هذه القواعد بأن المَشعَر توقيفي لا تجوز الزيادة عليه، وأن القول بإلحاق الزيادة بالمَزيد يجعل الأمر غير مُنضبط بحَدٍّ مُعَيَّن اعتراضٌ مدفوعٌ بأن المسعى الجديد لا يخرج عن حَيِّز التوقيف؛ حيث إنه في حدود ما بين الصفا والمروة غير خارج عنها- كما سبق بيانه-، فهو من الزيادة المعتبرة شرعًا، والقواعد المذكورة ليست مُرسَلَة بل هي مَضبوطة بكون الزيادة لا تخالف تحديدًا شرعيًّا، وهذا هو ما ندعيه هنا وقد دَلَّلنا عليه وذكرنا النقول التي تُعَضِّده.
الخامس: هذا التعديل الذي أجرته الحكومة السعودية مؤخرًا لم يكن هو التعديل الوحيد الذي حَدَث لعَرض المسعى؛ فقد نقل الأَثْبَاتُ من المؤرخين؛ كأبي الوليد الأزرقي في "تاريخه"، والفاكهي والقطب الحنفي في كتابه "الإعلام بأعلام بيت الله الحرام" وغيرهم خبر الزيادة التي أجراها المهدي العباسي في عَرض مَشعر المسعى، وقد استشكل القطب الحنفي ذلك، ثم أجاب عن هذا الإشكال فقال (ص: 105-106، ط. مكتبة الثقافة الدينية): [وأمَّا المكان الذي يُسعى فيه الآن فلا يتحقَّق أنه بعضٌ مِنَ المسْعَى الذي سعى فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو غيره، فكيف يصحُّ السعيُ فيه وقد حُوِّل عن محلِّه كما ذكر هؤلاء الثقات؟ ولعلَّ الجواب عن ذلك أنَّ المسعى في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان عريضًا، وبُنيت تلك الدور بعد ذلك في عَرْض المسعى القديم فهدمها المهدي وأدخل بعضها في المسجد الحرام، وترك بعضها للسعي فيه، ولم يحوَّل تحويلًا كليًّا، وإلا لأنكره علماء الدين من العلماء المجتهدين رضي الله عنهم أجمعين مع توافرهم إذ ذاك، فكان الإمامان أبو يوسف ومحمد بن الحسن رضي الله عنهما والإمام مالك رضي الله عنه موجودين، وقد أقرُّوا ذلك وسكتوا. وكذلك مَن صار بعد ذلك الوقت في رتبة الاجتهاد، كالإمام الشافعي وأحمد بن حنبل وبقية المجتهدين رضي الله عنهم فكان إجماعًا منهم رضي الله عنهم على صحة السعي من غير نكيرٍ نُقِل عنهم] اهـ.
والمتأمل في هذه الأمور السابقة كلِّها يَقطع بمشروعية السعي في المسعى الجديد، ويَقطع أيضًا بأن ما قام به ولاةُ الأمور في المملكة العربية السعودية من تعديلٍ في عَرض المسعى هو أمرٌ حَسَنٌ محمودٌ مُتَّسق مع مطلوبات الشرع ومقاصده؛ فهو من التعاون على البر والتقوى، وقد قال تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى﴾ [المائدة: 2].
وهو من تعظيم شعائر الله التي قال فيها عز مِن قائل: ﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾ [الحج: 32]؛ قال الإمام البيضاوي في "تفسيره" (295-296، ط. دار صادر، مع "حاشية الشهاب"): [﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ﴾ دين الله أو فرائض الحج ومواضع نسكه. ﴿فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾ فإن تعظيمها منه من أفعال ذوي تقوى القلوب] اهـ بتصرف.
ومن تعظيم شعائر الله إجلالُها والقيامُ بها والتزامُها ومراعاةُ أحكامها وشرائطها وتكميلُها على أكمل ما يقدر عليه العبد، وكذلك إعانةُ الغير على ذلك كله، ولا يخفى تَحَقُّق كل هذه المعاني في عملية التوسعة.
وكذلك فإن فيه من التيسير ورفع العنت عن المسلمين في أداء شعائرهم ومناسكهم ما هو واضح لكل ذي عينين، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم فيما رواه البخاريُّ ومسلمٌ عن أنس بن مالك رضي الله عنه واللفظ للبخاري: «يَسِّروا ولا تُعَسِّروا، وبَشِّروا ولا تُنَفِّروا».
كما أن فيه التَّحَرِّي لما يجب على ولي الأمر من رعايةٍ لمن يليهم، حيث تتزايد أعداد الحجيج والمعتمرين كل عام بما يوجب على ولي الأمر أن يأخذ في اعتباره هذا التزايد ويبحث عن طرق شرعية لمواجهته.
وفيه رعاية لمقصد حفظ النفس التي هي إحدى الضروريات الخمس التي يجب حفظها في كل المِلَل، وغير خافٍ ما يحدث من تهارج وتزاحم بين الحجيج قد يؤدي مع ضيق المسعى إلى تلف النفوس المعصومة، ومعلوم أن التزاحم في المناسك ليس مقصودًا شرعيًّا، والشرع قد نظر إلى التوسعة على الناسكين ووقايتهم من التدافع والتزاحم وراعاها، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم ما سُئِل عن شيء قُدِّم ولا أُخِّر في حجة الوداع إلا قال: «افْعَلْ وَلَا حَرَج» رواه البخاري، وليس هذا إلا لمنعِ التدافع والتزاحم.
والله سبحانه وتعالى أعلم.