حكم تكرار العمرة للمتمتع

اطلعنا على الطلب المقيد برقم 203 لسنة 2011م المتضمن السؤال عن حكم تكرار العمرة أكثرَ من مرةٍ للمُتَمَتِّع بعد التحلُّل من عمرته الأولى التي نوى بها التمتع بالعمرة إلى الحج.

يجوز تكرار العمرة أكثر من مرة مطلقًا، بل الإكثارُ منها مستحبٌّ مطلقًا، وهو مذهب السادة الحنفية والسادة الشافعية وجمهور العلماء من السلف والخلف، وممن حكاه عن الجمهور الماوردي والسرخسي والعبدري والنووي، وحكاه ابنُ المنذر عن علي بن أبي طالب وابن عمر وابن عباس وأنس وعائشة وعطاء وغيرهم رضي الله عنهم، ورواية عن أحمد وإسحاق بن راهويه، وهو قول مطرف وابن المواز من المالكية، ويدخل في ذلك المتمتع بعد التحلل من عمرته الأولى التي نوى بها التمتع بالعمرة إلى الحج وقبل إحرامه بالحج، ولا تمنع العمرة إلا في صور محددة يأتي بيانها تفصيلا، إلا أنه ليس منها الصورة محل السؤال، فتدخل في مطلق الاستحباب قطعًا، ومن ثَّم فمن فعل ذلك فقد أتى بأمر مستحب يثاب عليه عند الحنفية والشافعية والجمهور سلفًا وخلفًا.

وجوازُ العمرة مطلقًا فيما عدا أيام الحج الخمسة: يوم عرفة والنحر وأيام التشريق الثلاثة هو المروي عن السيدة عائشة وابن عباس رضي الله عنهم، ومقتضاه جواز تكرار اعتمار المتمتع وغيره فيما سوى هذه الأيام، ويجوز ذلك أيضًا لكن مع الكراهة عند السادة المالكية الذين ذهبوا إلى كراهة تكرار العمرة في العام أكثر من مرة.

ومعنى التمتع عند الفقهاء: أن يعتمر الرجل الذي ليس من أهل مكة، ويحل من عمرته في أشهر الحج، ثُمَّ يحج من عامه ولم يرجع إلى أُفقه، أو أُفق مثل أفقه بين الحج والعمرة، فمن حصل له ذلك فهو متمتع، وعليه شاة. وسمي تمتعًا لأنه يسْتَمْتع بالمحظورات إِذا تحلل عَن الْعمرَة إِلَى أَن يحرم بِالْحَجِّ.

وقد نصَّ الحنفية على استحباب تكرار العمرة، وأنه لا يكره الإكثار منها، وأنها جائزةٌ في جميع السنة إلا خمسة أيام هي: يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق، فيجوز عندهم تكرار العمرة للمتمتع وغيره فيما عدا هذه الأيام الخمسة. قال العلامة ابن عابدين الحنفي في رد المحتار (2/ 585 ط. دار الفكر): "تكرار العمرة في سنةٍ واحدةٍ جائزٌ بخلاف الحج، أفاده صاحب الهندية". وقال أيضا (2/ 472): "لا يكره الإكثارُ منها خلافًا لمالك، بل يستحب على ما عليه الجمهور".

وفي كتاب الهداية من كتب السادة الحنفية رحمهم الله تعالى (1/ 178 ط. دار إحياء التراث العربي) وشروحه ككتاب العناية شرح الهداية (3/ 136- 139 ط. دار الفكر)، والبناية شرح الهداية (4/ 460 ط. دار الكتب العلمية)، وفتح القدير (3/ 137 ط. دار الفكر) أن: "(العمرة لا تفوت)؛ لأنها غير مؤقتة (وهي جائزة في جميع السنة) حتى لو أهَلَّ بعمرة في أشهر الحج فقدم مكة يوم النحر يقضي عمرته، ولا دَمَ عليه، والحاصل أن جميع السنة وقتها، ويدل على جوازها في أشهر الحج بلا كراهة ما روى البخاري في صحيحه بإسناده إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- «أَنَّهُ اعْتَمَرَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ أَرْبَعَ عُمَرٍ إِلَّا الَّتِي اعْتَمَرَ مَعَ حَجَّتِهِ» (إلا خمسة أيام يكره فيها فعلها، وهي: يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق؛ لما روي عن عائشة -رضي الله تعالى عنها- أنها كانت تكره العمرة في هذه الأيام الخمسة، وأخرج البيهقي عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: العمرة في السنة كلها إلا أربعة أيام: يوم عرفة، ويوم النحر، ويومان بعد ذلك، وروى سعيد بن منصور عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: خمسة أيام: عرفة، ويوم النحر، وثلاثة أيام التشريق، اعتمر قبلها وبعدها ما شئت؛ ولأن هذه الأيام أيام الحج فكانت متعينةً له، وعن أبي يوسف -رحمه الله- أنها لا تكره في يوم عرفة قبل الزوال؛ لأن دخول وقت ركن الحج بعد الزوال لا قبله، والأظهر من المذهب ما ذكرناه) يعني كراهة العمرة يوم عرفة قبل الزوال وبعده (ولكن مع هذا لو أداها في هذه الأيام صح ويبقى محرمًا بها فيها) بالعمرة إن لم يؤدها في هذه الأيام كبناء الصلاة بعد دخول الوقت المكروه (لأن الكراهة لغيرها) أي لغير عين العمرة، أراد أن الكراهة لمعنى في غيرها لا في نفسها (وهو تعظيم أمر الحج وتخليص وقته له) ومن تعظيم أمره أن يجعل له الوقت خاصة لا يكون فيه غيره، فإذا كانت الكراهة لمعنى في غيرها (فيصح الشروع فيها)".

وعند الشافعية: يجوز الإحرام بها في كل وقت من السنة، ولا يكره في وقت من الأوقات، وسواء أشهر الحج وغيرها في جوازها فيها من غير كراهة، ولا يكره عمرتان وثلاث وأكثر في السنة الواحدة، ولا في اليوم الواحد بل يستحب الإكثار، ولا تمتنع العمرة عندهم إلا للمحرم بالحج حتى ولو تحلل من الحج التحللين وأقام بمنى للرمي والمبيت فلا ينعقد إحرامه بالعمرة؛ لأنه عاجز عن التشاغل بها لوجوب ملازمة إتمام الحج بالرمي والمبيت، وإذا نفر النفر الأول وهو بعد الرمي في اليوم الثاني من أيام التشريق فأحرم بعمرة فيما بقي من أيام التشريق ليلا أو نهارًا، فعمرتُه صحيحةٌ عندهم. وبناءً عليه فيجوز للمتمتع عند الشافعية تكرارُ العمرة فيما عدا وقت الإحرام بالحج وحتى النفر الأول بعد الرمي في ثاني أيام التشريق.

قال الإمام العمراني الشافعي في البيان (4/ 63-64 ط. دار المنهاج): "ويجوز أن يعتمر في السنة مرتين، وثلاثًا، وأكثر، ويستحب الإكثار منها، وبه قال أبو حنيفة، وقال مالك: لا يجوز في السنة إلا عمرة واحدة. وبه قال النخعي، وابن سيرين".

وقال الإمام محيي الدين النووي في المجموع شرح المهذب (7/ 147- 150 باختصار ط. دار الفكر): "قال الشافعي والأصحاب: جميع السنة وقتٌ للعمرة، فيجوز الإحرامُ بها في كل وقت من السنة، ولا يكره في وقت من الأوقات، وسواء أشهر الحج وغيرها في جوازها فيها من غير كراهة، ولا يكره عمرتان وثلاث وأكثر في السنة الواحدة، ولا في اليوم الواحد، بل يستحب الإكثار منها بلا خلاف عندنا... قال أصحابنا: وقد يمتنع الإحرام بالعمرة في بعض السنة لعارضٍ لا بسبب الوقت؛ وذلك كالمحرم بالحج لا يجوز له الإحرام بالعمرة بعد الشروع في التحلل من الحج بلا خلاف، وكذا لا يصح إحرامُه بها قبل الشروع في التحلل على المذهب ... قال أصحابنا: ولو تحلل من الحج التحللين وأقام بمنى للرمي والمبيت فأحرم بالعمرة لم ينعقدْ إحرامُه بلا خلاف، نصَّ عليه الشافعي واتفق عليه الأصحاب؛ لأنه عاجز عن التشاغل بها لوجوب ملازمة إتمام الحج بالرمي والمبيت، قال أصحابنا: ولا يلزمه بذلك شيءٌ، فأما إذا نفر النفر الأول -وهو بعد الرمي في اليوم الثاني من أيام التشريق- فأحرم بعمرة فيما بقي من أيام التشريق ليلا أو نهارًا، فعمرتُه صحيحةٌ بلا خلاف، قال الشيخ أبو محمد الجويني في كتابه الفروق وآخرون من أصحابنا: والفرق بين هاتين الصورتين أن المقيم بمنى يوم النفر وإن كان خاليًا من علائق الإحرام بالتحللين، إلا أنه مقيمٌ على نسك مشتغل بإتمامه وهو الرمي والمبيت وهما من تمام الحج، فلا تنعقد عمرتُه ما لم يكمل حجه، بخلافِ مَن نفر فإنه فرغ من الحج وصار كغير الحاج. قال أبو محمد: ولا يتصور حين يحرم بالعمرة في وقت ولا تنعقد عمرته إلا في هذه المسألة، وقد يرد على هذا ما إذا أحرم بالعمرة في حال جماعِه المرأةَ فإنه حلالٌ، ولا ينعقد إحرامُه على أصحِّ الأوجه". ثم قال الإمام النووي: "فَرْعٌ في مذاهبهم في تكرار العمرة في السنة: مذهبُنا أنه لا يكره ذلك، بل يستحب، وبه قال أبو حنيفةَ وأحمدُ وجمهورُ العلماء من السلف والخلف، وممن حكاه عن الجمهور الماوردي والسرخسي والعبدري، وحكاه ابن المنذر عن علي بن أبي طالب وابن عمر وابن عباس وأنس وعائشة وعطاء وغيرهم رضي الله عنهم. وقال الحسن البصري وابن سيرين ومالك: تُكره العمرةُ في السنة أكثرَ من مرةٍ؛ لأنها عبادة تشتمل على الطواف والسعي، فلا تفعل في السنة إلا مرةً كالحج ... والجواب عن احتجاج مالك بالقياس على الحج فهو: أن الحجَ مؤقتٌ لا يتصور تكراره في السنة، والعمرةَ غيرُ مؤقتةٍ، فتصور تكرارها كالصلاة".

وقال شيخ الإسلام زكريا الأنصاري في شرح البهجة الوردية (2/ 278 ط. الميمنية): "الأبد وقت للعمرة لكل أحد لا للحاجِّ العاكفِ بمنًى للرمي، فيمتنع إحرامُه بها، أما قبل تحلُّله فلامتناع إدخالِها على الحج، ومنه يُعلم امتناعُ إحرامِه بها وإن لم يكن بمنًى، وأما بعده فلاشتغالِه بالرمي والمبيت، فهو عاجزٌ عن التشاغل بعملها وفيه وقفة، ويؤخذ من ذلك امتناعُ حجتين في عام واحد، وهو ما نصَّ عليه في الأم وجزم به ... نعم إن تعجل في اليوم الثاني صحَّ إحرامُه بها وإن كان وقت الرمي باقيًا؛ لأنه بالنفر خرج من الحج وصار كما لو مضى وقت الرمي. نقله القاضي أبو الطيب عن نص الأم، وقال في المجموع: لا خلاف فيه ... ولا يكره الإحرام بالعمرة في وقت من الأوقات التي يجوز الإحرام بها فيها بل يسن الإكثار منها ولا يكره في العام الواحد مرارًا، فقد «أَعْمَرَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَائِشَةَ فِي عَامٍ مَرَّتَيْنِ، وَاعْتَمَرَتْ فِي عَامٍ مَرَّتَيْنِ» أَيْ: بَعْدَ وَفَاتِهِ. وفي رواية: «ثَلَاثَ عُمَرٍ» واعتمر ابن عُمَرَ أعوامًا مرتين في كل عام، رواها الشافعي والبيهقي".

وقال شيخ الإسلام ابن حجر الهيتمي -رحمه الله تعالى- في المنهاج القويم شرح المقدمة الحضرمية (ص: 274): "(يحرم بالعمرة كل وقت)؛ لأن جميع السنة وقت لها، نعم يمتنع على الحاج الإحرام بها ما دام عليه شيءٌ من أعمال الحج كالرمي؛ لأن بقاء حكم الإحرام كبقاء نفس الإحرام، ومن ثم لم يتصور حجتان في عام واحد خلافًا لمن زعم تصوره، ويسن الإكثار من العمرة ولو في اليوم الواحد؛ إذ هي أفضلُ من الطواف على المعتمد، والكلام فيما إذا استوى الزمن المصروف إليها وإليه".

