أداء العمرة للحائض

اطلعنا على البريد الوارد المقيد برقم 290 لسنة 2012م، والمتضمن:
السؤال الأول: إذا سافرت المرأة للحج أو العمرة فما هو الحكم إذا جاءتها الدورة الشهرية قبل أداء طواف الإفاضة بالنسبة للحج أو طواف العمرة بالنسبة للعمرة، وما الحل لو جاءتها الدورة الشهرية قبل ذلك؛ يوم السفر وقبل الإحرام، أو بعد الإحرام بقليل؟ علمًا بأنها يتعذر عليها الانتظار حتى تطهر؛ لأنها مرتبطة بمواعيد السفر والفوج الذين معها.
السؤال الثاني: لو أتاها الحيض في يوم السفر إلى المدينة المنورة -وتعلمون فضيلتكم أن مدة الإقامة في المدينة لا تزيد على خمسة أو ستة أيام؛ وهي مدة حيضها- هل تُمنع من دخول المسجد النبوي أم تذهب لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم والسلام عليه؟

أولًا: أما طواف الحائض: فقد اتفق الفقهاء على أن الحيض والنفاس ليسا من موانع الإحرام، ولا يترتب عليهما فساد الحج أو العمرة إن حصلا خلالهما، ولا يمنعان شيئًا من أعمال الحج والعمرة إلا الطواف على ما يأتي فيه من الخلاف؛ لحديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قدمتُ مكة وأنا حائضٌ لم أطف بالبيت ولا بين الصفا والمروة، فشكوت ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: «افْعَلِي مَا يَفْعَلُ الْحَاجُّ، غَيْرَ أَلَّا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ حَتَّى تَطَّهَّرِي» متفق عليه، وروى الإمام أحمد في "المسند"، وأبو داود في "السنن"، والترمذي في "جامعه" وحسّنه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «النُّفَسَاءُ وَالْحَائِضُ إِذَا أَتَتَا عَلَى الْوَقْتِ تَغْتَسِلانِ وَتُحْرِمَانِ، وَتَقْضِيَانِ الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا، غَيْرَ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ». كما أنهم اتفقوا على أن المرأة إذا حاضت قبل طواف الركن في الحج أو العمرة وأمكنها الانتظار فعليها أن تنتظر لتطوف على طهارة.
قال الشيخ ابن تيمية الحنبلي -كما في "مجموع الفتاوى" (26/205-206، ط. مجمع الملك فهد)-: [الذي لا أعلم فيه نزاعًا: أنه ليس لها أن تطوف مع الحيض إذا كانت قادرة على الطواف مع الطُّهر؛ فما أعلم منازعًا أن ذلك يحرم عليها وتأثم به] اهـ.
وانتظار الرفقة للحائض حتى تطهر فتطوف أمرٌ مشروع ومستحبٌّ جاءت به السنة النبوية الشريفة؛ فروى البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: حاضتْ صفِيَّةُ بِنت حُيَيٍّ بعدما أفاضت، فذكرْتُ حَيْضَتَها لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: «أَحَابِسَتُنَا هِيَ؟» فقُلْتُ: يا رسول الله، إنها قد كانت أفاضت وطافت بالبيت، ثم حاضت بعد الإفاضة، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «فَلْتَنْفِرْ».
وروى عبد الرزاق وابن أبي شيبة في "مصنفيهما" عن إبراهيم النخعي وأبي هريرة رضي الله عنه موقوفًا قالا: "أَمِيرَانِ وَلَيْسَا بِأَمِيرَيْنِ: الرَّجُلُ يَكُونُ مَعَ الْجِنَازَةِ فَصَلَّى عَلَيْهَا فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ حَتَّى يَسْتَأْذِنَ وَلِيَّهَا، وَالْمَرْأَةُ الْحَائِضُ لَيْسَ لِأَصْحَابِهَا أَنْ يَصْدُرُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوا"، وفي لفظ لأبي هريرة رضي الله عنه عند ابن أبي شيبة: "وَالْمَرْأَةُ تَكُونُ مَعَ الْقَوْمِ فَتَحِيضُ قَبْلَ أَنْ تَطُوفَ بِالْبَيْتِ يَوْمَ النَّحْرِ لَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَنْفِرُوا إِلَّا بِإِذْنِهَا"، ورواه ابن أبي شيبة عن عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما موقوفًا، ويُروَى مرفوعًا من حديث أبي هريرة وجابر رضي الله عنهما بأسانيد فيها مقال.
غير أن انتظار الرفقة للحائض منوط بالإمكان والاستطاعة، فإذا تعذر ذلك أو تعسر فشأنه شأن الأوامر الشرعية التي تسقط عند العجز عنها؛ قال الشيخ ابن تيمية -كما في "مجموع الفتاوى" (26/224)-: [ولما كانت الطرقات آمنة في زمن السلف، والناس يَرِدُون مكةَ ويَصْدُرون عنها في أيام العام، كانت المرأة يمكنها أن تحتبس هي وذو محرمها ومَكَارِيُّها حتى تطهر ثم تطوف؛ فكان العلماء يأمرون بذلك. وربما أمروا الأمير أن يحتبس لأجل الحُيَّضِ حتى يطهرن؛ كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «أَحَابِسَتُنَا هِيَ؟»..
وأما هذه الأوقات فكثير من النساء -أو أكثرهن- لا يُمكنهنَّ الاحتباسُ بعد الوفد، والوفد ينفر بعد التشريق بيوم أو يومين أو ثلاثة، وتكون هي قد حاضت ليلة النحر؛ فلا تطهر إلى سبعة أيام أو أكثر، وهي لا يمكنها أن تقيم بمكة حتى تطهر؛ إما لعدم النفقة، أو لعدم الرفقة التي تقيم معها وترجع معها.. أو لخوف الضرر على نفسها ومالِها في المُقام وفي الرجوع بعد الوفد، والرفقة التي معها: تارة لا يمكنهم الاحتباس لأجلها؛ إما لعدم القدرة على المُقام والرجوع وحدهم، وإما لخوف الضرر على أنفسهم وأموالهم، وتارة يمكنهم ذلك لكن لا يفعلونه؛ فتبقى هي معذورة] اهـ.
والطهارة من الحيض والنفاس شرط لصحة الطواف دون السعي عند جمهور الفقهاء؛ مستدلين بحديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها السابق ذكرُه؛ فإن فيه نهيًا للحائض عن الطواف حتى ينقطع دمها وتغتسل، والنهيُ في العبادات يقتضي الفساد، ولذلك يبطل الطواف لو فعلَتْه.
وخالف في اشتراط الطهارة للطواف جماعةٌ مِن الفقهاء؛ فحملوا النهي في الحديث على الحالة المعتادة التي تستطيع فيها الحائض الانتظار حتى تطهر وتطوف، لا على حال الضرورة، وجعلوا الطهارة في الطواف واجبًا لا شرطًا؛ وهو مذهب الحنفية، وقول عند الحنابلة، ومنهم مَن جعلها سُنّة؛ وهو مذهب جماعة مِن التابعين، وقول عند الحنفية والمالكية والحنابلة.
فتُحْرِم الحائض أو النفساء بالحج أو بالعمرة من ميقات إحرامها وتنتظر على مذهب الجماهير حتى تطهر؛ سواء أتاها الحيض قبل الإحرام أم أثناءه أم بعده وقبل الطواف، فإذا طهرت اغتسلت ثم طافت وسعت من غير أن تحرم مرة أخرى من الحِلِّ.
فإن تخلل حيضها فترة انقطع فيها الدم، أو استعملت دواءً فانقطع دمُها: جاز لها الاغتسال والطواف، وطوافها صحيح حتى لو رجع إليها الدم بعد ذلك وكانت في مدة الحيض؛ على ما عليه المالكية والحنابلة مِن أن النقاءَ في الحيض طُهْر، وهو أحد قولي الإمام الشافعي ويُعرَف بقول "التلفيق"، ورجحه جماعة من الشافعية، وهو مذهب الإمام الحسن بن أبي الحسن البصري.
فإن تأخر طهرُها ولم ينقطع دمُ حيضها وخافت فوات الرُّفقة، وتعذر عليها الانتظارُ حتى تطهر: فالذي يقتضيه مذهب مَن يرى الطهارة شرطًا في الطواف: أنها تتحلل من إحرامها كالمُحصَر، وتذبح إن لم تكن قد اشترطت إحلالها إذا حُبِسَتْ، ويبقى الطواف في ذمتها ولو بعد سنين، وبعضهم يوجب عليها المكث بمكة حتى تطهر فتطوف، ولا يخفى ما في ذلك كلِّه مِن العسر والمشقة، سيّما إذا نأتِ الديار وبَعُدَت الشُّقّةُ، أو ضاق الحالُ وعزَّت النفقة، وقد أصبح الحج كالفرصة التي يندر تكرارها لعامّة الناس.
والذي عليه جماهير المحققين وكثيرٌ مِن فقهاء المذاهب وعليه العمل والفتوى: صحّةُ طوافِها حالَ حيضها حينئذٍ؛ لأن المشقة تجلب التيسير، وإذا ضاق الأمر اتسع.
- ثم منهم مَن يُلزِمُها بشاة عن طواف العمرة وبدنة عن طواف الإفاضة في الحج، وهم الحنفية في المعتمد؛ بناءً على أن ترك الطهارة يُجْبَرُ بدمٍ؛ لأنها مِن واجبات الطواف لا مِن شروطه، ويروي الحنفية هذا القولَ عن ابن عباس رضي الله عنهما، وذكره الإمام أبو يعقوب الأبيوردي وجهًا في مذهب الشافعي في طواف الوداع، وإن لم يعتمده الشافعية، وهو رواية عن الإمام أحمد، ونص المالكية على تقليده وأن الأخذ به هو مقتضَى يسر الدين، ونص الشافعية على أنه هو الأحوط.
- ومنهم مَن لا يُلزمها بدمٍ أصلًا:
1. إمّا لأنها معذورة؛ كما هو مرويٌّ عن السيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، وقد نقله عنها عطاء بن أبي رباح وهو أعلم التابعين بالمناسك، وهو مقتضى قول عطاء بن أبي رباح وإبراهيم النخعي في تصحيحهما الطواف إذا حاضت المرأة أثناءه، وقول الحكم بن عُتَيْبة، وحماد بن أبي سليمان، ومنصور بن المعتمر، وسليمان الأعمش؛ كما نقله عنهم إمام المحدِّثين شعبة بن الحجّاج، وهو المُفتَى به عند السادة المالكية تخريجًا على ما رواه البصريون عن الإمام مالك في جعله طواف القدوم بدلًا عن طواف الإفاضة لمن سافر لبلده ونسيه، وهو مرويٌّ عن الإمام أحمد واختاره الشيخ ابن تيمية وتلميذه ابن القيم الحنبليان وبعض أئمة الحنابلة.
2. وإما لأن الطهارة في الطواف سنة لا واجب؛ وهو قول الإمام محمد بن شُجَاع الثلجي مِن أئمة الحنفية، وقول الإمام المغيرة بن عبد الرحمن المخزومي؛ فقيه أهل المدينة بعد الإمام مالك، ورواية عن الإمام أحمد. غير أنّ مِن الفقهاء مَن لا يجعل القولَ بسُنِّيّة الطهارة مسقطًا للزوم الدم.
وقد وردت الآثار عن السلف بصحة طواف الحائض: 
فجاء ذلك عن جماعة من الصحابة؛ منهم: عائشة أم المؤمنين، وابن عمر، وابن عباس رضي الله عنهم:
- فقال سعيد بن منصور: حدثنا أبو عوانة، عن أبي بشر، عن عطاء، قال: "حاضت امرأةٌ وهي تطوف مع عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، فأتمَّت بها عائشةُ بقيةَ طوافِها". ذكره ابن حزم في "المحلَّى" (5/189، ط. دار الفكر)، وابن القيم في "إعلام الموقعين" (4/372، ط. دار ابن الجوزي) واللفظ لهما، وابن جماعة في "هداية السالك" (3/917)، والزيلعي في "نصب الراية" (3/128، ط. مؤسسة الريان)، ولفظه عندهما: "فأتمَّت بها عائشةُ سُنّة طوافها".
قال الإمام ابن حزم عقب ذكره: [فهذه أم المؤمنين لم تر الطهارة مِن شروط الطواف] اهـ.
وقال العلامة الكمال بن الهمام الحنفي في "فتح القدير" (2/244، ط. المطبعة الأميرية ببولاق 1315هـ): [وهذا يؤيد انتفاء الاشتراط] اهـ بتصرف.
وهذا إسناد مسلسَل بالأئمة الأثبات الثقات؛ فأبو عوانة: هو الوضّاح بن عبد الله اليشكري؛ الإمام الحافظ محدِّث البصرة، وأبو بشر: هو جعفرُ بن أبي وحشيةَ إياسٍ الواسطيُّ؛ تابعي من رجال الصحيحين، وثقه جماعة من الأئمة، وعطاء: هو ابن أبي رباح؛ مفتي أهل مكة، وأعلم التابعين بالمناسك، حتى قال الإمام محمد الباقر رضي الله عنه -فيما أخرجه ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" (6/330، ط. دار إحياء التراث العربي)-: "ما بقي أحدٌ مِن الناس أعلم بأمرِ الحج مِن عطاء"، وقد سمع عطاءٌ مِن عائشة رضي الله عنها؛ كما قال الإمام أحمد -فيما رواه عنه حرب في "مسائله" (3/1314، ط. جامعة أم القرى)-، ويحيى بن معين، وأبو حاتم وأبو زرعة الرازيان -كما في "الجرح والتعديل" (6/330)-، وحديثه عنها مُخرَّج في الصحيحين والمسانيد والسنن.
- ونقل الإمام أحمد عن عبد الله بن عُمَر رضي الله عنهما التسهيلَ والتيسيرَ على مَن طاف للإفاضة على غير طهارة ثم جامع أهله، ذكره أبو بكر عبد العزيز في كتاب "الشافي" من رواية عبد الملك الميموني عن أحمد، وأنه قال: "هذه مسألة الناس فيها مختلفون"، وذكَر قولَ ابن عمر وما يقول عطاء وما يسهل فيه، وما يقول الحسن. وهذا يقتضي عدم اشتراط الطهارة في الطواف، وقد نقل ذلك ابنُ تيمية -كما في "مجموع الفتاوى" (26/207-208)- ثم قال: [وجواب أحمد المذكور يبين أن النزاع عنده في طواف الحائض وغيره، وقد ذَكَرَ عن ابن عمر وعطاء وغيرِهما التسهيلَ في هذا] اهـ.
- ونقَل فقهاء الحنفية عن حبر الأُمّة سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنّه أوجب بدَنَةً على مَن طاف وهو جنب، وهذا يقتضي تصحيح طوافه، والحائض كالجنب، بل هي أَوْلَى؛ لأن العذر في حقها أشد:
قال الإمام السرخسي الحنفي في "المبسوط" (4/39، ط. دار المعرفة): [وهو مرويٌّ عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: البدنة في الحج تجب في شيئين: على مَن طاف جُنُبًا، وعلى مَن جامع بعد الوقوف، وإن أعاد طوافه سقطت عنه البدنة] اهـ.
وقال الإمام الكاساني في "بدائع الصنائع" (2/217، ط. دار الكتب العلمية): [رُوِيَ عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: البدنة في الحج في موضعين أحدهما: إذا طاف للزيارة جنبًا ورجع إلى أهله ولم يعد، والثاني: إذا جامع بعد الوقوف] اهـ.
ونقله بمعناه الإمام المرغيناني في "الهداية" (1/161، ط. دار إحياء التراث العربي) فقال: [(ولو طاف طواف الزيارة محدثًا فعليه شاة) لأنه أدخل النقص في الركن فكان أفحش من الأول، فيجبر بالدم (وإن كان جنبا فعليه بدنةٌ) كذا رُوِيَ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما] اهـ.
وقال الشيخ ابن تيمية كما في "مجموع الفتاوى" (26/126، ط. مجمع الملك فهد): [ونقَل بعضُ الفقهاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: "إذا طاف بالبيت وهو جُنُبٌ عليه دمٌ"] اهـ.
قال الحافظ الزيلعي في "نصب الراية" (3/128، ط. دار الريان): [غريب] اهـ، وقال الحافظ ابن حجر في "الدراية في تخريج أحاديث الهداية" (2/41، ط. دار المعرفة): [لم أجده] اهـ.
 ورُوِيَ ذلك أيضًا عن جماعة من التابعين، ومَن بعدهم:
فروى الإمام أبو بكر بن أبي شيبة في "المصنف" عن غندر، عن شعبة قال: سألتُ الحكَمَ، وحمّادًا، ومنصورًا، وسليمانَ، عن الرجل يطوف بالبيت على غير طهارة، «فلم يروا به بأسًا». وسقط اسم "الحكَم" من مطبوعة "المصنَّف"، وهي ثابتة في "فتح الباري" للحافظ ابن حجر (3/505، ط. دار المعرفة) و"طرح التثريب" للحافظ أبي زرعة العراقي (5/120، ط. دار الفكر العربي).
ونقل الحافظ أبو عمر بن عبد البر ذلك عن إبراهيم النخعي أيضًا؛ كما في كتابه "الاستذكار" (4/207، ط. دار الكتب العلمية).
وورد عن عطاء وإبراهيم أيضًا الاعتدادُ بطواف الحائض إذا جاءها الحيض أثناء الطواف:
فروى ابن أبي شيبة في "المصنف" من طريق ليث، عن عطاء بن أبي رباح قال: "إذا طافت المرأة ثلاثة أطواف فصاعدًا ثم حاضت، أجزأ عنها"، وفي لفظ آخر من طريق حجاج، عن عطاء: "تستقبل الطواف أحبُّ إلي، وإن فعلَتْ فلا بأس به". ورَوَى أيضًا عن إبراهيم النخعي في المرأة تطوف ثلاثة أشواط ثم تحيض، قال: "يُعتَدُّ به".
قال الشيخ ابن تيمية -كما في "مجموع الفتاوى" (26/208)-: [وهذا صريح عن عطاء أن الطهارة من الحيض ليست شرطًا، وقولُه مما اعتَدَّ به أحمدُ] اهـ.
وقال تلميذه الشيخ ابن القيم الحنبلي في "إعلام الموقعين" (4/372): [وأشار أحمد إلى تسهيل عطاء إلى فتواه أن المرأة إذا حاضت في أثناء الطواف فإنها تتم طوافها، وهذا تصريح منه أن الطهارة ليست شرطًا في صحة الطواف] اهـ.
وأفتى الإمام الحسن بن أبي الحسن البصري المرأةَ الحائضَ التي شربت دواءً فانقطع دمها، فطافت في أيام عادتها، أن طوافها صحيح؛ وذلك فيما أخرجه الإمام أحمد -كما في "مسائل أبي داود" عنه (ص: 163، ط. مكتبة ابن تيمية)- قال: حدثنا معاذ بن معاذ، عن أشعث، عن الحسن، أنه قال في امرأة قضت المناسك كلها إلا الطواف الواجب، ثم حاضت فشربت دواء، فقطع الدم عنها، فطافت في أيام حيضتها وهي طاهرٌ؛ قال: "أَجزَأَ عنها".
ومذهب الإمام أبي ثور فيمن طاف على غير طهارة: أنه إن فعل ذلك وهو لا يعلم أجزأه، بخلاف العامد فإنه لا يجزئه، وهذا يقتضي أن الطهارة عنده ليست شرطًا في الطواف؛ فإن الشرط لا يسقط بالنسيان؛ قال الإمام ابن رشد في "بداية المجتهد" (2/109، ط. دار الحديث): [وقال أبو ثور: إذا طاف على غير وضوء أجزأه طوافه إن كان لا يعلم، ولا يجزئه إن كان يعلم] اهـ.
ومذهب الإمام داود الظاهري أن الطهارة ليست شرطًا في الطواف؛ كما نقل ذلك الإمام النووي في "شرح مسلم" (8/147، ط. دار إحياء التراث العربي).
وأمّا عند أرباب المذاهب الفقهية المتبوعة:
- فنص السادة الحنفية على أن الطهارة من الحيض ليست شرطًا للطواف، وأن طواف المحدث حدثًا أكبر؛ جنُبًا أو حائضًا أو نفساء للعمرة يُجبَر بشاة، وطواف الزيارة يُجبَرُ ببدنة، ونقلوا ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما، وتجب الإعادة بعد ارتفاع الحدث، فإن أعيد الطواف حال الطهر فلا يجب الدم، إلا إذا حصلت الإعادة بعد أيام النحر فيجب الدم عند الإمام أبي حنيفة للتأخير:
قال الإمام الكاساني الحنفي في "بدائع الصنائع" (2/129، ط. دار الكتب العلمية): [فأما الطهارة عن الحدث, والجنابة, والحيض, والنفاس؛ فليست بشرط لجواز الطواف, وليست بفرض عندنا، بل واجبة حتى يجوز الطواف بدونها] اهـ.
وقال الإمام مجد الدين أبو الفضل الحنفي في "الاختيار في تعليل المختار" (1/162، ط. مطبعة الحلبي): [لو طاف للعمرة جنبًا أو محدثا فعليه شاة؛ لأنه ركن فيها، وإنما لا تجب البدنة لعدم الفرضية; والحائض كالجنب لاستوائهما في الحكم، ولو أعاد هذه الأطوفة على طهارة سقط الدم؛ لأنه أتى بها على وجه المشروع فصارت جنايته متداركة، فسقط الدم] اهـ.
وقال في طواف الزيارة (1/163-164): [(وإن طاف للزيارة جنبا فعليه بدنة، وكذلك الحائض) لأنه لما وجب جبر نقصان الحدث بالشاة وجب جبر نقصان الجنابة بالبدنة، لأنها أعظم فتعظم العقوبة، وهو مرويٌّ عن ابن عباس رضي الله عنهما، والأَوْلَى أن يعيده ليأتي به على أكمل الوجوه، فإن أعاد فلا شيء عليه؛ لأنه استدرك ما فاته في وقته] اهـ.
واختلف مشايخ الحنفية في كون الطهارة للطواف واجبًا أو سُنّة، وصححوا أنها واجبةٌ:
قال الإمام السرخسي في "المبسوط" (4/38، ط. دار المعرفة): [الصحيح من المذهب أن الطهارة في الطواف واجبة، وكان ابن شجاع رحمه الله تعالى يقول: إنها سنة] اهـ.
وقال الإمام الموفق بن قدامة الحنبلي في "المغني" (3/343، ط. مكتبة القاهرة): [وقال أبو حنيفة: ليس شيء من ذلك -يعني: الطهارة في الطواف- شرطا. واختلف أصحابه؛ فقال بعضهم: هو واجب، وقال بعضهم: هو سنة؛ لأن الطواف ركن للحج؛ فلم يشترط له الطهارة، كالوقوف] اهـ.
ونص بعض الحنفية على أن القول بالسُّنِّيَّة عندهم لا ينافي وجوب الكفارة:
قال العلامة زين الدين بن نجيم في "البحر الرائق" (3/19، ط. دار الكتاب الإسلامي): [وظاهر كلام "غاية البيان": أن الدم واجب اتفاقًا: أما على القول بوجوبها - وهو الأصح- فظاهر، وأما على القول بسنيتها فلأنه لا يمتنع أن تكون سُنّة ويجب بتركها الكفارة؛ ولهذا قال: محمد فيمن أفاض من عرفة قبل الإمام يجب عليه دم؛ لأنه ترك سنة الدفع. اهـ. وبهذا علم أن الخلف لفظي لا ثمرة له] اهـ. وتعقبه الشيخ سراج الدين بن نُجيم في "النهر الفائق" (2/125-126، ط. دار الكتب العلمية) بقوله: [وفيه نظر؛ إذ إثم ترك الواجب أشد] اهـ.
وقال الشيخ ابن تيمية الحنبلي في "الفتاوى الكبرى" (1/448، ط. دار الكتب العلمية): [وكذلك قال بعض الحنفية: إن الطهارة ليست واجبة في الطواف، بل سنة، مع قوله: إن في تركها دمًا] اهـ.
ومذهب الحنفية أن الحائض إذا طافت أثمت بدخولها المسجد الحرام مع صحة طوافها؛ قال العلامة ابن أمير الحاج الحنفي في "منسكه": [لو هَمَّ الركبُ على القفول ولم تطهر، فاستفتت: هل تطوف أم لا؟ قالوا: يُقال لها: لا يحل لك دخول المسجد، وإن دخَلْتِ وطُفْتِ أَثِمْتِ وصح طوافُكِ، وعليك ذبح بدنة. وهذه مسألة كثيرة الوقوع يتحير فيها النساء] اهـ نقلًا عن "حاشية ابن عابدين على الدر المختار" (2/519، ط. دار الفكر).
وقال العلامة ملا علي القاري الحنفي في "المسلك المتقسط في المنسك المتوسط" (ص: 73، ط. المطبعة الكبرى 1288هـ): [(الطهارة عن الحدث الأكبر والأصغر).. ووجوبها عنهما هو الصحيح من المذهب، وهو إحدى الروايتين عن الإمام أحمد، وقال ابن شجاع: هو سنة.. ثم إذا ثبت أن الطهارة عن النجاسة الحكمية واجبة فلو طاف معها يصح عندنا وعند أحمد، ولم يحل له ذلك ويكون عاصيًا، ويجب عليه الإعادة أو الجزاء إن لم يعد] اهـ.
والتحقيق أن الإثم إنما يلحق الحائض بطوافها في الحالة المعتادة، أما في حالة الضرورة التي تخشى فيها فوات رفقتها ويتعذر أو يتعسر عليها العود للبيت الحرام للطواف: فإن الإثم ينتفي عنها حينئذ للضرورة؛ فقد نص الحنفية على جواز دخول الحائض إلى المسجد للضرورة؛ قال الإمام أبو الفضل الموصلي في "المختار" (1/13، ط. مطبعة الحلبي): [ولا يدخل -أي: الجنب- المسجد إلا لضرورة، والحائض والنفساء كالجنب] اهـ.
وقال العلامة ملا خسرو الحنفي في "درر الحكام شرح غرر الأحكام" (1/20، ط. دار إحياء الكتب العربية): [(وحرُم على الجنب دخولُ المسجد ولو للعبور.. إلا لضرورة) كأن يكون بابُ بيتِه إلى المسجد] اهـ، ونقله ابنُ نجيم في "البحر الرائق" (1/205، ط. دار الكتاب الإسلامي) ثم قال: [وهو حسن] اهـ. والتمثيل بما ذُكِرَ يكشف أن المقصود بالضرورة: الحاجة الأكيدة، وهي متحققة بأبلغ من ذلك في حالة الحائض المعذورة التي تخشى فوات رفقتها ولا يمكنها الانتظار.
ولذلك جاء في "الفتاوى الأسعدية في فقه الحنفية" للعلامة السيد أسعد المنورة الحسيني مفتي المدينة المنورة (1/21، ط. المطبعة الخيرية):
[سؤال في المرأة إذا حاضت وهي محرمة، ما حكمها؟ أفتونا.
الجواب: تعمل جميع ما يعمل الحاج من الوقوف بعرفة والغسل والوقوف بمزدلفة والرمي والتقصير، غير أنها لا تطوف طواف القدوم ولا طواف الإفاضة حتى تطهر، ويسقط عنها طواف الوداع إن لم تطهر قبل ذلك، وأما طواف الإفاضة فلم يسقط بحال، وإن لم تطهر يقال لها: تربصي حتى تطهري وتطوفي، وإلا تطوفي وعليك بدنة. والله أعلم] اهـ.
فأمرها بالطواف إن لم يتيسر لها التربُّصُ، ومفهومه: أنه لا إثم عليها إن فعلت ذلك؛ إذ الإثم هنا يتعلق بالفعل المتعمَّد من غير حاجة.
ومع انتفاء الإثم عن المضطرة للطواف وهي حائض فإن وجوب الكفارة لا يسقط عنها عند الحنفية؛ فإنهم لم يستثنوا حال الاضطرار والعذر من وجوب الكفارة، وسبب وجوبها مع وجود العذر: أن العذر حصل مِن قِبَل العِبَاد؛ حيث إن اضطرارها إنما جاء بسبب تعجل رفقتها.
وبيانُ ذلك: أنه قد تقرر في قواعد فقه الحنفية أن ترك النسك الواجب لعذر يسقط الكفارة؛ ولذلك سقط عن المرأة الدمُ إذا حاضت قبل طواف الوداع مع كونه طوافًا واجبًا عند الحنفية؛ قال العلامة الكاساني في "بدائع الصنائع" (2/142، ط. دار الكتب العلمية): [رخص النبي صلى الله عليه وآله وسلم للنساء الحُيَّضِ في ترك طواف الصدر لعذر الحيض، ولم يأمرهن بإقامة شيء آخر مقامه وهو الدم، وهذا أصل عندنا في كل نسك جاز تركُه لعُذرٍ: أنه لا يجب بتركه من المعذور كفارة] اهـ بتصرف، لكنهم قيدوا العذر المسقطَ للدَّمِ ببعض القيود:
منها: أن لا يمكن تدارك الواجب، فإن أمكن تداركه ولم يُتَدارك وجبت فيه الكفارة.
ومنها: أن لا يكون هذا العذر مِن قِبَل العِبَاد، فإن كان كذلك وجبت فيه الكفارة أيضًا.
قال العلامة ابن عابدين في "رد المحتار على الدر المختار" (2/544، ط. دار الفكر): [تتمة: يُستَثنَى مِن الإطلاق المار في وجوب الجزاء ما في اللباب: لو ترك شيئًا من الواجبات بعذر، لا شيء عليه على ما في "البدائع"، وأطلق بعضهم وجوبه فيها إلا فيما ورد النص به؛ وهي ترك الوقوف بمزدلفة، وتأخير طواف الزيارة عن وقته، وترك الصدر للحيض والنفاس، وترك المشي في الطواف والسعي، وترك السعي، وترك الحلق لعلة في رأسه اهـ لكن ذكر شارحه ما يدل على أن المراد بالعذر: ما لا يكون من العباد؛ حيث قال عند قول "اللباب": "ولو فاته الوقوف بمزدلفة بإحصار فعليه دم": هذا غير ظاهر؛ لأن الإحصار من جملة الأعذار، إلا أن يقال: إن هذا مانع من جانب المخلوق؛ فلا يؤثر، ويدل له ما في "البدائع" فيمن أحصر بعد الوقوف حتى مضت أيام النحر ثم خُلِّيَ سبيلُه: أن عليه دمًا لترك الوقوف بمزدلفة، ودمًا لترك الرمي، ودمًا لتأخير طواف الزيارة اهـ . ومثله في إحصار "البحر"] اهـ.
وفي "الدر المختار" للعلامة الحصكفي: [(أو أفاض من عرفة) ولو بِنَدِّ بعيرِه (قبل الإمام) والغروب، ويسقط الدم بالعود ولو بعده في الأصح "غاية"].