وذهب المالكية إلى أن وقت العمرة جميعُ السنة إلا أيام منى مع نصهم على كراهة تكرار العمرة، وأنه لو أحرم بثانية انعقد إحرامُه، بل نقل بعضُهم الإجماعَ على انعقاده، قال الإمام ابن الحاجب المالكي في جامع الأمهات (ص 187 ط. اليمامة): "أما العمرة ففي جميع السنة إلا في أيام منًى لمن حجَّ، ولا ينعقد إلا أن يتم رميه ويحل بالإفاضة فينعقد، وفي كراهة تكرار العمرة في السنة الواحدة قولان". ووضَّح القولين العلامةُ الحطابُ في مواهب الجليل في شرح مختصر خليل (2/ 467- 468 ط. دار الفكر) فقال: "قولان: المشهور الكراهة، وهو مذهب المدونة، والشاذ لمطرف إجازة تكرارها ونحوه لابن المواز؛ لأنه قال: أرجو أن لا يكون بالعمرة مرتين في سنة بأسٌ، وقد اعتمرت عائشة مرتين في عام واحد، وفعله ابن عمر وابن المنكدر، وكرهت عائشة عمرتين في شهر، وكرهه القاسم بن محمد ... وعلى المشهور من أنه يكره تكرارُها في السنة الواحدة، فلو أحرم بثانية انعقد إحرامُه إجماعًا، وقال في المدونة: والعمرة في السنة إنما هي مرة واحدة، ولو اعتمر بعدها لزمته، كانت الأولى في أشهر الحج أم لا، أراد الحج من عامه ذلك أم لا، انتهى".

وجواز تكرار العمرة هو روايةٌ عن الإمام أحمدَ وإسحاق ابن راهويه، ففي مسائل الإمام إسحاق بن منصور الكوسج لهما (5/ 2271 ط. الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة): "قلت: يعتمر الرجل في الشهر كما شاء؟ قال (يعني الإمام أحمد): ما أمكنه، ليس لها وقت كوقت الحج. قال إسحاق (يعني ابن راهويه): كما قال، إلا أنه يعتمر في كل شهر أفضل؛ لكي يجمع الاختلاف، ويكون أمكن للحلق". فاتفق الإمامان أحمد وابن راهويه في هذه الرواية على جواز العمرة ما يشاء المعتمر، ولا مانع من تكرارها، ولا شك أنه مقيد بالوقت الذي يمتنع فيه الإحرام بها للانشغال بأعمال الحج.

ويُستدل على جواز التكرار بما أخرجه البخاري ومسلم عن أبي هريرة مرفوعًا: «الْعُمْرَةُ إِلَى الْعُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا». ولم يفرق بين أن تكونا في سنةٍ أو سنتين، هكذا استدل به الإمام العمراني، والشيخ أبو إسحاق الشيرازي، والبيهقي وغيره من فقهاء الشافعية، ولم يرتَضِه شيخ المذهب النووي في المجموع (7/ 149 ط. دار الفكر) ذاهبًا إلى أن دلالته في ذلك غيرُ ظاهرة.

والظاهر أن الصواب معهم؛ لأن الإكثار من التوبة ومكفرات الذنوب مطلوبٌ شرعًا مطلقًا، فصحَّ استدلالهُم به، ويؤيد ذلك أيضًا الحديثُ الصحيح الذي أخرجه الترمذي عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «تَابِعُوا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، فَإِنَّهُمَا يَنْفِيَانِ الْفَقْرَ وَالذُّنُوبَ كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَلَيْسَ لِلْحَجَّةِ الْمَبْرُورَةِ ثَوَابٌ إِلَّا الْجَنَّةُ». فالتكرار والموالاة يدخلان في عموم الأمر بالمتابعة بين الحج والعمرة كما هو ظاهر. وقال الحافظ في فتح الباري (3/ 598) عند شرح حديث أبي هريرة، وبعد أن أشار إلى حديث ابن مسعود: "وفي حديث الباب دلالةٌ على استحباب الاستكثار من الاعتمار، خلافًا لقول مَن قال: يكره أن يعتمر في السنة أكثر من مرة كالمالكية، ولمن قال: مرة في الشهر من غيرهم، واستدل لهم بأنه -صلى الله عليه وسلم- لم يفعلها إلا من سَنَةٍ إلى سَنَةٍ، وأفعاله على الوجوب أو الندب، وتُعُقِّبَ بأن المندوب لم ينحصر في أفعاله؛ فقد كان يترك الشيء وهو يستحب فعلَه؛ لرفع المشقة عن أمته، وقد ندب إلى ذلك بلفظه؛ فثبت الاستحباب من غير تقييد، واتفقوا على جوازها في جميع الأيام لمن لم يكن متلبسًا بأعمال الحج، إلا ما نُقل عن الحنفية أنه يكره في يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق، ونقل الأثرمُ عن أحمد: إذا اعتمر فلا بد أن يحلق أو يقصر، فلا يعتمر بعد ذلك إلى عشرة أيام ليمكن حلق الرأس فيها، قال ابن قدامة: هذا يدل على كراهة الاعتمار عنده في دون عشرة أيام".

ويستدل أيضًا بما رُوي أن عائشة -رضي الله عنها- اعتمرت في شهر مرتين بأمر النبي صَلَّى الله عليه وسلم.
وروي عن عليٍّ أنه كان يعتمر في كل يوم.
وعن ابن عمر أنه كان يعتمر في كل يوم من أيام ابن الزبير. أخرج هذه الآثارَ الشافعيُّ ثم البيهقي بأسانيدهما.
ولأن العمرة عبادةٌ غيرُ مؤقتةٍ لا تتعين في السنة بوقت، فوجب أن تكون من جنس ما يفعل على التوالي والتكرار كالصوم والصلاة.
ولأن العمرة إنما سميت عمرة لأنها تفعل في جميع العمر. وقيل: سميت بذلك لأنها تفعل في موضع عامر. وقيل: لأن العمرة هي القصد في اللغة، وفيها قصد.

ويستدل على جوازها في جميع السَّنَةِ وأنه لا تكره في شيء منها -كما في المجموع (7/ 149)- بأن الأصل عدمُ الكراهة حتى يثبت النهي الشرعي ولم يثبت هذا الخبر، ولأنه يجوز القران في يوم عرفة بلا كراهة، فلا يكره إفراد العمرة فيه كما في جميع السنة، ولأن كل وقت لا يكره فيه استدامةُ العمرة لا يُكره فيه إنشاؤها كباقي السنة، وأما القول بأنها أيامُ الحج فكرهت فيها العمرة، فدعوى باطلةٌ لا شبهة لها.

ثم قال الإمام النووي في المجموع (7/ 149- 150): "واحتج الشافعي والأصحاب وابن المنذر وخلائق بما ثبت في الحديث الصحيح «أَنَّ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- أَحْرَمَتْ بَعُمْرَةٍ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَحَاضَتْ، فَأَمَرَهَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ تُحْرِمَ بِحَجٍّ، فَفَعَلَتْ، وَصَارَتْ قَارِنَةً، وَوَقَفَتِ الْمَوَاقِفَ، فَلَمَّا طَهُرَتْ طَافَتْ وَسَعَتْ، فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: قَدْ حَلَلْتِ مِنْ حَجِّكِ وَعُمْرَتِكِ، فَطَلَبَتْ مِنَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يُعْمِرَهَا عُمْرَةً أُخْرَى، فَأَذِنَ لَهَا، فَاعْتَمَرَتْ مِنَ التَّنْعِيمِ عُمْرَةً أُخْرَى» رواه البخاري ومسلم مطولا، ونقلته مختصرًا. قال الشافعي: وكانت عمرتها في ذي الحجة، ثم أعمرها العمرة الأخرى في ذي الحجة، فكان لها عمرتان في ذي الحجة، وعن عائشة أيضًا أنها «اعْتَمَرَتْ فِي سَنَةٍ مَرَّتَيْنِ» أي بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وفي رواية «ثَلَاثَ عُمَرٍ»، وعن ابن عمر أنه اعتمر أعوامًا في عهد ابن الزبير مرتين في كل عام. ذكر هذه الآثار كلها الشافعي ثم البيهقي بأسانيدهما".

وخالفهم الحنابلة فأجازوا تكرار العمرة، ثم منعوا الموالاة بينها، وادعوا نقل ذلك عن السلف، وليس بصحيحٍ على إطلاقه؛ لأنهم أنفسَهم نقلوا عن العديد من الصحابة والتابعين جوازَ التكرار، بل الذين نقلوا عنهم الجوازَ أكثرُ عددًا ممن نقلوا عنه المنع، وتجويزُ التكرار ثم مَنْعُ الموالاة تناقضٌ وتحكمٌ بلا دليل، وادعاؤهم أن السلف منعوا الموالاة ممنوعٌ ومردودٌ، وممن ادَّعى هذه الدعوى الواسعةَ صَاحِبَا المغني (3/ 220- 221 ط. مكتبة القاهرة) والشرح الكبير (3/ 500- 501 ط. دار الكتاب العربي) فقالا: "ولا بأس أن يعتمر في السنة مرارًا. روي ذلك عن علي وابن عمر وابن عباس وأنس وعائشة وعطاء وطاوس وعكرمة والشافعي. وكره العمرةَ في السنة مرتين الحسنُ وابنُ سيرين ومالكٌ. وقال النخعي: ما كانوا يعتمرون في السنة إلا مرة. ولأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يفعله. ولنا أن عائشة اعتمرت في شهر مرتين بأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- عمرة مع قرانها، وعمرة بعد حجها، ولأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «الْعُمْرَةُ إِلَى الْعُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا». متفق عليه، وقال علي -رضي الله عنه-: في كل شهر مرة. وكان أنس إذا حمم رأسه خرج فاعتمر. رواهما الشافعي في مسنده. وقال عكرمة: يعتمر إذا أمكن الموسى من شعره. وقال عطاء: إن شاء اعتمر في كل شهر مرتين. فأما الإكثار من الاعتمار والموالاة بينهما فلا يستحب في ظاهر قول السلف الذي حكيناه. وكذلك قال أحمد: إذا اعتمر فلا بد من أن يحلق أو يقصر، وفي عشرة أيام يمكن حلق الرأس. فظاهر هذا أنه لا يستحب أن يعتمر في أقل من عشرة أيام.

وقال في رواية الأثرم: إن شاء اعتمر في كل شهر. وقال بعض أصحابنا: يستحب الإكثار من الاعتمار. وأقوال السلف وأحوالهم تدل على ما قلناه، ولأن النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه لم ينقل عنهم الموالاة بينهما، وإنما نقل عنهم إنكار ذلك، والحق في اتباعهم. قال طاوس: الذين يعتمرون من التنعيم، ما أدري يؤجرون عليها أو يعذبون؟ قيل له: فلم يعذبون؟ قال: لأنه يَدَعُ الطواف بالبيت، ويخرج إلى أربعة أميال ويجيء، وإلى أن يجيء من أربعة أميال قد طاف مائتي طواف، وكلما طاف بالبيت كان أفضل من أن يمشي في غير شيء".
ودعوى عدم نقل الموالاة لا تصلح دليلا للمنع؛ لأنها لا تعني أكثر من عدم الدليل، وعدمُ الدليل ليس بدليلٍ في المسألة لا نَفْيًا ولا إثباتًا، ومن القواعد العلمية المقررة أنه من المحال كون الفرع مع عدم الأصل، وكون الاستدلال مع عدم الدليل، وأن عدم النقل ليس نقلا للعدم، ولا يلزم من عدم النقل عدم الوقوع، وقال ابن العربي المالكي في عدم النقل عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في مسألة في كتابه أحكام القرآن (2/ 286 ط. دار الكتب العلمية): "تحقيقه أنه عدم دليل لا وجود دليل"، وعدم الدليل في مسألة مبقٍ لها على البراءة الأصلية، والتحريم حكمٌ زائدٌ ناقل عن البراءة الأصلية يحتاج إلى دليل بخصوصه، فما بالك مع عموم الأدلة على الجواز بل والاستحباب على ما تقدم ذكره.

وادعاء أنه نقل عنهم إنكار ذلك ليس بصحيح، وأين هو ذلك المنقول، فهو كلام مرسل لم يُقِمْ قائلُه الدليلَ عليه، إلا من كلام طاوس فحسب، في مقابل العديد ممن نقل عنهم الجواز في صدر كلامه، وكل ذلك مسلك لا يرتضيه التحقيق العلمي الصحيح، فإنه متى جاز التكرار مطلقًا اقتضى ذلك جوازَ الإكثار مطلقًا والموالاة، ويحتاج الفرق بينهما إلى دليل، ولا يوجد. كما أن المندوب -كما تقدم في كلام الحافظ- لم ينحصر في أفعاله صلى الله عليه وسلم؛ فقد كان -صلى الله عليه وسلم- يترك الشيء وهو يستحب فعلَه لرفع المشقة عن أمته، وقد ندب إلى ذلك بلفظه في الأحاديث المتقدمة.

وبناءً عليه وفي واقعة السؤال: فإنه يجوز بل يستحب للمُتَمَتِّع قبل الإحرام بالحج ولكلِّ مَن فرغ من النفر الأول بعد الرمي في اليوم الثاني من أيام التشريق أن يعتمرَ ويكرِّرَ العمرة ويواليَ بينها، وذلك هو مذهب جماهير العلماء سلفًا وخلفًا.
والله سبحانه وتعالى أعلم

 

التفاصيل ....

يجوز تكرار العمرة أكثر من مرة مطلقًا، بل الإكثارُ منها مستحبٌّ مطلقًا، وهو مذهب السادة الحنفية والسادة الشافعية وجمهور العلماء من السلف والخلف، وممن حكاه عن الجمهور الماوردي والسرخسي والعبدري والنووي، وحكاه ابنُ المنذر عن علي بن أبي طالب وابن عمر وابن عباس وأنس وعائشة وعطاء وغيرهم رضي الله عنهم، ورواية عن أحمد وإسحاق بن راهويه، وهو قول مطرف وابن المواز من المالكية، ويدخل في ذلك المتمتع بعد التحلل من عمرته الأولى التي نوى بها التمتع بالعمرة إلى الحج وقبل إحرامه بالحج، ولا تمنع العمرة إلا في صور محددة يأتي بيانها تفصيلا، إلا أنه ليس منها الصورة محل السؤال، فتدخل في مطلق الاستحباب قطعًا، ومن ثَّم فمن فعل ذلك فقد أتى بأمر مستحب يثاب عليه عند الحنفية والشافعية والجمهور سلفًا وخلفًا.

وجوازُ العمرة مطلقًا فيما عدا أيام الحج الخمسة: يوم عرفة والنحر وأيام التشريق الثلاثة هو المروي عن السيدة عائشة وابن عباس رضي الله عنهم، ومقتضاه جواز تكرار اعتمار المتمتع وغيره فيما سوى هذه الأيام، ويجوز ذلك أيضًا لكن مع الكراهة عند السادة المالكية الذين ذهبوا إلى كراهة تكرار العمرة في العام أكثر من مرة.

ومعنى التمتع عند الفقهاء: أن يعتمر الرجل الذي ليس من أهل مكة، ويحل من عمرته في أشهر الحج، ثُمَّ يحج من عامه ولم يرجع إلى أُفقه، أو أُفق مثل أفقه بين الحج والعمرة، فمن حصل له ذلك فهو متمتع، وعليه شاة. وسمي تمتعًا لأنه يسْتَمْتع بالمحظورات إِذا تحلل عَن الْعمرَة إِلَى أَن يحرم بِالْحَجِّ.

وقد نصَّ الحنفية على استحباب تكرار العمرة، وأنه لا يكره الإكثار منها، وأنها جائزةٌ في جميع السنة إلا خمسة أيام هي: يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق، فيجوز عندهم تكرار العمرة للمتمتع وغيره فيما عدا هذه الأيام الخمسة. قال العلامة ابن عابدين الحنفي في رد المحتار (2/ 585 ط. دار الفكر): "تكرار العمرة في سنةٍ واحدةٍ جائزٌ بخلاف الحج، أفاده صاحب الهندية". وقال أيضا (2/ 472): "لا يكره الإكثارُ منها خلافًا لمالك، بل يستحب على ما عليه الجمهور".

وفي كتاب الهداية من كتب السادة الحنفية رحمهم الله تعالى (1/ 178 ط. دار إحياء التراث العربي) وشروحه ككتاب العناية شرح الهداية (3/ 136- 139 ط. دار الفكر)، والبناية شرح الهداية (4/ 460 ط. دار الكتب العلمية)، وفتح القدير (3/ 137 ط. دار الفكر) أن: "(العمرة لا تفوت)؛ لأنها غير مؤقتة (وهي جائزة في جميع السنة) حتى لو أهَلَّ بعمرة في أشهر الحج فقدم مكة يوم النحر يقضي عمرته، ولا دَمَ عليه، والحاصل أن جميع السنة وقتها، ويدل على جوازها في أشهر الحج بلا كراهة ما روى البخاري في صحيحه بإسناده إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- «أَنَّهُ اعْتَمَرَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ أَرْبَعَ عُمَرٍ إِلَّا الَّتِي اعْتَمَرَ مَعَ حَجَّتِهِ» (إلا خمسة أيام يكره فيها فعلها، وهي: يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق؛ لما روي عن عائشة -رضي الله تعالى عنها- أنها كانت تكره العمرة في هذه الأيام الخمسة، وأخرج البيهقي عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: العمرة في السنة كلها إلا أربعة أيام: يوم عرفة، ويوم النحر، ويومان بعد ذلك، وروى سعيد بن منصور عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: خمسة أيام: عرفة، ويوم النحر، وثلاثة أيام التشريق، اعتمر قبلها وبعدها ما شئت؛ ولأن هذه الأيام أيام الحج فكانت متعينةً له، وعن أبي يوسف -رحمه الله- أنها لا تكره في يوم عرفة قبل الزوال؛ لأن دخول وقت ركن الحج بعد الزوال لا قبله، والأظهر من المذهب ما ذكرناه) يعني كراهة العمرة يوم عرفة قبل الزوال وبعده (ولكن مع هذا لو أداها في هذه الأيام صح ويبقى محرمًا بها فيها) بالعمرة إن لم يؤدها في هذه الأيام كبناء الصلاة بعد دخول الوقت المكروه (لأن الكراهة لغيرها) أي لغير عين العمرة، أراد أن الكراهة لمعنى في غيرها لا في نفسها (وهو تعظيم أمر الحج وتخليص وقته له) ومن تعظيم أمره أن يجعل له الوقت خاصة لا يكون فيه غيره، فإذا كانت الكراهة لمعنى في غيرها (فيصح الشروع فيها)".

وعند الشافعية: يجوز الإحرام بها في كل وقت من السنة، ولا يكره في وقت من الأوقات، وسواء أشهر الحج وغيرها في جوازها فيها من غير كراهة، ولا يكره عمرتان وثلاث وأكثر في السنة الواحدة، ولا في اليوم الواحد بل يستحب الإكثار، ولا تمتنع العمرة عندهم إلا للمحرم بالحج حتى ولو تحلل من الحج التحللين وأقام بمنى للرمي والمبيت فلا ينعقد إحرامه بالعمرة؛ لأنه عاجز عن التشاغل بها لوجوب ملازمة إتمام الحج بالرمي والمبيت، وإذا نفر النفر الأول وهو بعد الرمي في اليوم الثاني من أيام التشريق فأحرم بعمرة فيما بقي من أيام التشريق ليلا أو نهارًا، فعمرتُه صحيحةٌ عندهم. وبناءً عليه فيجوز للمتمتع عند الشافعية تكرارُ العمرة فيما عدا وقت الإحرام بالحج وحتى النفر الأول بعد الرمي في ثاني أيام التشريق.

قال الإمام العمراني الشافعي في البيان (4/ 63-64 ط. دار المنهاج): "ويجوز أن يعتمر في السنة مرتين، وثلاثًا، وأكثر، ويستحب الإكثار منها، وبه قال أبو حنيفة، وقال مالك: لا يجوز في السنة إلا عمرة واحدة. وبه قال النخعي، وابن سيرين".

وقال الإمام محيي الدين النووي في المجموع شرح المهذب (7/ 147- 150 باختصار ط. دار الفكر): "قال الشافعي والأصحاب: جميع السنة وقتٌ للعمرة، فيجوز الإحرامُ بها في كل وقت من السنة، ولا يكره في وقت من الأوقات، وسواء أشهر الحج وغيرها في جوازها فيها من غير كراهة، ولا يكره عمرتان وثلاث وأكثر في السنة الواحدة، ولا في اليوم الواحد، بل يستحب الإكثار منها بلا خلاف عندنا... قال أصحابنا: وقد يمتنع الإحرام بالعمرة في بعض السنة لعارضٍ لا بسبب الوقت؛ وذلك كالمحرم بالحج لا يجوز له الإحرام بالعمرة بعد الشروع في التحلل من الحج بلا خلاف، وكذا لا يصح إحرامُه بها قبل الشروع في التحلل على المذهب ... قال أصحابنا: ولو تحلل من الحج التحللين وأقام بمنى للرمي والمبيت فأحرم بالعمرة لم ينعقدْ إحرامُه بلا خلاف، نصَّ عليه الشافعي واتفق عليه الأصحاب؛ لأنه عاجز عن التشاغل بها لوجوب ملازمة إتمام الحج بالرمي والمبيت، قال أصحابنا: ولا يلزمه بذلك شيءٌ، فأما إذا نفر النفر الأول -وهو بعد الرمي في اليوم الثاني من أيام التشريق- فأحرم بعمرة فيما بقي من أيام التشريق ليلا أو نهارًا، فعمرتُه صحيحةٌ بلا خلاف، قال الشيخ أبو محمد الجويني في كتابه الفروق وآخرون من أصحابنا: والفرق بين هاتين الصورتين أن المقيم بمنى يوم النفر وإن كان خاليًا من علائق الإحرام بالتحللين، إلا أنه مقيمٌ على نسك مشتغل بإتمامه وهو الرمي والمبيت وهما من تمام الحج، فلا تنعقد عمرتُه ما لم يكمل حجه، بخلافِ مَن نفر فإنه فرغ من الحج وصار كغير الحاج. قال أبو محمد: ولا يتصور حين يحرم بالعمرة في وقت ولا تنعقد عمرته إلا في هذه المسألة، وقد يرد على هذا ما إذا أحرم بالعمرة في حال جماعِه المرأةَ فإنه حلالٌ، ولا ينعقد إحرامُه على أصحِّ الأوجه". ثم قال الإمام النووي: "فَرْعٌ في مذاهبهم في تكرار العمرة في السنة: مذهبُنا أنه لا يكره ذلك، بل يستحب، وبه قال أبو حنيفةَ وأحمدُ وجمهورُ العلماء من السلف والخلف، وممن حكاه عن الجمهور الماوردي والسرخسي والعبدري، وحكاه ابن المنذر عن علي بن أبي طالب وابن عمر وابن عباس وأنس وعائشة وعطاء وغيرهم رضي الله عنهم. وقال الحسن البصري وابن سيرين ومالك: تُكره العمرةُ في السنة أكثرَ من مرةٍ؛ لأنها عبادة تشتمل على الطواف والسعي، فلا تفعل في السنة إلا مرةً كالحج ... والجواب عن احتجاج مالك بالقياس على الحج فهو: أن الحجَ مؤقتٌ لا يتصور تكراره في السنة، والعمرةَ غيرُ مؤقتةٍ، فتصور تكرارها كالصلاة".

وقال شيخ الإسلام زكريا الأنصاري في شرح البهجة الوردية (2/ 278 ط. الميمنية): "الأبد وقت للعمرة لكل أحد لا للحاجِّ العاكفِ بمنًى للرمي، فيمتنع إحرامُه بها، أما قبل تحلُّله فلامتناع إدخالِها على الحج، ومنه يُعلم امتناعُ إحرامِه بها وإن لم يكن بمنًى، وأما بعده فلاشتغالِه بالرمي والمبيت، فهو عاجزٌ عن التشاغل بعملها وفيه وقفة، ويؤخذ من ذلك امتناعُ حجتين في عام واحد، وهو ما نصَّ عليه في الأم وجزم به ... نعم إن تعجل في اليوم الثاني صحَّ إحرامُه بها وإن كان وقت الرمي باقيًا؛ لأنه بالنفر خرج من الحج وصار كما لو مضى وقت الرمي. نقله القاضي أبو الطيب عن نص الأم، وقال في المجموع: لا خلاف فيه ... ولا يكره الإحرام بالعمرة في وقت من الأوقات التي يجوز الإحرام بها فيها بل يسن الإكثار منها ولا يكره في العام الواحد مرارًا، فقد «أَعْمَرَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَائِشَةَ فِي عَامٍ مَرَّتَيْنِ، وَاعْتَمَرَتْ فِي عَامٍ مَرَّتَيْنِ» أَيْ: بَعْدَ وَفَاتِهِ. وفي رواية: «ثَلَاثَ عُمَرٍ» واعتمر ابن عُمَرَ أعوامًا مرتين في كل عام، رواها الشافعي والبيهقي".

وقال شيخ الإسلام ابن حجر الهيتمي -رحمه الله تعالى- في المنهاج القويم شرح المقدمة الحضرمية (ص: 274): "(يحرم بالعمرة كل وقت)؛ لأن جميع السنة وقت لها، نعم يمتنع على الحاج الإحرام بها ما دام عليه شيءٌ من أعمال الحج كالرمي؛ لأن بقاء حكم الإحرام كبقاء نفس الإحرام، ومن ثم لم يتصور حجتان في عام واحد خلافًا لمن زعم تصوره، ويسن الإكثار من العمرة ولو في اليوم الواحد؛ إذ هي أفضلُ من الطواف على المعتمد، والكلام فيما إذا استوى الزمن المصروف إليها وإليه".