قال العلامة ابن عابدين في حاشيته عليه "رد المحتار على الدر المختار" (2/552): [قال في "اللباب": ولو ند به بعيره فأخرجه من عرفة قبل الغروب لزمه دم، وكذا لو ند بعيره فتبعه لأخذه اهـ. قال شارحه القاري: وفيه أن ترك الواجب لعذر مسقط للدم. اهـ. وأجيب بأنه يمكنه التدارك بالعود، وهو مسقط للدم. قلت: الأحسن الجواب بما قدمناه أول الباب من أن المراد بالعذر المسقط للدم ما لا يكون من قبل العباد وسيأتي توضيحه في الإحصار] اهـ.
وقال العلامة الطحطاوي في "حاشيته" عليه (1/523، ط. بولاق): [وفيه أن النَّدَّ عذر؛ لأن حفظ المال واجب كحفظ النفس، وحكم الواجب: سقوط الدم فيه للعذر، ولم يعتبروه هنا] اهـ.
- ونص المالكية على أن الحائض إذا انقطع دمُها ولو لمدة يسيرةٍ جاز لها أن تطوف في وقت انقطاع الدم بعد أن تغتسل، فإن استمر دم الحيض بلا انقطاع: ففي تقرير المذهب قولان:
الأول: أن طوافها لا يصح، وعليها أن تمكث في مكة وحدها حتى تطهر ثم تطوف إن أمكنها المقام بمكة، وإلا رجعت إلى بلدها ثم عادت من قابل، وهذا جارٍ على ما نقله البغداديون عن الإمام مالك رحمه الله تعالى.
الثاني: أن طوافها صحيح؛ أخذًا من قول المغيرة بن عبد الرحمن المخزومي -فقيه أهل المدينة بعد الإمام مالك- فيمن طاف على غير طهارة وخرج إلى بلده فإن ذلك يجزئه، وتخريجًا على ما رواه البصريون عن الإمام مالك من إحلاله طواف القدوم محل طواف الركن لمن نسيَه أو جهل فرضيته، فرجع إلى بلده دون أن يؤديه، من غير أن يوجب عليه دمًا، وعذر الحائض أبلغ من ذلك، وتصحيح طوافها أولى؛ فإن تصحيح الطواف دون شرطه أَوْلَى من تصحيحه قبل وقته؛ إذ حُرمة الوقت مقدمةٌ على حرمة الشرط.
والعمل والفتوى عندهم على هذا التخريج، كما نصوا أيضًا على جواز تقليد الإمام أبي حنيفة:
قال الإمام أبو محمد بن شاس المالكي في "عقد الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة" (1/398، ط. دار الغرب الإسلامي): [لو طاف غير متطهر أعاد، فإن رجع إلى بلده قبل الإعادة رجع من بلده على إحرامه إلى مكة فيطوف. وقال المغيرة: يُعِيد ما دام بمكة، فإن أصاب النساء وخرج إلى بلده أجزأه] اهـ. وظاهر هذا النقل عن المغيرة أنه لا دم عليه.
ونقله الإمام أبو زرعة العراقي الشافعي في "طرح التثريب" (5/121، ط. دار إحياء التراث العربي) فقال: [وعند المالكية قولٌ يوافق هذا] -أي: قول الحنفية- فذكره.
وقال الإمام القرافي المالكي في "الذخيرة" (3/238، ط. دار الغرب الإسلامي): [وقال الإمام أبو حنيفة والمغيرة: لا يشترط الطهارة؛ قياسًا على الوقوف، بل هي سُنّةٌ؛ إن طاف محدِثًا فعليه شاةٌ، أو جنُبًا فعليه بدَنةٌ] اهـ.
وقال الإمام ابن جماعة الكناني الشافعي في "هداية السالك إلى المذاهب الأربعة في المناسك" (3/916): [وقال المغيرة من أصحاب مالك: إنه لا تُشتَرطُ الطهارة؛ بل هي سُنَّة، إن طاف مُحْدِثًا فعليه شاة، وإن طاف جُنُبًا فعليه بدنة] اهـ.
وقال العلامة الشيخ عليش المالكي في "منح الجليل شرح مختصر خليل" (2/298، ط. دار الفكر): [ولا يُحبَسُ كَرِيٌّ ولا وَلِيٌّ لأجل طوافها، وتمكث وحدها بمكة حتى تطهر وتطوف إن أمكنها المُقام بها، وإلا رجعت لبلدها وهي محرمة وتعود في القابل. سند.. وهذا كله إن لم ينقطع دمها أصلًا، وإلا اغتسلت وطافت حال انقطاعه ولو بعض يوم.
هذا تقرير المذهب، وفيه مشقة؛ خصوصًا على مَن بلادُها بعيدةٌ. ومقتضى يُسرِ الدين:
- إمّا تقليدُ ما رواه البصريون عن الإمام مالك رضي الله عنه: أن من طاف للقدوم وسعى ورجع لبلده قبل طواف الإفاضة جاهلًا أو ناسيًا أجزأه عن طواف الإفاضة، وإن كان خلافَ رواية البغداديين عدمَه وهو المذهب، ولا شك أن عذر الحائض والنفساء أبلغ من عذر الجاهل والناسي.
- وإمّا تقليدُ أبي حنــيفة رضي الله عنه: أن الحائض تطوف؛ لأنه لا يشترط في الطواف الطهارة من حدث ولا من خبث، وهي رواية عن أحمد رضي الله عنه، وعليها بدنة، ويتم حجها؛ لصحة طوافها، وإن أثمت عندهما، أو عند أحمد فقط، بدخولها المسجد حائضًا. والله أعلم بالصواب] اهـ.
ونحوه للشيخ مبارك الأحسائي المالكي في "تسهيل المسالك إلى هداية السالك إلى مذهب الإمام مالك" (3/925، ط. مكتبة الإمام الشافعي)، غير أنه اقتصر في اقتضاء اليسر على القول الثاني عند المالكية دون أن يعرج على تقليد الحنفية، ولا يخفى أن ذلك أيسرُ؛ لإسقاطه الدم، وذاك أحوطُ؛ لأدائها الطواف صحيحًا على مذهبٍ معتبَر.
- وعند الشافعية: أن الحائض لا تطوف حتى تطهر؛ لأن الطهارة شرط صحة في الطواف.
وقد ذكر الإمام أبو يعقوب الأبيوردي من أئمة الشافعية وجهًا في صحة طواف الوداع من غير طهارة مع جبره بدم، وغلَّطه إمام الحرمين؛ فقال في "نهاية المطلب" (4/300، ط. دار المنهاج): [وإنما قال هذا مِن حيث إنه أُلزم وقيل: لو جاز جبر طواف الوداع بالدم، لجاز جبرُ الطهارة فيه بالدم، فارتكبه وقال تُجبر. وهذا غلط؛ لأنه إذا وجب الدم فهذا جبرُ الطواف؛ لا جبرُ الطهارة] اهـ.
ونصُّوا على أن الحائض إذا استعملت دواءً لينقطع دمُها، أو انقطع دمُها أثناء الحيض، فاغتسلت وطافت، فإن طوافَها صحيح وإن عاد الدم بعد ذلك؛ بناءً على أن النقاء في الحيض طهرٌ، وهو أحد قولي الإمام الشافعي رضي الله عنه فيمن انقطع دمُها يومًا ويومًا، ويُعرَف بقول "التلفيق"، ورجحه جماعةٌ من الشافعية، وبه قال الإمامان مالك وأحمد رحمهما الله تعالى.
فإن لم ينقطع دمُها ولم يمكن التخلف: خرجت معهم إلى محل لا يمكن عودُها له، ثم تتحلل كالمُحصَر؛ أي: بذبحٍ فتقصيرٍ مع النية، وإذا عادت إلى مكة -ولو بعد مدة مديدة- طافت بلا إحرام.
غير أنهم نصُّوا على أن الأحوط لها والألْيَقَ بمحاسن الشريعة في حالتها هذه: أن تقلد مذهب مَن يصحح طوافَها وهي حائض؛ فتهجم وتطوف بالبيت، ويلزمها بدنة، مع إثمها. وكذلك الحال في كل مسألة خلافية قال بها إمام معتبر؛ فإن الواقع فيها يقلِّدُ القائل بما له فيه مَخْلَصٌ.
قال الإمام شمس الدين الرملي الشافعي في "نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج" (3/317، ط. دار الفكر): [وبحث بعضهم أنها إن كانت شافعية تقلد الإمام أبا حنيفة أو أحمد على إحدى الروايتين عنده؛ في أنها تهجم وتطوف بالبيت، ويلزمها بدنة، وتأثم بدخولها المسجد حائضًا، ويجزيها هذا الطواف عن الفرض؛ لِمَا في بقائها على الإحرام من المشقة] اهـ.
وقال الإمام ابن حجر الهيتمي الشافعي في "حاشيته على شرح الإيضاح" للإمام النووي (ص: 387-388، ط. دار الحديث): [فائدة: كثر كلامُ الأئمة في نساء الحجيج إذا حِضْنَ قبل طواف الإفاضة ولم يمكنهن التخلفُ لفعله.
وللبارزي كلامٌ في المسألةِ حسنٌ طويلٌ، حاصله: أن مَن استعملت دواءً فانقطع دمُها، أو انقطع لا لدواءٍ، فاغتسلت وطافت، ثم عاد الدم بعد سفرها: يجوز لها العمل بأحد قولي الشافعي فيمن انقطع دمُها يومًا ويومًا؛ فإن يوم النقاء طهرٌ على هذا القول المعروف بقول "التلفيق"، ورجحه جماعة من الأصحاب، ويوافقه مذهب مالك وأحمد: أن النقاءَ في أيام التقطعِ طُهْرٌ.
ومَن لم ينقطع دمُها يصح طوافُها عند أبي حنيفة وعلى إحدى الروايتين عند أحمد، لكن يلزمها بدنة، وتأثم بدخول المسجد وهي حائض؛ فيقال لها: لا يحلُّ لكِ ذلك، لكن إن فعلتِ أثِمْتِ وأجزأكِ عن الفرض.
ومَن سافرَتْ بلا طوافٍ: فنقل البصريون عن مالك أن مَن طاف طواف القدوم وسعى ورجع لبلده قبل طواف الإفاضة جاهلًا أو ناسيًا؛ أجزأه، وقياسه: أن هذه كذلك؛ لأن عذرها أظهر مِن عذرهما؛ لتعذر بقائها بمكة، فإن لم يصح هذا النقل أو ما قيس عليه وأرادت التحلل، فقياس مذهبنا وغيره: أنها تصبر حتى تجاوز مكة إلى محل لا يمكنها الرجوع منه لنحو خوف على بُضْعٍ أو مالٍ، فتصير حينئذ كالمحصر؛ لأنها تتيقن الإحصار لو رجعت، وتيقُّنُه كوجوده، فتتحلَّلُ كتَحَلُّلِه، ثم إن كان إحرامها بفرض بقي في ذمتها، ومشى على ما قال بعض علماء اليمن وأطال في الاستدلال له، وقال: إن ما قاله آخرًا مذهبُ الشافعي لمن أعمل فكره في حقائقه..
قال العلامة ابن حجر: ثم رأيت البلقيني استنبط مما ذكروه في الإحصار من الطواف: أنها إذا لم يمكنها الإقامة حتى تطهر وجاءت بلدها وهي محرمة وعدمت النفقة ولم يمكنها الوصول إلى البيت: أنها كالمحصر؛ فتتحلل تحلله، وأيده بما في "المجموع": أنه لو صُدَّ عن طريقٍ ووجدَ آخرَ أطولَ ولم يكن معه ما يكفيه إذا سلكه: فله التحلُّلُ. قال الولي العراقي: وهو استنباط حسن، وبه أفتى شيخ الإسلام فقيه عصره الشرف المناوي، وهو مؤيِّد لما قاله البارزي، فهو المعتمد.
وإذا علمت ما تقرر: فالأليق بمحاسن الشريعة أن مَن ابتليت بشيء مِن أحد الأقسام الأربعة المذكورة تقلِّدُ القائل بما لها فيه مَخْلَصٌ، بل اختار بعض الحنابلة، وتبعه بعضُ متأخري الشافعية: أنه لا يشترط طهرُها إذا لم تتوقع فراغ حيضها قبل الركب؛ للضرر الشديد بالمقام والرحيل محرمة، وأنه يجوز لها دخول المسجد للطواف بعد إحكام الشد والغسل والعصب، كما تباح الصلاة لنحو السلس، وأنه لا فدية عليها لعذرها، لكن لا يجوز تقليدُ القائل بذلك؛ لأنه لم يُعلَم مَن قالَه مِن المجتهدين، وغيرُ المجتهد لا يجوز تقليدُه] اهـ.
ومقتضى ما سبق من الآثار عن السلف، وتحقيق مذهب الحنفية، وإفتاء المالكية بالجواز والصحة تخريجًا على ما رواه البصريون عن الإمام مالك، وما يأتي من الرواية عن الإمام أحمد، وما يأتي أيضًا مِن تقرير جواز دخول الحائض المسجدَ للعذر: أن تقليد القائل بجواز طوافها حائضًا للعذر غير ممنوع شرعًا؛ فإن هذه كلها أقوال أئمة مجتهدين نقلها أهل مذاهبهم، فتقليدهم مشروع؛ ولا يخفى أن تصحيح الطواف دون شرطه أَوْلَى مِن تصحيحه قبلَ وقته؛ قال الشيخ ابن تيمية الحنبلي -كما في "مجموع الفتاوى" (26/232)-: [الأصول متفقة على أنه: "متى دار الأمر بين الإخلال بوقت العبادة والإخلال ببعض شروطها وأركانها كان الإخلال بذلك أولى"، كالصلاة؛ فإن المصلِّيَ لو أمكنه أن يُصلِّيَ قبل الوقت بطهارة وستارة مستقبلَ القبلة مجتنبَ النجاسة ولم يمكنه ذلك في الوقت فإنه يفعلها في الوقت على الوجه الممكن ولا يفعلها قبله؛ بالكتاب والسنة والإجماع] اهـ.
وقد قال ابن حجر في "تحفة المحتاج في شرح المنهاج" (4/74-75، ط. المكتبة التجارية الكبرى): [الأحوط لها أن تقلد من يرى براءة ذمتها؛ بطوافها قبل رحيلها] اهـ.
وقال العلامة الشَّبْرَامَلِّسيُّ في "حاشيته على نهاية المحتاج" (3/317، ط. دار الفكر): [(مسألة) قال الشيخ منصور الطبلاوي: سُئِل شيخُنا ابن قاسم العبّادي عن امرأة شافعية المذهب طافت للإفاضة بغير سترةٍ معتبَرةٍ؛ جاهلةً بذلك أو ناسيةً، ثم توجهت إلى بلاد اليمن فنكحت شخصًا، ثم تبين لها فسادُ طوافِها، فأرادت أن تقلد أبا حنيفة في صحته لتصير به حلالًا وتتبين صحة النكاح، وحينئذ فهل يصح ذلك وتتضمن صحة التقليد بعد العمل؟
فأفتى بالصحة وأنه لا محذور في ذلك، ولَمّا سمعت عنه ذلك اجتمعتُ به؛ فإني كنت أحفظ عنه خلافَه في العام الذي قبله فقال: هذا هو الذي أعتقده من الصحة، وأفتى به بعض الأفاضل أيضا تبعًا له، وهو مسألة مهمة كثيرة الوقوع وأشباهها. ومرادُه "بأشباهها": كلُّ ما كان مخالفًا لمذهب الشافعي مثلًا وهو صحيح على بعض المذاهب المعتبرة؛ فإذا فعله على وجه فاسد عند الشافعي وصحيح عند غيره ثم علم بالحال جاز له أن يقلد القائل بصحته فيما مضى وفيما يأتي فتترتب عليه أحكامه، فتنبَّهْ له فإنه مُهمٌّ جدًّا] اهـ.
- وعند الحنابلة: اختلف النقل عن الإمام أحمد رحمه الله في حكم مَن طاف على غير طهارة:
فمِن أصحابه مَن نقل عنه عدم الإجزاء مطلقًا؛ كما نقل حنبل، وأبو طالب، والأثرم، والكوسج.
ومنهم من نقل عنه الفرق بين المتعمد فلا يجزئه، وبين الناسي فيجزئه؛ كما يقول العكبري.
ومنهم من نقل عنه أن طوافه صحيح ويجبره بدم؛ كما في رواية محمد بن الحَكَم.
ومنهم من نقل عنه التسهيل في الطهارة للطواف؛ كما في رواية الميموني.
وذلك كله متفرع على كون الطهارة شرطًا في صحة الطواف أم لا.
وإن لم تكن شرطًا لصحته فهل هي واجبة فيه أم سُنّة فقط.
والمشهور عن الإمام أحمد اشتراط الطهارة للطواف؛ كما يقول الإمام ابن قدامة في "المغني" (3/343، ط. مكتبة القاهرة)، وهو الذي صححه جماهير الأصحاب؛ كما يقول العلامة المرداوي في "الإنصاف" (1/348، ط. دار إحياء التراث العربي)، غير أن القول بصحة طواف تارك الطهارة ناسيًا أو معذورًا -كالحائض التي تخشى فوات رفقتها- مِن غير وجوب دم: هو روايةٌ صحيحة مُفتًى بها في المذهب الحنبلي:
فقد نص عليها شيخ الحنابلة في عصره الإمام أبو بكر عبد العزيز بن جعفر الحنبلي المعروف "بغلام الخلال"؛ حيث يقول في كتابه "الشافي" بعد أن نقل رواية الميموني عن الإمام أحمد: [قد بينا أمر الطواف بالبيت في أحكام الطواف على قولين؛ أحد القولين: إذا طاف الرجل وهو غير طاهر أن الطواف يجزئ عنه إذا كان ناسيًا، والقول الآخر: أنه لا يجزئه حتى يكون طاهرًا. فإن وطئ وقد طاف غيرَ طاهر ناسيًا فعلى قولين؛ مثل قوله في الطواف؛ فمن أجاز الطواف غير طاهر قال: تم حجه، ومن لم يُجِزْهُ إلا طاهرًا ردَّه مِن أي المواضع ذكر حتى يطوف. وبهذا أقول] اهـ.
وقد نقل كلامَه الشيخُ ابن تيمية الحنبلي في "مجموع الفتاوى" (26/208)، ثم قال عقبه: [فأبو بكر وغيره من أصحاب أحمد يقولون في إحدى الروايتين: يجزئه مع العذر ولا دم عليه، وكلام أحمد بَيِّنٌ في هذا. وجواب أحمد المذكور يبين أن النزاع عنده في طواف الحائض وغيره. وقد ذكر عن ابن عمر وعطاء وغيرهما التسهيلَ في هذا، ومما نُقِل عن عطاء في ذلك: أن المرأة إذا حاضت في أثناء الطواف فإنها تتم طوافها، وهذا صريح عن عطاء أن الطهارة من الحيض ليست شرطًا، وقوله مما اعتد به أحمد، وذكر حديث عائشة رضي الله عنها، وأن قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «إن هذا أمر كتبه الله على بنات آدم» يبين أنه أمر بُلِيَتْ به نزل عليها ليس مِن قِبَلِها؛ فهي معذورة في ذلك] اهـ.
والإمام أبو بكر عبد العزيز المعروف بغلام الخلال [ت363هـ] هو من كبار أئمة الحنابلة المعتمد عليهم في نقل المذهب؛ قال الحافظ الذهبي في "تاريخ الإسلام" (8/214، ط. دار الغرب الإسلامي): [وكان كبير القدْر، صحيح النقل، بارعًا في نقل مذهبهِ] اهـ.
ونص على هذه الرواية أيضًا: شيخُ المذهب الإمام الموفق بن قدامة؛ حيث يقول في "المغني" (3/343): [(ويكون طاهرا في ثياب طاهرة) يعني في الطواف؛ وذلك لأن الطهارة من الحدث والنجاسة والستارة شرائط لصحة الطواف، في المشهور عن أحمد. وهو قول مالك والشافعي. وعن أحمد: أن الطهارة ليست شرطًا؛ فمتى طاف للزيارة غير متطهر أعاد ما كان بمكة، فإن خرج إلى بلده جبره بدم. وكذلك يخرج في الطهارة من النجس والستارة. وعنه في من طاف للزيارة وهو ناس للطهارة: لا شيء عليه] اهـ. وقال أيضًا في "الكافي" (2/412، ط. دار هجر): [وعنه فيمَن طاف للزيارة ناسيًا لطهارته حتى رجع: فحجُّه ماضٍ ولا شيء عليه، وهذا يدل على أنها تسقط بالنسيان] اهـ.
وقال الإمام أبو عبد الله بن مفلح المقدسي الحنبلي في "الفروع" (6/40، ط. مؤسسة الرسالة): [وتشترط الطهارة من حدث, قال القاضي وغيره: الطواف كالصلاة في جميع الأحكام إلا في إباحة النطق, وعنه: يجبره بدم، وعنه: إن لم يكن بمكة, وعنه: يصح من ناسٍ ومعذور فقط, وعنه: ويجبره بدم, وعنه: وكذا حائض, وهو ظاهر كلام القاضي وجماعة, واختاره شيخنا -يعني: الشيخ ابن تيمية- وأنه لا دم لعذر, وقال: هل هي واجبة أو سنة لها؟ فيه قولان في مذهب أحمد وغيره, ونقل أبو طالب: والتطوع أيسر] اهـ.
وقد جمع الشيخ ابن تيمية الحنبلي الروايات عن الإمام أحمد في ذلك؛ فقال في "شرح العمدة" (3/586-589، ط. مكتبة العبيكان):
[فإن طاف على غير طهارة ففيه روايتان:
إحداهما: لا يجزئه بحال:
قال في رواية حنبل: "إذا طاف بالبيت طواف الواجب غير طاهر لم يجْزِه"، وقال في رواية أبي طالب: "إذا طاف مُحْدِثًا أو جنُبًا أعاد طوافه"، وكذلك نقل الأثرم، وابن منصور.
والثانية: يجزئه في الجملة:
قال في رواية ابن الحكم، وقد سأله عن الرجل يطوف للزيارة أو الصدر وهو جنب أو على غير وضوء؛ قلتُ: إن مالكًا يقول: يعود للحج والعمرة وعليه هدي، قال: "هذا شديد"، قال أبو عبد الله: "أرجو أن يجزئه أن يهريق دمًا إن كان جنُبًا، أو على غير وضوء ناسيًا.. وإن ذكر وهو بمكة أعاد الطواف"، وفي لفظ: "إذا طاف طواف الزيارة وهو ناسٍ لطهارته حتى يرجع فإنه لا شيء عليه، وأختار له أن يطوف وهو طاهر، وإن وطئ فحجه ماضٍ ولا شيء عليه". فقد نص على أنه يجزئه إن كان ناسيًا، ويجب عليه أن يعيد إذا ذكر وهو بمكة، فإن استمر به النسيان أهرق دمًا وأجزأه.
قال أبو حفص العكبري: لا يختلف قوله إذا تعمد فطاف على غير طهارة لا يجزئه، واختلف قوله في النسيان على قولين؛ أحدهما: أنه معذور بالنسيان، والآخر: لا يجزئه؛ مثل الصلاة.
وكذلك قال أبو بكر عبد العزيز: في الطواف قولان؛ أحدهما: أنه إذا طاف وهو غير طاهر أن الطواف يجزئ عنه إذا كان ناسيًا، فإذا وطئ بعد الطواف فقد تم حجه، والآخر: لا يجزئه حتى يكون طاهرًا؛ فعلى هذا يرجع من أي موضع ذكر حتى يطوف، وبه أقول.. وذكر القاضي وأصحابه والمتأخرون مِن أصحابنا المسألة على روايتين في طواف المُحْدِث مطلقًا..
ثم ذكر ابن تيمية رواية الميموني عن الإمام أحمد، وقد نقلها تلميذه ابن القيم على التمام؛ فقال في "إعلام الموقعين" (4/371-372): [قال عبد الملك الميموني في "مسائله": قلتُ لأحمد: من طاف طوافَ الواجب على غير وضوء وهو ناسٍ، ثم واقع أهله؟ قال: "أخبرك مسألة فيها وهمٌ وهم مختلفون"، وذكر قول عطاء والحسن، قلتُ: ما تقول أنت؟ قال: "دَعْها"، أو كلمةً تشبهها. وقال الميموني في "مسائله" أيضًا: قلتُ له: مَن سعَى وطاف على غير طهارة، ثم واقع أهله؟ فقال لي: "مسألةٌ الناسُ فيها مختلفون"، وذكر قول ابن عمر، وما يقول عطاء مما يسهل فيها، وما يقول الحسن، وأن عائشة رضي الله عنها قال لها النبي صلى الله عليه وآله وسلم حين حاضت: «افْعَلِي ما يَفْعَلُ الحاجُّ غيرَ أن لا تَطُوفِي بِالبَيْتِ»، ثم قال لي: "إلّا أنّ هذا أمرٌ بُلِيَتْ به، نَزَلَ عليها ليس مِن قِبَلِهَا"، قلتُ: فمِن الناس مَن يقول: عليها الحجُّ مِن قابل؟ فقال لي: "نعم؛ كذا أكبرُ عِلْمي"، قلتُ: ومِنهم مَن يذهب إلى أنّ عليها دمًا؟"، فذكر تسهيل عطاء فيها خاصةً، قال لي أبو عبد الله: "أولًا وآخرًا هي مسألةٌ مشتبهةٌ فيها موضع نَظَرٍ؛ فدعني حتى أنظرَ فيها"، قال ذلك غير مرة، ومِن الناس مَن يقول: وإن رجع إلى بلده يرجع حتى يطوف"، قلت: والنسيان؟ قال: "والنسيان أهونُ حكمًا بكثير"؛ يريد: أهون ممن يطوف على غير طهارة متعمدًا. هذا لفظ الميموني] اهـ النقل عن ابن القيم.
ثم قال الشيخ ابن تيمية: [والرواية الأولى: اختيار أصحابنا: أبي بكر، وابن أبي موسى، والقاضي وأصحابه، وقال ابن أبي موسى: إن حاضت قبل طواف الإفاضة لزم انتظارها حتى تطهر ثم تطوف، وإن حاضت بعدما أفاضت لم يجب انتظارها وجاز لها أن تنفر ولم تودع] اهـ.
وقال أيضًا في "الفتاوى الكبرى" (1/447-448، ط. دار الكتب العلمية): [وتعليل منع طواف الحائض بأنه لأجل حرمة المسجد، رأيته يعلل به بعض الحنفية؛ فإن مذهب أبي حنيفة أن الطهارة واجبة له، لا فرض فيه ولا شرط له، ولكن هذا التعليل يناسب القول بأن طواف المحدث غير محرم، وهذا مذهب منصور بن المعتمر، وحماد بن أبي سليمان، رواه أحمد عنهما.
قال عبد الله: سألت أبي عن ذلك فقال: "أحبُّ إليَّ أن يطوف بالبيت وهو متوضئ؛ لأن الطواف صلاة"، وأحمد عنه روايتان منصوصتان في الطهارة هل هي شرط في الطواف أم لا؟ وكذلك وجوب الطهارة في الطواف كلامه فيها يقتضي روايتين] اهـ.
وقال في "مجموع الفتاوى" (26/206-214) في الكلام على طواف الحائض، مرجحًا الرواية المقتضية لطواف الحائض عند العذر بلا دم عليها، ومنتصرًا للقول بأن الطهارة ليست شرطًا في الطواف: [وتنازعوا في إجزائه؛ فمذهب أبي حنيفة: يجزئها ذلك، وهو قول في مذهب أحمد؛ فإن أحمد نص في رواية على أن الجنب إذا طاف ناسيًا أجزأه ذلك؛ فمِن أصحابه مَن قصر ذلك على حال النسيان، ومنهم مَن قال: هذا يدل على أن الطهارة ليست فرضًا؛ إذ لو كانت فرضًا لما سقطت بالنسيان..
ثم إن مِن أصحابه مَن قال: هذا يدل على أن الطهارة في الطواف ليست عنده ركنا على هذه الرواية، بل واجبة تجبر بدم، وحكى هؤلاء في صحة طواف الحائض روايتين؛ إحداهما: لا يصح، والثانية: يصح وتجبره بدم. وممن ذكر هذا أبو البركات وغيره، كذلك صرح غير واحد منهم بأن هذا النزاع في الطهارة من الحيض والجنابة كمذهب أبي حنيفة. فعلى هذا القول تسقط بالعجز كسائر الواجبات.
وذكر آخرون من أصحابه عنه ثلاث روايات: رواية يجزئه الطواف مع الجنابة ناسيا ولا دم عليه، ورواية أن عليه دمًا، ورواية أنه لا يجزئه ذلك.
وبعض الناس يظن أن النزاع في مذهب أحمد إنما هو في الجنب والمحدث دون الحائض، وليس الأمر كذلك؛ بل صرح غير واحد من أصحابه بأن النزاع في الحائض وغيرها، وكلام أحمد يدل على ذلك، وتبين أنه كان متوقفا في طواف الحائض وفي طواف الجنب، وكان يذكر أقوال الصحابة والتابعين وغيرهم في ذلك..
ومعلوم أن الذي طاف على غير طهارة متعمدًا آثمٌ، وقد ذكر أحمد القولين: هل عليه دم؟ أم يرجع فيطوف؟ وذكر النزاع في ذلك، وكلامُه يبين في أن توقفه في الطائف على غير طهارة يتناول الحائض والجنب مع التعمد، ويبين أن أمر الناسي أهون بكثير، والعاجز عن الطهارة أعذر من الناسي.
وقال أبو بكر عبد العزيز في "الشافي": (باب في الطواف بالبيت غير طاهر):
قال أبو عبد الله في رواية أبي طالب: "ولا يطوف بالبيت أحدٌ إلا طاهرًا، والتطوع أيسر، ولا يقف مَشاهِدَ الحج إلا طاهرًا".
وقال في رواية محمد بن الحكم: "إذا طاف طواف الزيارة وهو ناسٍ لطهارته حتى رجع فإنه لا شيء عليه، وأختار له أن يطوف وهو طاهر، وإن وطئ فحجه ماضٍ ولا شيء عليه".
فهذا النص من أحمد صريح بأن الطهارة ليست شرطًا، وأنه لا شيء عليه إذا طاف ناسيًا لطهارته: لا دم ولا غيره، وأنه إذا وطئ بعد ذلك فحجه ماضٍ ولا شيء عليه.
كما أنه لَمّا فرق بين التطوع وغيره في الطهارة؛ فأمر بالطهارة فيه وفي سائر المناسك دل ذلك على أن الطهارة ليست شرطًا عنده؛ فقطع هنا بأنه لا شيء عليه مع النسيان.
وقال في رواية أبي طالب أيضًا: "إذا طاف بالبيت وهو غير طاهر يتوضأ ويعيد الطواف، وإذا طاف وهو جنب فإنه يغتسل ويعيد الطواف".
وقال في رواية أبي داود: حدثنا سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء: "إذا طاف على غير وضوء فليعد طوافه".
وقال أبو بكر عبد العزيز: (باب في الطواف في الثوب النجس):
قال أبو عبد الله في رواية أبي طالب: "وإذا طاف رجل في ثوب نجس فإن الحسن كان يكره أن يفعل ذلك، ولا ينبغي له أن يطوف إلا في ثوب طاهر".