وذهب المالكية إلى أن وقت العمرة جميعُ السنة إلا أيام منى مع نصهم على كراهة تكرار العمرة، وأنه لو أحرم بثانية انعقد إحرامُه، بل نقل بعضُهم الإجماعَ على انعقاده، قال الإمام ابن الحاجب المالكي في جامع الأمهات (ص 187 ط. اليمامة): "أما العمرة ففي جميع السنة إلا في أيام منًى لمن حجَّ، ولا ينعقد إلا أن يتم رميه ويحل بالإفاضة فينعقد، وفي كراهة تكرار العمرة في السنة الواحدة قولان". ووضَّح القولين العلامةُ الحطابُ في مواهب الجليل في شرح مختصر خليل (2/ 467- 468 ط. دار الفكر) فقال: "قولان: المشهور الكراهة، وهو مذهب المدونة، والشاذ لمطرف إجازة تكرارها ونحوه لابن المواز؛ لأنه قال: أرجو أن لا يكون بالعمرة مرتين في سنة بأسٌ، وقد اعتمرت عائشة مرتين في عام واحد، وفعله ابن عمر وابن المنكدر، وكرهت عائشة عمرتين في شهر، وكرهه القاسم بن محمد ... وعلى المشهور من أنه يكره تكرارُها في السنة الواحدة، فلو أحرم بثانية انعقد إحرامُه إجماعًا، وقال في المدونة: والعمرة في السنة إنما هي مرة واحدة، ولو اعتمر بعدها لزمته، كانت الأولى في أشهر الحج أم لا، أراد الحج من عامه ذلك أم لا، انتهى".

وجواز تكرار العمرة هو روايةٌ عن الإمام أحمدَ وإسحاق ابن راهويه، ففي مسائل الإمام إسحاق بن منصور الكوسج لهما (5/ 2271 ط. الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة): "قلت: يعتمر الرجل في الشهر كما شاء؟ قال (يعني الإمام أحمد): ما أمكنه، ليس لها وقت كوقت الحج. قال إسحاق (يعني ابن راهويه): كما قال، إلا أنه يعتمر في كل شهر أفضل؛ لكي يجمع الاختلاف، ويكون أمكن للحلق". فاتفق الإمامان أحمد وابن راهويه في هذه الرواية على جواز العمرة ما يشاء المعتمر، ولا مانع من تكرارها، ولا شك أنه مقيد بالوقت الذي يمتنع فيه الإحرام بها للانشغال بأعمال الحج.

ويُستدل على جواز التكرار بما أخرجه البخاري ومسلم عن أبي هريرة مرفوعًا: «الْعُمْرَةُ إِلَى الْعُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا». ولم يفرق بين أن تكونا في سنةٍ أو سنتين، هكذا استدل به الإمام العمراني، والشيخ أبو إسحاق الشيرازي، والبيهقي وغيره من فقهاء الشافعية، ولم يرتَضِه شيخ المذهب النووي في المجموع (7/ 149 ط. دار الفكر) ذاهبًا إلى أن دلالته في ذلك غيرُ ظاهرة.

والظاهر أن الصواب معهم؛ لأن الإكثار من التوبة ومكفرات الذنوب مطلوبٌ شرعًا مطلقًا، فصحَّ استدلالهُم به، ويؤيد ذلك أيضًا الحديثُ الصحيح الذي أخرجه الترمذي عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «تَابِعُوا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، فَإِنَّهُمَا يَنْفِيَانِ الْفَقْرَ وَالذُّنُوبَ كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَلَيْسَ لِلْحَجَّةِ الْمَبْرُورَةِ ثَوَابٌ إِلَّا الْجَنَّةُ». فالتكرار والموالاة يدخلان في عموم الأمر بالمتابعة بين الحج والعمرة كما هو ظاهر. وقال الحافظ في فتح الباري (3/ 598) عند شرح حديث أبي هريرة، وبعد أن أشار إلى حديث ابن مسعود: "وفي حديث الباب دلالةٌ على استحباب الاستكثار من الاعتمار، خلافًا لقول مَن قال: يكره أن يعتمر في السنة أكثر من مرة كالمالكية، ولمن قال: مرة في الشهر من غيرهم، واستدل لهم بأنه -صلى الله عليه وسلم- لم يفعلها إلا من سَنَةٍ إلى سَنَةٍ، وأفعاله على الوجوب أو الندب، وتُعُقِّبَ بأن المندوب لم ينحصر في أفعاله؛ فقد كان يترك الشيء وهو يستحب فعلَه؛ لرفع المشقة عن أمته، وقد ندب إلى ذلك بلفظه؛ فثبت الاستحباب من غير تقييد، واتفقوا على جوازها في جميع الأيام لمن لم يكن متلبسًا بأعمال الحج، إلا ما نُقل عن الحنفية أنه يكره في يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق، ونقل الأثرمُ عن أحمد: إذا اعتمر فلا بد أن يحلق أو يقصر، فلا يعتمر بعد ذلك إلى عشرة أيام ليمكن حلق الرأس فيها، قال ابن قدامة: هذا يدل على كراهة الاعتمار عنده في دون عشرة أيام".

ويستدل أيضًا بما رُوي أن عائشة -رضي الله عنها- اعتمرت في شهر مرتين بأمر النبي صَلَّى الله عليه وسلم.
وروي عن عليٍّ أنه كان يعتمر في كل يوم.
وعن ابن عمر أنه كان يعتمر في كل يوم من أيام ابن الزبير. أخرج هذه الآثارَ الشافعيُّ ثم البيهقي بأسانيدهما.
ولأن العمرة عبادةٌ غيرُ مؤقتةٍ لا تتعين في السنة بوقت، فوجب أن تكون من جنس ما يفعل على التوالي والتكرار كالصوم والصلاة.
ولأن العمرة إنما سميت عمرة لأنها تفعل في جميع العمر. وقيل: سميت بذلك لأنها تفعل في موضع عامر. وقيل: لأن العمرة هي القصد في اللغة، وفيها قصد.

ويستدل على جوازها في جميع السَّنَةِ وأنه لا تكره في شيء منها -كما في المجموع (7/ 149)- بأن الأصل عدمُ الكراهة حتى يثبت النهي الشرعي ولم يثبت هذا الخبر، ولأنه يجوز القران في يوم عرفة بلا كراهة، فلا يكره إفراد العمرة فيه كما في جميع السنة، ولأن كل وقت لا يكره فيه استدامةُ العمرة لا يُكره فيه إنشاؤها كباقي السنة، وأما القول بأنها أيامُ الحج فكرهت فيها العمرة، فدعوى باطلةٌ لا شبهة لها.

ثم قال الإمام النووي في المجموع (7/ 149- 150): "واحتج الشافعي والأصحاب وابن المنذر وخلائق بما ثبت في الحديث الصحيح «أَنَّ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- أَحْرَمَتْ بَعُمْرَةٍ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَحَاضَتْ، فَأَمَرَهَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ تُحْرِمَ بِحَجٍّ، فَفَعَلَتْ، وَصَارَتْ قَارِنَةً، وَوَقَفَتِ الْمَوَاقِفَ، فَلَمَّا طَهُرَتْ طَافَتْ وَسَعَتْ، فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: قَدْ حَلَلْتِ مِنْ حَجِّكِ وَعُمْرَتِكِ، فَطَلَبَتْ مِنَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يُعْمِرَهَا عُمْرَةً أُخْرَى، فَأَذِنَ لَهَا، فَاعْتَمَرَتْ مِنَ التَّنْعِيمِ عُمْرَةً أُخْرَى» رواه البخاري ومسلم مطولا، ونقلته مختصرًا. قال الشافعي: وكانت عمرتها في ذي الحجة، ثم أعمرها العمرة الأخرى في ذي الحجة، فكان لها عمرتان في ذي الحجة، وعن عائشة أيضًا أنها «اعْتَمَرَتْ فِي سَنَةٍ مَرَّتَيْنِ» أي بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وفي رواية «ثَلَاثَ عُمَرٍ»، وعن ابن عمر أنه اعتمر أعوامًا في عهد ابن الزبير مرتين في كل عام. ذكر هذه الآثار كلها الشافعي ثم البيهقي بأسانيدهما".

وخالفهم الحنابلة فأجازوا تكرار العمرة، ثم منعوا الموالاة بينها، وادعوا نقل ذلك عن السلف، وليس بصحيحٍ على إطلاقه؛ لأنهم أنفسَهم نقلوا عن العديد من الصحابة والتابعين جوازَ التكرار، بل الذين نقلوا عنهم الجوازَ أكثرُ عددًا ممن نقلوا عنه المنع، وتجويزُ التكرار ثم مَنْعُ الموالاة تناقضٌ وتحكمٌ بلا دليل، وادعاؤهم أن السلف منعوا الموالاة ممنوعٌ ومردودٌ، وممن ادَّعى هذه الدعوى الواسعةَ صَاحِبَا المغني (3/ 220- 221 ط. مكتبة القاهرة) والشرح الكبير (3/ 500- 501 ط. دار الكتاب العربي) فقالا: "ولا بأس أن يعتمر في السنة مرارًا. روي ذلك عن علي وابن عمر وابن عباس وأنس وعائشة وعطاء وطاوس وعكرمة والشافعي. وكره العمرةَ في السنة مرتين الحسنُ وابنُ سيرين ومالكٌ. وقال النخعي: ما كانوا يعتمرون في السنة إلا مرة. ولأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يفعله. ولنا أن عائشة اعتمرت في شهر مرتين بأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- عمرة مع قرانها، وعمرة بعد حجها، ولأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «الْعُمْرَةُ إِلَى الْعُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا». متفق عليه، وقال علي -رضي الله عنه-: في كل شهر مرة. وكان أنس إذا حمم رأسه خرج فاعتمر. رواهما الشافعي في مسنده. وقال عكرمة: يعتمر إذا أمكن الموسى من شعره. وقال عطاء: إن شاء اعتمر في كل شهر مرتين. فأما الإكثار من الاعتمار والموالاة بينهما فلا يستحب في ظاهر قول السلف الذي حكيناه. وكذلك قال أحمد: إذا اعتمر فلا بد من أن يحلق أو يقصر، وفي عشرة أيام يمكن حلق الرأس. فظاهر هذا أنه لا يستحب أن يعتمر في أقل من عشرة أيام.

وقال في رواية الأثرم: إن شاء اعتمر في كل شهر. وقال بعض أصحابنا: يستحب الإكثار من الاعتمار. وأقوال السلف وأحوالهم تدل على ما قلناه، ولأن النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه لم ينقل عنهم الموالاة بينهما، وإنما نقل عنهم إنكار ذلك، والحق في اتباعهم. قال طاوس: الذين يعتمرون من التنعيم، ما أدري يؤجرون عليها أو يعذبون؟ قيل له: فلم يعذبون؟ قال: لأنه يَدَعُ الطواف بالبيت، ويخرج إلى أربعة أميال ويجيء، وإلى أن يجيء من أربعة أميال قد طاف مائتي طواف، وكلما طاف بالبيت كان أفضل من أن يمشي في غير شيء".
ودعوى عدم نقل الموالاة لا تصلح دليلا للمنع؛ لأنها لا تعني أكثر من عدم الدليل، وعدمُ الدليل ليس بدليلٍ في المسألة لا نَفْيًا ولا إثباتًا، ومن القواعد العلمية المقررة أنه من المحال كون الفرع مع عدم الأصل، وكون الاستدلال مع عدم الدليل، وأن عدم النقل ليس نقلا للعدم، ولا يلزم من عدم النقل عدم الوقوع، وقال ابن العربي المالكي في عدم النقل عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في مسألة في كتابه أحكام القرآن (2/ 286 ط. دار الكتب العلمية): "تحقيقه أنه عدم دليل لا وجود دليل"، وعدم الدليل في مسألة مبقٍ لها على البراءة الأصلية، والتحريم حكمٌ زائدٌ ناقل عن البراءة الأصلية يحتاج إلى دليل بخصوصه، فما بالك مع عموم الأدلة على الجواز بل والاستحباب على ما تقدم ذكره.

وادعاء أنه نقل عنهم إنكار ذلك ليس بصحيح، وأين هو ذلك المنقول، فهو كلام مرسل لم يُقِمْ قائلُه الدليلَ عليه، إلا من كلام طاوس فحسب، في مقابل العديد ممن نقل عنهم الجواز في صدر كلامه، وكل ذلك مسلك لا يرتضيه التحقيق العلمي الصحيح، فإنه متى جاز التكرار مطلقًا اقتضى ذلك جوازَ الإكثار مطلقًا والموالاة، ويحتاج الفرق بينهما إلى دليل، ولا يوجد. كما أن المندوب -كما تقدم في كلام الحافظ- لم ينحصر في أفعاله صلى الله عليه وسلم؛ فقد كان -صلى الله عليه وسلم- يترك الشيء وهو يستحب فعلَه لرفع المشقة عن أمته، وقد ندب إلى ذلك بلفظه في الأحاديث المتقدمة.

وبناءً عليه وفي واقعة السؤال: فإنه يجوز بل يستحب للمُتَمَتِّع قبل الإحرام بالحج ولكلِّ مَن فرغ من النفر الأول بعد الرمي في اليوم الثاني من أيام التشريق أن يعتمرَ ويكرِّرَ العمرة ويواليَ بينها، وذلك هو مذهب جماهير العلماء سلفًا وخلفًا.
والله سبحانه وتعالى أعلم

 

اقرأ أيضا

حكم تكرار العمرة للمتمتع

اطلعنا على الطلب المقيد برقم 203 لسنة 2011م المتضمن السؤال عن حكم تكرار العمرة أكثرَ من مرةٍ للمُتَمَتِّع بعد التحلُّل من عمرته الأولى التي نوى بها التمتع بالعمرة إلى الحج.