وهذا الكلام من أحمد يبين أنه ليس الطواف عنده كالصلاة في شروطها؛ فإن غاية ما ذكر في الطواف في الثوب النجس أن الحسن كره ذلك، وقال: لا ينبغي له أن يطوف إلا في ثوب طاهر. ومثل هذه العبارة تقال في المستحب المؤكد، وهذا بخلاف الطهارة في الصلاة. ومذهب أبي حنيفة وغيره: أنه إذا طاف وعليه نجاسة صح طوافه ولا شيء عليه.
وبالجملة: هل يشترط للطواف شروط الصلاة؟ على قولين في مذهب أحمد وغيره:
أحدهما: يشترط كقول مالك والشافعي وغيرهما. والثاني: لا يشترط، وهذا قول أكثر السلف وهو مذهب أبي حنيفة وغيره، وهذا القول هو الصواب..
وإذا تبين أن الطهارة ليست شرطًا: يبقى الأمر دائرا بين أن تكون واجبة، وبين أن تكون سُنّةً، وهما قولان للسلف، وهما قولان في مذهب أحمد وغيره، وفي مذهب أبي حنيفة؛ لكن من يقول هي سنة من أصحاب أبي حنيفة يقول: مع ذلك عليه دم، وأما أحمد فإنه يقول: لا شيء عليه: لا دم ولا غيره؛ كما صرح به فيمن طاف جنبا وهو ناسٍ، فإذا طافت حائضا مع التعمد توجه القول بوجوب الدم عليها. وأما مع العجز فهنا غاية ما يقال: إن عليها دمًا، والأشبه أنه لا يجب الدم؛ لأن هذا واجب تؤمر به مع القدرة لا مع العجز؛ فإن لزوم الدم إنما يجب بترك مأمور وهي لم تترك مأمورًا في هذه الحالة ولم تفعل محظورا من محظورات الإحرام، وهذا ليس من محظورات الإحرام؛ فإن الطواف يفعله الحلال والحرام، فصار الحظر هنا من جنس حظر اللبث في المسجد، واعتكاف الحائض في المسجد، أو مس المصحف، أو قراءة القرآن، وهذا يجوز للحاجة بلا دم] اهـ.
ورواية محمد بن الحكم عن الإمام أحمد في إيجاب الدم على الناسي فيها ذكر جنس الدم، وهذا يقتضي أن أقل الدم، وهو الشاة، مجزئٌ؛ قال الشيخ ابن تيمية -كما في "مجموع الفتاوى" (26/221، 246)-: [وأما أحمد فأوجب دمًا ولم يعين بدنة.. وعند أحمد دمٌ؛ وهي شاة] اهـ.
وقد وافقه تلميذه ابن القيم الحنبلي على اعتماد الرواية التي تقتضي صحة طواف الحائض إذا لم يمكنها الاحتباس في مكة حتى تطهر، من غير إثم ولا دم، وذلك حتى لو جعلنا الطهارة شرطًا لصحة الطواف؛ لأنه يسقط عند العجز عنه كما في التيمم وصلاة فاقد الطهورين، واستفاض في الاستدلال لذلك والاحتجاج له، وجعله مثالا على ما يتغير من الفتوى بتغير الزمان والمكان والأحوال؛ فقال في "إعلام الموقعين عن رب العالمين" (4/359، ط. دار ابن الجوزي): [هذا الذي قالوه متوجه فيمن أمكنها الطواف ولم تطف، والكلام في امرأة لا يمكنها الطواف ولا المقام لأجله، وكلام الأئمة والفقهاء هو مطلق كما يتكلمون في نظائره، ولم يتعرضوا لمثل هذه الصور التي عمت بها البلوى، ولم يكن ذلك في زمن الأئمة، بل قد ذكروا أن المكري يلزمه المقام والاحتباس عليها لتطهر ثم تطوف، فإنه كان ممكنا -بل واقعًا- في زمنهم، فأفتوا بأنها لا تطوف حتى تطهر؛ لتمكنها من ذلك، وهذا لا نزاع فيه ولا إشكال، فأما في هذه الأزمان فغير ممكن] اهـ. ثم قال (4/376-377): [كلام الأئمة وفتاويهم في الاشتراط أو الوجوب إنما هو في حال القدرة والسعة، لا في حال الضرورة والعجز؛ فالإفتاء بها لا ينافي نص الشارع ولا قول الأئمة، وغاية المفتي بها: أن يقيد مطلق كلام الشارع بقواعد شريعته وأصولها، ومطلق كلام الأئمة بقواعدهم وأصولهم؛ فالمفتي بها موافق لأصول الشرع وقواعده ولقواعد الأئمة] اهـ.
وأمّا الاستدلال على المنع بحديث: «لَا أُحِلُّ الْمَسْجِدَ لِحَائِضٍ وَلَا جُنُبٍ»: فالجواب عنه عند القائلين بجواز طوافها: أنه مجمل قد خُصَّ منه إباحةُ المرور للحاجة والعذر باتفاق العلماء، وطواف الحائض كمرورها في المسجد، بل الطواف أولى؛ لأن المرور جائز عند بعض العلماء من غير ضرورة، بل أجاز لها جماعة من العلماء المكث في المسجد أيضًا إذا أمنت التلويث، وطواف الحائض إنما هو للضرورة، فإذا أمنت التلويث ارتفعت الحرمة والكراهة؛ كما في المستحاضة.
قال الشيخ ابن القيم الحنبلي في "إعلام الموقعين" (3/24، ط. دار الكتب العلمية): [طوافُها بمنزلة مرورها في المسجد، ويجوز للحائض المرور فيه إذا أمنت التلويث، وهي في دورانها حول البيت بمنزلة مرورها ودخولها من باب وخروجها من آخر؛ فإذا جاز مرورها للحاجة فطوافها للحاجة -التي هي أعظم من حاجة المرور- أولى بالجواز] اهـ.
ولم ينفرد الشيخ ابن تيمية وتلميذه ابن القيم من بين الحنابلة بترجيح هذه الرواية والفتوى بها كما يُفهَم من كلام العلامة ابن حجر الهيتمي الشافعي ومَنْعِه مِن الأخذ بذلك فيما سبق؛ بل أخذ بها جماعةٌ من كبار الحنابلة وأئمتهم؛ كالإمامين الحنبليين البغداديَّيْن: سراج الدين أبي عبد الله الحسين بن أبي السَّرِيِّ الدُّجَيْلِي [ت732هـ]، وشيخه تقي الدين أبي بكر عبد الله بن محمد الزَّرِيرَاني [ت729هـ]؛ حيث نص الإمام الدُّجَيْليُّ على أن الطهارة سُنّةٌ في الطواف، وهذا يقتضي جواز طواف الحائض عند الضرورة من غير إيجاب دم عليها؛ فقال في كتابه "الوجيز" عند ذكر الطواف -كما في "فتح الملك العزيز بشرح الوجيز" (3/533، ط. دار خضر)-: [والطهارة والستارة والموالاة سُنّةٌ فيه] اهـ.
وكتاب "الوجيز" هذا من كُتُب الفتوى المعتمدة في المذهب الحنبلي، وقد قال فيه مصنفُه (1/117): [جمعتُه وجيزًا قولًا واحدًا مختارًا؛ من ترجيح الروايات المنصوصة عنه المعنعنة المتداولة] اهـ، قال شارحُه العلامة العلاء بن البهاء البغدادي الحنبلي في "فتح الملك العزيز" (1/118): [اعلم أن المصنف رحمه الله تعالى ذكر أنه بنى كتابه على الروايات المنصوصة عن الإمام أحمد، الثابتة عنه، التي تداولها الأصحاب وذهبوا إليها، وجعله رواية واحدة، وأنه المذهب، وأنه لم يعول في الترجيح إلّا على ما ذكر، لا على دليل آخر، بخلاف غيره من الأصحاب] اهـ.
وهذا الكتاب قد عرضه مصنفُه على شيخه الإمام تقي الدين أبي بكر الزريراني فهذّبه له واعتمد الفتوى بما فيه، وأنه هو المذهب؛ إذ يقول المصنف (1/118): [وعرضتُه مرارًا على شيخنا الإمام العلامة والحبر الفهامة، نسيج وحده، وفريد عصره، مفتي الفرق؛ تقي الدين أبي بكر عبد الله الزريراني، عضد الله الإسلام بحياته المتواصلة، وقضاياه القاطعة الفاصلة، فهذبه وأملى عليه فيه من فيه مسائل منصوصة عن الإمام، صارت أحكام الكتاب بها كاملة، وأجاز الإفتاء بحكمه، وأنه المذهب، فالتاطت به طلاة طائلة] اهـ.
والشيخ الإمام تقي الدين الزريراني البغدادي الحنبلي هذا كان شيخ الحنابلة ومفتيهم في العراق في زمنه؛ حتى ترجمه الإمام العلامة الحافظ زين الدين بن رجب الحنبلي في "ذيل طبقات الحنابلة" (5/1-6، ط. مكتبة العبيكان) بقوله: [الإمام فقيه العِراق ومفتي الآفاق.. وبرع فِي الفقه وأصوله، ومعرفة المذهب والخلاف.. وانتهت إليه معرفةُ الفقه بالعراق، ومن محفوظاته فِي المذهب: كتاب "الخرقي" و"الهداية" لأبي الْخَطَّاب، وذكر أَنَّهُ طالع "المغنى" للشيخ موفق الدين ثلاثًا وعشرين مرة، وَكَانَ يستحضر كثيرًا منه أو أكثرَه، وعلَّق عَلَيْهِ حواشيَ وفوائد، ووَلِيَ القضاء، ودرّس بالبشيرية ثم بالمستنصرية واستمر فيها إلى حين وفاته، وَلَهُ اليد الطُّولَى فِي المناظرة والبحث، وكثرة النقل، ومعرفة مذاهب النَّاس، وانتهت إِلَيْهِ رياسة العلم ببغداد مِن غَيْر مدافِع، وأقر له الموافق والمخالف، وَكَانَ الفُقَهَاء من سائر الطوائف يجتمعون بِهِ، يستفيدون منه فِي مذاهبهم، ويتأدبون مَعَهُ، ويرجعون إِلَى قَوْله ونقله لمذاهبهم، ويردهم عَن فتاويهم، فيذعنون لَهُ ويرجعون إِلَى مَا يقوله، ويعترفون لَهُ بإفادتهم فِي مذاهبهم، حَتَّى ابْن المطهر شيخ الشيعة: كَانَ الشيخ تقي الدين يبين لَهُ خطأه فِي نقله لمذهب الشيعة فيذعن لَهُ، وَقَالَ لَهُ مرة بَعْض أئمة الشَّافِعِية -وَقَدْ بحث مَعَهُ-: "أَنْتَ اليوم شيخ الطوائف ببغداد"، وَقَالَ العلامة الشيخ شمس الدين البرزالي والد الشيخ شمس الدين مدرس المستنصرية: "مَا درَّس أحد بالمستنصرية منذ فُتِحَتْ إِلى الآن أفقه منه"، ويوم وفاته قال الشيخ شهاب الدين عبد الرحمن بن عسكر شيخ المالكية: "لَمْ يبقَ ببغداد مَن يُراجَع فِي علوم الدين مثله". قرأ عَلَيْهِ جَمَاعَة من الْفُقَهَاء، وتخرج بِهِ أئمة] اهـ.
واعتماد الإمام التقي الزريراني كتابَ "الوجيز" مرجعًا للفتوى، وترجيحًا لروايات المذهب الحنبلي، مع كونه فقيهَ العراق ومفتيَ الآفاق، ومَن انتهت إليه معرفة الفقه ورياسة العلم في عصره ومصره: يقتضي أن المدرسة الحنبلية البغدادية كانت تعتمد مِن روايات المذهب كونَ الطهارة سُنّةً في الطواف، وتُفتِي بذلك في تلك الحقبة الزمنية مِن القرن الثامن الهجري على الأقل. وبذلك يندفع القول بانفراد ابن تيمية وابن القيم الحنبليين عن الحنابلة في تصحيح طواف الحائض للعذر مع عدم إيجاب الدم عليها، ويثبت كون ذلك روايةً صحيحة الورود عن صاحب المذهب رحمه الله تعالى، وأنه قد رجّحها وعمل بها جماعةٌ مِن أئمة الحنابلة؛ ممن يُرجَع إليهم ويُعَوَّل عليهم في الترجيح والفتوى في المذهب، وصح بذلك جواز تقليد هذه الرواية والفتوى والعمل بها.
وبناءً على ذلك: فإذا حاضت الحاجّة قبل طوافها الإفاضة، أو المعتمرة عمرةً مستقلة قبل طواف عمرتها، فإن لها أن تتحين وقت انقطاع دمها خلال الحيض أو تأخذ دواءً يمنع نزول الدم بما يسع زمن الطواف، ثم تغتسل وتطوف في فترة النقاء؛ أخذًا بقول التلفيق الذي يجعل النقاء بين الدمين في الحيض طهرًا؛ كما هو مذهب المالكية والحنابلة وقولٌ للشافعية، فإن لم تفعل ولم ينقطع دمها، ولم يمكنها الانتظار حتى تطهر؛ لعذر من الأعذار التي لا مناص منها، فالأحوط لها؛ كما يقول الشافعية، والذي يقتضيه يسر الشريعة؛ كما يقول المالكية، وهو الذي عليه العمل والفتوى: أن تقلد الحنفية في القول بصحة طواف الحائض؛ فيجوز لها حينئذٍ أن تُقْدِمَ على الطواف وتهجم عليه بعد أن تشد على نفسها ما تأمن به مِن تلويث الحرم، ولا إثم عليها؛ لأنها معذورة بما لا يدَ لها فيه ولا اختيار، ويستحبُّ لها أن تذبح بدنة؛ خروجًا من خلاف مَن أوجبها مِن الحنفية، وإلّا فلتذبح شاة؛ كما هو عند الحنابلة في رواية، فإن شق عليها ذلك فلا حرج عليها ألّا تذبح أصلًا؛ أخذًا بما ورد عن السيدة عائشة رضي الله عنها وجماعة من السلف، واختاره مَن قال مِن الفقهاء إن الطهارة للطواف سُنّة، أو هو واجب تسقط المؤاخذة به عند العذر، وهو رواية عن الإمام أحمد أفتى بها جمعٌ مِن أهل مذهبه.
 ثانيًا: وأما دخول الحائض للمسجد النبوي للزيارة والسلام على النبي صلى الله عليه وآله وسلم: فالذي عليه جمهور الفقهاء: أنه لا يجوز للحائض المكث في المسجد، وأجازوا لها المرور داخله إذا أمنت تلويثه، واتفقوا على جواز مرورها فيه للضرورة والحاجة:
قال الإمام الخطابي الشافعي في "معالم السنن" (1/77، ط. المطبعة العلمية):
[وقد اختلف العلماء في ذلك؛ فقال أصحاب الرأي: لا يدخل الجنب المسجد إلّا بأحد الطهرين، وهو قول سفيان الثوري، فإن كان مسافرًا ومر على مسجد فيه عين ماء تيمم بالصعيد ثم دخل المسجد واستقى، وقال مالك والشافعي: ليس له أن يقعد في المسجد، وله أن يمر فيه عابرَ سبيل، وتأول الشافعي قوله تعالى ﴿لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا﴾ [النساء: 43] على أن المراد به: المسجد؛ وهو موضع الصلاة، وعلى هذا تأوله أبو عبيدة معمر بن المثنى، وكان أحمد بن حنبل وجماعة من أهل الظاهر يجيزون للجنب دخول المسجد، إلّا أن أحمد كان يستحب له أن يتوضأ] اهـ.
وقال الإمام حجة الإسلام أبو حامد الغزالي الشافعي في "الوسيط في المذهب" (2/185، ط. دار السلام): [شرط المكث في المسجد عدم الجنابة؛ فيجوز للمحدث المكث وللجنب العبور، ولا يلزمه في العبور انتحاء أقرب الطرق، وليس له التردد في حافات المسجد من غير غرض، وليس للحائض العبور عند خوف التلويث وكذا من به جراحة نضاخة بالدم، فإن أمنت التلويث فوجهان؛ لغلظ حكم الحيض] اهـ.
وقال الإمام النووي الشافعي في "المجموع شرح المهذب" (2/162، ط. دار الفكر): [الأصح جواز عبورها إذا أمنت التلويث. والله أعلم]. وقال (2/358): [أما عبورها بغير لبث فقال الشافعي رضي الله عنه في "المختصر": أكره ممر الحائض في المسجد. قال أصحابنا: إن خافت تلويثه -لعدم الاستيثاق بالشد، أو لغلبة الدم- حرم العبور بلا خلاف، وإن أمنت ذلك فوجهان: الصحيح منهما جوازه، وهو قول ابن سريج وأبي إسحاق المروزي، وبه قطع المصنف والبندنيجي وكثيرون، وصححه جمهور الباقين؛ كالجنب، وكمن على بدنه نجاسة لا يخاف تلويثه. وانفرد إمام الحرمين فصحح تحريم العبور وإن أمنت؛ لغلظ حدثها، بخلاف الجنب. والمذهب الأول] اهـ.
وقال الإمام البيجوري في "حاشيته على شرح العلامة ابن قاسم الغزي على متن الشيخ أبي شجاع" (1/148-149): [متى خافت التلويث حرم عليها الدخول، وإن لم يوجد التلويث لقلَّة الدم، والمراد بالخوف: ما يشمل التوهُّم، فإن لم تخف تلويثه -بل أمنته- لم يَحرُم، بل يكره لها حينئذٍ، وهو خلاف الأَوْلى للجنب، إلا لعذرٍ فيهما، فتنتفي الكراهةُ لها، وكونُه خلافَ الأَوْلى للجنب للعذر، ومثلها كل ذي نجاسة؛ فإن خاف تلويث المسجد حرم، وإلا كره، إلا لحاجة] اهـ.
على أن من العلماء من قال بجواز مكث الحائض في المسجد إذا أمنت التلويث، وإن كان هذا خلاف ما عليه الجمهور؛ فقد قال بذلك من التابعين: الحسن وابن سيرين؛ فقد أخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه" عَنِ الْحَسَنِ وَابْنِ سِيرِينَ، أَنَّهُمَا قَالَا: «لَا بَأْسَ أَنْ يَرُشَّ الْجُنُبُ وَالْحَائِضُ الْمَسْجِدَ». وهو رواية عن الإمام أحمد، وقول أهل الظاهر.
قال الإمام البغوي في "تفسيره" (1/628، ط. دار إحياء التراث العربي): [وجوَّز أحمد المكث فيه، .. وبه قال المزني] اهـ.
وقال الحافظ ابن رجب الحنبلي في "فتح الباري" (2/112، ط. مكتبة الغرباء الأثرية) في حكم دخول الحائض المسجد إذا توضأت: [ونص أحمد على أنها لو توضأت وهي حائض لم يَجُزْ لها الجلوس في المسجد؛ بخلاف الجنب، وفيه وجه: يجوز إذا أمنت تلويثه] اهـ.
وقال الشيخ مغلطاي في "شرح ابن ماجه" (1/880، ط. مكتبة نزار مصطفى الباز): [ورخّص في المرور ابن مسعود وابن عبّاس وابن المسيّب وابن جبير، وهذا هو الملجا لأهل الظاهر بأن جوّزوا لهما دخول المسجد وكذلك النفساء، قال أبو محمد؛ لأنه لم يأت نهي عن شيء من ذلك.. ، وقال أحمد وإسحاق: الجنب إذا توضأ لا بأس أن يجلس في المسجد] اهـ.
وقال الإمام بدر الدين العيني في "البناية شرح الهداية" (1/642-643، ط. دار الكتب العلمية): [وعن أحمد: له المكث فيه إن توضأ وهو خلاف قول الجمهور، ولأنه لا أثر للوضوء في الجنابة لعدم تحريكها اتفاقا. وعن الحسن البصري، وابن المسيب، وابن جبير، وابن دينار، مثل قول الشافعي رضي الله عنه –أيْ: في جواز المرور-، وقول المزني، وداود، وابن المنذر: يجوز له المكث فيه مطلقا، ومثله عن زيد بن أسلم واعتبروه بالشرك بل أولى، وتعلقوا بقوله عليه الصلاة والسلام: «الْمُؤْمِنُ لَا يَنْجُسُ»] اهـ.
والزيارة النبوية هي من أعظم القربات وآكد المستحبات، وحاجة الحجاج إليها متأكدة؛ فإنهم يقطعون المسافات الطوال قصدًا لزيارة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والسلام عليه؛ امتثالًا لِمَا ورد من الأحاديث النبوية الشريفة في استحباب زيارة قبره الشريف صلى الله عليه وآله وسلم، وأن ذلك مستوجبٌ لشفاعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لزائره، وأن مِن الجفاء أن يحج الإنسان دون أن يزور قبره الشريف صلى الله عليه وآله وسلم، وقد صححها جمع من الحُفّاظ.
ودخول المسجد النبوي لزيارة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والسلام عليه هو بمنزلة المرور الجائز، وقد نص بعض الفقهاء على أن طواف الحائض المعذورة هو بمنزلة المرور الجائز في المسجد، ولا شك أن الزيارة النبوية حينئذ أولى بالجواز من الطواف:
قال الشيخ ابن القيم الحنبلي في "إعلام الموقعين" (3/24، ط. دار الكتب العلمية): [طوافُها بمنزلة مرورها في المسجد، ويجوز للحائض المرور فيه إذا أمنت التلويث، وهي في دورانها حول البيت بمنزلة مرورها ودخولها من باب وخروجها من آخر؛ فإذا جاز مرورها للحاجة فطوافها للحاجة التي هي أعظم من حاجة المرور أولى بالجواز.] اهـ.
وبناءً على ذلك: فيمكن للحائض أن تتحين فترات انقطاع حيضها، وتقلد المذهب القائل بأن النقاء في الحيض طهر؛ وهو قول المالكية والحنابلة وقول للإمام الشافعي يُعرَف بقول "التلفيق" ورجحه بعض الشافعية، ثم تغتسل وتزور النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتسلم عليه، فإن لم ينقطع دمها وخشيت فوات الرفقة قبل انقطاع حيضها فلا مانع من أن تزور وتسلم وهي حائض إذا أَمِنَت التلويث بما تتحفظ به؛ فإن ذلك بمنزلة مرورها الجائز في المسجد، ولها أن تتناول دواءً يمنع نزول الدم وذلك باستشارة أهل الطب.والله سبحانه وتعالى أعلم
 

التفاصيل ....

أولًا: أما طواف الحائض: فقد اتفق الفقهاء على أن الحيض والنفاس ليسا من موانع الإحرام، ولا يترتب عليهما فساد الحج أو العمرة إن حصلا خلالهما، ولا يمنعان شيئًا من أعمال الحج والعمرة إلا الطواف على ما يأتي فيه من الخلاف؛ لحديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قدمتُ مكة وأنا حائضٌ لم أطف بالبيت ولا بين الصفا والمروة، فشكوت ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: «افْعَلِي مَا يَفْعَلُ الْحَاجُّ، غَيْرَ أَلَّا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ حَتَّى تَطَّهَّرِي» متفق عليه، وروى الإمام أحمد في "المسند"، وأبو داود في "السنن"، والترمذي في "جامعه" وحسّنه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «النُّفَسَاءُ وَالْحَائِضُ إِذَا أَتَتَا عَلَى الْوَقْتِ تَغْتَسِلانِ وَتُحْرِمَانِ، وَتَقْضِيَانِ الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا، غَيْرَ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ». كما أنهم اتفقوا على أن المرأة إذا حاضت قبل طواف الركن في الحج أو العمرة وأمكنها الانتظار فعليها أن تنتظر لتطوف على طهارة.
قال الشيخ ابن تيمية الحنبلي -كما في "مجموع الفتاوى" (26/205-206، ط. مجمع الملك فهد)-: [الذي لا أعلم فيه نزاعًا: أنه ليس لها أن تطوف مع الحيض إذا كانت قادرة على الطواف مع الطُّهر؛ فما أعلم منازعًا أن ذلك يحرم عليها وتأثم به] اهـ.
وانتظار الرفقة للحائض حتى تطهر فتطوف أمرٌ مشروع ومستحبٌّ جاءت به السنة النبوية الشريفة؛ فروى البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: حاضتْ صفِيَّةُ بِنت حُيَيٍّ بعدما أفاضت، فذكرْتُ حَيْضَتَها لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: «أَحَابِسَتُنَا هِيَ؟» فقُلْتُ: يا رسول الله، إنها قد كانت أفاضت وطافت بالبيت، ثم حاضت بعد الإفاضة، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «فَلْتَنْفِرْ».
وروى عبد الرزاق وابن أبي شيبة في "مصنفيهما" عن إبراهيم النخعي وأبي هريرة رضي الله عنه موقوفًا قالا: "أَمِيرَانِ وَلَيْسَا بِأَمِيرَيْنِ: الرَّجُلُ يَكُونُ مَعَ الْجِنَازَةِ فَصَلَّى عَلَيْهَا فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ حَتَّى يَسْتَأْذِنَ وَلِيَّهَا، وَالْمَرْأَةُ الْحَائِضُ لَيْسَ لِأَصْحَابِهَا أَنْ يَصْدُرُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوا"، وفي لفظ لأبي هريرة رضي الله عنه عند ابن أبي شيبة: "وَالْمَرْأَةُ تَكُونُ مَعَ الْقَوْمِ فَتَحِيضُ قَبْلَ أَنْ تَطُوفَ بِالْبَيْتِ يَوْمَ النَّحْرِ لَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَنْفِرُوا إِلَّا بِإِذْنِهَا"، ورواه ابن أبي شيبة عن عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما موقوفًا، ويُروَى مرفوعًا من حديث أبي هريرة وجابر رضي الله عنهما بأسانيد فيها مقال.
غير أن انتظار الرفقة للحائض منوط بالإمكان والاستطاعة، فإذا تعذر ذلك أو تعسر فشأنه شأن الأوامر الشرعية التي تسقط عند العجز عنها؛ قال الشيخ ابن تيمية -كما في "مجموع الفتاوى" (26/224)-: [ولما كانت الطرقات آمنة في زمن السلف، والناس يَرِدُون مكةَ ويَصْدُرون عنها في أيام العام، كانت المرأة يمكنها أن تحتبس هي وذو محرمها ومَكَارِيُّها حتى تطهر ثم تطوف؛ فكان العلماء يأمرون بذلك. وربما أمروا الأمير أن يحتبس لأجل الحُيَّضِ حتى يطهرن؛ كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «أَحَابِسَتُنَا هِيَ؟»..
وأما هذه الأوقات فكثير من النساء -أو أكثرهن- لا يُمكنهنَّ الاحتباسُ بعد الوفد، والوفد ينفر بعد التشريق بيوم أو يومين أو ثلاثة، وتكون هي قد حاضت ليلة النحر؛ فلا تطهر إلى سبعة أيام أو أكثر، وهي لا يمكنها أن تقيم بمكة حتى تطهر؛ إما لعدم النفقة، أو لعدم الرفقة التي تقيم معها وترجع معها.. أو لخوف الضرر على نفسها ومالِها في المُقام وفي الرجوع بعد الوفد، والرفقة التي معها: تارة لا يمكنهم الاحتباس لأجلها؛ إما لعدم القدرة على المُقام والرجوع وحدهم، وإما لخوف الضرر على أنفسهم وأموالهم، وتارة يمكنهم ذلك لكن لا يفعلونه؛ فتبقى هي معذورة] اهـ.
والطهارة من الحيض والنفاس شرط لصحة الطواف دون السعي عند جمهور الفقهاء؛ مستدلين بحديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها السابق ذكرُه؛ فإن فيه نهيًا للحائض عن الطواف حتى ينقطع دمها وتغتسل، والنهيُ في العبادات يقتضي الفساد، ولذلك يبطل الطواف لو فعلَتْه.
وخالف في اشتراط الطهارة للطواف جماعةٌ مِن الفقهاء؛ فحملوا النهي في الحديث على الحالة المعتادة التي تستطيع فيها الحائض الانتظار حتى تطهر وتطوف، لا على حال الضرورة، وجعلوا الطهارة في الطواف واجبًا لا شرطًا؛ وهو مذهب الحنفية، وقول عند الحنابلة، ومنهم مَن جعلها سُنّة؛ وهو مذهب جماعة مِن التابعين، وقول عند الحنفية والمالكية والحنابلة.
فتُحْرِم الحائض أو النفساء بالحج أو بالعمرة من ميقات إحرامها وتنتظر على مذهب الجماهير حتى تطهر؛ سواء أتاها الحيض قبل الإحرام أم أثناءه أم بعده وقبل الطواف، فإذا طهرت اغتسلت ثم طافت وسعت من غير أن تحرم مرة أخرى من الحِلِّ.
فإن تخلل حيضها فترة انقطع فيها الدم، أو استعملت دواءً فانقطع دمُها: جاز لها الاغتسال والطواف، وطوافها صحيح حتى لو رجع إليها الدم بعد ذلك وكانت في مدة الحيض؛ على ما عليه المالكية والحنابلة مِن أن النقاءَ في الحيض طُهْر، وهو أحد قولي الإمام الشافعي ويُعرَف بقول "التلفيق"، ورجحه جماعة من الشافعية، وهو مذهب الإمام الحسن بن أبي الحسن البصري.
فإن تأخر طهرُها ولم ينقطع دمُ حيضها وخافت فوات الرُّفقة، وتعذر عليها الانتظارُ حتى تطهر: فالذي يقتضيه مذهب مَن يرى الطهارة شرطًا في الطواف: أنها تتحلل من إحرامها كالمُحصَر، وتذبح إن لم تكن قد اشترطت إحلالها إذا حُبِسَتْ، ويبقى الطواف في ذمتها ولو بعد سنين، وبعضهم يوجب عليها المكث بمكة حتى تطهر فتطوف، ولا يخفى ما في ذلك كلِّه مِن العسر والمشقة، سيّما إذا نأتِ الديار وبَعُدَت الشُّقّةُ، أو ضاق الحالُ وعزَّت النفقة، وقد أصبح الحج كالفرصة التي يندر تكرارها لعامّة الناس.
والذي عليه جماهير المحققين وكثيرٌ مِن فقهاء المذاهب وعليه العمل والفتوى: صحّةُ طوافِها حالَ حيضها حينئذٍ؛ لأن المشقة تجلب التيسير، وإذا ضاق الأمر اتسع.
- ثم منهم مَن يُلزِمُها بشاة عن طواف العمرة وبدنة عن طواف الإفاضة في الحج، وهم الحنفية في المعتمد؛ بناءً على أن ترك الطهارة يُجْبَرُ بدمٍ؛ لأنها مِن واجبات الطواف لا مِن شروطه، ويروي الحنفية هذا القولَ عن ابن عباس رضي الله عنهما، وذكره الإمام أبو يعقوب الأبيوردي وجهًا في مذهب الشافعي في طواف الوداع، وإن لم يعتمده الشافعية، وهو رواية عن الإمام أحمد، ونص المالكية على تقليده وأن الأخذ به هو مقتضَى يسر الدين، ونص الشافعية على أنه هو الأحوط.