يجوز تكرار العمرة أكثر من مرة مطلقًا، بل الإكثارُ منها مستحبٌّ مطلقًا، وهو مذهب السادة الحنفية والسادة الشافعية وجمهور العلماء من السلف والخلف، وممن حكاه عن الجمهور الماوردي والسرخسي والعبدري والنووي، وحكاه ابنُ المنذر عن علي بن أبي طالب وابن عمر وابن عباس وأنس وعائشة وعطاء وغيرهم رضي الله عنهم، ورواية عن أحمد وإسحاق بن راهويه، وهو قول مطرف وابن المواز من المالكية، ويدخل في ذلك المتمتع بعد التحلل من عمرته الأولى التي نوى بها التمتع بالعمرة إلى الحج وقبل إحرامه بالحج، ولا تمنع العمرة إلا في صور محددة يأتي بيانها تفصيلا، إلا أنه ليس منها الصورة محل السؤال، فتدخل في مطلق الاستحباب قطعًا، ومن ثَّم فمن فعل ذلك فقد أتى بأمر مستحب يثاب عليه عند الحنفية والشافعية والجمهور سلفًا وخلفًا.

وجوازُ العمرة مطلقًا فيما عدا أيام الحج الخمسة: يوم عرفة والنحر وأيام التشريق الثلاثة هو المروي عن السيدة عائشة وابن عباس رضي الله عنهم، ومقتضاه جواز تكرار اعتمار المتمتع وغيره فيما سوى هذه الأيام، ويجوز ذلك أيضًا لكن مع الكراهة عند السادة المالكية الذين ذهبوا إلى كراهة تكرار العمرة في العام أكثر من مرة.

ومعنى التمتع عند الفقهاء: أن يعتمر الرجل الذي ليس من أهل مكة، ويحل من عمرته في أشهر الحج، ثُمَّ يحج من عامه ولم يرجع إلى أُفقه، أو أُفق مثل أفقه بين الحج والعمرة، فمن حصل له ذلك فهو متمتع، وعليه شاة. وسمي تمتعًا لأنه يسْتَمْتع بالمحظورات إِذا تحلل عَن الْعمرَة إِلَى أَن يحرم بِالْحَجِّ.

وقد نصَّ الحنفية على استحباب تكرار العمرة، وأنه لا يكره الإكثار منها، وأنها جائزةٌ في جميع السنة إلا خمسة أيام هي: يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق، فيجوز عندهم تكرار العمرة للمتمتع وغيره فيما عدا هذه الأيام الخمسة. قال العلامة ابن عابدين الحنفي في رد المحتار (2/ 585 ط. دار الفكر): "تكرار العمرة في سنةٍ واحدةٍ جائزٌ بخلاف الحج، أفاده صاحب الهندية". وقال أيضا (2/ 472): "لا يكره الإكثارُ منها خلافًا لمالك، بل يستحب على ما عليه الجمهور".

وفي كتاب الهداية من كتب السادة الحنفية رحمهم الله تعالى (1/ 178 ط. دار إحياء التراث العربي) وشروحه ككتاب العناية شرح الهداية (3/ 136- 139 ط. دار الفكر)، والبناية شرح الهداية (4/ 460 ط. دار الكتب العلمية)، وفتح القدير (3/ 137 ط. دار الفكر) أن: "(العمرة لا تفوت)؛ لأنها غير مؤقتة (وهي جائزة في جميع السنة) حتى لو أهَلَّ بعمرة في أشهر الحج فقدم مكة يوم النحر يقضي عمرته، ولا دَمَ عليه، والحاصل أن جميع السنة وقتها، ويدل على جوازها في أشهر الحج بلا كراهة ما روى البخاري في صحيحه بإسناده إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- «أَنَّهُ اعْتَمَرَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ أَرْبَعَ عُمَرٍ إِلَّا الَّتِي اعْتَمَرَ مَعَ حَجَّتِهِ» (إلا خمسة أيام يكره فيها فعلها، وهي: يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق؛ لما روي عن عائشة -رضي الله تعالى عنها- أنها كانت تكره العمرة في هذه الأيام الخمسة، وأخرج البيهقي عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: العمرة في السنة كلها إلا أربعة أيام: يوم عرفة، ويوم النحر، ويومان بعد ذلك، وروى سعيد بن منصور عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: خمسة أيام: عرفة، ويوم النحر، وثلاثة أيام التشريق، اعتمر قبلها وبعدها ما شئت؛ ولأن هذه الأيام أيام الحج فكانت متعينةً له، وعن أبي يوسف -رحمه الله- أنها لا تكره في يوم عرفة قبل الزوال؛ لأن دخول وقت ركن الحج بعد الزوال لا قبله، والأظهر من المذهب ما ذكرناه) يعني كراهة العمرة يوم عرفة قبل الزوال وبعده (ولكن مع هذا لو أداها في هذه الأيام صح ويبقى محرمًا بها فيها) بالعمرة إن لم يؤدها في هذه الأيام كبناء الصلاة بعد دخول الوقت المكروه (لأن الكراهة لغيرها) أي لغير عين العمرة، أراد أن الكراهة لمعنى في غيرها لا في نفسها (وهو تعظيم أمر الحج وتخليص وقته له) ومن تعظيم أمره أن يجعل له الوقت خاصة لا يكون فيه غيره، فإذا كانت الكراهة لمعنى في غيرها (فيصح الشروع فيها)".

وعند الشافعية: يجوز الإحرام بها في كل وقت من السنة، ولا يكره في وقت من الأوقات، وسواء أشهر الحج وغيرها في جوازها فيها من غير كراهة، ولا يكره عمرتان وثلاث وأكثر في السنة الواحدة، ولا في اليوم الواحد بل يستحب الإكثار، ولا تمتنع العمرة عندهم إلا للمحرم بالحج حتى ولو تحلل من الحج التحللين وأقام بمنى للرمي والمبيت فلا ينعقد إحرامه بالعمرة؛ لأنه عاجز عن التشاغل بها لوجوب ملازمة إتمام الحج بالرمي والمبيت، وإذا نفر النفر الأول وهو بعد الرمي في اليوم الثاني من أيام التشريق فأحرم بعمرة فيما بقي من أيام التشريق ليلا أو نهارًا، فعمرتُه صحيحةٌ عندهم. وبناءً عليه فيجوز للمتمتع عند الشافعية تكرارُ العمرة فيما عدا وقت الإحرام بالحج وحتى النفر الأول بعد الرمي في ثاني أيام التشريق.

قال الإمام العمراني الشافعي في البيان (4/ 63-64 ط. دار المنهاج): "ويجوز أن يعتمر في السنة مرتين، وثلاثًا، وأكثر، ويستحب الإكثار منها، وبه قال أبو حنيفة، وقال مالك: لا يجوز في السنة إلا عمرة واحدة. وبه قال النخعي، وابن سيرين".

وقال الإمام محيي الدين النووي في المجموع شرح المهذب (7/ 147- 150 باختصار ط. دار الفكر): "قال الشافعي والأصحاب: جميع السنة وقتٌ للعمرة، فيجوز الإحرامُ بها في كل وقت من السنة، ولا يكره في وقت من الأوقات، وسواء أشهر الحج وغيرها في جوازها فيها من غير كراهة، ولا يكره عمرتان وثلاث وأكثر في السنة الواحدة، ولا في اليوم الواحد، بل يستحب الإكثار منها بلا خلاف عندنا... قال أصحابنا: وقد يمتنع الإحرام بالعمرة في بعض السنة لعارضٍ لا بسبب الوقت؛ وذلك كالمحرم بالحج لا يجوز له الإحرام بالعمرة بعد الشروع في التحلل من الحج بلا خلاف، وكذا لا يصح إحرامُه بها قبل الشروع في التحلل على المذهب ... قال أصحابنا: ولو تحلل من الحج التحللين وأقام بمنى للرمي والمبيت فأحرم بالعمرة لم ينعقدْ إحرامُه بلا خلاف، نصَّ عليه الشافعي واتفق عليه الأصحاب؛ لأنه عاجز عن التشاغل بها لوجوب ملازمة إتمام الحج بالرمي والمبيت، قال أصحابنا: ولا يلزمه بذلك شيءٌ، فأما إذا نفر النفر الأول -وهو بعد الرمي في اليوم الثاني من أيام التشريق- فأحرم بعمرة فيما بقي من أيام التشريق ليلا أو نهارًا، فعمرتُه صحيحةٌ بلا خلاف، قال الشيخ أبو محمد الجويني في كتابه الفروق وآخرون من أصحابنا: والفرق بين هاتين الصورتين أن المقيم بمنى يوم النفر وإن كان خاليًا من علائق الإحرام بالتحللين، إلا أنه مقيمٌ على نسك مشتغل بإتمامه وهو الرمي والمبيت وهما من تمام الحج، فلا تنعقد عمرتُه ما لم يكمل حجه، بخلافِ مَن نفر فإنه فرغ من الحج وصار كغير الحاج. قال أبو محمد: ولا يتصور حين يحرم بالعمرة في وقت ولا تنعقد عمرته إلا في هذه المسألة، وقد يرد على هذا ما إذا أحرم بالعمرة في حال جماعِه المرأةَ فإنه حلالٌ، ولا ينعقد إحرامُه على أصحِّ الأوجه". ثم قال الإمام النووي: "فَرْعٌ في مذاهبهم في تكرار العمرة في السنة: مذهبُنا أنه لا يكره ذلك، بل يستحب، وبه قال أبو حنيفةَ وأحمدُ وجمهورُ العلماء من السلف والخلف، وممن حكاه عن الجمهور الماوردي والسرخسي والعبدري، وحكاه ابن المنذر عن علي بن أبي طالب وابن عمر وابن عباس وأنس وعائشة وعطاء وغيرهم رضي الله عنهم. وقال الحسن البصري وابن سيرين ومالك: تُكره العمرةُ في السنة أكثرَ من مرةٍ؛ لأنها عبادة تشتمل على الطواف والسعي، فلا تفعل في السنة إلا مرةً كالحج ... والجواب عن احتجاج مالك بالقياس على الحج فهو: أن الحجَ مؤقتٌ لا يتصور تكراره في السنة، والعمرةَ غيرُ مؤقتةٍ، فتصور تكرارها كالصلاة".

وقال شيخ الإسلام زكريا الأنصاري في شرح البهجة الوردية (2/ 278 ط. الميمنية): "الأبد وقت للعمرة لكل أحد لا للحاجِّ العاكفِ بمنًى للرمي، فيمتنع إحرامُه بها، أما قبل تحلُّله فلامتناع إدخالِها على الحج، ومنه يُعلم امتناعُ إحرامِه بها وإن لم يكن بمنًى، وأما بعده فلاشتغالِه بالرمي والمبيت، فهو عاجزٌ عن التشاغل بعملها وفيه وقفة، ويؤخذ من ذلك امتناعُ حجتين في عام واحد، وهو ما نصَّ عليه في الأم وجزم به ... نعم إن تعجل في اليوم الثاني صحَّ إحرامُه بها وإن كان وقت الرمي باقيًا؛ لأنه بالنفر خرج من الحج وصار كما لو مضى وقت الرمي. نقله القاضي أبو الطيب عن نص الأم، وقال في المجموع: لا خلاف فيه ... ولا يكره الإحرام بالعمرة في وقت من الأوقات التي يجوز الإحرام بها فيها بل يسن الإكثار منها ولا يكره في العام الواحد مرارًا، فقد «أَعْمَرَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَائِشَةَ فِي عَامٍ مَرَّتَيْنِ، وَاعْتَمَرَتْ فِي عَامٍ مَرَّتَيْنِ» أَيْ: بَعْدَ وَفَاتِهِ. وفي رواية: «ثَلَاثَ عُمَرٍ» واعتمر ابن عُمَرَ أعوامًا مرتين في كل عام، رواها الشافعي والبيهقي".

وقال شيخ الإسلام ابن حجر الهيتمي -رحمه الله تعالى- في المنهاج القويم شرح المقدمة الحضرمية (ص: 274): "(يحرم بالعمرة كل وقت)؛ لأن جميع السنة وقت لها، نعم يمتنع على الحاج الإحرام بها ما دام عليه شيءٌ من أعمال الحج كالرمي؛ لأن بقاء حكم الإحرام كبقاء نفس الإحرام، ومن ثم لم يتصور حجتان في عام واحد خلافًا لمن زعم تصوره، ويسن الإكثار من العمرة ولو في اليوم الواحد؛ إذ هي أفضلُ من الطواف على المعتمد، والكلام فيما إذا استوى الزمن المصروف إليها وإليه".

وذهب المالكية إلى أن وقت العمرة جميعُ السنة إلا أيام منى مع نصهم على كراهة تكرار العمرة، وأنه لو أحرم بثانية انعقد إحرامُه، بل نقل بعضُهم الإجماعَ على انعقاده، قال الإمام ابن الحاجب المالكي في جامع الأمهات (ص 187 ط. اليمامة): "أما العمرة ففي جميع السنة إلا في أيام منًى لمن حجَّ، ولا ينعقد إلا أن يتم رميه ويحل بالإفاضة فينعقد، وفي كراهة تكرار العمرة في السنة الواحدة قولان". ووضَّح القولين العلامةُ الحطابُ في مواهب الجليل في شرح مختصر خليل (2/ 467- 468 ط. دار الفكر) فقال: "قولان: المشهور الكراهة، وهو مذهب المدونة، والشاذ لمطرف إجازة تكرارها ونحوه لابن المواز؛ لأنه قال: أرجو أن لا يكون بالعمرة مرتين في سنة بأسٌ، وقد اعتمرت عائشة مرتين في عام واحد، وفعله ابن عمر وابن المنكدر، وكرهت عائشة عمرتين في شهر، وكرهه القاسم بن محمد ... وعلى المشهور من أنه يكره تكرارُها في السنة الواحدة، فلو أحرم بثانية انعقد إحرامُه إجماعًا، وقال في المدونة: والعمرة في السنة إنما هي مرة واحدة، ولو اعتمر بعدها لزمته، كانت الأولى في أشهر الحج أم لا، أراد الحج من عامه ذلك أم لا، انتهى".

وجواز تكرار العمرة هو روايةٌ عن الإمام أحمدَ وإسحاق ابن راهويه، ففي مسائل الإمام إسحاق بن منصور الكوسج لهما (5/ 2271 ط. الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة): "قلت: يعتمر الرجل في الشهر كما شاء؟ قال (يعني الإمام أحمد): ما أمكنه، ليس لها وقت كوقت الحج. قال إسحاق (يعني ابن راهويه): كما قال، إلا أنه يعتمر في كل شهر أفضل؛ لكي يجمع الاختلاف، ويكون أمكن للحلق". فاتفق الإمامان أحمد وابن راهويه في هذه الرواية على جواز العمرة ما يشاء المعتمر، ولا مانع من تكرارها، ولا شك أنه مقيد بالوقت الذي يمتنع فيه الإحرام بها للانشغال بأعمال الحج.

ويُستدل على جواز التكرار بما أخرجه البخاري ومسلم عن أبي هريرة مرفوعًا: «الْعُمْرَةُ إِلَى الْعُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا». ولم يفرق بين أن تكونا في سنةٍ أو سنتين، هكذا استدل به الإمام العمراني، والشيخ أبو إسحاق الشيرازي، والبيهقي وغيره من فقهاء الشافعية، ولم يرتَضِه شيخ المذهب النووي في المجموع (7/ 149 ط. دار الفكر) ذاهبًا إلى أن دلالته في ذلك غيرُ ظاهرة.

والظاهر أن الصواب معهم؛ لأن الإكثار من التوبة ومكفرات الذنوب مطلوبٌ شرعًا مطلقًا، فصحَّ استدلالهُم به، ويؤيد ذلك أيضًا الحديثُ الصحيح الذي أخرجه الترمذي عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «تَابِعُوا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، فَإِنَّهُمَا يَنْفِيَانِ الْفَقْرَ وَالذُّنُوبَ كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَلَيْسَ لِلْحَجَّةِ الْمَبْرُورَةِ ثَوَابٌ إِلَّا الْجَنَّةُ». فالتكرار والموالاة يدخلان في عموم الأمر بالمتابعة بين الحج والعمرة كما هو ظاهر. وقال الحافظ في فتح الباري (3/ 598) عند شرح حديث أبي هريرة، وبعد أن أشار إلى حديث ابن مسعود: "وفي حديث الباب دلالةٌ على استحباب الاستكثار من الاعتمار، خلافًا لقول مَن قال: يكره أن يعتمر في السنة أكثر من مرة كالمالكية، ولمن قال: مرة في الشهر من غيرهم، واستدل لهم بأنه -صلى الله عليه وسلم- لم يفعلها إلا من سَنَةٍ إلى سَنَةٍ، وأفعاله على الوجوب أو الندب، وتُعُقِّبَ بأن المندوب لم ينحصر في أفعاله؛ فقد كان يترك الشيء وهو يستحب فعلَه؛ لرفع المشقة عن أمته، وقد ندب إلى ذلك بلفظه؛ فثبت الاستحباب من غير تقييد، واتفقوا على جوازها في جميع الأيام لمن لم يكن متلبسًا بأعمال الحج، إلا ما نُقل عن الحنفية أنه يكره في يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق، ونقل الأثرمُ عن أحمد: إذا اعتمر فلا بد أن يحلق أو يقصر، فلا يعتمر بعد ذلك إلى عشرة أيام ليمكن حلق الرأس فيها، قال ابن قدامة: هذا يدل على كراهة الاعتمار عنده في دون عشرة أيام".

ويستدل أيضًا بما رُوي أن عائشة -رضي الله عنها- اعتمرت في شهر مرتين بأمر النبي صَلَّى الله عليه وسلم.
وروي عن عليٍّ أنه كان يعتمر في كل يوم.
وعن ابن عمر أنه كان يعتمر في كل يوم من أيام ابن الزبير. أخرج هذه الآثارَ الشافعيُّ ثم البيهقي بأسانيدهما.
ولأن العمرة عبادةٌ غيرُ مؤقتةٍ لا تتعين في السنة بوقت، فوجب أن تكون من جنس ما يفعل على التوالي والتكرار كالصوم والصلاة.
ولأن العمرة إنما سميت عمرة لأنها تفعل في جميع العمر. وقيل: سميت بذلك لأنها تفعل في موضع عامر. وقيل: لأن العمرة هي القصد في اللغة، وفيها قصد.

ويستدل على جوازها في جميع السَّنَةِ وأنه لا تكره في شيء منها -كما في المجموع (7/ 149)- بأن الأصل عدمُ الكراهة حتى يثبت النهي الشرعي ولم يثبت هذا الخبر، ولأنه يجوز القران في يوم عرفة بلا كراهة، فلا يكره إفراد العمرة فيه كما في جميع السنة، ولأن كل وقت لا يكره فيه استدامةُ العمرة لا يُكره فيه إنشاؤها كباقي السنة، وأما القول بأنها أيامُ الحج فكرهت فيها العمرة، فدعوى باطلةٌ لا شبهة لها.

ثم قال الإمام النووي في المجموع (7/ 149- 150): "واحتج الشافعي والأصحاب وابن المنذر وخلائق بما ثبت في الحديث الصحيح «أَنَّ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- أَحْرَمَتْ بَعُمْرَةٍ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَحَاضَتْ، فَأَمَرَهَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ تُحْرِمَ بِحَجٍّ، فَفَعَلَتْ، وَصَارَتْ قَارِنَةً، وَوَقَفَتِ الْمَوَاقِفَ، فَلَمَّا طَهُرَتْ طَافَتْ وَسَعَتْ، فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: قَدْ حَلَلْتِ مِنْ حَجِّكِ وَعُمْرَتِكِ، فَطَلَبَتْ مِنَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يُعْمِرَهَا عُمْرَةً أُخْرَى، فَأَذِنَ لَهَا، فَاعْتَمَرَتْ مِنَ التَّنْعِيمِ عُمْرَةً أُخْرَى» رواه البخاري ومسلم مطولا، ونقلته مختصرًا. قال الشافعي: وكانت عمرتها في ذي الحجة، ثم أعمرها العمرة الأخرى في ذي الحجة، فكان لها عمرتان في ذي الحجة، وعن عائشة أيضًا أنها «اعْتَمَرَتْ فِي سَنَةٍ مَرَّتَيْنِ» أي بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وفي رواية «ثَلَاثَ عُمَرٍ»، وعن ابن عمر أنه اعتمر أعوامًا في عهد ابن الزبير مرتين في كل عام. ذكر هذه الآثار كلها الشافعي ثم البيهقي بأسانيدهما".

وخالفهم الحنابلة فأجازوا تكرار العمرة، ثم منعوا الموالاة بينها، وادعوا نقل ذلك عن السلف، وليس بصحيحٍ على إطلاقه؛ لأنهم أنفسَهم نقلوا عن العديد من الصحابة والتابعين جوازَ التكرار، بل الذين نقلوا عنهم الجوازَ أكثرُ عددًا ممن نقلوا عنه المنع، وتجويزُ التكرار ثم مَنْعُ الموالاة تناقضٌ وتحكمٌ بلا دليل، وادعاؤهم أن السلف منعوا الموالاة ممنوعٌ ومردودٌ، وممن ادَّعى هذه الدعوى الواسعةَ صَاحِبَا المغني (3/ 220- 221 ط. مكتبة القاهرة) والشرح الكبير (3/ 500- 501 ط. دار الكتاب العربي) فقالا: "ولا بأس أن يعتمر في السنة مرارًا. روي ذلك عن علي وابن عمر وابن عباس وأنس وعائشة وعطاء وطاوس وعكرمة والشافعي. وكره العمرةَ في السنة مرتين الحسنُ وابنُ سيرين ومالكٌ. وقال النخعي: ما كانوا يعتمرون في السنة إلا مرة. ولأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يفعله. ولنا أن عائشة اعتمرت في شهر مرتين بأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- عمرة مع قرانها، وعمرة بعد حجها، ولأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «الْعُمْرَةُ إِلَى الْعُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا». متفق عليه، وقال علي -رضي الله عنه-: في كل شهر مرة. وكان أنس إذا حمم رأسه خرج فاعتمر. رواهما الشافعي في مسنده. وقال عكرمة: يعتمر إذا أمكن الموسى من شعره. وقال عطاء: إن شاء اعتمر في كل شهر مرتين. فأما الإكثار من الاعتمار والموالاة بينهما فلا يستحب في ظاهر قول السلف الذي حكيناه. وكذلك قال أحمد: إذا اعتمر فلا بد من أن يحلق أو يقصر، وفي عشرة أيام يمكن حلق الرأس. فظاهر هذا أنه لا يستحب أن يعتمر في أقل من عشرة أيام.

وقال في رواية الأثرم: إن شاء اعتمر في كل شهر. وقال بعض أصحابنا: يستحب الإكثار من الاعتمار. وأقوال السلف وأحوالهم تدل على ما قلناه، ولأن النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه لم ينقل عنهم الموالاة بينهما، وإنما نقل عنهم إنكار ذلك، والحق في اتباعهم. قال طاوس: الذين يعتمرون من التنعيم، ما أدري يؤجرون عليها أو يعذبون؟ قيل له: فلم يعذبون؟ قال: لأنه يَدَعُ الطواف بالبيت، ويخرج إلى أربعة أميال ويجيء، وإلى أن يجيء من أربعة أميال قد طاف مائتي طواف، وكلما طاف بالبيت كان أفضل من أن يمشي في غير شيء".
ودعوى عدم نقل الموالاة لا تصلح دليلا للمنع؛ لأنها لا تعني أكثر من عدم الدليل، وعدمُ الدليل ليس بدليلٍ في المسألة لا نَفْيًا ولا إثباتًا، ومن القواعد العلمية المقررة أنه من المحال كون الفرع مع عدم الأصل، وكون الاستدلال مع عدم الدليل، وأن عدم النقل ليس نقلا للعدم، ولا يلزم من عدم النقل عدم الوقوع، وقال ابن العربي المالكي في عدم النقل عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في مسألة في كتابه أحكام القرآن (2/ 286 ط. دار الكتب العلمية): "تحقيقه أنه عدم دليل لا وجود دليل"، وعدم الدليل في مسألة مبقٍ لها على البراءة الأصلية، والتحريم حكمٌ زائدٌ ناقل عن البراءة الأصلية يحتاج إلى دليل بخصوصه، فما بالك مع عموم الأدلة على الجواز بل والاستحباب على ما تقدم ذكره.

وادعاء أنه نقل عنهم إنكار ذلك ليس بصحيح، وأين هو ذلك المنقول، فهو كلام مرسل لم يُقِمْ قائلُه الدليلَ عليه، إلا من كلام طاوس فحسب، في مقابل العديد ممن نقل عنهم الجواز في صدر كلامه، وكل ذلك مسلك لا يرتضيه التحقيق العلمي الصحيح، فإنه متى جاز التكرار مطلقًا اقتضى ذلك جوازَ الإكثار مطلقًا والموالاة، ويحتاج الفرق بينهما إلى دليل، ولا يوجد. كما أن المندوب -كما تقدم في كلام الحافظ- لم ينحصر في أفعاله صلى الله عليه وسلم؛ فقد كان -صلى الله عليه وسلم- يترك الشيء وهو يستحب فعلَه لرفع المشقة عن أمته، وقد ندب إلى ذلك بلفظه في الأحاديث المتقدمة.

وبناءً عليه وفي واقعة السؤال: فإنه يجوز بل يستحب للمُتَمَتِّع قبل الإحرام بالحج ولكلِّ مَن فرغ من النفر الأول بعد الرمي في اليوم الثاني من أيام التشريق أن يعتمرَ ويكرِّرَ العمرة ويواليَ بينها، وذلك هو مذهب جماهير العلماء سلفًا وخلفًا.
والله سبحانه وتعالى أعلم

 

التفاصيل ....