- ومنهم مَن لا يُلزمها بدمٍ أصلًا:
1. إمّا لأنها معذورة؛ كما هو مرويٌّ عن السيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، وقد نقله عنها عطاء بن أبي رباح وهو أعلم التابعين بالمناسك، وهو مقتضى قول عطاء بن أبي رباح وإبراهيم النخعي في تصحيحهما الطواف إذا حاضت المرأة أثناءه، وقول الحكم بن عُتَيْبة، وحماد بن أبي سليمان، ومنصور بن المعتمر، وسليمان الأعمش؛ كما نقله عنهم إمام المحدِّثين شعبة بن الحجّاج، وهو المُفتَى به عند السادة المالكية تخريجًا على ما رواه البصريون عن الإمام مالك في جعله طواف القدوم بدلًا عن طواف الإفاضة لمن سافر لبلده ونسيه، وهو مرويٌّ عن الإمام أحمد واختاره الشيخ ابن تيمية وتلميذه ابن القيم الحنبليان وبعض أئمة الحنابلة.
2. وإما لأن الطهارة في الطواف سنة لا واجب؛ وهو قول الإمام محمد بن شُجَاع الثلجي مِن أئمة الحنفية، وقول الإمام المغيرة بن عبد الرحمن المخزومي؛ فقيه أهل المدينة بعد الإمام مالك، ورواية عن الإمام أحمد. غير أنّ مِن الفقهاء مَن لا يجعل القولَ بسُنِّيّة الطهارة مسقطًا للزوم الدم.
وقد وردت الآثار عن السلف بصحة طواف الحائض: 
فجاء ذلك عن جماعة من الصحابة؛ منهم: عائشة أم المؤمنين، وابن عمر، وابن عباس رضي الله عنهم:
- فقال سعيد بن منصور: حدثنا أبو عوانة، عن أبي بشر، عن عطاء، قال: "حاضت امرأةٌ وهي تطوف مع عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، فأتمَّت بها عائشةُ بقيةَ طوافِها". ذكره ابن حزم في "المحلَّى" (5/189، ط. دار الفكر)، وابن القيم في "إعلام الموقعين" (4/372، ط. دار ابن الجوزي) واللفظ لهما، وابن جماعة في "هداية السالك" (3/917)، والزيلعي في "نصب الراية" (3/128، ط. مؤسسة الريان)، ولفظه عندهما: "فأتمَّت بها عائشةُ سُنّة طوافها".
قال الإمام ابن حزم عقب ذكره: [فهذه أم المؤمنين لم تر الطهارة مِن شروط الطواف] اهـ.
وقال العلامة الكمال بن الهمام الحنفي في "فتح القدير" (2/244، ط. المطبعة الأميرية ببولاق 1315هـ): [وهذا يؤيد انتفاء الاشتراط] اهـ بتصرف.
وهذا إسناد مسلسَل بالأئمة الأثبات الثقات؛ فأبو عوانة: هو الوضّاح بن عبد الله اليشكري؛ الإمام الحافظ محدِّث البصرة، وأبو بشر: هو جعفرُ بن أبي وحشيةَ إياسٍ الواسطيُّ؛ تابعي من رجال الصحيحين، وثقه جماعة من الأئمة، وعطاء: هو ابن أبي رباح؛ مفتي أهل مكة، وأعلم التابعين بالمناسك، حتى قال الإمام محمد الباقر رضي الله عنه -فيما أخرجه ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" (6/330، ط. دار إحياء التراث العربي)-: "ما بقي أحدٌ مِن الناس أعلم بأمرِ الحج مِن عطاء"، وقد سمع عطاءٌ مِن عائشة رضي الله عنها؛ كما قال الإمام أحمد -فيما رواه عنه حرب في "مسائله" (3/1314، ط. جامعة أم القرى)-، ويحيى بن معين، وأبو حاتم وأبو زرعة الرازيان -كما في "الجرح والتعديل" (6/330)-، وحديثه عنها مُخرَّج في الصحيحين والمسانيد والسنن.
- ونقل الإمام أحمد عن عبد الله بن عُمَر رضي الله عنهما التسهيلَ والتيسيرَ على مَن طاف للإفاضة على غير طهارة ثم جامع أهله، ذكره أبو بكر عبد العزيز في كتاب "الشافي" من رواية عبد الملك الميموني عن أحمد، وأنه قال: "هذه مسألة الناس فيها مختلفون"، وذكَر قولَ ابن عمر وما يقول عطاء وما يسهل فيه، وما يقول الحسن. وهذا يقتضي عدم اشتراط الطهارة في الطواف، وقد نقل ذلك ابنُ تيمية -كما في "مجموع الفتاوى" (26/207-208)- ثم قال: [وجواب أحمد المذكور يبين أن النزاع عنده في طواف الحائض وغيره، وقد ذَكَرَ عن ابن عمر وعطاء وغيرِهما التسهيلَ في هذا] اهـ.
- ونقَل فقهاء الحنفية عن حبر الأُمّة سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنّه أوجب بدَنَةً على مَن طاف وهو جنب، وهذا يقتضي تصحيح طوافه، والحائض كالجنب، بل هي أَوْلَى؛ لأن العذر في حقها أشد:
قال الإمام السرخسي الحنفي في "المبسوط" (4/39، ط. دار المعرفة): [وهو مرويٌّ عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: البدنة في الحج تجب في شيئين: على مَن طاف جُنُبًا، وعلى مَن جامع بعد الوقوف، وإن أعاد طوافه سقطت عنه البدنة] اهـ.
وقال الإمام الكاساني في "بدائع الصنائع" (2/217، ط. دار الكتب العلمية): [رُوِيَ عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: البدنة في الحج في موضعين أحدهما: إذا طاف للزيارة جنبًا ورجع إلى أهله ولم يعد، والثاني: إذا جامع بعد الوقوف] اهـ.
ونقله بمعناه الإمام المرغيناني في "الهداية" (1/161، ط. دار إحياء التراث العربي) فقال: [(ولو طاف طواف الزيارة محدثًا فعليه شاة) لأنه أدخل النقص في الركن فكان أفحش من الأول، فيجبر بالدم (وإن كان جنبا فعليه بدنةٌ) كذا رُوِيَ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما] اهـ.
وقال الشيخ ابن تيمية كما في "مجموع الفتاوى" (26/126، ط. مجمع الملك فهد): [ونقَل بعضُ الفقهاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: "إذا طاف بالبيت وهو جُنُبٌ عليه دمٌ"] اهـ.
قال الحافظ الزيلعي في "نصب الراية" (3/128، ط. دار الريان): [غريب] اهـ، وقال الحافظ ابن حجر في "الدراية في تخريج أحاديث الهداية" (2/41، ط. دار المعرفة): [لم أجده] اهـ.
 ورُوِيَ ذلك أيضًا عن جماعة من التابعين، ومَن بعدهم:
فروى الإمام أبو بكر بن أبي شيبة في "المصنف" عن غندر، عن شعبة قال: سألتُ الحكَمَ، وحمّادًا، ومنصورًا، وسليمانَ، عن الرجل يطوف بالبيت على غير طهارة، «فلم يروا به بأسًا». وسقط اسم "الحكَم" من مطبوعة "المصنَّف"، وهي ثابتة في "فتح الباري" للحافظ ابن حجر (3/505، ط. دار المعرفة) و"طرح التثريب" للحافظ أبي زرعة العراقي (5/120، ط. دار الفكر العربي).
ونقل الحافظ أبو عمر بن عبد البر ذلك عن إبراهيم النخعي أيضًا؛ كما في كتابه "الاستذكار" (4/207، ط. دار الكتب العلمية).
وورد عن عطاء وإبراهيم أيضًا الاعتدادُ بطواف الحائض إذا جاءها الحيض أثناء الطواف:
فروى ابن أبي شيبة في "المصنف" من طريق ليث، عن عطاء بن أبي رباح قال: "إذا طافت المرأة ثلاثة أطواف فصاعدًا ثم حاضت، أجزأ عنها"، وفي لفظ آخر من طريق حجاج، عن عطاء: "تستقبل الطواف أحبُّ إلي، وإن فعلَتْ فلا بأس به". ورَوَى أيضًا عن إبراهيم النخعي في المرأة تطوف ثلاثة أشواط ثم تحيض، قال: "يُعتَدُّ به".
قال الشيخ ابن تيمية -كما في "مجموع الفتاوى" (26/208)-: [وهذا صريح عن عطاء أن الطهارة من الحيض ليست شرطًا، وقولُه مما اعتَدَّ به أحمدُ] اهـ.
وقال تلميذه الشيخ ابن القيم الحنبلي في "إعلام الموقعين" (4/372): [وأشار أحمد إلى تسهيل عطاء إلى فتواه أن المرأة إذا حاضت في أثناء الطواف فإنها تتم طوافها، وهذا تصريح منه أن الطهارة ليست شرطًا في صحة الطواف] اهـ.
وأفتى الإمام الحسن بن أبي الحسن البصري المرأةَ الحائضَ التي شربت دواءً فانقطع دمها، فطافت في أيام عادتها، أن طوافها صحيح؛ وذلك فيما أخرجه الإمام أحمد -كما في "مسائل أبي داود" عنه (ص: 163، ط. مكتبة ابن تيمية)- قال: حدثنا معاذ بن معاذ، عن أشعث، عن الحسن، أنه قال في امرأة قضت المناسك كلها إلا الطواف الواجب، ثم حاضت فشربت دواء، فقطع الدم عنها، فطافت في أيام حيضتها وهي طاهرٌ؛ قال: "أَجزَأَ عنها".
ومذهب الإمام أبي ثور فيمن طاف على غير طهارة: أنه إن فعل ذلك وهو لا يعلم أجزأه، بخلاف العامد فإنه لا يجزئه، وهذا يقتضي أن الطهارة عنده ليست شرطًا في الطواف؛ فإن الشرط لا يسقط بالنسيان؛ قال الإمام ابن رشد في "بداية المجتهد" (2/109، ط. دار الحديث): [وقال أبو ثور: إذا طاف على غير وضوء أجزأه طوافه إن كان لا يعلم، ولا يجزئه إن كان يعلم] اهـ.
ومذهب الإمام داود الظاهري أن الطهارة ليست شرطًا في الطواف؛ كما نقل ذلك الإمام النووي في "شرح مسلم" (8/147، ط. دار إحياء التراث العربي).
وأمّا عند أرباب المذاهب الفقهية المتبوعة:
- فنص السادة الحنفية على أن الطهارة من الحيض ليست شرطًا للطواف، وأن طواف المحدث حدثًا أكبر؛ جنُبًا أو حائضًا أو نفساء للعمرة يُجبَر بشاة، وطواف الزيارة يُجبَرُ ببدنة، ونقلوا ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما، وتجب الإعادة بعد ارتفاع الحدث، فإن أعيد الطواف حال الطهر فلا يجب الدم، إلا إذا حصلت الإعادة بعد أيام النحر فيجب الدم عند الإمام أبي حنيفة للتأخير:
قال الإمام الكاساني الحنفي في "بدائع الصنائع" (2/129، ط. دار الكتب العلمية): [فأما الطهارة عن الحدث, والجنابة, والحيض, والنفاس؛ فليست بشرط لجواز الطواف, وليست بفرض عندنا، بل واجبة حتى يجوز الطواف بدونها] اهـ.
وقال الإمام مجد الدين أبو الفضل الحنفي في "الاختيار في تعليل المختار" (1/162، ط. مطبعة الحلبي): [لو طاف للعمرة جنبًا أو محدثا فعليه شاة؛ لأنه ركن فيها، وإنما لا تجب البدنة لعدم الفرضية; والحائض كالجنب لاستوائهما في الحكم، ولو أعاد هذه الأطوفة على طهارة سقط الدم؛ لأنه أتى بها على وجه المشروع فصارت جنايته متداركة، فسقط الدم] اهـ.
وقال في طواف الزيارة (1/163-164): [(وإن طاف للزيارة جنبا فعليه بدنة، وكذلك الحائض) لأنه لما وجب جبر نقصان الحدث بالشاة وجب جبر نقصان الجنابة بالبدنة، لأنها أعظم فتعظم العقوبة، وهو مرويٌّ عن ابن عباس رضي الله عنهما، والأَوْلَى أن يعيده ليأتي به على أكمل الوجوه، فإن أعاد فلا شيء عليه؛ لأنه استدرك ما فاته في وقته] اهـ.
واختلف مشايخ الحنفية في كون الطهارة للطواف واجبًا أو سُنّة، وصححوا أنها واجبةٌ:
قال الإمام السرخسي في "المبسوط" (4/38، ط. دار المعرفة): [الصحيح من المذهب أن الطهارة في الطواف واجبة، وكان ابن شجاع رحمه الله تعالى يقول: إنها سنة] اهـ.
وقال الإمام الموفق بن قدامة الحنبلي في "المغني" (3/343، ط. مكتبة القاهرة): [وقال أبو حنيفة: ليس شيء من ذلك -يعني: الطهارة في الطواف- شرطا. واختلف أصحابه؛ فقال بعضهم: هو واجب، وقال بعضهم: هو سنة؛ لأن الطواف ركن للحج؛ فلم يشترط له الطهارة، كالوقوف] اهـ.
ونص بعض الحنفية على أن القول بالسُّنِّيَّة عندهم لا ينافي وجوب الكفارة:
قال العلامة زين الدين بن نجيم في "البحر الرائق" (3/19، ط. دار الكتاب الإسلامي): [وظاهر كلام "غاية البيان": أن الدم واجب اتفاقًا: أما على القول بوجوبها - وهو الأصح- فظاهر، وأما على القول بسنيتها فلأنه لا يمتنع أن تكون سُنّة ويجب بتركها الكفارة؛ ولهذا قال: محمد فيمن أفاض من عرفة قبل الإمام يجب عليه دم؛ لأنه ترك سنة الدفع. اهـ. وبهذا علم أن الخلف لفظي لا ثمرة له] اهـ. وتعقبه الشيخ سراج الدين بن نُجيم في "النهر الفائق" (2/125-126، ط. دار الكتب العلمية) بقوله: [وفيه نظر؛ إذ إثم ترك الواجب أشد] اهـ.
وقال الشيخ ابن تيمية الحنبلي في "الفتاوى الكبرى" (1/448، ط. دار الكتب العلمية): [وكذلك قال بعض الحنفية: إن الطهارة ليست واجبة في الطواف، بل سنة، مع قوله: إن في تركها دمًا] اهـ.
ومذهب الحنفية أن الحائض إذا طافت أثمت بدخولها المسجد الحرام مع صحة طوافها؛ قال العلامة ابن أمير الحاج الحنفي في "منسكه": [لو هَمَّ الركبُ على القفول ولم تطهر، فاستفتت: هل تطوف أم لا؟ قالوا: يُقال لها: لا يحل لك دخول المسجد، وإن دخَلْتِ وطُفْتِ أَثِمْتِ وصح طوافُكِ، وعليك ذبح بدنة. وهذه مسألة كثيرة الوقوع يتحير فيها النساء] اهـ نقلًا عن "حاشية ابن عابدين على الدر المختار" (2/519، ط. دار الفكر).
وقال العلامة ملا علي القاري الحنفي في "المسلك المتقسط في المنسك المتوسط" (ص: 73، ط. المطبعة الكبرى 1288هـ): [(الطهارة عن الحدث الأكبر والأصغر).. ووجوبها عنهما هو الصحيح من المذهب، وهو إحدى الروايتين عن الإمام أحمد، وقال ابن شجاع: هو سنة.. ثم إذا ثبت أن الطهارة عن النجاسة الحكمية واجبة فلو طاف معها يصح عندنا وعند أحمد، ولم يحل له ذلك ويكون عاصيًا، ويجب عليه الإعادة أو الجزاء إن لم يعد] اهـ.
والتحقيق أن الإثم إنما يلحق الحائض بطوافها في الحالة المعتادة، أما في حالة الضرورة التي تخشى فيها فوات رفقتها ويتعذر أو يتعسر عليها العود للبيت الحرام للطواف: فإن الإثم ينتفي عنها حينئذ للضرورة؛ فقد نص الحنفية على جواز دخول الحائض إلى المسجد للضرورة؛ قال الإمام أبو الفضل الموصلي في "المختار" (1/13، ط. مطبعة الحلبي): [ولا يدخل -أي: الجنب- المسجد إلا لضرورة، والحائض والنفساء كالجنب] اهـ.
وقال العلامة ملا خسرو الحنفي في "درر الحكام شرح غرر الأحكام" (1/20، ط. دار إحياء الكتب العربية): [(وحرُم على الجنب دخولُ المسجد ولو للعبور.. إلا لضرورة) كأن يكون بابُ بيتِه إلى المسجد] اهـ، ونقله ابنُ نجيم في "البحر الرائق" (1/205، ط. دار الكتاب الإسلامي) ثم قال: [وهو حسن] اهـ. والتمثيل بما ذُكِرَ يكشف أن المقصود بالضرورة: الحاجة الأكيدة، وهي متحققة بأبلغ من ذلك في حالة الحائض المعذورة التي تخشى فوات رفقتها ولا يمكنها الانتظار.
ولذلك جاء في "الفتاوى الأسعدية في فقه الحنفية" للعلامة السيد أسعد المنورة الحسيني مفتي المدينة المنورة (1/21، ط. المطبعة الخيرية):
[سؤال في المرأة إذا حاضت وهي محرمة، ما حكمها؟ أفتونا.
الجواب: تعمل جميع ما يعمل الحاج من الوقوف بعرفة والغسل والوقوف بمزدلفة والرمي والتقصير، غير أنها لا تطوف طواف القدوم ولا طواف الإفاضة حتى تطهر، ويسقط عنها طواف الوداع إن لم تطهر قبل ذلك، وأما طواف الإفاضة فلم يسقط بحال، وإن لم تطهر يقال لها: تربصي حتى تطهري وتطوفي، وإلا تطوفي وعليك بدنة. والله أعلم] اهـ.
فأمرها بالطواف إن لم يتيسر لها التربُّصُ، ومفهومه: أنه لا إثم عليها إن فعلت ذلك؛ إذ الإثم هنا يتعلق بالفعل المتعمَّد من غير حاجة.
ومع انتفاء الإثم عن المضطرة للطواف وهي حائض فإن وجوب الكفارة لا يسقط عنها عند الحنفية؛ فإنهم لم يستثنوا حال الاضطرار والعذر من وجوب الكفارة، وسبب وجوبها مع وجود العذر: أن العذر حصل مِن قِبَل العِبَاد؛ حيث إن اضطرارها إنما جاء بسبب تعجل رفقتها.
وبيانُ ذلك: أنه قد تقرر في قواعد فقه الحنفية أن ترك النسك الواجب لعذر يسقط الكفارة؛ ولذلك سقط عن المرأة الدمُ إذا حاضت قبل طواف الوداع مع كونه طوافًا واجبًا عند الحنفية؛ قال العلامة الكاساني في "بدائع الصنائع" (2/142، ط. دار الكتب العلمية): [رخص النبي صلى الله عليه وآله وسلم للنساء الحُيَّضِ في ترك طواف الصدر لعذر الحيض، ولم يأمرهن بإقامة شيء آخر مقامه وهو الدم، وهذا أصل عندنا في كل نسك جاز تركُه لعُذرٍ: أنه لا يجب بتركه من المعذور كفارة] اهـ بتصرف، لكنهم قيدوا العذر المسقطَ للدَّمِ ببعض القيود:
منها: أن لا يمكن تدارك الواجب، فإن أمكن تداركه ولم يُتَدارك وجبت فيه الكفارة.
ومنها: أن لا يكون هذا العذر مِن قِبَل العِبَاد، فإن كان كذلك وجبت فيه الكفارة أيضًا.
قال العلامة ابن عابدين في "رد المحتار على الدر المختار" (2/544، ط. دار الفكر): [تتمة: يُستَثنَى مِن الإطلاق المار في وجوب الجزاء ما في اللباب: لو ترك شيئًا من الواجبات بعذر، لا شيء عليه على ما في "البدائع"، وأطلق بعضهم وجوبه فيها إلا فيما ورد النص به؛ وهي ترك الوقوف بمزدلفة، وتأخير طواف الزيارة عن وقته، وترك الصدر للحيض والنفاس، وترك المشي في الطواف والسعي، وترك السعي، وترك الحلق لعلة في رأسه اهـ لكن ذكر شارحه ما يدل على أن المراد بالعذر: ما لا يكون من العباد؛ حيث قال عند قول "اللباب": "ولو فاته الوقوف بمزدلفة بإحصار فعليه دم": هذا غير ظاهر؛ لأن الإحصار من جملة الأعذار، إلا أن يقال: إن هذا مانع من جانب المخلوق؛ فلا يؤثر، ويدل له ما في "البدائع" فيمن أحصر بعد الوقوف حتى مضت أيام النحر ثم خُلِّيَ سبيلُه: أن عليه دمًا لترك الوقوف بمزدلفة، ودمًا لترك الرمي، ودمًا لتأخير طواف الزيارة اهـ . ومثله في إحصار "البحر"] اهـ.
وفي "الدر المختار" للعلامة الحصكفي: [(أو أفاض من عرفة) ولو بِنَدِّ بعيرِه (قبل الإمام) والغروب، ويسقط الدم بالعود ولو بعده في الأصح "غاية"].
قال العلامة ابن عابدين في حاشيته عليه "رد المحتار على الدر المختار" (2/552): [قال في "اللباب": ولو ند به بعيره فأخرجه من عرفة قبل الغروب لزمه دم، وكذا لو ند بعيره فتبعه لأخذه اهـ. قال شارحه القاري: وفيه أن ترك الواجب لعذر مسقط للدم. اهـ. وأجيب بأنه يمكنه التدارك بالعود، وهو مسقط للدم. قلت: الأحسن الجواب بما قدمناه أول الباب من أن المراد بالعذر المسقط للدم ما لا يكون من قبل العباد وسيأتي توضيحه في الإحصار] اهـ.
وقال العلامة الطحطاوي في "حاشيته" عليه (1/523، ط. بولاق): [وفيه أن النَّدَّ عذر؛ لأن حفظ المال واجب كحفظ النفس، وحكم الواجب: سقوط الدم فيه للعذر، ولم يعتبروه هنا] اهـ.
- ونص المالكية على أن الحائض إذا انقطع دمُها ولو لمدة يسيرةٍ جاز لها أن تطوف في وقت انقطاع الدم بعد أن تغتسل، فإن استمر دم الحيض بلا انقطاع: ففي تقرير المذهب قولان:
الأول: أن طوافها لا يصح، وعليها أن تمكث في مكة وحدها حتى تطهر ثم تطوف إن أمكنها المقام بمكة، وإلا رجعت إلى بلدها ثم عادت من قابل، وهذا جارٍ على ما نقله البغداديون عن الإمام مالك رحمه الله تعالى.
الثاني: أن طوافها صحيح؛ أخذًا من قول المغيرة بن عبد الرحمن المخزومي -فقيه أهل المدينة بعد الإمام مالك- فيمن طاف على غير طهارة وخرج إلى بلده فإن ذلك يجزئه، وتخريجًا على ما رواه البصريون عن الإمام مالك من إحلاله طواف القدوم محل طواف الركن لمن نسيَه أو جهل فرضيته، فرجع إلى بلده دون أن يؤديه، من غير أن يوجب عليه دمًا، وعذر الحائض أبلغ من ذلك، وتصحيح طوافها أولى؛ فإن تصحيح الطواف دون شرطه أَوْلَى من تصحيحه قبل وقته؛ إذ حُرمة الوقت مقدمةٌ على حرمة الشرط.
والعمل والفتوى عندهم على هذا التخريج، كما نصوا أيضًا على جواز تقليد الإمام أبي حنيفة:
قال الإمام أبو محمد بن شاس المالكي في "عقد الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة" (1/398، ط. دار الغرب الإسلامي): [لو طاف غير متطهر أعاد، فإن رجع إلى بلده قبل الإعادة رجع من بلده على إحرامه إلى مكة فيطوف. وقال المغيرة: يُعِيد ما دام بمكة، فإن أصاب النساء وخرج إلى بلده أجزأه] اهـ. وظاهر هذا النقل عن المغيرة أنه لا دم عليه.
ونقله الإمام أبو زرعة العراقي الشافعي في "طرح التثريب" (5/121، ط. دار إحياء التراث العربي) فقال: [وعند المالكية قولٌ يوافق هذا] -أي: قول الحنفية- فذكره.
وقال الإمام القرافي المالكي في "الذخيرة" (3/238، ط. دار الغرب الإسلامي): [وقال الإمام أبو حنيفة والمغيرة: لا يشترط الطهارة؛ قياسًا على الوقوف، بل هي سُنّةٌ؛ إن طاف محدِثًا فعليه شاةٌ، أو جنُبًا فعليه بدَنةٌ] اهـ.
وقال الإمام ابن جماعة الكناني الشافعي في "هداية السالك إلى المذاهب الأربعة في المناسك" (3/916): [وقال المغيرة من أصحاب مالك: إنه لا تُشتَرطُ الطهارة؛ بل هي سُنَّة، إن طاف مُحْدِثًا فعليه شاة، وإن طاف جُنُبًا فعليه بدنة] اهـ.
وقال العلامة الشيخ عليش المالكي في "منح الجليل شرح مختصر خليل" (2/298، ط. دار الفكر): [ولا يُحبَسُ كَرِيٌّ ولا وَلِيٌّ لأجل طوافها، وتمكث وحدها بمكة حتى تطهر وتطوف إن أمكنها المُقام بها، وإلا رجعت لبلدها وهي محرمة وتعود في القابل. سند.. وهذا كله إن لم ينقطع دمها أصلًا، وإلا اغتسلت وطافت حال انقطاعه ولو بعض يوم.
هذا تقرير المذهب، وفيه مشقة؛ خصوصًا على مَن بلادُها بعيدةٌ. ومقتضى يُسرِ الدين:
- إمّا تقليدُ ما رواه البصريون عن الإمام مالك رضي الله عنه: أن من طاف للقدوم وسعى ورجع لبلده قبل طواف الإفاضة جاهلًا أو ناسيًا أجزأه عن طواف الإفاضة، وإن كان خلافَ رواية البغداديين عدمَه وهو المذهب، ولا شك أن عذر الحائض والنفساء أبلغ من عذر الجاهل والناسي.
- وإمّا تقليدُ أبي حنــيفة رضي الله عنه: أن الحائض تطوف؛ لأنه لا يشترط في الطواف الطهارة من حدث ولا من خبث، وهي رواية عن أحمد رضي الله عنه، وعليها بدنة، ويتم حجها؛ لصحة طوافها، وإن أثمت عندهما، أو عند أحمد فقط، بدخولها المسجد حائضًا. والله أعلم بالصواب] اهـ.
ونحوه للشيخ مبارك الأحسائي المالكي في "تسهيل المسالك إلى هداية السالك إلى مذهب الإمام مالك" (3/925، ط. مكتبة الإمام الشافعي)، غير أنه اقتصر في اقتضاء اليسر على القول الثاني عند المالكية دون أن يعرج على تقليد الحنفية، ولا يخفى أن ذلك أيسرُ؛ لإسقاطه الدم، وذاك أحوطُ؛ لأدائها الطواف صحيحًا على مذهبٍ معتبَر.
- وعند الشافعية: أن الحائض لا تطوف حتى تطهر؛ لأن الطهارة شرط صحة في الطواف.
وقد ذكر الإمام أبو يعقوب الأبيوردي من أئمة الشافعية وجهًا في صحة طواف الوداع من غير طهارة مع جبره بدم، وغلَّطه إمام الحرمين؛ فقال في "نهاية المطلب" (4/300، ط. دار المنهاج): [وإنما قال هذا مِن حيث إنه أُلزم وقيل: لو جاز جبر طواف الوداع بالدم، لجاز جبرُ الطهارة فيه بالدم، فارتكبه وقال تُجبر. وهذا غلط؛ لأنه إذا وجب الدم فهذا جبرُ الطواف؛ لا جبرُ الطهارة] اهـ.
ونصُّوا على أن الحائض إذا استعملت دواءً لينقطع دمُها، أو انقطع دمُها أثناء الحيض، فاغتسلت وطافت، فإن طوافَها صحيح وإن عاد الدم بعد ذلك؛ بناءً على أن النقاء في الحيض طهرٌ، وهو أحد قولي الإمام الشافعي رضي الله عنه فيمن انقطع دمُها يومًا ويومًا، ويُعرَف بقول "التلفيق"، ورجحه جماعةٌ من الشافعية، وبه قال الإمامان مالك وأحمد رحمهما الله تعالى.
فإن لم ينقطع دمُها ولم يمكن التخلف: خرجت معهم إلى محل لا يمكن عودُها له، ثم تتحلل كالمُحصَر؛ أي: بذبحٍ فتقصيرٍ مع النية، وإذا عادت إلى مكة -ولو بعد مدة مديدة- طافت بلا إحرام.
غير أنهم نصُّوا على أن الأحوط لها والألْيَقَ بمحاسن الشريعة في حالتها هذه: أن تقلد مذهب مَن يصحح طوافَها وهي حائض؛ فتهجم وتطوف بالبيت، ويلزمها بدنة، مع إثمها. وكذلك الحال في كل مسألة خلافية قال بها إمام معتبر؛ فإن الواقع فيها يقلِّدُ القائل بما له فيه مَخْلَصٌ.
قال الإمام شمس الدين الرملي الشافعي في "نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج" (3/317، ط. دار الفكر): [وبحث بعضهم أنها إن كانت شافعية تقلد الإمام أبا حنيفة أو أحمد على إحدى الروايتين عنده؛ في أنها تهجم وتطوف بالبيت، ويلزمها بدنة، وتأثم بدخولها المسجد حائضًا، ويجزيها هذا الطواف عن الفرض؛ لِمَا في بقائها على الإحرام من المشقة] اهـ.
وقال الإمام ابن حجر الهيتمي الشافعي في "حاشيته على شرح الإيضاح" للإمام النووي (ص: 387-388، ط. دار الحديث): [فائدة: كثر كلامُ الأئمة في نساء الحجيج إذا حِضْنَ قبل طواف الإفاضة ولم يمكنهن التخلفُ لفعله.
وللبارزي كلامٌ في المسألةِ حسنٌ طويلٌ، حاصله: أن مَن استعملت دواءً فانقطع دمُها، أو انقطع لا لدواءٍ، فاغتسلت وطافت، ثم عاد الدم بعد سفرها: يجوز لها العمل بأحد قولي الشافعي فيمن انقطع دمُها يومًا ويومًا؛ فإن يوم النقاء طهرٌ على هذا القول المعروف بقول "التلفيق"، ورجحه جماعة من الأصحاب، ويوافقه مذهب مالك وأحمد: أن النقاءَ في أيام التقطعِ طُهْرٌ.
ومَن لم ينقطع دمُها يصح طوافُها عند أبي حنيفة وعلى إحدى الروايتين عند أحمد، لكن يلزمها بدنة، وتأثم بدخول المسجد وهي حائض؛ فيقال لها: لا يحلُّ لكِ ذلك، لكن إن فعلتِ أثِمْتِ وأجزأكِ عن الفرض.