يجوز تكرار العمرة أكثر من مرة مطلقًا، بل الإكثارُ منها مستحبٌّ مطلقًا، وهو مذهب السادة الحنفية والسادة الشافعية وجمهور العلماء من السلف والخلف، وممن حكاه عن الجمهور الماوردي والسرخسي والعبدري والنووي، وحكاه ابنُ المنذر عن علي بن أبي طالب وابن عمر وابن عباس وأنس وعائشة وعطاء وغيرهم رضي الله عنهم، ورواية عن أحمد وإسحاق بن راهويه، وهو قول مطرف وابن المواز من المالكية، ويدخل في ذلك المتمتع بعد التحلل من عمرته الأولى التي نوى بها التمتع بالعمرة إلى الحج وقبل إحرامه بالحج، ولا تمنع العمرة إلا في صور محددة يأتي بيانها تفصيلا، إلا أنه ليس منها الصورة محل السؤال، فتدخل في مطلق الاستحباب قطعًا، ومن ثَّم فمن فعل ذلك فقد أتى بأمر مستحب يثاب عليه عند الحنفية والشافعية والجمهور سلفًا وخلفًا.

وجوازُ العمرة مطلقًا فيما عدا أيام الحج الخمسة: يوم عرفة والنحر وأيام التشريق الثلاثة هو المروي عن السيدة عائشة وابن عباس رضي الله عنهم، ومقتضاه جواز تكرار اعتمار المتمتع وغيره فيما سوى هذه الأيام، ويجوز ذلك أيضًا لكن مع الكراهة عند السادة المالكية الذين ذهبوا إلى كراهة تكرار العمرة في العام أكثر من مرة.

ومعنى التمتع عند الفقهاء: أن يعتمر الرجل الذي ليس من أهل مكة، ويحل من عمرته في أشهر الحج، ثُمَّ يحج من عامه ولم يرجع إلى أُفقه، أو أُفق مثل أفقه بين الحج والعمرة، فمن حصل له ذلك فهو متمتع، وعليه شاة. وسمي تمتعًا لأنه يسْتَمْتع بالمحظورات إِذا تحلل عَن الْعمرَة إِلَى أَن يحرم بِالْحَجِّ.

وقد نصَّ الحنفية على استحباب تكرار العمرة، وأنه لا يكره الإكثار منها، وأنها جائزةٌ في جميع السنة إلا خمسة أيام هي: يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق، فيجوز عندهم تكرار العمرة للمتمتع وغيره فيما عدا هذه الأيام الخمسة. قال العلامة ابن عابدين الحنفي في رد المحتار (2/ 585 ط. دار الفكر): "تكرار العمرة في سنةٍ واحدةٍ جائزٌ بخلاف الحج، أفاده صاحب الهندية". وقال أيضا (2/ 472): "لا يكره الإكثارُ منها خلافًا لمالك، بل يستحب على ما عليه الجمهور".

وفي كتاب الهداية من كتب السادة الحنفية رحمهم الله تعالى (1/ 178 ط. دار إحياء التراث العربي) وشروحه ككتاب العناية شرح الهداية (3/ 136- 139 ط. دار الفكر)، والبناية شرح الهداية (4/ 460 ط. دار الكتب العلمية)، وفتح القدير (3/ 137 ط. دار الفكر) أن: "(العمرة لا تفوت)؛ لأنها غير مؤقتة (وهي جائزة في جميع السنة) حتى لو أهَلَّ بعمرة في أشهر الحج فقدم مكة يوم النحر يقضي عمرته، ولا دَمَ عليه، والحاصل أن جميع السنة وقتها، ويدل على جوازها في أشهر الحج بلا كراهة ما روى البخاري في صحيحه بإسناده إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- «أَنَّهُ اعْتَمَرَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ أَرْبَعَ عُمَرٍ إِلَّا الَّتِي اعْتَمَرَ مَعَ حَجَّتِهِ» (إلا خمسة أيام يكره فيها فعلها، وهي: يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق؛ لما روي عن عائشة -رضي الله تعالى عنها- أنها كانت تكره العمرة في هذه الأيام الخمسة، وأخرج البيهقي عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: العمرة في السنة كلها إلا أربعة أيام: يوم عرفة، ويوم النحر، ويومان بعد ذلك، وروى سعيد بن منصور عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: خمسة أيام: عرفة، ويوم النحر، وثلاثة أيام التشريق، اعتمر قبلها وبعدها ما شئت؛ ولأن هذه الأيام أيام الحج فكانت متعينةً له، وعن أبي يوسف -رحمه الله- أنها لا تكره في يوم عرفة قبل الزوال؛ لأن دخول وقت ركن الحج بعد الزوال لا قبله، والأظهر من المذهب ما ذكرناه) يعني كراهة العمرة يوم عرفة قبل الزوال وبعده (ولكن مع هذا لو أداها في هذه الأيام صح ويبقى محرمًا بها فيها) بالعمرة إن لم يؤدها في هذه الأيام كبناء الصلاة بعد دخول الوقت المكروه (لأن الكراهة لغيرها) أي لغير عين العمرة، أراد أن الكراهة لمعنى في غيرها لا في نفسها (وهو تعظيم أمر الحج وتخليص وقته له) ومن تعظيم أمره أن يجعل له الوقت خاصة لا يكون فيه غيره، فإذا كانت الكراهة لمعنى في غيرها (فيصح الشروع فيها)".

وعند الشافعية: يجوز الإحرام بها في كل وقت من السنة، ولا يكره في وقت من الأوقات، وسواء أشهر الحج وغيرها في جوازها فيها من غير كراهة، ولا يكره عمرتان وثلاث وأكثر في السنة الواحدة، ولا في اليوم الواحد بل يستحب الإكثار، ولا تمتنع العمرة عندهم إلا للمحرم بالحج حتى ولو تحلل من الحج التحللين وأقام بمنى للرمي والمبيت فلا ينعقد إحرامه بالعمرة؛ لأنه عاجز عن التشاغل بها لوجوب ملازمة إتمام الحج بالرمي والمبيت، وإذا نفر النفر الأول وهو بعد الرمي في اليوم الثاني من أيام التشريق فأحرم بعمرة فيما بقي من أيام التشريق ليلا أو نهارًا، فعمرتُه صحيحةٌ عندهم. وبناءً عليه فيجوز للمتمتع عند الشافعية تكرارُ العمرة فيما عدا وقت الإحرام بالحج وحتى النفر الأول بعد الرمي في ثاني أيام التشريق.

قال الإمام العمراني الشافعي في البيان (4/ 63-64 ط. دار المنهاج): "ويجوز أن يعتمر في السنة مرتين، وثلاثًا، وأكثر، ويستحب الإكثار منها، وبه قال أبو حنيفة، وقال مالك: لا يجوز في السنة إلا عمرة واحدة. وبه قال النخعي، وابن سيرين".

وقال الإمام محيي الدين النووي في المجموع شرح المهذب (7/ 147- 150 باختصار ط. دار الفكر): "قال الشافعي والأصحاب: جميع السنة وقتٌ للعمرة، فيجوز الإحرامُ بها في كل وقت من السنة، ولا يكره في وقت من الأوقات، وسواء أشهر الحج وغيرها في جوازها فيها من غير كراهة، ولا يكره عمرتان وثلاث وأكثر في السنة الواحدة، ولا في اليوم الواحد، بل يستحب الإكثار منها بلا خلاف عندنا... قال أصحابنا: وقد يمتنع الإحرام بالعمرة في بعض السنة لعارضٍ لا بسبب الوقت؛ وذلك كالمحرم بالحج لا يجوز له الإحرام بالعمرة بعد الشروع في التحلل من الحج بلا خلاف، وكذا لا يصح إحرامُه بها قبل الشروع في التحلل على المذهب ... قال أصحابنا: ولو تحلل من الحج التحللين وأقام بمنى للرمي والمبيت فأحرم بالعمرة لم ينعقدْ إحرامُه بلا خلاف، نصَّ عليه الشافعي واتفق عليه الأصحاب؛ لأنه عاجز عن التشاغل بها لوجوب ملازمة إتمام الحج بالرمي والمبيت، قال أصحابنا: ولا يلزمه بذلك شيءٌ، فأما إذا نفر النفر الأول -وهو بعد الرمي في اليوم الثاني من أيام التشريق- فأحرم بعمرة فيما بقي من أيام التشريق ليلا أو نهارًا، فعمرتُه صحيحةٌ بلا خلاف، قال الشيخ أبو محمد الجويني في كتابه الفروق وآخرون من أصحابنا: والفرق بين هاتين الصورتين أن المقيم بمنى يوم النفر وإن كان خاليًا من علائق الإحرام بالتحللين، إلا أنه مقيمٌ على نسك مشتغل بإتمامه وهو الرمي والمبيت وهما من تمام الحج، فلا تنعقد عمرتُه ما لم يكمل حجه، بخلافِ مَن نفر فإنه فرغ من الحج وصار كغير الحاج. قال أبو محمد: ولا يتصور حين يحرم بالعمرة في وقت ولا تنعقد عمرته إلا في هذه المسألة، وقد يرد على هذا ما إذا أحرم بالعمرة في حال جماعِه المرأةَ فإنه حلالٌ، ولا ينعقد إحرامُه على أصحِّ الأوجه". ثم قال الإمام النووي: "فَرْعٌ في مذاهبهم في تكرار العمرة في السنة: مذهبُنا أنه لا يكره ذلك، بل يستحب، وبه قال أبو حنيفةَ وأحمدُ وجمهورُ العلماء من السلف والخلف، وممن حكاه عن الجمهور الماوردي والسرخسي والعبدري، وحكاه ابن المنذر عن علي بن أبي طالب وابن عمر وابن عباس وأنس وعائشة وعطاء وغيرهم رضي الله عنهم. وقال الحسن البصري وابن سيرين ومالك: تُكره العمرةُ في السنة أكثرَ من مرةٍ؛ لأنها عبادة تشتمل على الطواف والسعي، فلا تفعل في السنة إلا مرةً كالحج ... والجواب عن احتجاج مالك بالقياس على الحج فهو: أن الحجَ مؤقتٌ لا يتصور تكراره في السنة، والعمرةَ غيرُ مؤقتةٍ، فتصور تكرارها كالصلاة".

وقال شيخ الإسلام زكريا الأنصاري في شرح البهجة الوردية (2/ 278 ط. الميمنية): "الأبد وقت للعمرة لكل أحد لا للحاجِّ العاكفِ بمنًى للرمي، فيمتنع إحرامُه بها، أما قبل تحلُّله فلامتناع إدخالِها على الحج، ومنه يُعلم امتناعُ إحرامِه بها وإن لم يكن بمنًى، وأما بعده فلاشتغالِه بالرمي والمبيت، فهو عاجزٌ عن التشاغل بعملها وفيه وقفة، ويؤخذ من ذلك امتناعُ حجتين في عام واحد، وهو ما نصَّ عليه في الأم وجزم به ... نعم إن تعجل في اليوم الثاني صحَّ إحرامُه بها وإن كان وقت الرمي باقيًا؛ لأنه بالنفر خرج من الحج وصار كما لو مضى وقت الرمي. نقله القاضي أبو الطيب عن نص الأم، وقال في المجموع: لا خلاف فيه ... ولا يكره الإحرام بالعمرة في وقت من الأوقات التي يجوز الإحرام بها فيها بل يسن الإكثار منها ولا يكره في العام الواحد مرارًا، فقد «أَعْمَرَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَائِشَةَ فِي عَامٍ مَرَّتَيْنِ، وَاعْتَمَرَتْ فِي عَامٍ مَرَّتَيْنِ» أَيْ: بَعْدَ وَفَاتِهِ. وفي رواية: «ثَلَاثَ عُمَرٍ» واعتمر ابن عُمَرَ أعوامًا مرتين في كل عام، رواها الشافعي والبيهقي".

وقال شيخ الإسلام ابن حجر الهيتمي -رحمه الله تعالى- في المنهاج القويم شرح المقدمة الحضرمية (ص: 274): "(يحرم بالعمرة كل وقت)؛ لأن جميع السنة وقت لها، نعم يمتنع على الحاج الإحرام بها ما دام عليه شيءٌ من أعمال الحج كالرمي؛ لأن بقاء حكم الإحرام كبقاء نفس الإحرام، ومن ثم لم يتصور حجتان في عام واحد خلافًا لمن زعم تصوره، ويسن الإكثار من العمرة ولو في اليوم الواحد؛ إذ هي أفضلُ من الطواف على المعتمد، والكلام فيما إذا استوى الزمن المصروف إليها وإليه".