ومَن سافرَتْ بلا طوافٍ: فنقل البصريون عن مالك أن مَن طاف طواف القدوم وسعى ورجع لبلده قبل طواف الإفاضة جاهلًا أو ناسيًا؛ أجزأه، وقياسه: أن هذه كذلك؛ لأن عذرها أظهر مِن عذرهما؛ لتعذر بقائها بمكة، فإن لم يصح هذا النقل أو ما قيس عليه وأرادت التحلل، فقياس مذهبنا وغيره: أنها تصبر حتى تجاوز مكة إلى محل لا يمكنها الرجوع منه لنحو خوف على بُضْعٍ أو مالٍ، فتصير حينئذ كالمحصر؛ لأنها تتيقن الإحصار لو رجعت، وتيقُّنُه كوجوده، فتتحلَّلُ كتَحَلُّلِه، ثم إن كان إحرامها بفرض بقي في ذمتها، ومشى على ما قال بعض علماء اليمن وأطال في الاستدلال له، وقال: إن ما قاله آخرًا مذهبُ الشافعي لمن أعمل فكره في حقائقه..
قال العلامة ابن حجر: ثم رأيت البلقيني استنبط مما ذكروه في الإحصار من الطواف: أنها إذا لم يمكنها الإقامة حتى تطهر وجاءت بلدها وهي محرمة وعدمت النفقة ولم يمكنها الوصول إلى البيت: أنها كالمحصر؛ فتتحلل تحلله، وأيده بما في "المجموع": أنه لو صُدَّ عن طريقٍ ووجدَ آخرَ أطولَ ولم يكن معه ما يكفيه إذا سلكه: فله التحلُّلُ. قال الولي العراقي: وهو استنباط حسن، وبه أفتى شيخ الإسلام فقيه عصره الشرف المناوي، وهو مؤيِّد لما قاله البارزي، فهو المعتمد.
وإذا علمت ما تقرر: فالأليق بمحاسن الشريعة أن مَن ابتليت بشيء مِن أحد الأقسام الأربعة المذكورة تقلِّدُ القائل بما لها فيه مَخْلَصٌ، بل اختار بعض الحنابلة، وتبعه بعضُ متأخري الشافعية: أنه لا يشترط طهرُها إذا لم تتوقع فراغ حيضها قبل الركب؛ للضرر الشديد بالمقام والرحيل محرمة، وأنه يجوز لها دخول المسجد للطواف بعد إحكام الشد والغسل والعصب، كما تباح الصلاة لنحو السلس، وأنه لا فدية عليها لعذرها، لكن لا يجوز تقليدُ القائل بذلك؛ لأنه لم يُعلَم مَن قالَه مِن المجتهدين، وغيرُ المجتهد لا يجوز تقليدُه] اهـ.
ومقتضى ما سبق من الآثار عن السلف، وتحقيق مذهب الحنفية، وإفتاء المالكية بالجواز والصحة تخريجًا على ما رواه البصريون عن الإمام مالك، وما يأتي من الرواية عن الإمام أحمد، وما يأتي أيضًا مِن تقرير جواز دخول الحائض المسجدَ للعذر: أن تقليد القائل بجواز طوافها حائضًا للعذر غير ممنوع شرعًا؛ فإن هذه كلها أقوال أئمة مجتهدين نقلها أهل مذاهبهم، فتقليدهم مشروع؛ ولا يخفى أن تصحيح الطواف دون شرطه أَوْلَى مِن تصحيحه قبلَ وقته؛ قال الشيخ ابن تيمية الحنبلي -كما في "مجموع الفتاوى" (26/232)-: [الأصول متفقة على أنه: "متى دار الأمر بين الإخلال بوقت العبادة والإخلال ببعض شروطها وأركانها كان الإخلال بذلك أولى"، كالصلاة؛ فإن المصلِّيَ لو أمكنه أن يُصلِّيَ قبل الوقت بطهارة وستارة مستقبلَ القبلة مجتنبَ النجاسة ولم يمكنه ذلك في الوقت فإنه يفعلها في الوقت على الوجه الممكن ولا يفعلها قبله؛ بالكتاب والسنة والإجماع] اهـ.
وقد قال ابن حجر في "تحفة المحتاج في شرح المنهاج" (4/74-75، ط. المكتبة التجارية الكبرى): [الأحوط لها أن تقلد من يرى براءة ذمتها؛ بطوافها قبل رحيلها] اهـ.
وقال العلامة الشَّبْرَامَلِّسيُّ في "حاشيته على نهاية المحتاج" (3/317، ط. دار الفكر): [(مسألة) قال الشيخ منصور الطبلاوي: سُئِل شيخُنا ابن قاسم العبّادي عن امرأة شافعية المذهب طافت للإفاضة بغير سترةٍ معتبَرةٍ؛ جاهلةً بذلك أو ناسيةً، ثم توجهت إلى بلاد اليمن فنكحت شخصًا، ثم تبين لها فسادُ طوافِها، فأرادت أن تقلد أبا حنيفة في صحته لتصير به حلالًا وتتبين صحة النكاح، وحينئذ فهل يصح ذلك وتتضمن صحة التقليد بعد العمل؟
فأفتى بالصحة وأنه لا محذور في ذلك، ولَمّا سمعت عنه ذلك اجتمعتُ به؛ فإني كنت أحفظ عنه خلافَه في العام الذي قبله فقال: هذا هو الذي أعتقده من الصحة، وأفتى به بعض الأفاضل أيضا تبعًا له، وهو مسألة مهمة كثيرة الوقوع وأشباهها. ومرادُه "بأشباهها": كلُّ ما كان مخالفًا لمذهب الشافعي مثلًا وهو صحيح على بعض المذاهب المعتبرة؛ فإذا فعله على وجه فاسد عند الشافعي وصحيح عند غيره ثم علم بالحال جاز له أن يقلد القائل بصحته فيما مضى وفيما يأتي فتترتب عليه أحكامه، فتنبَّهْ له فإنه مُهمٌّ جدًّا] اهـ.
- وعند الحنابلة: اختلف النقل عن الإمام أحمد رحمه الله في حكم مَن طاف على غير طهارة:
فمِن أصحابه مَن نقل عنه عدم الإجزاء مطلقًا؛ كما نقل حنبل، وأبو طالب، والأثرم، والكوسج.
ومنهم من نقل عنه الفرق بين المتعمد فلا يجزئه، وبين الناسي فيجزئه؛ كما يقول العكبري.
ومنهم من نقل عنه أن طوافه صحيح ويجبره بدم؛ كما في رواية محمد بن الحَكَم.
ومنهم من نقل عنه التسهيل في الطهارة للطواف؛ كما في رواية الميموني.
وذلك كله متفرع على كون الطهارة شرطًا في صحة الطواف أم لا.
وإن لم تكن شرطًا لصحته فهل هي واجبة فيه أم سُنّة فقط.
والمشهور عن الإمام أحمد اشتراط الطهارة للطواف؛ كما يقول الإمام ابن قدامة في "المغني" (3/343، ط. مكتبة القاهرة)، وهو الذي صححه جماهير الأصحاب؛ كما يقول العلامة المرداوي في "الإنصاف" (1/348، ط. دار إحياء التراث العربي)، غير أن القول بصحة طواف تارك الطهارة ناسيًا أو معذورًا -كالحائض التي تخشى فوات رفقتها- مِن غير وجوب دم: هو روايةٌ صحيحة مُفتًى بها في المذهب الحنبلي:
فقد نص عليها شيخ الحنابلة في عصره الإمام أبو بكر عبد العزيز بن جعفر الحنبلي المعروف "بغلام الخلال"؛ حيث يقول في كتابه "الشافي" بعد أن نقل رواية الميموني عن الإمام أحمد: [قد بينا أمر الطواف بالبيت في أحكام الطواف على قولين؛ أحد القولين: إذا طاف الرجل وهو غير طاهر أن الطواف يجزئ عنه إذا كان ناسيًا، والقول الآخر: أنه لا يجزئه حتى يكون طاهرًا. فإن وطئ وقد طاف غيرَ طاهر ناسيًا فعلى قولين؛ مثل قوله في الطواف؛ فمن أجاز الطواف غير طاهر قال: تم حجه، ومن لم يُجِزْهُ إلا طاهرًا ردَّه مِن أي المواضع ذكر حتى يطوف. وبهذا أقول] اهـ.
وقد نقل كلامَه الشيخُ ابن تيمية الحنبلي في "مجموع الفتاوى" (26/208)، ثم قال عقبه: [فأبو بكر وغيره من أصحاب أحمد يقولون في إحدى الروايتين: يجزئه مع العذر ولا دم عليه، وكلام أحمد بَيِّنٌ في هذا. وجواب أحمد المذكور يبين أن النزاع عنده في طواف الحائض وغيره. وقد ذكر عن ابن عمر وعطاء وغيرهما التسهيلَ في هذا، ومما نُقِل عن عطاء في ذلك: أن المرأة إذا حاضت في أثناء الطواف فإنها تتم طوافها، وهذا صريح عن عطاء أن الطهارة من الحيض ليست شرطًا، وقوله مما اعتد به أحمد، وذكر حديث عائشة رضي الله عنها، وأن قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «إن هذا أمر كتبه الله على بنات آدم» يبين أنه أمر بُلِيَتْ به نزل عليها ليس مِن قِبَلِها؛ فهي معذورة في ذلك] اهـ.
والإمام أبو بكر عبد العزيز المعروف بغلام الخلال [ت363هـ] هو من كبار أئمة الحنابلة المعتمد عليهم في نقل المذهب؛ قال الحافظ الذهبي في "تاريخ الإسلام" (8/214، ط. دار الغرب الإسلامي): [وكان كبير القدْر، صحيح النقل، بارعًا في نقل مذهبهِ] اهـ.
ونص على هذه الرواية أيضًا: شيخُ المذهب الإمام الموفق بن قدامة؛ حيث يقول في "المغني" (3/343): [(ويكون طاهرا في ثياب طاهرة) يعني في الطواف؛ وذلك لأن الطهارة من الحدث والنجاسة والستارة شرائط لصحة الطواف، في المشهور عن أحمد. وهو قول مالك والشافعي. وعن أحمد: أن الطهارة ليست شرطًا؛ فمتى طاف للزيارة غير متطهر أعاد ما كان بمكة، فإن خرج إلى بلده جبره بدم. وكذلك يخرج في الطهارة من النجس والستارة. وعنه في من طاف للزيارة وهو ناس للطهارة: لا شيء عليه] اهـ. وقال أيضًا في "الكافي" (2/412، ط. دار هجر): [وعنه فيمَن طاف للزيارة ناسيًا لطهارته حتى رجع: فحجُّه ماضٍ ولا شيء عليه، وهذا يدل على أنها تسقط بالنسيان] اهـ.
وقال الإمام أبو عبد الله بن مفلح المقدسي الحنبلي في "الفروع" (6/40، ط. مؤسسة الرسالة): [وتشترط الطهارة من حدث, قال القاضي وغيره: الطواف كالصلاة في جميع الأحكام إلا في إباحة النطق, وعنه: يجبره بدم، وعنه: إن لم يكن بمكة, وعنه: يصح من ناسٍ ومعذور فقط, وعنه: ويجبره بدم, وعنه: وكذا حائض, وهو ظاهر كلام القاضي وجماعة, واختاره شيخنا -يعني: الشيخ ابن تيمية- وأنه لا دم لعذر, وقال: هل هي واجبة أو سنة لها؟ فيه قولان في مذهب أحمد وغيره, ونقل أبو طالب: والتطوع أيسر] اهـ.
وقد جمع الشيخ ابن تيمية الحنبلي الروايات عن الإمام أحمد في ذلك؛ فقال في "شرح العمدة" (3/586-589، ط. مكتبة العبيكان):
[فإن طاف على غير طهارة ففيه روايتان:
إحداهما: لا يجزئه بحال:
قال في رواية حنبل: "إذا طاف بالبيت طواف الواجب غير طاهر لم يجْزِه"، وقال في رواية أبي طالب: "إذا طاف مُحْدِثًا أو جنُبًا أعاد طوافه"، وكذلك نقل الأثرم، وابن منصور.
والثانية: يجزئه في الجملة:
قال في رواية ابن الحكم، وقد سأله عن الرجل يطوف للزيارة أو الصدر وهو جنب أو على غير وضوء؛ قلتُ: إن مالكًا يقول: يعود للحج والعمرة وعليه هدي، قال: "هذا شديد"، قال أبو عبد الله: "أرجو أن يجزئه أن يهريق دمًا إن كان جنُبًا، أو على غير وضوء ناسيًا.. وإن ذكر وهو بمكة أعاد الطواف"، وفي لفظ: "إذا طاف طواف الزيارة وهو ناسٍ لطهارته حتى يرجع فإنه لا شيء عليه، وأختار له أن يطوف وهو طاهر، وإن وطئ فحجه ماضٍ ولا شيء عليه". فقد نص على أنه يجزئه إن كان ناسيًا، ويجب عليه أن يعيد إذا ذكر وهو بمكة، فإن استمر به النسيان أهرق دمًا وأجزأه.
قال أبو حفص العكبري: لا يختلف قوله إذا تعمد فطاف على غير طهارة لا يجزئه، واختلف قوله في النسيان على قولين؛ أحدهما: أنه معذور بالنسيان، والآخر: لا يجزئه؛ مثل الصلاة.
وكذلك قال أبو بكر عبد العزيز: في الطواف قولان؛ أحدهما: أنه إذا طاف وهو غير طاهر أن الطواف يجزئ عنه إذا كان ناسيًا، فإذا وطئ بعد الطواف فقد تم حجه، والآخر: لا يجزئه حتى يكون طاهرًا؛ فعلى هذا يرجع من أي موضع ذكر حتى يطوف، وبه أقول.. وذكر القاضي وأصحابه والمتأخرون مِن أصحابنا المسألة على روايتين في طواف المُحْدِث مطلقًا..
ثم ذكر ابن تيمية رواية الميموني عن الإمام أحمد، وقد نقلها تلميذه ابن القيم على التمام؛ فقال في "إعلام الموقعين" (4/371-372): [قال عبد الملك الميموني في "مسائله": قلتُ لأحمد: من طاف طوافَ الواجب على غير وضوء وهو ناسٍ، ثم واقع أهله؟ قال: "أخبرك مسألة فيها وهمٌ وهم مختلفون"، وذكر قول عطاء والحسن، قلتُ: ما تقول أنت؟ قال: "دَعْها"، أو كلمةً تشبهها. وقال الميموني في "مسائله" أيضًا: قلتُ له: مَن سعَى وطاف على غير طهارة، ثم واقع أهله؟ فقال لي: "مسألةٌ الناسُ فيها مختلفون"، وذكر قول ابن عمر، وما يقول عطاء مما يسهل فيها، وما يقول الحسن، وأن عائشة رضي الله عنها قال لها النبي صلى الله عليه وآله وسلم حين حاضت: «افْعَلِي ما يَفْعَلُ الحاجُّ غيرَ أن لا تَطُوفِي بِالبَيْتِ»، ثم قال لي: "إلّا أنّ هذا أمرٌ بُلِيَتْ به، نَزَلَ عليها ليس مِن قِبَلِهَا"، قلتُ: فمِن الناس مَن يقول: عليها الحجُّ مِن قابل؟ فقال لي: "نعم؛ كذا أكبرُ عِلْمي"، قلتُ: ومِنهم مَن يذهب إلى أنّ عليها دمًا؟"، فذكر تسهيل عطاء فيها خاصةً، قال لي أبو عبد الله: "أولًا وآخرًا هي مسألةٌ مشتبهةٌ فيها موضع نَظَرٍ؛ فدعني حتى أنظرَ فيها"، قال ذلك غير مرة، ومِن الناس مَن يقول: وإن رجع إلى بلده يرجع حتى يطوف"، قلت: والنسيان؟ قال: "والنسيان أهونُ حكمًا بكثير"؛ يريد: أهون ممن يطوف على غير طهارة متعمدًا. هذا لفظ الميموني] اهـ النقل عن ابن القيم.
ثم قال الشيخ ابن تيمية: [والرواية الأولى: اختيار أصحابنا: أبي بكر، وابن أبي موسى، والقاضي وأصحابه، وقال ابن أبي موسى: إن حاضت قبل طواف الإفاضة لزم انتظارها حتى تطهر ثم تطوف، وإن حاضت بعدما أفاضت لم يجب انتظارها وجاز لها أن تنفر ولم تودع] اهـ.
وقال أيضًا في "الفتاوى الكبرى" (1/447-448، ط. دار الكتب العلمية): [وتعليل منع طواف الحائض بأنه لأجل حرمة المسجد، رأيته يعلل به بعض الحنفية؛ فإن مذهب أبي حنيفة أن الطهارة واجبة له، لا فرض فيه ولا شرط له، ولكن هذا التعليل يناسب القول بأن طواف المحدث غير محرم، وهذا مذهب منصور بن المعتمر، وحماد بن أبي سليمان، رواه أحمد عنهما.
قال عبد الله: سألت أبي عن ذلك فقال: "أحبُّ إليَّ أن يطوف بالبيت وهو متوضئ؛ لأن الطواف صلاة"، وأحمد عنه روايتان منصوصتان في الطهارة هل هي شرط في الطواف أم لا؟ وكذلك وجوب الطهارة في الطواف كلامه فيها يقتضي روايتين] اهـ.
وقال في "مجموع الفتاوى" (26/206-214) في الكلام على طواف الحائض، مرجحًا الرواية المقتضية لطواف الحائض عند العذر بلا دم عليها، ومنتصرًا للقول بأن الطهارة ليست شرطًا في الطواف: [وتنازعوا في إجزائه؛ فمذهب أبي حنيفة: يجزئها ذلك، وهو قول في مذهب أحمد؛ فإن أحمد نص في رواية على أن الجنب إذا طاف ناسيًا أجزأه ذلك؛ فمِن أصحابه مَن قصر ذلك على حال النسيان، ومنهم مَن قال: هذا يدل على أن الطهارة ليست فرضًا؛ إذ لو كانت فرضًا لما سقطت بالنسيان..
ثم إن مِن أصحابه مَن قال: هذا يدل على أن الطهارة في الطواف ليست عنده ركنا على هذه الرواية، بل واجبة تجبر بدم، وحكى هؤلاء في صحة طواف الحائض روايتين؛ إحداهما: لا يصح، والثانية: يصح وتجبره بدم. وممن ذكر هذا أبو البركات وغيره، كذلك صرح غير واحد منهم بأن هذا النزاع في الطهارة من الحيض والجنابة كمذهب أبي حنيفة. فعلى هذا القول تسقط بالعجز كسائر الواجبات.
وذكر آخرون من أصحابه عنه ثلاث روايات: رواية يجزئه الطواف مع الجنابة ناسيا ولا دم عليه، ورواية أن عليه دمًا، ورواية أنه لا يجزئه ذلك.
وبعض الناس يظن أن النزاع في مذهب أحمد إنما هو في الجنب والمحدث دون الحائض، وليس الأمر كذلك؛ بل صرح غير واحد من أصحابه بأن النزاع في الحائض وغيرها، وكلام أحمد يدل على ذلك، وتبين أنه كان متوقفا في طواف الحائض وفي طواف الجنب، وكان يذكر أقوال الصحابة والتابعين وغيرهم في ذلك..
ومعلوم أن الذي طاف على غير طهارة متعمدًا آثمٌ، وقد ذكر أحمد القولين: هل عليه دم؟ أم يرجع فيطوف؟ وذكر النزاع في ذلك، وكلامُه يبين في أن توقفه في الطائف على غير طهارة يتناول الحائض والجنب مع التعمد، ويبين أن أمر الناسي أهون بكثير، والعاجز عن الطهارة أعذر من الناسي.
وقال أبو بكر عبد العزيز في "الشافي": (باب في الطواف بالبيت غير طاهر):
قال أبو عبد الله في رواية أبي طالب: "ولا يطوف بالبيت أحدٌ إلا طاهرًا، والتطوع أيسر، ولا يقف مَشاهِدَ الحج إلا طاهرًا".
وقال في رواية محمد بن الحكم: "إذا طاف طواف الزيارة وهو ناسٍ لطهارته حتى رجع فإنه لا شيء عليه، وأختار له أن يطوف وهو طاهر، وإن وطئ فحجه ماضٍ ولا شيء عليه".
فهذا النص من أحمد صريح بأن الطهارة ليست شرطًا، وأنه لا شيء عليه إذا طاف ناسيًا لطهارته: لا دم ولا غيره، وأنه إذا وطئ بعد ذلك فحجه ماضٍ ولا شيء عليه.
كما أنه لَمّا فرق بين التطوع وغيره في الطهارة؛ فأمر بالطهارة فيه وفي سائر المناسك دل ذلك على أن الطهارة ليست شرطًا عنده؛ فقطع هنا بأنه لا شيء عليه مع النسيان.
وقال في رواية أبي طالب أيضًا: "إذا طاف بالبيت وهو غير طاهر يتوضأ ويعيد الطواف، وإذا طاف وهو جنب فإنه يغتسل ويعيد الطواف".
وقال في رواية أبي داود: حدثنا سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء: "إذا طاف على غير وضوء فليعد طوافه".
وقال أبو بكر عبد العزيز: (باب في الطواف في الثوب النجس):
قال أبو عبد الله في رواية أبي طالب: "وإذا طاف رجل في ثوب نجس فإن الحسن كان يكره أن يفعل ذلك، ولا ينبغي له أن يطوف إلا في ثوب طاهر".
وهذا الكلام من أحمد يبين أنه ليس الطواف عنده كالصلاة في شروطها؛ فإن غاية ما ذكر في الطواف في الثوب النجس أن الحسن كره ذلك، وقال: لا ينبغي له أن يطوف إلا في ثوب طاهر. ومثل هذه العبارة تقال في المستحب المؤكد، وهذا بخلاف الطهارة في الصلاة. ومذهب أبي حنيفة وغيره: أنه إذا طاف وعليه نجاسة صح طوافه ولا شيء عليه.
وبالجملة: هل يشترط للطواف شروط الصلاة؟ على قولين في مذهب أحمد وغيره:
أحدهما: يشترط كقول مالك والشافعي وغيرهما. والثاني: لا يشترط، وهذا قول أكثر السلف وهو مذهب أبي حنيفة وغيره، وهذا القول هو الصواب..
وإذا تبين أن الطهارة ليست شرطًا: يبقى الأمر دائرا بين أن تكون واجبة، وبين أن تكون سُنّةً، وهما قولان للسلف، وهما قولان في مذهب أحمد وغيره، وفي مذهب أبي حنيفة؛ لكن من يقول هي سنة من أصحاب أبي حنيفة يقول: مع ذلك عليه دم، وأما أحمد فإنه يقول: لا شيء عليه: لا دم ولا غيره؛ كما صرح به فيمن طاف جنبا وهو ناسٍ، فإذا طافت حائضا مع التعمد توجه القول بوجوب الدم عليها. وأما مع العجز فهنا غاية ما يقال: إن عليها دمًا، والأشبه أنه لا يجب الدم؛ لأن هذا واجب تؤمر به مع القدرة لا مع العجز؛ فإن لزوم الدم إنما يجب بترك مأمور وهي لم تترك مأمورًا في هذه الحالة ولم تفعل محظورا من محظورات الإحرام، وهذا ليس من محظورات الإحرام؛ فإن الطواف يفعله الحلال والحرام، فصار الحظر هنا من جنس حظر اللبث في المسجد، واعتكاف الحائض في المسجد، أو مس المصحف، أو قراءة القرآن، وهذا يجوز للحاجة بلا دم] اهـ.
ورواية محمد بن الحكم عن الإمام أحمد في إيجاب الدم على الناسي فيها ذكر جنس الدم، وهذا يقتضي أن أقل الدم، وهو الشاة، مجزئٌ؛ قال الشيخ ابن تيمية -كما في "مجموع الفتاوى" (26/221، 246)-: [وأما أحمد فأوجب دمًا ولم يعين بدنة.. وعند أحمد دمٌ؛ وهي شاة] اهـ.
وقد وافقه تلميذه ابن القيم الحنبلي على اعتماد الرواية التي تقتضي صحة طواف الحائض إذا لم يمكنها الاحتباس في مكة حتى تطهر، من غير إثم ولا دم، وذلك حتى لو جعلنا الطهارة شرطًا لصحة الطواف؛ لأنه يسقط عند العجز عنه كما في التيمم وصلاة فاقد الطهورين، واستفاض في الاستدلال لذلك والاحتجاج له، وجعله مثالا على ما يتغير من الفتوى بتغير الزمان والمكان والأحوال؛ فقال في "إعلام الموقعين عن رب العالمين" (4/359، ط. دار ابن الجوزي): [هذا الذي قالوه متوجه فيمن أمكنها الطواف ولم تطف، والكلام في امرأة لا يمكنها الطواف ولا المقام لأجله، وكلام الأئمة والفقهاء هو مطلق كما يتكلمون في نظائره، ولم يتعرضوا لمثل هذه الصور التي عمت بها البلوى، ولم يكن ذلك في زمن الأئمة، بل قد ذكروا أن المكري يلزمه المقام والاحتباس عليها لتطهر ثم تطوف، فإنه كان ممكنا -بل واقعًا- في زمنهم، فأفتوا بأنها لا تطوف حتى تطهر؛ لتمكنها من ذلك، وهذا لا نزاع فيه ولا إشكال، فأما في هذه الأزمان فغير ممكن] اهـ. ثم قال (4/376-377): [كلام الأئمة وفتاويهم في الاشتراط أو الوجوب إنما هو في حال القدرة والسعة، لا في حال الضرورة والعجز؛ فالإفتاء بها لا ينافي نص الشارع ولا قول الأئمة، وغاية المفتي بها: أن يقيد مطلق كلام الشارع بقواعد شريعته وأصولها، ومطلق كلام الأئمة بقواعدهم وأصولهم؛ فالمفتي بها موافق لأصول الشرع وقواعده ولقواعد الأئمة] اهـ.
وأمّا الاستدلال على المنع بحديث: «لَا أُحِلُّ الْمَسْجِدَ لِحَائِضٍ وَلَا جُنُبٍ»: فالجواب عنه عند القائلين بجواز طوافها: أنه مجمل قد خُصَّ منه إباحةُ المرور للحاجة والعذر باتفاق العلماء، وطواف الحائض كمرورها في المسجد، بل الطواف أولى؛ لأن المرور جائز عند بعض العلماء من غير ضرورة، بل أجاز لها جماعة من العلماء المكث في المسجد أيضًا إذا أمنت التلويث، وطواف الحائض إنما هو للضرورة، فإذا أمنت التلويث ارتفعت الحرمة والكراهة؛ كما في المستحاضة.
قال الشيخ ابن القيم الحنبلي في "إعلام الموقعين" (3/24، ط. دار الكتب العلمية): [طوافُها بمنزلة مرورها في المسجد، ويجوز للحائض المرور فيه إذا أمنت التلويث، وهي في دورانها حول البيت بمنزلة مرورها ودخولها من باب وخروجها من آخر؛ فإذا جاز مرورها للحاجة فطوافها للحاجة -التي هي أعظم من حاجة المرور- أولى بالجواز] اهـ.
ولم ينفرد الشيخ ابن تيمية وتلميذه ابن القيم من بين الحنابلة بترجيح هذه الرواية والفتوى بها كما يُفهَم من كلام العلامة ابن حجر الهيتمي الشافعي ومَنْعِه مِن الأخذ بذلك فيما سبق؛ بل أخذ بها جماعةٌ من كبار الحنابلة وأئمتهم؛ كالإمامين الحنبليين البغداديَّيْن: سراج الدين أبي عبد الله الحسين بن أبي السَّرِيِّ الدُّجَيْلِي [ت732هـ]، وشيخه تقي الدين أبي بكر عبد الله بن محمد الزَّرِيرَاني [ت729هـ]؛ حيث نص الإمام الدُّجَيْليُّ على أن الطهارة سُنّةٌ في الطواف، وهذا يقتضي جواز طواف الحائض عند الضرورة من غير إيجاب دم عليها؛ فقال في كتابه "الوجيز" عند ذكر الطواف -كما في "فتح الملك العزيز بشرح الوجيز" (3/533، ط. دار خضر)-: [والطهارة والستارة والموالاة سُنّةٌ فيه] اهـ.
وكتاب "الوجيز" هذا من كُتُب الفتوى المعتمدة في المذهب الحنبلي، وقد قال فيه مصنفُه (1/117): [جمعتُه وجيزًا قولًا واحدًا مختارًا؛ من ترجيح الروايات المنصوصة عنه المعنعنة المتداولة] اهـ، قال شارحُه العلامة العلاء بن البهاء البغدادي الحنبلي في "فتح الملك العزيز" (1/118): [اعلم أن المصنف رحمه الله تعالى ذكر أنه بنى كتابه على الروايات المنصوصة عن الإمام أحمد، الثابتة عنه، التي تداولها الأصحاب وذهبوا إليها، وجعله رواية واحدة، وأنه المذهب، وأنه لم يعول في الترجيح إلّا على ما ذكر، لا على دليل آخر، بخلاف غيره من الأصحاب] اهـ.
وهذا الكتاب قد عرضه مصنفُه على شيخه الإمام تقي الدين أبي بكر الزريراني فهذّبه له واعتمد الفتوى بما فيه، وأنه هو المذهب؛ إذ يقول المصنف (1/118): [وعرضتُه مرارًا على شيخنا الإمام العلامة والحبر الفهامة، نسيج وحده، وفريد عصره، مفتي الفرق؛ تقي الدين أبي بكر عبد الله الزريراني، عضد الله الإسلام بحياته المتواصلة، وقضاياه القاطعة الفاصلة، فهذبه وأملى عليه فيه من فيه مسائل منصوصة عن الإمام، صارت أحكام الكتاب بها كاملة، وأجاز الإفتاء بحكمه، وأنه المذهب، فالتاطت به طلاة طائلة] اهـ.
والشيخ الإمام تقي الدين الزريراني البغدادي الحنبلي هذا كان شيخ الحنابلة ومفتيهم في العراق في زمنه؛ حتى ترجمه الإمام العلامة الحافظ زين الدين بن رجب الحنبلي في "ذيل طبقات الحنابلة" (5/1-6، ط. مكتبة العبيكان) بقوله: [الإمام فقيه العِراق ومفتي الآفاق.. وبرع فِي الفقه وأصوله، ومعرفة المذهب والخلاف.. وانتهت إليه معرفةُ الفقه بالعراق، ومن محفوظاته فِي المذهب: كتاب "الخرقي" و"الهداية" لأبي الْخَطَّاب، وذكر أَنَّهُ طالع "المغنى" للشيخ موفق الدين ثلاثًا وعشرين مرة، وَكَانَ يستحضر كثيرًا منه أو أكثرَه، وعلَّق عَلَيْهِ حواشيَ وفوائد، ووَلِيَ القضاء، ودرّس بالبشيرية ثم بالمستنصرية واستمر فيها إلى حين وفاته، وَلَهُ اليد الطُّولَى فِي المناظرة والبحث، وكثرة النقل، ومعرفة مذاهب النَّاس، وانتهت إِلَيْهِ رياسة العلم ببغداد مِن غَيْر مدافِع، وأقر له الموافق والمخالف، وَكَانَ الفُقَهَاء من سائر الطوائف يجتمعون بِهِ، يستفيدون منه فِي مذاهبهم، ويتأدبون مَعَهُ، ويرجعون إِلَى قَوْله ونقله لمذاهبهم، ويردهم عَن فتاويهم، فيذعنون لَهُ ويرجعون إِلَى مَا يقوله، ويعترفون لَهُ بإفادتهم فِي مذاهبهم، حَتَّى ابْن المطهر شيخ الشيعة: كَانَ الشيخ تقي الدين يبين لَهُ خطأه فِي نقله لمذهب الشيعة فيذعن لَهُ، وَقَالَ لَهُ مرة بَعْض أئمة الشَّافِعِية -وَقَدْ بحث مَعَهُ-: "أَنْتَ اليوم شيخ الطوائف ببغداد"، وَقَالَ العلامة الشيخ شمس الدين البرزالي والد الشيخ شمس الدين مدرس المستنصرية: "مَا درَّس أحد بالمستنصرية منذ فُتِحَتْ إِلى الآن أفقه منه"، ويوم وفاته قال الشيخ شهاب الدين عبد الرحمن بن عسكر شيخ المالكية: "لَمْ يبقَ ببغداد مَن يُراجَع فِي علوم الدين مثله". قرأ عَلَيْهِ جَمَاعَة من الْفُقَهَاء، وتخرج بِهِ أئمة] اهـ.
واعتماد الإمام التقي الزريراني كتابَ "الوجيز" مرجعًا للفتوى، وترجيحًا لروايات المذهب الحنبلي، مع كونه فقيهَ العراق ومفتيَ الآفاق، ومَن انتهت إليه معرفة الفقه ورياسة العلم في عصره ومصره: يقتضي أن المدرسة الحنبلية البغدادية كانت تعتمد مِن روايات المذهب كونَ الطهارة سُنّةً في الطواف، وتُفتِي بذلك في تلك الحقبة الزمنية مِن القرن الثامن الهجري على الأقل. وبذلك يندفع القول بانفراد ابن تيمية وابن القيم الحنبليين عن الحنابلة في تصحيح طواف الحائض للعذر مع عدم إيجاب الدم عليها، ويثبت كون ذلك روايةً صحيحة الورود عن صاحب المذهب رحمه الله تعالى، وأنه قد رجّحها وعمل بها جماعةٌ مِن أئمة الحنابلة؛ ممن يُرجَع إليهم ويُعَوَّل عليهم في الترجيح والفتوى في المذهب، وصح بذلك جواز تقليد هذه الرواية والفتوى والعمل بها.
وبناءً على ذلك: فإذا حاضت الحاجّة قبل طوافها الإفاضة، أو المعتمرة عمرةً مستقلة قبل طواف عمرتها، فإن لها أن تتحين وقت انقطاع دمها خلال الحيض أو تأخذ دواءً يمنع نزول الدم بما يسع زمن الطواف، ثم تغتسل وتطوف في فترة النقاء؛ أخذًا بقول التلفيق الذي يجعل النقاء بين الدمين في الحيض طهرًا؛ كما هو مذهب المالكية والحنابلة وقولٌ للشافعية، فإن لم تفعل ولم ينقطع دمها، ولم يمكنها الانتظار حتى تطهر؛ لعذر من الأعذار التي لا مناص منها، فالأحوط لها؛ كما يقول الشافعية، والذي يقتضيه يسر الشريعة؛ كما يقول المالكية، وهو الذي عليه العمل والفتوى: أن تقلد الحنفية في القول بصحة طواف الحائض؛ فيجوز لها حينئذٍ أن تُقْدِمَ على الطواف وتهجم عليه بعد أن تشد على نفسها ما تأمن به مِن تلويث الحرم، ولا إثم عليها؛ لأنها معذورة بما لا يدَ لها فيه ولا اختيار، ويستحبُّ لها أن تذبح بدنة؛ خروجًا من خلاف مَن أوجبها مِن الحنفية، وإلّا فلتذبح شاة؛ كما هو عند الحنابلة في رواية، فإن شق عليها ذلك فلا حرج عليها ألّا تذبح أصلًا؛ أخذًا بما ورد عن السيدة عائشة رضي الله عنها وجماعة من السلف، واختاره مَن قال مِن الفقهاء إن الطهارة للطواف سُنّة، أو هو واجب تسقط المؤاخذة به عند العذر، وهو رواية عن الإمام أحمد أفتى بها جمعٌ مِن أهل مذهبه.
 ثانيًا: وأما دخول الحائض للمسجد النبوي للزيارة والسلام على النبي صلى الله عليه وآله وسلم: فالذي عليه جمهور الفقهاء: أنه لا يجوز للحائض المكث في المسجد، وأجازوا لها المرور داخله إذا أمنت تلويثه، واتفقوا على جواز مرورها فيه للضرورة والحاجة:
قال الإمام الخطابي الشافعي في "معالم السنن" (1/77، ط. المطبعة العلمية):
[وقد اختلف العلماء في ذلك؛ فقال أصحاب الرأي: لا يدخل الجنب المسجد إلّا بأحد الطهرين، وهو قول سفيان الثوري، فإن كان مسافرًا ومر على مسجد فيه عين ماء تيمم بالصعيد ثم دخل المسجد واستقى، وقال مالك والشافعي: ليس له أن يقعد في المسجد، وله أن يمر فيه عابرَ سبيل، وتأول الشافعي قوله تعالى ﴿لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا﴾ [النساء: 43] على أن المراد به: المسجد؛ وهو موضع الصلاة، وعلى هذا تأوله أبو عبيدة معمر بن المثنى، وكان أحمد بن حنبل وجماعة من أهل الظاهر يجيزون للجنب دخول المسجد، إلّا أن أحمد كان يستحب له أن يتوضأ] اهـ.
وقال الإمام حجة الإسلام أبو حامد الغزالي الشافعي في "الوسيط في المذهب" (2/185، ط. دار السلام): [شرط المكث في المسجد عدم الجنابة؛ فيجوز للمحدث المكث وللجنب العبور، ولا يلزمه في العبور انتحاء أقرب الطرق، وليس له التردد في حافات المسجد من غير غرض، وليس للحائض العبور عند خوف التلويث وكذا من به جراحة نضاخة بالدم، فإن أمنت التلويث فوجهان؛ لغلظ حكم الحيض] اهـ.
وقال الإمام النووي الشافعي في "المجموع شرح المهذب" (2/162، ط. دار الفكر): [الأصح جواز عبورها إذا أمنت التلويث. والله أعلم]. وقال (2/358): [أما عبورها بغير لبث فقال الشافعي رضي الله عنه في "المختصر": أكره ممر الحائض في المسجد. قال أصحابنا: إن خافت تلويثه -لعدم الاستيثاق بالشد، أو لغلبة الدم- حرم العبور بلا خلاف، وإن أمنت ذلك فوجهان: الصحيح منهما جوازه، وهو قول ابن سريج وأبي إسحاق المروزي، وبه قطع المصنف والبندنيجي وكثيرون، وصححه جمهور الباقين؛ كالجنب، وكمن على بدنه نجاسة لا يخاف تلويثه. وانفرد إمام الحرمين فصحح تحريم العبور وإن أمنت؛ لغلظ حدثها، بخلاف الجنب. والمذهب الأول] اهـ.
وقال الإمام البيجوري في "حاشيته على شرح العلامة ابن قاسم الغزي على متن الشيخ أبي شجاع" (1/148-149): [متى خافت التلويث حرم عليها الدخول، وإن لم يوجد التلويث لقلَّة الدم، والمراد بالخوف: ما يشمل التوهُّم، فإن لم تخف تلويثه -بل أمنته- لم يَحرُم، بل يكره لها حينئذٍ، وهو خلاف الأَوْلى للجنب، إلا لعذرٍ فيهما، فتنتفي الكراهةُ لها، وكونُه خلافَ الأَوْلى للجنب للعذر، ومثلها كل ذي نجاسة؛ فإن خاف تلويث المسجد حرم، وإلا كره، إلا لحاجة] اهـ.
على أن من العلماء من قال بجواز مكث الحائض في المسجد إذا أمنت التلويث، وإن كان هذا خلاف ما عليه الجمهور؛ فقد قال بذلك من التابعين: الحسن وابن سيرين؛ فقد أخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه" عَنِ الْحَسَنِ وَابْنِ سِيرِينَ، أَنَّهُمَا قَالَا: «لَا بَأْسَ أَنْ يَرُشَّ الْجُنُبُ وَالْحَائِضُ الْمَسْجِدَ». وهو رواية عن الإمام أحمد، وقول أهل الظاهر.
قال الإمام البغوي في "تفسيره" (1/628، ط. دار إحياء التراث العربي): [وجوَّز أحمد المكث فيه، .. وبه قال المزني] اهـ.
وقال الحافظ ابن رجب الحنبلي في "فتح الباري" (2/112، ط. مكتبة الغرباء الأثرية) في حكم دخول الحائض المسجد إذا توضأت: [ونص أحمد على أنها لو توضأت وهي حائض لم يَجُزْ لها الجلوس في المسجد؛ بخلاف الجنب، وفيه وجه: يجوز إذا أمنت تلويثه] اهـ.
وقال الشيخ مغلطاي في "شرح ابن ماجه" (1/880، ط. مكتبة نزار مصطفى الباز): [ورخّص في المرور ابن مسعود وابن عبّاس وابن المسيّب وابن جبير، وهذا هو الملجا لأهل الظاهر بأن جوّزوا لهما دخول المسجد وكذلك النفساء، قال أبو محمد؛ لأنه لم يأت نهي عن شيء من ذلك.. ، وقال أحمد وإسحاق: الجنب إذا توضأ لا بأس أن يجلس في المسجد] اهـ.
وقال الإمام بدر الدين العيني في "البناية شرح الهداية" (1/642-643، ط. دار الكتب العلمية): [وعن أحمد: له المكث فيه إن توضأ وهو خلاف قول الجمهور، ولأنه لا أثر للوضوء في الجنابة لعدم تحريكها اتفاقا. وعن الحسن البصري، وابن المسيب، وابن جبير، وابن دينار، مثل قول الشافعي رضي الله عنه –أيْ: في جواز المرور-، وقول المزني، وداود، وابن المنذر: يجوز له المكث فيه مطلقا، ومثله عن زيد بن أسلم واعتبروه بالشرك بل أولى، وتعلقوا بقوله عليه الصلاة والسلام: «الْمُؤْمِنُ لَا يَنْجُسُ»] اهـ.
والزيارة النبوية هي من أعظم القربات وآكد المستحبات، وحاجة الحجاج إليها متأكدة؛ فإنهم يقطعون المسافات الطوال قصدًا لزيارة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والسلام عليه؛ امتثالًا لِمَا ورد من الأحاديث النبوية الشريفة في استحباب زيارة قبره الشريف صلى الله عليه وآله وسلم، وأن ذلك مستوجبٌ لشفاعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لزائره، وأن مِن الجفاء أن يحج الإنسان دون أن يزور قبره الشريف صلى الله عليه وآله وسلم، وقد صححها جمع من الحُفّاظ.
ودخول المسجد النبوي لزيارة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والسلام عليه هو بمنزلة المرور الجائز، وقد نص بعض الفقهاء على أن طواف الحائض المعذورة هو بمنزلة المرور الجائز في المسجد، ولا شك أن الزيارة النبوية حينئذ أولى بالجواز من الطواف:
قال الشيخ ابن القيم الحنبلي في "إعلام الموقعين" (3/24، ط. دار الكتب العلمية): [طوافُها بمنزلة مرورها في المسجد، ويجوز للحائض المرور فيه إذا أمنت التلويث، وهي في دورانها حول البيت بمنزلة مرورها ودخولها من باب وخروجها من آخر؛ فإذا جاز مرورها للحاجة فطوافها للحاجة التي هي أعظم من حاجة المرور أولى بالجواز.] اهـ.
وبناءً على ذلك: فيمكن للحائض أن تتحين فترات انقطاع حيضها، وتقلد المذهب القائل بأن النقاء في الحيض طهر؛ وهو قول المالكية والحنابلة وقول للإمام الشافعي يُعرَف بقول "التلفيق" ورجحه بعض الشافعية، ثم تغتسل وتزور النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتسلم عليه، فإن لم ينقطع دمها وخشيت فوات الرفقة قبل انقطاع حيضها فلا مانع من أن تزور وتسلم وهي حائض إذا أَمِنَت التلويث بما تتحفظ به؛ فإن ذلك بمنزلة مرورها الجائز في المسجد، ولها أن تتناول دواءً يمنع نزول الدم وذلك باستشارة أهل الطب.والله سبحانه وتعالى أعلم
 

اقرأ أيضا

أداء العمرة للحائض

اطلعنا على البريد الوارد المقيد برقم 290 لسنة 2012م، والمتضمن:
السؤال الأول: إذا سافرت المرأة للحج أو العمرة فما هو الحكم إذا جاءتها الدورة الشهرية قبل أداء طواف الإفاضة بالنسبة للحج أو طواف العمرة بالنسبة للعمرة، وما الحل لو جاءتها الدورة الشهرية قبل ذلك؛ يوم السفر وقبل الإحرام، أو بعد الإحرام بقليل؟ علمًا بأنها يتعذر عليها الانتظار حتى تطهر؛ لأنها مرتبطة بمواعيد السفر والفوج الذين معها.
السؤال الثاني: لو أتاها الحيض في يوم السفر إلى المدينة المنورة -وتعلمون فضيلتكم أن مدة الإقامة في المدينة لا تزيد على خمسة أو ستة أيام؛ وهي مدة حيضها- هل تُمنع من دخول المسجد النبوي أم تذهب لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم والسلام عليه؟

أولًا: أما طواف الحائض: فقد اتفق الفقهاء على أن الحيض والنفاس ليسا من موانع الإحرام، ولا يترتب عليهما فساد الحج أو العمرة إن حصلا خلالهما، ولا يمنعان شيئًا من أعمال الحج والعمرة إلا الطواف على ما يأتي فيه من الخلاف؛ لحديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قدمتُ مكة وأنا حائضٌ لم أطف بالبيت ولا بين الصفا والمروة، فشكوت ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: «افْعَلِي مَا يَفْعَلُ الْحَاجُّ، غَيْرَ أَلَّا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ حَتَّى تَطَّهَّرِي» متفق عليه، وروى الإمام أحمد في "المسند"، وأبو داود في "السنن"، والترمذي في "جامعه" وحسّنه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «النُّفَسَاءُ وَالْحَائِضُ إِذَا أَتَتَا عَلَى الْوَقْتِ تَغْتَسِلانِ وَتُحْرِمَانِ، وَتَقْضِيَانِ الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا، غَيْرَ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ». كما أنهم اتفقوا على أن المرأة إذا حاضت قبل طواف الركن في الحج أو العمرة وأمكنها الانتظار فعليها أن تنتظر لتطوف على طهارة.
قال الشيخ ابن تيمية الحنبلي -كما في "مجموع الفتاوى" (26/205-206، ط. مجمع الملك فهد)-: [الذي لا أعلم فيه نزاعًا: أنه ليس لها أن تطوف مع الحيض إذا كانت قادرة على الطواف مع الطُّهر؛ فما أعلم منازعًا أن ذلك يحرم عليها وتأثم به] اهـ.
وانتظار الرفقة للحائض حتى تطهر فتطوف أمرٌ مشروع ومستحبٌّ جاءت به السنة النبوية الشريفة؛ فروى البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: حاضتْ صفِيَّةُ بِنت حُيَيٍّ بعدما أفاضت، فذكرْتُ حَيْضَتَها لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: «أَحَابِسَتُنَا هِيَ؟» فقُلْتُ: يا رسول الله، إنها قد كانت أفاضت وطافت بالبيت، ثم حاضت بعد الإفاضة، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «فَلْتَنْفِرْ».
وروى عبد الرزاق وابن أبي شيبة في "مصنفيهما" عن إبراهيم النخعي وأبي هريرة رضي الله عنه موقوفًا قالا: "أَمِيرَانِ وَلَيْسَا بِأَمِيرَيْنِ: الرَّجُلُ يَكُونُ مَعَ الْجِنَازَةِ فَصَلَّى عَلَيْهَا فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ حَتَّى يَسْتَأْذِنَ وَلِيَّهَا، وَالْمَرْأَةُ الْحَائِضُ لَيْسَ لِأَصْحَابِهَا أَنْ يَصْدُرُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوا"، وفي لفظ لأبي هريرة رضي الله عنه عند ابن أبي شيبة: "وَالْمَرْأَةُ تَكُونُ مَعَ الْقَوْمِ فَتَحِيضُ قَبْلَ أَنْ تَطُوفَ بِالْبَيْتِ يَوْمَ النَّحْرِ لَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَنْفِرُوا إِلَّا بِإِذْنِهَا"، ورواه ابن أبي شيبة عن عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما موقوفًا، ويُروَى مرفوعًا من حديث أبي هريرة وجابر رضي الله عنهما بأسانيد فيها مقال.
غير أن انتظار الرفقة للحائض منوط بالإمكان والاستطاعة، فإذا تعذر ذلك أو تعسر فشأنه شأن الأوامر الشرعية التي تسقط عند العجز عنها؛ قال الشيخ ابن تيمية -كما في "مجموع الفتاوى" (26/224)-: [ولما كانت الطرقات آمنة في زمن السلف، والناس يَرِدُون مكةَ ويَصْدُرون عنها في أيام العام، كانت المرأة يمكنها أن تحتبس هي وذو محرمها ومَكَارِيُّها حتى تطهر ثم تطوف؛ فكان العلماء يأمرون بذلك. وربما أمروا الأمير أن يحتبس لأجل الحُيَّضِ حتى يطهرن؛ كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «أَحَابِسَتُنَا هِيَ؟»..
وأما هذه الأوقات فكثير من النساء -أو أكثرهن- لا يُمكنهنَّ الاحتباسُ بعد الوفد، والوفد ينفر بعد التشريق بيوم أو يومين أو ثلاثة، وتكون هي قد حاضت ليلة النحر؛ فلا تطهر إلى سبعة أيام أو أكثر، وهي لا يمكنها أن تقيم بمكة حتى تطهر؛ إما لعدم النفقة، أو لعدم الرفقة التي تقيم معها وترجع معها.. أو لخوف الضرر على نفسها ومالِها في المُقام وفي الرجوع بعد الوفد، والرفقة التي معها: تارة لا يمكنهم الاحتباس لأجلها؛ إما لعدم القدرة على المُقام والرجوع وحدهم، وإما لخوف الضرر على أنفسهم وأموالهم، وتارة يمكنهم ذلك لكن لا يفعلونه؛ فتبقى هي معذورة] اهـ.
والطهارة من الحيض والنفاس شرط لصحة الطواف دون السعي عند جمهور الفقهاء؛ مستدلين بحديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها السابق ذكرُه؛ فإن فيه نهيًا للحائض عن الطواف حتى ينقطع دمها وتغتسل، والنهيُ في العبادات يقتضي الفساد، ولذلك يبطل الطواف لو فعلَتْه.
وخالف في اشتراط الطهارة للطواف جماعةٌ مِن الفقهاء؛ فحملوا النهي في الحديث على الحالة المعتادة التي تستطيع فيها الحائض الانتظار حتى تطهر وتطوف، لا على حال الضرورة، وجعلوا الطهارة في الطواف واجبًا لا شرطًا؛ وهو مذهب الحنفية، وقول عند الحنابلة، ومنهم مَن جعلها سُنّة؛ وهو مذهب جماعة مِن التابعين، وقول عند الحنفية والمالكية والحنابلة.
فتُحْرِم الحائض أو النفساء بالحج أو بالعمرة من ميقات إحرامها وتنتظر على مذهب الجماهير حتى تطهر؛ سواء أتاها الحيض قبل الإحرام أم أثناءه أم بعده وقبل الطواف، فإذا طهرت اغتسلت ثم طافت وسعت من غير أن تحرم مرة أخرى من الحِلِّ.
فإن تخلل حيضها فترة انقطع فيها الدم، أو استعملت دواءً فانقطع دمُها: جاز لها الاغتسال والطواف، وطوافها صحيح حتى لو رجع إليها الدم بعد ذلك وكانت في مدة الحيض؛ على ما عليه المالكية والحنابلة مِن أن النقاءَ في الحيض طُهْر، وهو أحد قولي الإمام الشافعي ويُعرَف بقول "التلفيق"، ورجحه جماعة من الشافعية، وهو مذهب الإمام الحسن بن أبي الحسن البصري.
فإن تأخر طهرُها ولم ينقطع دمُ حيضها وخافت فوات الرُّفقة، وتعذر عليها الانتظارُ حتى تطهر: فالذي يقتضيه مذهب مَن يرى الطهارة شرطًا في الطواف: أنها تتحلل من إحرامها كالمُحصَر، وتذبح إن لم تكن قد اشترطت إحلالها إذا حُبِسَتْ، ويبقى الطواف في ذمتها ولو بعد سنين، وبعضهم يوجب عليها المكث بمكة حتى تطهر فتطوف، ولا يخفى ما في ذلك كلِّه مِن العسر والمشقة، سيّما إذا نأتِ الديار وبَعُدَت الشُّقّةُ، أو ضاق الحالُ وعزَّت النفقة، وقد أصبح الحج كالفرصة التي يندر تكرارها لعامّة الناس.
والذي عليه جماهير المحققين وكثيرٌ مِن فقهاء المذاهب وعليه العمل والفتوى: صحّةُ طوافِها حالَ حيضها حينئذٍ؛ لأن المشقة تجلب التيسير، وإذا ضاق الأمر اتسع.
- ثم منهم مَن يُلزِمُها بشاة عن طواف العمرة وبدنة عن طواف الإفاضة في الحج، وهم الحنفية في المعتمد؛ بناءً على أن ترك الطهارة يُجْبَرُ بدمٍ؛ لأنها مِن واجبات الطواف لا مِن شروطه، ويروي الحنفية هذا القولَ عن ابن عباس رضي الله عنهما، وذكره الإمام أبو يعقوب الأبيوردي وجهًا في مذهب الشافعي في طواف الوداع، وإن لم يعتمده الشافعية، وهو رواية عن الإمام أحمد، ونص المالكية على تقليده وأن الأخذ به هو مقتضَى يسر الدين، ونص الشافعية على أنه هو الأحوط.
- ومنهم مَن لا يُلزمها بدمٍ أصلًا:
1. إمّا لأنها معذورة؛ كما هو مرويٌّ عن السيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، وقد نقله عنها عطاء بن أبي رباح وهو أعلم التابعين بالمناسك، وهو مقتضى قول عطاء بن أبي رباح وإبراهيم النخعي في تصحيحهما الطواف إذا حاضت المرأة أثناءه، وقول الحكم بن عُتَيْبة، وحماد بن أبي سليمان، ومنصور بن المعتمر، وسليمان الأعمش؛ كما نقله عنهم إمام المحدِّثين شعبة بن الحجّاج، وهو المُفتَى به عند السادة المالكية تخريجًا على ما رواه البصريون عن الإمام مالك في جعله طواف القدوم بدلًا عن طواف الإفاضة لمن سافر لبلده ونسيه، وهو مرويٌّ عن الإمام أحمد واختاره الشيخ ابن تيمية وتلميذه ابن القيم الحنبليان وبعض أئمة الحنابلة.
2. وإما لأن الطهارة في الطواف سنة لا واجب؛ وهو قول الإمام محمد بن شُجَاع الثلجي مِن أئمة الحنفية، وقول الإمام المغيرة بن عبد الرحمن المخزومي؛ فقيه أهل المدينة بعد الإمام مالك، ورواية عن الإمام أحمد. غير أنّ مِن الفقهاء مَن لا يجعل القولَ بسُنِّيّة الطهارة مسقطًا للزوم الدم.
وقد وردت الآثار عن السلف بصحة طواف الحائض: 
فجاء ذلك عن جماعة من الصحابة؛ منهم: عائشة أم المؤمنين، وابن عمر، وابن عباس رضي الله عنهم:
- فقال سعيد بن منصور: حدثنا أبو عوانة، عن أبي بشر، عن عطاء، قال: "حاضت امرأةٌ وهي تطوف مع عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، فأتمَّت بها عائشةُ بقيةَ طوافِها". ذكره ابن حزم في "المحلَّى" (5/189، ط. دار الفكر)، وابن القيم في "إعلام الموقعين" (4/372، ط. دار ابن الجوزي) واللفظ لهما، وابن جماعة في "هداية السالك" (3/917)، والزيلعي في "نصب الراية" (3/128، ط. مؤسسة الريان)، ولفظه عندهما: "فأتمَّت بها عائشةُ سُنّة طوافها".
قال الإمام ابن حزم عقب ذكره: [فهذه أم المؤمنين لم تر الطهارة مِن شروط الطواف] اهـ.
وقال العلامة الكمال بن الهمام الحنفي في "فتح القدير" (2/244، ط. المطبعة الأميرية ببولاق 1315هـ): [وهذا يؤيد انتفاء الاشتراط] اهـ بتصرف.
وهذا إسناد مسلسَل بالأئمة الأثبات الثقات؛ فأبو عوانة: هو الوضّاح بن عبد الله اليشكري؛ الإمام الحافظ محدِّث البصرة، وأبو بشر: هو جعفرُ بن أبي وحشيةَ إياسٍ الواسطيُّ؛ تابعي من رجال الصحيحين، وثقه جماعة من الأئمة، وعطاء: هو ابن أبي رباح؛ مفتي أهل مكة، وأعلم التابعين بالمناسك، حتى قال الإمام محمد الباقر رضي الله عنه -فيما أخرجه ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" (6/330، ط. دار إحياء التراث العربي)-: "ما بقي أحدٌ مِن الناس أعلم بأمرِ الحج مِن عطاء"، وقد سمع عطاءٌ مِن عائشة رضي الله عنها؛ كما قال الإمام أحمد -فيما رواه عنه حرب في "مسائله" (3/1314، ط. جامعة أم القرى)-، ويحيى بن معين، وأبو حاتم وأبو زرعة الرازيان -كما في "الجرح والتعديل" (6/330)-، وحديثه عنها مُخرَّج في الصحيحين والمسانيد والسنن.
- ونقل الإمام أحمد عن عبد الله بن عُمَر رضي الله عنهما التسهيلَ والتيسيرَ على مَن طاف للإفاضة على غير طهارة ثم جامع أهله، ذكره أبو بكر عبد العزيز في كتاب "الشافي" من رواية عبد الملك الميموني عن أحمد، وأنه قال: "هذه مسألة الناس فيها مختلفون"، وذكَر قولَ ابن عمر وما يقول عطاء وما يسهل فيه، وما يقول الحسن. وهذا يقتضي عدم اشتراط الطهارة في الطواف، وقد نقل ذلك ابنُ تيمية -كما في "مجموع الفتاوى" (26/207-208)- ثم قال: [وجواب أحمد المذكور يبين أن النزاع عنده في طواف الحائض وغيره، وقد ذَكَرَ عن ابن عمر وعطاء وغيرِهما التسهيلَ في هذا] اهـ.
- ونقَل فقهاء الحنفية عن حبر الأُمّة سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنّه أوجب بدَنَةً على مَن طاف وهو جنب، وهذا يقتضي تصحيح طوافه، والحائض كالجنب، بل هي أَوْلَى؛ لأن العذر في حقها أشد:
قال الإمام السرخسي الحنفي في "المبسوط" (4/39، ط. دار المعرفة): [وهو مرويٌّ عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: البدنة في الحج تجب في شيئين: على مَن طاف جُنُبًا، وعلى مَن جامع بعد الوقوف، وإن أعاد طوافه سقطت عنه البدنة] اهـ.
وقال الإمام الكاساني في "بدائع الصنائع" (2/217، ط. دار الكتب العلمية): [رُوِيَ عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: البدنة في الحج في موضعين أحدهما: إذا طاف للزيارة جنبًا ورجع إلى أهله ولم يعد، والثاني: إذا جامع بعد الوقوف] اهـ.
ونقله بمعناه الإمام المرغيناني في "الهداية" (1/161، ط. دار إحياء التراث العربي) فقال: [(ولو طاف طواف الزيارة محدثًا فعليه شاة) لأنه أدخل النقص في الركن فكان أفحش من الأول، فيجبر بالدم (وإن كان جنبا فعليه بدنةٌ) كذا رُوِيَ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما] اهـ.
وقال الشيخ ابن تيمية كما في "مجموع الفتاوى" (26/126، ط. مجمع الملك فهد): [ونقَل بعضُ الفقهاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: "إذا طاف بالبيت وهو جُنُبٌ عليه دمٌ"] اهـ.
قال الحافظ الزيلعي في "نصب الراية" (3/128، ط. دار الريان): [غريب] اهـ، وقال الحافظ ابن حجر في "الدراية في تخريج أحاديث الهداية" (2/41، ط. دار المعرفة): [لم أجده] اهـ.
 ورُوِيَ ذلك أيضًا عن جماعة من التابعين، ومَن بعدهم:
فروى الإمام أبو بكر بن أبي شيبة في "المصنف" عن غندر، عن شعبة قال: سألتُ الحكَمَ، وحمّادًا، ومنصورًا، وسليمانَ، عن الرجل يطوف بالبيت على غير طهارة، «فلم يروا به بأسًا». وسقط اسم "الحكَم" من مطبوعة "المصنَّف"، وهي ثابتة في "فتح الباري" للحافظ ابن حجر (3/505، ط. دار المعرفة) و"طرح التثريب" للحافظ أبي زرعة العراقي (5/120، ط. دار الفكر العربي).
ونقل الحافظ أبو عمر بن عبد البر ذلك عن إبراهيم النخعي أيضًا؛ كما في كتابه "الاستذكار" (4/207، ط. دار الكتب العلمية).
وورد عن عطاء وإبراهيم أيضًا الاعتدادُ بطواف الحائض إذا جاءها الحيض أثناء الطواف:
فروى ابن أبي شيبة في "المصنف" من طريق ليث، عن عطاء بن أبي رباح قال: "إذا طافت المرأة ثلاثة أطواف فصاعدًا ثم حاضت، أجزأ عنها"، وفي لفظ آخر من طريق حجاج، عن عطاء: "تستقبل الطواف أحبُّ إلي، وإن فعلَتْ فلا بأس به". ورَوَى أيضًا عن إبراهيم النخعي في المرأة تطوف ثلاثة أشواط ثم تحيض، قال: "يُعتَدُّ به".
قال الشيخ ابن تيمية -كما في "مجموع الفتاوى" (26/208)-: [وهذا صريح عن عطاء أن الطهارة من الحيض ليست شرطًا، وقولُه مما اعتَدَّ به أحمدُ] اهـ.
وقال تلميذه الشيخ ابن القيم الحنبلي في "إعلام الموقعين" (4/372): [وأشار أحمد إلى تسهيل عطاء إلى فتواه أن المرأة إذا حاضت في أثناء الطواف فإنها تتم طوافها، وهذا تصريح منه أن الطهارة ليست شرطًا في صحة الطواف] اهـ.