وذهب المالكية إلى أن وقت العمرة جميعُ السنة إلا أيام منى مع نصهم على كراهة تكرار العمرة، وأنه لو أحرم بثانية انعقد إحرامُه، بل نقل بعضُهم الإجماعَ على انعقاده، قال الإمام ابن الحاجب المالكي في جامع الأمهات (ص 187 ط. اليمامة): "أما العمرة ففي جميع السنة إلا في أيام منًى لمن حجَّ، ولا ينعقد إلا أن يتم رميه ويحل بالإفاضة فينعقد، وفي كراهة تكرار العمرة في السنة الواحدة قولان". ووضَّح القولين العلامةُ الحطابُ في مواهب الجليل في شرح مختصر خليل (2/ 467- 468 ط. دار الفكر) فقال: "قولان: المشهور الكراهة، وهو مذهب المدونة، والشاذ لمطرف إجازة تكرارها ونحوه لابن المواز؛ لأنه قال: أرجو أن لا يكون بالعمرة مرتين في سنة بأسٌ، وقد اعتمرت عائشة مرتين في عام واحد، وفعله ابن عمر وابن المنكدر، وكرهت عائشة عمرتين في شهر، وكرهه القاسم بن محمد ... وعلى المشهور من أنه يكره تكرارُها في السنة الواحدة، فلو أحرم بثانية انعقد إحرامُه إجماعًا، وقال في المدونة: والعمرة في السنة إنما هي مرة واحدة، ولو اعتمر بعدها لزمته، كانت الأولى في أشهر الحج أم لا، أراد الحج من عامه ذلك أم لا، انتهى".

وجواز تكرار العمرة هو روايةٌ عن الإمام أحمدَ وإسحاق ابن راهويه، ففي مسائل الإمام إسحاق بن منصور الكوسج لهما (5/ 2271 ط. الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة): "قلت: يعتمر الرجل في الشهر كما شاء؟ قال (يعني الإمام أحمد): ما أمكنه، ليس لها وقت كوقت الحج. قال إسحاق (يعني ابن راهويه): كما قال، إلا أنه يعتمر في كل شهر أفضل؛ لكي يجمع الاختلاف، ويكون أمكن للحلق". فاتفق الإمامان أحمد وابن راهويه في هذه الرواية على جواز العمرة ما يشاء المعتمر، ولا مانع من تكرارها، ولا شك أنه مقيد بالوقت الذي يمتنع فيه الإحرام بها للانشغال بأعمال الحج.

ويُستدل على جواز التكرار بما أخرجه البخاري ومسلم عن أبي هريرة مرفوعًا: «الْعُمْرَةُ إِلَى الْعُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا». ولم يفرق بين أن تكونا في سنةٍ أو سنتين، هكذا استدل به الإمام العمراني، والشيخ أبو إسحاق الشيرازي، والبيهقي وغيره من فقهاء الشافعية، ولم يرتَضِه شيخ المذهب النووي في المجموع (7/ 149 ط. دار الفكر) ذاهبًا إلى أن دلالته في ذلك غيرُ ظاهرة.

والظاهر أن الصواب معهم؛ لأن الإكثار من التوبة ومكفرات الذنوب مطلوبٌ شرعًا مطلقًا، فصحَّ استدلالهُم به، ويؤيد ذلك أيضًا الحديثُ الصحيح الذي أخرجه الترمذي عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «تَابِعُوا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، فَإِنَّهُمَا يَنْفِيَانِ الْفَقْرَ وَالذُّنُوبَ كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَلَيْسَ لِلْحَجَّةِ الْمَبْرُورَةِ ثَوَابٌ إِلَّا الْجَنَّةُ». فالتكرار والموالاة يدخلان في عموم الأمر بالمتابعة بين الحج والعمرة كما هو ظاهر. وقال الحافظ في فتح الباري (3/ 598) عند شرح حديث أبي هريرة، وبعد أن أشار إلى حديث ابن مسعود: "وفي حديث الباب دلالةٌ على استحباب الاستكثار من الاعتمار، خلافًا لقول مَن قال: يكره أن يعتمر في السنة أكثر من مرة كالمالكية، ولمن قال: مرة في الشهر من غيرهم، واستدل لهم بأنه -صلى الله عليه وسلم- لم يفعلها إلا من سَنَةٍ إلى سَنَةٍ، وأفعاله على الوجوب أو الندب، وتُعُقِّبَ بأن المندوب لم ينحصر في أفعاله؛ فقد كان يترك الشيء وهو يستحب فعلَه؛ لرفع المشقة عن أمته، وقد ندب إلى ذلك بلفظه؛ فثبت الاستحباب من غير تقييد، واتفقوا على جوازها في جميع الأيام لمن لم يكن متلبسًا بأعمال الحج، إلا ما نُقل عن الحنفية أنه يكره في يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق، ونقل الأثرمُ عن أحمد: إذا اعتمر فلا بد أن يحلق أو يقصر، فلا يعتمر بعد ذلك إلى عشرة أيام ليمكن حلق الرأس فيها، قال ابن قدامة: هذا يدل على كراهة الاعتمار عنده في دون عشرة أيام".

ويستدل أيضًا بما رُوي أن عائشة -رضي الله عنها- اعتمرت في شهر مرتين بأمر النبي صَلَّى الله عليه وسلم.
وروي عن عليٍّ أنه كان يعتمر في كل يوم.
وعن ابن عمر أنه كان يعتمر في كل يوم من أيام ابن الزبير. أخرج هذه الآثارَ الشافعيُّ ثم البيهقي بأسانيدهما.
ولأن العمرة عبادةٌ غيرُ مؤقتةٍ لا تتعين في السنة بوقت، فوجب أن تكون من جنس ما يفعل على التوالي والتكرار كالصوم والصلاة.
ولأن العمرة إنما سميت عمرة لأنها تفعل في جميع العمر. وقيل: سميت بذلك لأنها تفعل في موضع عامر. وقيل: لأن العمرة هي القصد في اللغة، وفيها قصد.

ويستدل على جوازها في جميع السَّنَةِ وأنه لا تكره في شيء منها -كما في المجموع (7/ 149)- بأن الأصل عدمُ الكراهة حتى يثبت النهي الشرعي ولم يثبت هذا الخبر، ولأنه يجوز القران في يوم عرفة بلا كراهة، فلا يكره إفراد العمرة فيه كما في جميع السنة، ولأن كل وقت لا يكره فيه استدامةُ العمرة لا يُكره فيه إنشاؤها كباقي السنة، وأما القول بأنها أيامُ الحج فكرهت فيها العمرة، فدعوى باطلةٌ لا شبهة لها.

ثم قال الإمام النووي في المجموع (7/ 149- 150): "واحتج الشافعي والأصحاب وابن المنذر وخلائق بما ثبت في الحديث الصحيح «أَنَّ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- أَحْرَمَتْ بَعُمْرَةٍ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَحَاضَتْ، فَأَمَرَهَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ تُحْرِمَ بِحَجٍّ، فَفَعَلَتْ، وَصَارَتْ قَارِنَةً، وَوَقَفَتِ الْمَوَاقِفَ، فَلَمَّا طَهُرَتْ طَافَتْ وَسَعَتْ، فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: قَدْ حَلَلْتِ مِنْ حَجِّكِ وَعُمْرَتِكِ، فَطَلَبَتْ مِنَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يُعْمِرَهَا عُمْرَةً أُخْرَى، فَأَذِنَ لَهَا، فَاعْتَمَرَتْ مِنَ التَّنْعِيمِ عُمْرَةً أُخْرَى» رواه البخاري ومسلم مطولا، ونقلته مختصرًا. قال الشافعي: وكانت عمرتها في ذي الحجة، ثم أعمرها العمرة الأخرى في ذي الحجة، فكان لها عمرتان في ذي الحجة، وعن عائشة أيضًا أنها «اعْتَمَرَتْ فِي سَنَةٍ مَرَّتَيْنِ» أي بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وفي رواية «ثَلَاثَ عُمَرٍ»، وعن ابن عمر أنه اعتمر أعوامًا في عهد ابن الزبير مرتين في كل عام. ذكر هذه الآثار كلها الشافعي ثم البيهقي بأسانيدهما".

وخالفهم الحنابلة فأجازوا تكرار العمرة، ثم منعوا الموالاة بينها، وادعوا نقل ذلك عن السلف، وليس بصحيحٍ على إطلاقه؛ لأنهم أنفسَهم نقلوا عن العديد من الصحابة والتابعين جوازَ التكرار، بل الذين نقلوا عنهم الجوازَ أكثرُ عددًا ممن نقلوا عنه المنع، وتجويزُ التكرار ثم مَنْعُ الموالاة تناقضٌ وتحكمٌ بلا دليل، وادعاؤهم أن السلف منعوا الموالاة ممنوعٌ ومردودٌ، وممن ادَّعى هذه الدعوى الواسعةَ صَاحِبَا المغني (3/ 220- 221 ط. مكتبة القاهرة) والشرح الكبير (3/ 500- 501 ط. دار الكتاب العربي) فقالا: "ولا بأس أن يعتمر في السنة مرارًا. روي ذلك عن علي وابن عمر وابن عباس وأنس وعائشة وعطاء وطاوس وعكرمة والشافعي. وكره العمرةَ في السنة مرتين الحسنُ وابنُ سيرين ومالكٌ. وقال النخعي: ما كانوا يعتمرون في السنة إلا مرة. ولأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يفعله. ولنا أن عائشة اعتمرت في شهر مرتين بأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- عمرة مع قرانها، وعمرة بعد حجها، ولأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «الْعُمْرَةُ إِلَى الْعُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا». متفق عليه، وقال علي -رضي الله عنه-: في كل شهر مرة. وكان أنس إذا حمم رأسه خرج فاعتمر. رواهما الشافعي في مسنده. وقال عكرمة: يعتمر إذا أمكن الموسى من شعره. وقال عطاء: إن شاء اعتمر في كل شهر مرتين. فأما الإكثار من الاعتمار والموالاة بينهما فلا يستحب في ظاهر قول السلف الذي حكيناه. وكذلك قال أحمد: إذا اعتمر فلا بد من أن يحلق أو يقصر، وفي عشرة أيام يمكن حلق الرأس. فظاهر هذا أنه لا يستحب أن يعتمر في أقل من عشرة أيام.

وقال في رواية الأثرم: إن شاء اعتمر في كل شهر. وقال بعض أصحابنا: يستحب الإكثار من الاعتمار. وأقوال السلف وأحوالهم تدل على ما قلناه، ولأن النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه لم ينقل عنهم الموالاة بينهما، وإنما نقل عنهم إنكار ذلك، والحق في اتباعهم. قال طاوس: الذين يعتمرون من التنعيم، ما أدري يؤجرون عليها أو يعذبون؟ قيل له: فلم يعذبون؟ قال: لأنه يَدَعُ الطواف بالبيت، ويخرج إلى أربعة أميال ويجيء، وإلى أن يجيء من أربعة أميال قد طاف مائتي طواف، وكلما طاف بالبيت كان أفضل من أن يمشي في غير شيء".
ودعوى عدم نقل الموالاة لا تصلح دليلا للمنع؛ لأنها لا تعني أكثر من عدم الدليل، وعدمُ الدليل ليس بدليلٍ في المسألة لا نَفْيًا ولا إثباتًا، ومن القواعد العلمية المقررة أنه من المحال كون الفرع مع عدم الأصل، وكون الاستدلال مع عدم الدليل، وأن عدم النقل ليس نقلا للعدم، ولا يلزم من عدم النقل عدم الوقوع، وقال ابن العربي المالكي في عدم النقل عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في مسألة في كتابه أحكام القرآن (2/ 286 ط. دار الكتب العلمية): "تحقيقه أنه عدم دليل لا وجود دليل"، وعدم الدليل في مسألة مبقٍ لها على البراءة الأصلية، والتحريم حكمٌ زائدٌ ناقل عن البراءة الأصلية يحتاج إلى دليل بخصوصه، فما بالك مع عموم الأدلة على الجواز بل والاستحباب على ما تقدم ذكره.

وادعاء أنه نقل عنهم إنكار ذلك ليس بصحيح، وأين هو ذلك المنقول، فهو كلام مرسل لم يُقِمْ قائلُه الدليلَ عليه، إلا من كلام طاوس فحسب، في مقابل العديد ممن نقل عنهم الجواز في صدر كلامه، وكل ذلك مسلك لا يرتضيه التحقيق العلمي الصحيح، فإنه متى جاز التكرار مطلقًا اقتضى ذلك جوازَ الإكثار مطلقًا والموالاة، ويحتاج الفرق بينهما إلى دليل، ولا يوجد. كما أن المندوب -كما تقدم في كلام الحافظ- لم ينحصر في أفعاله صلى الله عليه وسلم؛ فقد كان -صلى الله عليه وسلم- يترك الشيء وهو يستحب فعلَه لرفع المشقة عن أمته، وقد ندب إلى ذلك بلفظه في الأحاديث المتقدمة.

وبناءً عليه وفي واقعة السؤال: فإنه يجوز بل يستحب للمُتَمَتِّع قبل الإحرام بالحج ولكلِّ مَن فرغ من النفر الأول بعد الرمي في اليوم الثاني من أيام التشريق أن يعتمرَ ويكرِّرَ العمرة ويواليَ بينها، وذلك هو مذهب جماهير العلماء سلفًا وخلفًا.
والله سبحانه وتعالى أعلم

 

اقرأ أيضا
;