وأفتى الإمام الحسن بن أبي الحسن البصري المرأةَ الحائضَ التي شربت دواءً فانقطع دمها، فطافت في أيام عادتها، أن طوافها صحيح؛ وذلك فيما أخرجه الإمام أحمد -كما في "مسائل أبي داود" عنه (ص: 163، ط. مكتبة ابن تيمية)- قال: حدثنا معاذ بن معاذ، عن أشعث، عن الحسن، أنه قال في امرأة قضت المناسك كلها إلا الطواف الواجب، ثم حاضت فشربت دواء، فقطع الدم عنها، فطافت في أيام حيضتها وهي طاهرٌ؛ قال: "أَجزَأَ عنها".
ومذهب الإمام أبي ثور فيمن طاف على غير طهارة: أنه إن فعل ذلك وهو لا يعلم أجزأه، بخلاف العامد فإنه لا يجزئه، وهذا يقتضي أن الطهارة عنده ليست شرطًا في الطواف؛ فإن الشرط لا يسقط بالنسيان؛ قال الإمام ابن رشد في "بداية المجتهد" (2/109، ط. دار الحديث): [وقال أبو ثور: إذا طاف على غير وضوء أجزأه طوافه إن كان لا يعلم، ولا يجزئه إن كان يعلم] اهـ.
ومذهب الإمام داود الظاهري أن الطهارة ليست شرطًا في الطواف؛ كما نقل ذلك الإمام النووي في "شرح مسلم" (8/147، ط. دار إحياء التراث العربي).
وأمّا عند أرباب المذاهب الفقهية المتبوعة:
- فنص السادة الحنفية على أن الطهارة من الحيض ليست شرطًا للطواف، وأن طواف المحدث حدثًا أكبر؛ جنُبًا أو حائضًا أو نفساء للعمرة يُجبَر بشاة، وطواف الزيارة يُجبَرُ ببدنة، ونقلوا ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما، وتجب الإعادة بعد ارتفاع الحدث، فإن أعيد الطواف حال الطهر فلا يجب الدم، إلا إذا حصلت الإعادة بعد أيام النحر فيجب الدم عند الإمام أبي حنيفة للتأخير:
قال الإمام الكاساني الحنفي في "بدائع الصنائع" (2/129، ط. دار الكتب العلمية): [فأما الطهارة عن الحدث, والجنابة, والحيض, والنفاس؛ فليست بشرط لجواز الطواف, وليست بفرض عندنا، بل واجبة حتى يجوز الطواف بدونها] اهـ.
وقال الإمام مجد الدين أبو الفضل الحنفي في "الاختيار في تعليل المختار" (1/162، ط. مطبعة الحلبي): [لو طاف للعمرة جنبًا أو محدثا فعليه شاة؛ لأنه ركن فيها، وإنما لا تجب البدنة لعدم الفرضية; والحائض كالجنب لاستوائهما في الحكم، ولو أعاد هذه الأطوفة على طهارة سقط الدم؛ لأنه أتى بها على وجه المشروع فصارت جنايته متداركة، فسقط الدم] اهـ.
وقال في طواف الزيارة (1/163-164): [(وإن طاف للزيارة جنبا فعليه بدنة، وكذلك الحائض) لأنه لما وجب جبر نقصان الحدث بالشاة وجب جبر نقصان الجنابة بالبدنة، لأنها أعظم فتعظم العقوبة، وهو مرويٌّ عن ابن عباس رضي الله عنهما، والأَوْلَى أن يعيده ليأتي به على أكمل الوجوه، فإن أعاد فلا شيء عليه؛ لأنه استدرك ما فاته في وقته] اهـ.
واختلف مشايخ الحنفية في كون الطهارة للطواف واجبًا أو سُنّة، وصححوا أنها واجبةٌ:
قال الإمام السرخسي في "المبسوط" (4/38، ط. دار المعرفة): [الصحيح من المذهب أن الطهارة في الطواف واجبة، وكان ابن شجاع رحمه الله تعالى يقول: إنها سنة] اهـ.
وقال الإمام الموفق بن قدامة الحنبلي في "المغني" (3/343، ط. مكتبة القاهرة): [وقال أبو حنيفة: ليس شيء من ذلك -يعني: الطهارة في الطواف- شرطا. واختلف أصحابه؛ فقال بعضهم: هو واجب، وقال بعضهم: هو سنة؛ لأن الطواف ركن للحج؛ فلم يشترط له الطهارة، كالوقوف] اهـ.
ونص بعض الحنفية على أن القول بالسُّنِّيَّة عندهم لا ينافي وجوب الكفارة:
قال العلامة زين الدين بن نجيم في "البحر الرائق" (3/19، ط. دار الكتاب الإسلامي): [وظاهر كلام "غاية البيان": أن الدم واجب اتفاقًا: أما على القول بوجوبها - وهو الأصح- فظاهر، وأما على القول بسنيتها فلأنه لا يمتنع أن تكون سُنّة ويجب بتركها الكفارة؛ ولهذا قال: محمد فيمن أفاض من عرفة قبل الإمام يجب عليه دم؛ لأنه ترك سنة الدفع. اهـ. وبهذا علم أن الخلف لفظي لا ثمرة له] اهـ. وتعقبه الشيخ سراج الدين بن نُجيم في "النهر الفائق" (2/125-126، ط. دار الكتب العلمية) بقوله: [وفيه نظر؛ إذ إثم ترك الواجب أشد] اهـ.
وقال الشيخ ابن تيمية الحنبلي في "الفتاوى الكبرى" (1/448، ط. دار الكتب العلمية): [وكذلك قال بعض الحنفية: إن الطهارة ليست واجبة في الطواف، بل سنة، مع قوله: إن في تركها دمًا] اهـ.
ومذهب الحنفية أن الحائض إذا طافت أثمت بدخولها المسجد الحرام مع صحة طوافها؛ قال العلامة ابن أمير الحاج الحنفي في "منسكه": [لو هَمَّ الركبُ على القفول ولم تطهر، فاستفتت: هل تطوف أم لا؟ قالوا: يُقال لها: لا يحل لك دخول المسجد، وإن دخَلْتِ وطُفْتِ أَثِمْتِ وصح طوافُكِ، وعليك ذبح بدنة. وهذه مسألة كثيرة الوقوع يتحير فيها النساء] اهـ نقلًا عن "حاشية ابن عابدين على الدر المختار" (2/519، ط. دار الفكر).
وقال العلامة ملا علي القاري الحنفي في "المسلك المتقسط في المنسك المتوسط" (ص: 73، ط. المطبعة الكبرى 1288هـ): [(الطهارة عن الحدث الأكبر والأصغر).. ووجوبها عنهما هو الصحيح من المذهب، وهو إحدى الروايتين عن الإمام أحمد، وقال ابن شجاع: هو سنة.. ثم إذا ثبت أن الطهارة عن النجاسة الحكمية واجبة فلو طاف معها يصح عندنا وعند أحمد، ولم يحل له ذلك ويكون عاصيًا، ويجب عليه الإعادة أو الجزاء إن لم يعد] اهـ.
والتحقيق أن الإثم إنما يلحق الحائض بطوافها في الحالة المعتادة، أما في حالة الضرورة التي تخشى فيها فوات رفقتها ويتعذر أو يتعسر عليها العود للبيت الحرام للطواف: فإن الإثم ينتفي عنها حينئذ للضرورة؛ فقد نص الحنفية على جواز دخول الحائض إلى المسجد للضرورة؛ قال الإمام أبو الفضل الموصلي في "المختار" (1/13، ط. مطبعة الحلبي): [ولا يدخل -أي: الجنب- المسجد إلا لضرورة، والحائض والنفساء كالجنب] اهـ.
وقال العلامة ملا خسرو الحنفي في "درر الحكام شرح غرر الأحكام" (1/20، ط. دار إحياء الكتب العربية): [(وحرُم على الجنب دخولُ المسجد ولو للعبور.. إلا لضرورة) كأن يكون بابُ بيتِه إلى المسجد] اهـ، ونقله ابنُ نجيم في "البحر الرائق" (1/205، ط. دار الكتاب الإسلامي) ثم قال: [وهو حسن] اهـ. والتمثيل بما ذُكِرَ يكشف أن المقصود بالضرورة: الحاجة الأكيدة، وهي متحققة بأبلغ من ذلك في حالة الحائض المعذورة التي تخشى فوات رفقتها ولا يمكنها الانتظار.
ولذلك جاء في "الفتاوى الأسعدية في فقه الحنفية" للعلامة السيد أسعد المنورة الحسيني مفتي المدينة المنورة (1/21، ط. المطبعة الخيرية):
[سؤال في المرأة إذا حاضت وهي محرمة، ما حكمها؟ أفتونا.
الجواب: تعمل جميع ما يعمل الحاج من الوقوف بعرفة والغسل والوقوف بمزدلفة والرمي والتقصير، غير أنها لا تطوف طواف القدوم ولا طواف الإفاضة حتى تطهر، ويسقط عنها طواف الوداع إن لم تطهر قبل ذلك، وأما طواف الإفاضة فلم يسقط بحال، وإن لم تطهر يقال لها: تربصي حتى تطهري وتطوفي، وإلا تطوفي وعليك بدنة. والله أعلم] اهـ.
فأمرها بالطواف إن لم يتيسر لها التربُّصُ، ومفهومه: أنه لا إثم عليها إن فعلت ذلك؛ إذ الإثم هنا يتعلق بالفعل المتعمَّد من غير حاجة.
ومع انتفاء الإثم عن المضطرة للطواف وهي حائض فإن وجوب الكفارة لا يسقط عنها عند الحنفية؛ فإنهم لم يستثنوا حال الاضطرار والعذر من وجوب الكفارة، وسبب وجوبها مع وجود العذر: أن العذر حصل مِن قِبَل العِبَاد؛ حيث إن اضطرارها إنما جاء بسبب تعجل رفقتها.
وبيانُ ذلك: أنه قد تقرر في قواعد فقه الحنفية أن ترك النسك الواجب لعذر يسقط الكفارة؛ ولذلك سقط عن المرأة الدمُ إذا حاضت قبل طواف الوداع مع كونه طوافًا واجبًا عند الحنفية؛ قال العلامة الكاساني في "بدائع الصنائع" (2/142، ط. دار الكتب العلمية): [رخص النبي صلى الله عليه وآله وسلم للنساء الحُيَّضِ في ترك طواف الصدر لعذر الحيض، ولم يأمرهن بإقامة شيء آخر مقامه وهو الدم، وهذا أصل عندنا في كل نسك جاز تركُه لعُذرٍ: أنه لا يجب بتركه من المعذور كفارة] اهـ بتصرف، لكنهم قيدوا العذر المسقطَ للدَّمِ ببعض القيود:
منها: أن لا يمكن تدارك الواجب، فإن أمكن تداركه ولم يُتَدارك وجبت فيه الكفارة.
ومنها: أن لا يكون هذا العذر مِن قِبَل العِبَاد، فإن كان كذلك وجبت فيه الكفارة أيضًا.
قال العلامة ابن عابدين في "رد المحتار على الدر المختار" (2/544، ط. دار الفكر): [تتمة: يُستَثنَى مِن الإطلاق المار في وجوب الجزاء ما في اللباب: لو ترك شيئًا من الواجبات بعذر، لا شيء عليه على ما في "البدائع"، وأطلق بعضهم وجوبه فيها إلا فيما ورد النص به؛ وهي ترك الوقوف بمزدلفة، وتأخير طواف الزيارة عن وقته، وترك الصدر للحيض والنفاس، وترك المشي في الطواف والسعي، وترك السعي، وترك الحلق لعلة في رأسه اهـ لكن ذكر شارحه ما يدل على أن المراد بالعذر: ما لا يكون من العباد؛ حيث قال عند قول "اللباب": "ولو فاته الوقوف بمزدلفة بإحصار فعليه دم": هذا غير ظاهر؛ لأن الإحصار من جملة الأعذار، إلا أن يقال: إن هذا مانع من جانب المخلوق؛ فلا يؤثر، ويدل له ما في "البدائع" فيمن أحصر بعد الوقوف حتى مضت أيام النحر ثم خُلِّيَ سبيلُه: أن عليه دمًا لترك الوقوف بمزدلفة، ودمًا لترك الرمي، ودمًا لتأخير طواف الزيارة اهـ . ومثله في إحصار "البحر"] اهـ.
وفي "الدر المختار" للعلامة الحصكفي: [(أو أفاض من عرفة) ولو بِنَدِّ بعيرِه (قبل الإمام) والغروب، ويسقط الدم بالعود ولو بعده في الأصح "غاية"].
قال العلامة ابن عابدين في حاشيته عليه "رد المحتار على الدر المختار" (2/552): [قال في "اللباب": ولو ند به بعيره فأخرجه من عرفة قبل الغروب لزمه دم، وكذا لو ند بعيره فتبعه لأخذه اهـ. قال شارحه القاري: وفيه أن ترك الواجب لعذر مسقط للدم. اهـ. وأجيب بأنه يمكنه التدارك بالعود، وهو مسقط للدم. قلت: الأحسن الجواب بما قدمناه أول الباب من أن المراد بالعذر المسقط للدم ما لا يكون من قبل العباد وسيأتي توضيحه في الإحصار] اهـ.
وقال العلامة الطحطاوي في "حاشيته" عليه (1/523، ط. بولاق): [وفيه أن النَّدَّ عذر؛ لأن حفظ المال واجب كحفظ النفس، وحكم الواجب: سقوط الدم فيه للعذر، ولم يعتبروه هنا] اهـ.
- ونص المالكية على أن الحائض إذا انقطع دمُها ولو لمدة يسيرةٍ جاز لها أن تطوف في وقت انقطاع الدم بعد أن تغتسل، فإن استمر دم الحيض بلا انقطاع: ففي تقرير المذهب قولان:
الأول: أن طوافها لا يصح، وعليها أن تمكث في مكة وحدها حتى تطهر ثم تطوف إن أمكنها المقام بمكة، وإلا رجعت إلى بلدها ثم عادت من قابل، وهذا جارٍ على ما نقله البغداديون عن الإمام مالك رحمه الله تعالى.
الثاني: أن طوافها صحيح؛ أخذًا من قول المغيرة بن عبد الرحمن المخزومي -فقيه أهل المدينة بعد الإمام مالك- فيمن طاف على غير طهارة وخرج إلى بلده فإن ذلك يجزئه، وتخريجًا على ما رواه البصريون عن الإمام مالك من إحلاله طواف القدوم محل طواف الركن لمن نسيَه أو جهل فرضيته، فرجع إلى بلده دون أن يؤديه، من غير أن يوجب عليه دمًا، وعذر الحائض أبلغ من ذلك، وتصحيح طوافها أولى؛ فإن تصحيح الطواف دون شرطه أَوْلَى من تصحيحه قبل وقته؛ إذ حُرمة الوقت مقدمةٌ على حرمة الشرط.
والعمل والفتوى عندهم على هذا التخريج، كما نصوا أيضًا على جواز تقليد الإمام أبي حنيفة:
قال الإمام أبو محمد بن شاس المالكي في "عقد الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة" (1/398، ط. دار الغرب الإسلامي): [لو طاف غير متطهر أعاد، فإن رجع إلى بلده قبل الإعادة رجع من بلده على إحرامه إلى مكة فيطوف. وقال المغيرة: يُعِيد ما دام بمكة، فإن أصاب النساء وخرج إلى بلده أجزأه] اهـ. وظاهر هذا النقل عن المغيرة أنه لا دم عليه.
ونقله الإمام أبو زرعة العراقي الشافعي في "طرح التثريب" (5/121، ط. دار إحياء التراث العربي) فقال: [وعند المالكية قولٌ يوافق هذا] -أي: قول الحنفية- فذكره.
وقال الإمام القرافي المالكي في "الذخيرة" (3/238، ط. دار الغرب الإسلامي): [وقال الإمام أبو حنيفة والمغيرة: لا يشترط الطهارة؛ قياسًا على الوقوف، بل هي سُنّةٌ؛ إن طاف محدِثًا فعليه شاةٌ، أو جنُبًا فعليه بدَنةٌ] اهـ.
وقال الإمام ابن جماعة الكناني الشافعي في "هداية السالك إلى المذاهب الأربعة في المناسك" (3/916): [وقال المغيرة من أصحاب مالك: إنه لا تُشتَرطُ الطهارة؛ بل هي سُنَّة، إن طاف مُحْدِثًا فعليه شاة، وإن طاف جُنُبًا فعليه بدنة] اهـ.
وقال العلامة الشيخ عليش المالكي في "منح الجليل شرح مختصر خليل" (2/298، ط. دار الفكر): [ولا يُحبَسُ كَرِيٌّ ولا وَلِيٌّ لأجل طوافها، وتمكث وحدها بمكة حتى تطهر وتطوف إن أمكنها المُقام بها، وإلا رجعت لبلدها وهي محرمة وتعود في القابل. سند.. وهذا كله إن لم ينقطع دمها أصلًا، وإلا اغتسلت وطافت حال انقطاعه ولو بعض يوم.
هذا تقرير المذهب، وفيه مشقة؛ خصوصًا على مَن بلادُها بعيدةٌ. ومقتضى يُسرِ الدين:
- إمّا تقليدُ ما رواه البصريون عن الإمام مالك رضي الله عنه: أن من طاف للقدوم وسعى ورجع لبلده قبل طواف الإفاضة جاهلًا أو ناسيًا أجزأه عن طواف الإفاضة، وإن كان خلافَ رواية البغداديين عدمَه وهو المذهب، ولا شك أن عذر الحائض والنفساء أبلغ من عذر الجاهل والناسي.
- وإمّا تقليدُ أبي حنــيفة رضي الله عنه: أن الحائض تطوف؛ لأنه لا يشترط في الطواف الطهارة من حدث ولا من خبث، وهي رواية عن أحمد رضي الله عنه، وعليها بدنة، ويتم حجها؛ لصحة طوافها، وإن أثمت عندهما، أو عند أحمد فقط، بدخولها المسجد حائضًا. والله أعلم بالصواب] اهـ.
ونحوه للشيخ مبارك الأحسائي المالكي في "تسهيل المسالك إلى هداية السالك إلى مذهب الإمام مالك" (3/925، ط. مكتبة الإمام الشافعي)، غير أنه اقتصر في اقتضاء اليسر على القول الثاني عند المالكية دون أن يعرج على تقليد الحنفية، ولا يخفى أن ذلك أيسرُ؛ لإسقاطه الدم، وذاك أحوطُ؛ لأدائها الطواف صحيحًا على مذهبٍ معتبَر.
- وعند الشافعية: أن الحائض لا تطوف حتى تطهر؛ لأن الطهارة شرط صحة في الطواف.
وقد ذكر الإمام أبو يعقوب الأبيوردي من أئمة الشافعية وجهًا في صحة طواف الوداع من غير طهارة مع جبره بدم، وغلَّطه إمام الحرمين؛ فقال في "نهاية المطلب" (4/300، ط. دار المنهاج): [وإنما قال هذا مِن حيث إنه أُلزم وقيل: لو جاز جبر طواف الوداع بالدم، لجاز جبرُ الطهارة فيه بالدم، فارتكبه وقال تُجبر. وهذا غلط؛ لأنه إذا وجب الدم فهذا جبرُ الطواف؛ لا جبرُ الطهارة] اهـ.
ونصُّوا على أن الحائض إذا استعملت دواءً لينقطع دمُها، أو انقطع دمُها أثناء الحيض، فاغتسلت وطافت، فإن طوافَها صحيح وإن عاد الدم بعد ذلك؛ بناءً على أن النقاء في الحيض طهرٌ، وهو أحد قولي الإمام الشافعي رضي الله عنه فيمن انقطع دمُها يومًا ويومًا، ويُعرَف بقول "التلفيق"، ورجحه جماعةٌ من الشافعية، وبه قال الإمامان مالك وأحمد رحمهما الله تعالى.
فإن لم ينقطع دمُها ولم يمكن التخلف: خرجت معهم إلى محل لا يمكن عودُها له، ثم تتحلل كالمُحصَر؛ أي: بذبحٍ فتقصيرٍ مع النية، وإذا عادت إلى مكة -ولو بعد مدة مديدة- طافت بلا إحرام.
غير أنهم نصُّوا على أن الأحوط لها والألْيَقَ بمحاسن الشريعة في حالتها هذه: أن تقلد مذهب مَن يصحح طوافَها وهي حائض؛ فتهجم وتطوف بالبيت، ويلزمها بدنة، مع إثمها. وكذلك الحال في كل مسألة خلافية قال بها إمام معتبر؛ فإن الواقع فيها يقلِّدُ القائل بما له فيه مَخْلَصٌ.
قال الإمام شمس الدين الرملي الشافعي في "نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج" (3/317، ط. دار الفكر): [وبحث بعضهم أنها إن كانت شافعية تقلد الإمام أبا حنيفة أو أحمد على إحدى الروايتين عنده؛ في أنها تهجم وتطوف بالبيت، ويلزمها بدنة، وتأثم بدخولها المسجد حائضًا، ويجزيها هذا الطواف عن الفرض؛ لِمَا في بقائها على الإحرام من المشقة] اهـ.
وقال الإمام ابن حجر الهيتمي الشافعي في "حاشيته على شرح الإيضاح" للإمام النووي (ص: 387-388، ط. دار الحديث): [فائدة: كثر كلامُ الأئمة في نساء الحجيج إذا حِضْنَ قبل طواف الإفاضة ولم يمكنهن التخلفُ لفعله.
وللبارزي كلامٌ في المسألةِ حسنٌ طويلٌ، حاصله: أن مَن استعملت دواءً فانقطع دمُها، أو انقطع لا لدواءٍ، فاغتسلت وطافت، ثم عاد الدم بعد سفرها: يجوز لها العمل بأحد قولي الشافعي فيمن انقطع دمُها يومًا ويومًا؛ فإن يوم النقاء طهرٌ على هذا القول المعروف بقول "التلفيق"، ورجحه جماعة من الأصحاب، ويوافقه مذهب مالك وأحمد: أن النقاءَ في أيام التقطعِ طُهْرٌ.
ومَن لم ينقطع دمُها يصح طوافُها عند أبي حنيفة وعلى إحدى الروايتين عند أحمد، لكن يلزمها بدنة، وتأثم بدخول المسجد وهي حائض؛ فيقال لها: لا يحلُّ لكِ ذلك، لكن إن فعلتِ أثِمْتِ وأجزأكِ عن الفرض.
ومَن سافرَتْ بلا طوافٍ: فنقل البصريون عن مالك أن مَن طاف طواف القدوم وسعى ورجع لبلده قبل طواف الإفاضة جاهلًا أو ناسيًا؛ أجزأه، وقياسه: أن هذه كذلك؛ لأن عذرها أظهر مِن عذرهما؛ لتعذر بقائها بمكة، فإن لم يصح هذا النقل أو ما قيس عليه وأرادت التحلل، فقياس مذهبنا وغيره: أنها تصبر حتى تجاوز مكة إلى محل لا يمكنها الرجوع منه لنحو خوف على بُضْعٍ أو مالٍ، فتصير حينئذ كالمحصر؛ لأنها تتيقن الإحصار لو رجعت، وتيقُّنُه كوجوده، فتتحلَّلُ كتَحَلُّلِه، ثم إن كان إحرامها بفرض بقي في ذمتها، ومشى على ما قال بعض علماء اليمن وأطال في الاستدلال له، وقال: إن ما قاله آخرًا مذهبُ الشافعي لمن أعمل فكره في حقائقه..
قال العلامة ابن حجر: ثم رأيت البلقيني استنبط مما ذكروه في الإحصار من الطواف: أنها إذا لم يمكنها الإقامة حتى تطهر وجاءت بلدها وهي محرمة وعدمت النفقة ولم يمكنها الوصول إلى البيت: أنها كالمحصر؛ فتتحلل تحلله، وأيده بما في "المجموع": أنه لو صُدَّ عن طريقٍ ووجدَ آخرَ أطولَ ولم يكن معه ما يكفيه إذا سلكه: فله التحلُّلُ. قال الولي العراقي: وهو استنباط حسن، وبه أفتى شيخ الإسلام فقيه عصره الشرف المناوي، وهو مؤيِّد لما قاله البارزي، فهو المعتمد.
وإذا علمت ما تقرر: فالأليق بمحاسن الشريعة أن مَن ابتليت بشيء مِن أحد الأقسام الأربعة المذكورة تقلِّدُ القائل بما لها فيه مَخْلَصٌ، بل اختار بعض الحنابلة، وتبعه بعضُ متأخري الشافعية: أنه لا يشترط طهرُها إذا لم تتوقع فراغ حيضها قبل الركب؛ للضرر الشديد بالمقام والرحيل محرمة، وأنه يجوز لها دخول المسجد للطواف بعد إحكام الشد والغسل والعصب، كما تباح الصلاة لنحو السلس، وأنه لا فدية عليها لعذرها، لكن لا يجوز تقليدُ القائل بذلك؛ لأنه لم يُعلَم مَن قالَه مِن المجتهدين، وغيرُ المجتهد لا يجوز تقليدُه] اهـ.
ومقتضى ما سبق من الآثار عن السلف، وتحقيق مذهب الحنفية، وإفتاء المالكية بالجواز والصحة تخريجًا على ما رواه البصريون عن الإمام مالك، وما يأتي من الرواية عن الإمام أحمد، وما يأتي أيضًا مِن تقرير جواز دخول الحائض المسجدَ للعذر: أن تقليد القائل بجواز طوافها حائضًا للعذر غير ممنوع شرعًا؛ فإن هذه كلها أقوال أئمة مجتهدين نقلها أهل مذاهبهم، فتقليدهم مشروع؛ ولا يخفى أن تصحيح الطواف دون شرطه أَوْلَى مِن تصحيحه قبلَ وقته؛ قال الشيخ ابن تيمية الحنبلي -كما في "مجموع الفتاوى" (26/232)-: [الأصول متفقة على أنه: "متى دار الأمر بين الإخلال بوقت العبادة والإخلال ببعض شروطها وأركانها كان الإخلال بذلك أولى"، كالصلاة؛ فإن المصلِّيَ لو أمكنه أن يُصلِّيَ قبل الوقت بطهارة وستارة مستقبلَ القبلة مجتنبَ النجاسة ولم يمكنه ذلك في الوقت فإنه يفعلها في الوقت على الوجه الممكن ولا يفعلها قبله؛ بالكتاب والسنة والإجماع] اهـ.
وقد قال ابن حجر في "تحفة المحتاج في شرح المنهاج" (4/74-75، ط. المكتبة التجارية الكبرى): [الأحوط لها أن تقلد من يرى براءة ذمتها؛ بطوافها قبل رحيلها] اهـ.
وقال العلامة الشَّبْرَامَلِّسيُّ في "حاشيته على نهاية المحتاج" (3/317، ط. دار الفكر): [(مسألة) قال الشيخ منصور الطبلاوي: سُئِل شيخُنا ابن قاسم العبّادي عن امرأة شافعية المذهب طافت للإفاضة بغير سترةٍ معتبَرةٍ؛ جاهلةً بذلك أو ناسيةً، ثم توجهت إلى بلاد اليمن فنكحت شخصًا، ثم تبين لها فسادُ طوافِها، فأرادت أن تقلد أبا حنيفة في صحته لتصير به حلالًا وتتبين صحة النكاح، وحينئذ فهل يصح ذلك وتتضمن صحة التقليد بعد العمل؟
فأفتى بالصحة وأنه لا محذور في ذلك، ولَمّا سمعت عنه ذلك اجتمعتُ به؛ فإني كنت أحفظ عنه خلافَه في العام الذي قبله فقال: هذا هو الذي أعتقده من الصحة، وأفتى به بعض الأفاضل أيضا تبعًا له، وهو مسألة مهمة كثيرة الوقوع وأشباهها. ومرادُه "بأشباهها": كلُّ ما كان مخالفًا لمذهب الشافعي مثلًا وهو صحيح على بعض المذاهب المعتبرة؛ فإذا فعله على وجه فاسد عند الشافعي وصحيح عند غيره ثم علم بالحال جاز له أن يقلد القائل بصحته فيما مضى وفيما يأتي فتترتب عليه أحكامه، فتنبَّهْ له فإنه مُهمٌّ جدًّا] اهـ.
- وعند الحنابلة: اختلف النقل عن الإمام أحمد رحمه الله في حكم مَن طاف على غير طهارة:
فمِن أصحابه مَن نقل عنه عدم الإجزاء مطلقًا؛ كما نقل حنبل، وأبو طالب، والأثرم، والكوسج.
ومنهم من نقل عنه الفرق بين المتعمد فلا يجزئه، وبين الناسي فيجزئه؛ كما يقول العكبري.
ومنهم من نقل عنه أن طوافه صحيح ويجبره بدم؛ كما في رواية محمد بن الحَكَم.
ومنهم من نقل عنه التسهيل في الطهارة للطواف؛ كما في رواية الميموني.
وذلك كله متفرع على كون الطهارة شرطًا في صحة الطواف أم لا.
وإن لم تكن شرطًا لصحته فهل هي واجبة فيه أم سُنّة فقط.
والمشهور عن الإمام أحمد اشتراط الطهارة للطواف؛ كما يقول الإمام ابن قدامة في "المغني" (3/343، ط. مكتبة القاهرة)، وهو الذي صححه جماهير الأصحاب؛ كما يقول العلامة المرداوي في "الإنصاف" (1/348، ط. دار إحياء التراث العربي)، غير أن القول بصحة طواف تارك الطهارة ناسيًا أو معذورًا -كالحائض التي تخشى فوات رفقتها- مِن غير وجوب دم: هو روايةٌ صحيحة مُفتًى بها في المذهب الحنبلي:
فقد نص عليها شيخ الحنابلة في عصره الإمام أبو بكر عبد العزيز بن جعفر الحنبلي المعروف "بغلام الخلال"؛ حيث يقول في كتابه "الشافي" بعد أن نقل رواية الميموني عن الإمام أحمد: [قد بينا أمر الطواف بالبيت في أحكام الطواف على قولين؛ أحد القولين: إذا طاف الرجل وهو غير طاهر أن الطواف يجزئ عنه إذا كان ناسيًا، والقول الآخر: أنه لا يجزئه حتى يكون طاهرًا. فإن وطئ وقد طاف غيرَ طاهر ناسيًا فعلى قولين؛ مثل قوله في الطواف؛ فمن أجاز الطواف غير طاهر قال: تم حجه، ومن لم يُجِزْهُ إلا طاهرًا ردَّه مِن أي المواضع ذكر حتى يطوف. وبهذا أقول] اهـ.
وقد نقل كلامَه الشيخُ ابن تيمية الحنبلي في "مجموع الفتاوى" (26/208)، ثم قال عقبه: [فأبو بكر وغيره من أصحاب أحمد يقولون في إحدى الروايتين: يجزئه مع العذر ولا دم عليه، وكلام أحمد بَيِّنٌ في هذا. وجواب أحمد المذكور يبين أن النزاع عنده في طواف الحائض وغيره. وقد ذكر عن ابن عمر وعطاء وغيرهما التسهيلَ في هذا، ومما نُقِل عن عطاء في ذلك: أن المرأة إذا حاضت في أثناء الطواف فإنها تتم طوافها، وهذا صريح عن عطاء أن الطهارة من الحيض ليست شرطًا، وقوله مما اعتد به أحمد، وذكر حديث عائشة رضي الله عنها، وأن قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «إن هذا أمر كتبه الله على بنات آدم» يبين أنه أمر بُلِيَتْ به نزل عليها ليس مِن قِبَلِها؛ فهي معذورة في ذلك] اهـ.
والإمام أبو بكر عبد العزيز المعروف بغلام الخلال [ت363هـ] هو من كبار أئمة الحنابلة المعتمد عليهم في نقل المذهب؛ قال الحافظ الذهبي في "تاريخ الإسلام" (8/214، ط. دار الغرب الإسلامي): [وكان كبير القدْر، صحيح النقل، بارعًا في نقل مذهبهِ] اهـ.
ونص على هذه الرواية أيضًا: شيخُ المذهب الإمام الموفق بن قدامة؛ حيث يقول في "المغني" (3/343): [(ويكون طاهرا في ثياب طاهرة) يعني في الطواف؛ وذلك لأن الطهارة من الحدث والنجاسة والستارة شرائط لصحة الطواف، في المشهور عن أحمد. وهو قول مالك والشافعي. وعن أحمد: أن الطهارة ليست شرطًا؛ فمتى طاف للزيارة غير متطهر أعاد ما كان بمكة، فإن خرج إلى بلده جبره بدم. وكذلك يخرج في الطهارة من النجس والستارة. وعنه في من طاف للزيارة وهو ناس للطهارة: لا شيء عليه] اهـ. وقال أيضًا في "الكافي" (2/412، ط. دار هجر): [وعنه فيمَن طاف للزيارة ناسيًا لطهارته حتى رجع: فحجُّه ماضٍ ولا شيء عليه، وهذا يدل على أنها تسقط بالنسيان] اهـ.
وقال الإمام أبو عبد الله بن مفلح المقدسي الحنبلي في "الفروع" (6/40، ط. مؤسسة الرسالة): [وتشترط الطهارة من حدث, قال القاضي وغيره: الطواف كالصلاة في جميع الأحكام إلا في إباحة النطق, وعنه: يجبره بدم، وعنه: إن لم يكن بمكة, وعنه: يصح من ناسٍ ومعذور فقط, وعنه: ويجبره بدم, وعنه: وكذا حائض, وهو ظاهر كلام القاضي وجماعة, واختاره شيخنا -يعني: الشيخ ابن تيمية- وأنه لا دم لعذر, وقال: هل هي واجبة أو سنة لها؟ فيه قولان في مذهب أحمد وغيره, ونقل أبو طالب: والتطوع أيسر] اهـ.
وقد جمع الشيخ ابن تيمية الحنبلي الروايات عن الإمام أحمد في ذلك؛ فقال في "شرح العمدة" (3/586-589، ط. مكتبة العبيكان):
[فإن طاف على غير طهارة ففيه روايتان:
إحداهما: لا يجزئه بحال:
قال في رواية حنبل: "إذا طاف بالبيت طواف الواجب غير طاهر لم يجْزِه"، وقال في رواية أبي طالب: "إذا طاف مُحْدِثًا أو جنُبًا أعاد طوافه"، وكذلك نقل الأثرم، وابن منصور.
والثانية: يجزئه في الجملة:
قال في رواية ابن الحكم، وقد سأله عن الرجل يطوف للزيارة أو الصدر وهو جنب أو على غير وضوء؛ قلتُ: إن مالكًا يقول: يعود للحج والعمرة وعليه هدي، قال: "هذا شديد"، قال أبو عبد الله: "أرجو أن يجزئه أن يهريق دمًا إن كان جنُبًا، أو على غير وضوء ناسيًا.. وإن ذكر وهو بمكة أعاد الطواف"، وفي لفظ: "إذا طاف طواف الزيارة وهو ناسٍ لطهارته حتى يرجع فإنه لا شيء عليه، وأختار له أن يطوف وهو طاهر، وإن وطئ فحجه ماضٍ ولا شيء عليه". فقد نص على أنه يجزئه إن كان ناسيًا، ويجب عليه أن يعيد إذا ذكر وهو بمكة، فإن استمر به النسيان أهرق دمًا وأجزأه.
قال أبو حفص العكبري: لا يختلف قوله إذا تعمد فطاف على غير طهارة لا يجزئه، واختلف قوله في النسيان على قولين؛ أحدهما: أنه معذور بالنسيان، والآخر: لا يجزئه؛ مثل الصلاة.
وكذلك قال أبو بكر عبد العزيز: في الطواف قولان؛ أحدهما: أنه إذا طاف وهو غير طاهر أن الطواف يجزئ عنه إذا كان ناسيًا، فإذا وطئ بعد الطواف فقد تم حجه، والآخر: لا يجزئه حتى يكون طاهرًا؛ فعلى هذا يرجع من أي موضع ذكر حتى يطوف، وبه أقول.. وذكر القاضي وأصحابه والمتأخرون مِن أصحابنا المسألة على روايتين في طواف المُحْدِث مطلقًا..
ثم ذكر ابن تيمية رواية الميموني عن الإمام أحمد، وقد نقلها تلميذه ابن القيم على التمام؛ فقال في "إعلام الموقعين" (4/371-372): [قال عبد الملك الميموني في "مسائله": قلتُ لأحمد: من طاف طوافَ الواجب على غير وضوء وهو ناسٍ، ثم واقع أهله؟ قال: "أخبرك مسألة فيها وهمٌ وهم مختلفون"، وذكر قول عطاء والحسن، قلتُ: ما تقول أنت؟ قال: "دَعْها"، أو كلمةً تشبهها. وقال الميموني في "مسائله" أيضًا: قلتُ له: مَن سعَى وطاف على غير طهارة، ثم واقع أهله؟ فقال لي: "مسألةٌ الناسُ فيها مختلفون"، وذكر قول ابن عمر، وما يقول عطاء مما يسهل فيها، وما يقول الحسن، وأن عائشة رضي الله عنها قال لها النبي صلى الله عليه وآله وسلم حين حاضت: «افْعَلِي ما يَفْعَلُ الحاجُّ غيرَ أن لا تَطُوفِي بِالبَيْتِ»، ثم قال لي: "إلّا أنّ هذا أمرٌ بُلِيَتْ به، نَزَلَ عليها ليس مِن قِبَلِهَا"، قلتُ: فمِن الناس مَن يقول: عليها الحجُّ مِن قابل؟ فقال لي: "نعم؛ كذا أكبرُ عِلْمي"، قلتُ: ومِنهم مَن يذهب إلى أنّ عليها دمًا؟"، فذكر تسهيل عطاء فيها خاصةً، قال لي أبو عبد الله: "أولًا وآخرًا هي مسألةٌ مشتبهةٌ فيها موضع نَظَرٍ؛ فدعني حتى أنظرَ فيها"، قال ذلك غير مرة، ومِن الناس مَن يقول: وإن رجع إلى بلده يرجع حتى يطوف"، قلت: والنسيان؟ قال: "والنسيان أهونُ حكمًا بكثير"؛ يريد: أهون ممن يطوف على غير طهارة متعمدًا. هذا لفظ الميموني] اهـ النقل عن ابن القيم.
ثم قال الشيخ ابن تيمية: [والرواية الأولى: اختيار أصحابنا: أبي بكر، وابن أبي موسى، والقاضي وأصحابه، وقال ابن أبي موسى: إن حاضت قبل طواف الإفاضة لزم انتظارها حتى تطهر ثم تطوف، وإن حاضت بعدما أفاضت لم يجب انتظارها وجاز لها أن تنفر ولم تودع] اهـ.
وقال أيضًا في "الفتاوى الكبرى" (1/447-448، ط. دار الكتب العلمية): [وتعليل منع طواف الحائض بأنه لأجل حرمة المسجد، رأيته يعلل به بعض الحنفية؛ فإن مذهب أبي حنيفة أن الطهارة واجبة له، لا فرض فيه ولا شرط له، ولكن هذا التعليل يناسب القول بأن طواف المحدث غير محرم، وهذا مذهب منصور بن المعتمر، وحماد بن أبي سليمان، رواه أحمد عنهما.
قال عبد الله: سألت أبي عن ذلك فقال: "أحبُّ إليَّ أن يطوف بالبيت وهو متوضئ؛ لأن الطواف صلاة"، وأحمد عنه روايتان منصوصتان في الطهارة هل هي شرط في الطواف أم لا؟ وكذلك وجوب الطهارة في الطواف كلامه فيها يقتضي روايتين] اهـ.
وقال في "مجموع الفتاوى" (26/206-214) في الكلام على طواف الحائض، مرجحًا الرواية المقتضية لطواف الحائض عند العذر بلا دم عليها، ومنتصرًا للقول بأن الطهارة ليست شرطًا في الطواف: [وتنازعوا في إجزائه؛ فمذهب أبي حنيفة: يجزئها ذلك، وهو قول في مذهب أحمد؛ فإن أحمد نص في رواية على أن الجنب إذا طاف ناسيًا أجزأه ذلك؛ فمِن أصحابه مَن قصر ذلك على حال النسيان، ومنهم مَن قال: هذا يدل على أن الطهارة ليست فرضًا؛ إذ لو كانت فرضًا لما سقطت بالنسيان..
ثم إن مِن أصحابه مَن قال: هذا يدل على أن الطهارة في الطواف ليست عنده ركنا على هذه الرواية، بل واجبة تجبر بدم، وحكى هؤلاء في صحة طواف الحائض روايتين؛ إحداهما: لا يصح، والثانية: يصح وتجبره بدم. وممن ذكر هذا أبو البركات وغيره، كذلك صرح غير واحد منهم بأن هذا النزاع في الطهارة من الحيض والجنابة كمذهب أبي حنيفة. فعلى هذا القول تسقط بالعجز كسائر الواجبات.
وذكر آخرون من أصحابه عنه ثلاث روايات: رواية يجزئه الطواف مع الجنابة ناسيا ولا دم عليه، ورواية أن عليه دمًا، ورواية أنه لا يجزئه ذلك.
وبعض الناس يظن أن النزاع في مذهب أحمد إنما هو في الجنب والمحدث دون الحائض، وليس الأمر كذلك؛ بل صرح غير واحد من أصحابه بأن النزاع في الحائض وغيرها، وكلام أحمد يدل على ذلك، وتبين أنه كان متوقفا في طواف الحائض وفي طواف الجنب، وكان يذكر أقوال الصحابة والتابعين وغيرهم في ذلك..
ومعلوم أن الذي طاف على غير طهارة متعمدًا آثمٌ، وقد ذكر أحمد القولين: هل عليه دم؟ أم يرجع فيطوف؟ وذكر النزاع في ذلك، وكلامُه يبين في أن توقفه في الطائف على غير طهارة يتناول الحائض والجنب مع التعمد، ويبين أن أمر الناسي أهون بكثير، والعاجز عن الطهارة أعذر من الناسي.
وقال أبو بكر عبد العزيز في "الشافي": (باب في الطواف بالبيت غير طاهر):
قال أبو عبد الله في رواية أبي طالب: "ولا يطوف بالبيت أحدٌ إلا طاهرًا، والتطوع أيسر، ولا يقف مَشاهِدَ الحج إلا طاهرًا".
وقال في رواية محمد بن الحكم: "إذا طاف طواف الزيارة وهو ناسٍ لطهارته حتى رجع فإنه لا شيء عليه، وأختار له أن يطوف وهو طاهر، وإن وطئ فحجه ماضٍ ولا شيء عليه".
فهذا النص من أحمد صريح بأن الطهارة ليست شرطًا، وأنه لا شيء عليه إذا طاف ناسيًا لطهارته: لا دم ولا غيره، وأنه إذا وطئ بعد ذلك فحجه ماضٍ ولا شيء عليه.
كما أنه لَمّا فرق بين التطوع وغيره في الطهارة؛ فأمر بالطهارة فيه وفي سائر المناسك دل ذلك على أن الطهارة ليست شرطًا عنده؛ فقطع هنا بأنه لا شيء عليه مع النسيان.
وقال في رواية أبي طالب أيضًا: "إذا طاف بالبيت وهو غير طاهر يتوضأ ويعيد الطواف، وإذا طاف وهو جنب فإنه يغتسل ويعيد الطواف".
وقال في رواية أبي داود: حدثنا سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء: "إذا طاف على غير وضوء فليعد طوافه".
وقال أبو بكر عبد العزيز: (باب في الطواف في الثوب النجس):
قال أبو عبد الله في رواية أبي طالب: "وإذا طاف رجل في ثوب نجس فإن الحسن كان يكره أن يفعل ذلك، ولا ينبغي له أن يطوف إلا في ثوب طاهر".
وهذا الكلام من أحمد يبين أنه ليس الطواف عنده كالصلاة في شروطها؛ فإن غاية ما ذكر في الطواف في الثوب النجس أن الحسن كره ذلك، وقال: لا ينبغي له أن يطوف إلا في ثوب طاهر. ومثل هذه العبارة تقال في المستحب المؤكد، وهذا بخلاف الطهارة في الصلاة. ومذهب أبي حنيفة وغيره: أنه إذا طاف وعليه نجاسة صح طوافه ولا شيء عليه.
وبالجملة: هل يشترط للطواف شروط الصلاة؟ على قولين في مذهب أحمد وغيره:
أحدهما: يشترط كقول مالك والشافعي وغيرهما. والثاني: لا يشترط، وهذا قول أكثر السلف وهو مذهب أبي حنيفة وغيره، وهذا القول هو الصواب..
وإذا تبين أن الطهارة ليست شرطًا: يبقى الأمر دائرا بين أن تكون واجبة، وبين أن تكون سُنّةً، وهما قولان للسلف، وهما قولان في مذهب أحمد وغيره، وفي مذهب أبي حنيفة؛ لكن من يقول هي سنة من أصحاب أبي حنيفة يقول: مع ذلك عليه دم، وأما أحمد فإنه يقول: لا شيء عليه: لا دم ولا غيره؛ كما صرح به فيمن طاف جنبا وهو ناسٍ، فإذا طافت حائضا مع التعمد توجه القول بوجوب الدم عليها. وأما مع العجز فهنا غاية ما يقال: إن عليها دمًا، والأشبه أنه لا يجب الدم؛ لأن هذا واجب تؤمر به مع القدرة لا مع العجز؛ فإن لزوم الدم إنما يجب بترك مأمور وهي لم تترك مأمورًا في هذه الحالة ولم تفعل محظورا من محظورات الإحرام، وهذا ليس من محظورات الإحرام؛ فإن الطواف يفعله الحلال والحرام، فصار الحظر هنا من جنس حظر اللبث في المسجد، واعتكاف الحائض في المسجد، أو مس المصحف، أو قراءة القرآن، وهذا يجوز للحاجة بلا دم] اهـ.
ورواية محمد بن الحكم عن الإمام أحمد في إيجاب الدم على الناسي فيها ذكر جنس الدم، وهذا يقتضي أن أقل الدم، وهو الشاة، مجزئٌ؛ قال الشيخ ابن تيمية -كما في "مجموع الفتاوى" (26/221، 246)-: [وأما أحمد فأوجب دمًا ولم يعين بدنة.. وعند أحمد دمٌ؛ وهي شاة] اهـ.
وقد وافقه تلميذه ابن القيم الحنبلي على اعتماد الرواية التي تقتضي صحة طواف الحائض إذا لم يمكنها الاحتباس في مكة حتى تطهر، من غير إثم ولا دم، وذلك حتى لو جعلنا الطهارة شرطًا لصحة الطواف؛ لأنه يسقط عند العجز عنه كما في التيمم وصلاة فاقد الطهورين، واستفاض في الاستدلال لذلك والاحتجاج له، وجعله مثالا على ما يتغير من الفتوى بتغير الزمان والمكان والأحوال؛ فقال في "إعلام الموقعين عن رب العالمين" (4/359، ط. دار ابن الجوزي): [هذا الذي قالوه متوجه فيمن أمكنها الطواف ولم تطف، والكلام في امرأة لا يمكنها الطواف ولا المقام لأجله، وكلام الأئمة والفقهاء هو مطلق كما يتكلمون في نظائره، ولم يتعرضوا لمثل هذه الصور التي عمت بها البلوى، ولم يكن ذلك في زمن الأئمة، بل قد ذكروا أن المكري يلزمه المقام والاحتباس عليها لتطهر ثم تطوف، فإنه كان ممكنا -بل واقعًا- في زمنهم، فأفتوا بأنها لا تطوف حتى تطهر؛ لتمكنها من ذلك، وهذا لا نزاع فيه ولا إشكال، فأما في هذه الأزمان فغير ممكن] اهـ. ثم قال (4/376-377): [كلام الأئمة وفتاويهم في الاشتراط أو الوجوب إنما هو في حال القدرة والسعة، لا في حال الضرورة والعجز؛ فالإفتاء بها لا ينافي نص الشارع ولا قول الأئمة، وغاية المفتي بها: أن يقيد مطلق كلام الشارع بقواعد شريعته وأصولها، ومطلق كلام الأئمة بقواعدهم وأصولهم؛ فالمفتي بها موافق لأصول الشرع وقواعده ولقواعد الأئمة] اهـ.
وأمّا الاستدلال على المنع بحديث: «لَا أُحِلُّ الْمَسْجِدَ لِحَائِضٍ وَلَا جُنُبٍ»: فالجواب عنه عند القائلين بجواز طوافها: أنه مجمل قد خُصَّ منه إباحةُ المرور للحاجة والعذر باتفاق العلماء، وطواف الحائض كمرورها في المسجد، بل الطواف أولى؛ لأن المرور جائز عند بعض العلماء من غير ضرورة، بل أجاز لها جماعة من العلماء المكث في المسجد أيضًا إذا أمنت التلويث، وطواف الحائض إنما هو للضرورة، فإذا أمنت التلويث ارتفعت الحرمة والكراهة؛ كما في المستحاضة.
قال الشيخ ابن القيم الحنبلي في "إعلام الموقعين" (3/24، ط. دار الكتب العلمية): [طوافُها بمنزلة مرورها في المسجد، ويجوز للحائض المرور فيه إذا أمنت التلويث، وهي في دورانها حول البيت بمنزلة مرورها ودخولها من باب وخروجها من آخر؛ فإذا جاز مرورها للحاجة فطوافها للحاجة -التي هي أعظم من حاجة المرور- أولى بالجواز] اهـ.
ولم ينفرد الشيخ ابن تيمية وتلميذه ابن القيم من بين الحنابلة بترجيح هذه الرواية والفتوى بها كما يُفهَم من كلام العلامة ابن حجر الهيتمي الشافعي ومَنْعِه مِن الأخذ بذلك فيما سبق؛ بل أخذ بها جماعةٌ من كبار الحنابلة وأئمتهم؛ كالإمامين الحنبليين البغداديَّيْن: سراج الدين أبي عبد الله الحسين بن أبي السَّرِيِّ الدُّجَيْلِي [ت732هـ]، وشيخه تقي الدين أبي بكر عبد الله بن محمد الزَّرِيرَاني [ت729هـ]؛ حيث نص الإمام الدُّجَيْليُّ على أن الطهارة سُنّةٌ في الطواف، وهذا يقتضي جواز طواف الحائض عند الضرورة من غير إيجاب دم عليها؛ فقال في كتابه "الوجيز" عند ذكر الطواف -كما في "فتح الملك العزيز بشرح الوجيز" (3/533، ط. دار خضر)-: [والطهارة والستارة والموالاة سُنّةٌ فيه] اهـ.
وكتاب "الوجيز" هذا من كُتُب الفتوى المعتمدة في المذهب الحنبلي، وقد قال فيه مصنفُه (1/117): [جمعتُه وجيزًا قولًا واحدًا مختارًا؛ من ترجيح الروايات المنصوصة عنه المعنعنة المتداولة] اهـ، قال شارحُه العلامة العلاء بن البهاء البغدادي الحنبلي في "فتح الملك العزيز" (1/118): [اعلم أن المصنف رحمه الله تعالى ذكر أنه بنى كتابه على الروايات المنصوصة عن الإمام أحمد، الثابتة عنه، التي تداولها الأصحاب وذهبوا إليها، وجعله رواية واحدة، وأنه المذهب، وأنه لم يعول في الترجيح إلّا على ما ذكر، لا على دليل آخر، بخلاف غيره من الأصحاب] اهـ.
وهذا الكتاب قد عرضه مصنفُه على شيخه الإمام تقي الدين أبي بكر الزريراني فهذّبه له واعتمد الفتوى بما فيه، وأنه هو المذهب؛ إذ يقول المصنف (1/118): [وعرضتُه مرارًا على شيخنا الإمام العلامة والحبر الفهامة، نسيج وحده، وفريد عصره، مفتي الفرق؛ تقي الدين أبي بكر عبد الله الزريراني، عضد الله الإسلام بحياته المتواصلة، وقضاياه القاطعة الفاصلة، فهذبه وأملى عليه فيه من فيه مسائل منصوصة عن الإمام، صارت أحكام الكتاب بها كاملة، وأجاز الإفتاء بحكمه، وأنه المذهب، فالتاطت به طلاة طائلة] اهـ.
والشيخ الإمام تقي الدين الزريراني البغدادي الحنبلي هذا كان شيخ الحنابلة ومفتيهم في العراق في زمنه؛ حتى ترجمه الإمام العلامة الحافظ زين الدين بن رجب الحنبلي في "ذيل طبقات الحنابلة" (5/1-6، ط. مكتبة العبيكان) بقوله: [الإمام فقيه العِراق ومفتي الآفاق.. وبرع فِي الفقه وأصوله، ومعرفة المذهب والخلاف.. وانتهت إليه معرفةُ الفقه بالعراق، ومن محفوظاته فِي المذهب: كتاب "الخرقي" و"الهداية" لأبي الْخَطَّاب، وذكر أَنَّهُ طالع "المغنى" للشيخ موفق الدين ثلاثًا وعشرين مرة، وَكَانَ يستحضر كثيرًا منه أو أكثرَه، وعلَّق عَلَيْهِ حواشيَ وفوائد، ووَلِيَ القضاء، ودرّس بالبشيرية ثم بالمستنصرية واستمر فيها إلى حين وفاته، وَلَهُ اليد الطُّولَى فِي المناظرة والبحث، وكثرة النقل، ومعرفة مذاهب النَّاس، وانتهت إِلَيْهِ رياسة العلم ببغداد مِن غَيْر مدافِع، وأقر له الموافق والمخالف، وَكَانَ الفُقَهَاء من سائر الطوائف يجتمعون بِهِ، يستفيدون منه فِي مذاهبهم، ويتأدبون مَعَهُ، ويرجعون إِلَى قَوْله ونقله لمذاهبهم، ويردهم عَن فتاويهم، فيذعنون لَهُ ويرجعون إِلَى مَا يقوله، ويعترفون لَهُ بإفادتهم فِي مذاهبهم، حَتَّى ابْن المطهر شيخ الشيعة: كَانَ الشيخ تقي الدين يبين لَهُ خطأه فِي نقله لمذهب الشيعة فيذعن لَهُ، وَقَالَ لَهُ مرة بَعْض أئمة الشَّافِعِية -وَقَدْ بحث مَعَهُ-: "أَنْتَ اليوم شيخ الطوائف ببغداد"، وَقَالَ العلامة الشيخ شمس الدين البرزالي والد الشيخ شمس الدين مدرس المستنصرية: "مَا درَّس أحد بالمستنصرية منذ فُتِحَتْ إِلى الآن أفقه منه"، ويوم وفاته قال الشيخ شهاب الدين عبد الرحمن بن عسكر شيخ المالكية: "لَمْ يبقَ ببغداد مَن يُراجَع فِي علوم الدين مثله". قرأ عَلَيْهِ جَمَاعَة من الْفُقَهَاء، وتخرج بِهِ أئمة] اهـ.
واعتماد الإمام التقي الزريراني كتابَ "الوجيز" مرجعًا للفتوى، وترجيحًا لروايات المذهب الحنبلي، مع كونه فقيهَ العراق ومفتيَ الآفاق، ومَن انتهت إليه معرفة الفقه ورياسة العلم في عصره ومصره: يقتضي أن المدرسة الحنبلية البغدادية كانت تعتمد مِن روايات المذهب كونَ الطهارة سُنّةً في الطواف، وتُفتِي بذلك في تلك الحقبة الزمنية مِن القرن الثامن الهجري على الأقل. وبذلك يندفع القول بانفراد ابن تيمية وابن القيم الحنبليين عن الحنابلة في تصحيح طواف الحائض للعذر مع عدم إيجاب الدم عليها، ويثبت كون ذلك روايةً صحيحة الورود عن صاحب المذهب رحمه الله تعالى، وأنه قد رجّحها وعمل بها جماعةٌ مِن أئمة الحنابلة؛ ممن يُرجَع إليهم ويُعَوَّل عليهم في الترجيح والفتوى في المذهب، وصح بذلك جواز تقليد هذه الرواية والفتوى والعمل بها.
وبناءً على ذلك: فإذا حاضت الحاجّة قبل طوافها الإفاضة، أو المعتمرة عمرةً مستقلة قبل طواف عمرتها، فإن لها أن تتحين وقت انقطاع دمها خلال الحيض أو تأخذ دواءً يمنع نزول الدم بما يسع زمن الطواف، ثم تغتسل وتطوف في فترة النقاء؛ أخذًا بقول التلفيق الذي يجعل النقاء بين الدمين في الحيض طهرًا؛ كما هو مذهب المالكية والحنابلة وقولٌ للشافعية، فإن لم تفعل ولم ينقطع دمها، ولم يمكنها الانتظار حتى تطهر؛ لعذر من الأعذار التي لا مناص منها، فالأحوط لها؛ كما يقول الشافعية، والذي يقتضيه يسر الشريعة؛ كما يقول المالكية، وهو الذي عليه العمل والفتوى: أن تقلد الحنفية في القول بصحة طواف الحائض؛ فيجوز لها حينئذٍ أن تُقْدِمَ على الطواف وتهجم عليه بعد أن تشد على نفسها ما تأمن به مِن تلويث الحرم، ولا إثم عليها؛ لأنها معذورة بما لا يدَ لها فيه ولا اختيار، ويستحبُّ لها أن تذبح بدنة؛ خروجًا من خلاف مَن أوجبها مِن الحنفية، وإلّا فلتذبح شاة؛ كما هو عند الحنابلة في رواية، فإن شق عليها ذلك فلا حرج عليها ألّا تذبح أصلًا؛ أخذًا بما ورد عن السيدة عائشة رضي الله عنها وجماعة من السلف، واختاره مَن قال مِن الفقهاء إن الطهارة للطواف سُنّة، أو هو واجب تسقط المؤاخذة به عند العذر، وهو رواية عن الإمام أحمد أفتى بها جمعٌ مِن أهل مذهبه.
 ثانيًا: وأما دخول الحائض للمسجد النبوي للزيارة والسلام على النبي صلى الله عليه وآله وسلم: فالذي عليه جمهور الفقهاء: أنه لا يجوز للحائض المكث في المسجد، وأجازوا لها المرور داخله إذا أمنت تلويثه، واتفقوا على جواز مرورها فيه للضرورة والحاجة:
قال الإمام الخطابي الشافعي في "معالم السنن" (1/77، ط. المطبعة العلمية):
[وقد اختلف العلماء في ذلك؛ فقال أصحاب الرأي: لا يدخل الجنب المسجد إلّا بأحد الطهرين، وهو قول سفيان الثوري، فإن كان مسافرًا ومر على مسجد فيه عين ماء تيمم بالصعيد ثم دخل المسجد واستقى، وقال مالك والشافعي: ليس له أن يقعد في المسجد، وله أن يمر فيه عابرَ سبيل، وتأول الشافعي قوله تعالى ﴿لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا﴾ [النساء: 43] على أن المراد به: المسجد؛ وهو موضع الصلاة، وعلى هذا تأوله أبو عبيدة معمر بن المثنى، وكان أحمد بن حنبل وجماعة من أهل الظاهر يجيزون للجنب دخول المسجد، إلّا أن أحمد كان يستحب له أن يتوضأ] اهـ.
وقال الإمام حجة الإسلام أبو حامد الغزالي الشافعي في "الوسيط في المذهب" (2/185، ط. دار السلام): [شرط المكث في المسجد عدم الجنابة؛ فيجوز للمحدث المكث وللجنب العبور، ولا يلزمه في العبور انتحاء أقرب الطرق، وليس له التردد في حافات المسجد من غير غرض، وليس للحائض العبور عند خوف التلويث وكذا من به جراحة نضاخة بالدم، فإن أمنت التلويث فوجهان؛ لغلظ حكم الحيض] اهـ.
وقال الإمام النووي الشافعي في "المجموع شرح المهذب" (2/162، ط. دار الفكر): [الأصح جواز عبورها إذا أمنت التلويث. والله أعلم]. وقال (2/358): [أما عبورها بغير لبث فقال الشافعي رضي الله عنه في "المختصر": أكره ممر الحائض في المسجد. قال أصحابنا: إن خافت تلويثه -لعدم الاستيثاق بالشد، أو لغلبة الدم- حرم العبور بلا خلاف، وإن أمنت ذلك فوجهان: الصحيح منهما جوازه، وهو قول ابن سريج وأبي إسحاق المروزي، وبه قطع المصنف والبندنيجي وكثيرون، وصححه جمهور الباقين؛ كالجنب، وكمن على بدنه نجاسة لا يخاف تلويثه. وانفرد إمام الحرمين فصحح تحريم العبور وإن أمنت؛ لغلظ حدثها، بخلاف الجنب. والمذهب الأول] اهـ.
وقال الإمام البيجوري في "حاشيته على شرح العلامة ابن قاسم الغزي على متن الشيخ أبي شجاع" (1/148-149): [متى خافت التلويث حرم عليها الدخول، وإن لم يوجد التلويث لقلَّة الدم، والمراد بالخوف: ما يشمل التوهُّم، فإن لم تخف تلويثه -بل أمنته- لم يَحرُم، بل يكره لها حينئذٍ، وهو خلاف الأَوْلى للجنب، إلا لعذرٍ فيهما، فتنتفي الكراهةُ لها، وكونُه خلافَ الأَوْلى للجنب للعذر، ومثلها كل ذي نجاسة؛ فإن خاف تلويث المسجد حرم، وإلا كره، إلا لحاجة] اهـ.
على أن من العلماء من قال بجواز مكث الحائض في المسجد إذا أمنت التلويث، وإن كان هذا خلاف ما عليه الجمهور؛ فقد قال بذلك من التابعين: الحسن وابن سيرين؛ فقد أخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه" عَنِ الْحَسَنِ وَابْنِ سِيرِينَ، أَنَّهُمَا قَالَا: «لَا بَأْسَ أَنْ يَرُشَّ الْجُنُبُ وَالْحَائِضُ الْمَسْجِدَ». وهو رواية عن الإمام أحمد، وقول أهل الظاهر.
قال الإمام البغوي في "تفسيره" (1/628، ط. دار إحياء التراث العربي): [وجوَّز أحمد المكث فيه، .. وبه قال المزني] اهـ.
وقال الحافظ ابن رجب الحنبلي في "فتح الباري" (2/112، ط. مكتبة الغرباء الأثرية) في حكم دخول الحائض المسجد إذا توضأت: [ونص أحمد على أنها لو توضأت وهي حائض لم يَجُزْ لها الجلوس في المسجد؛ بخلاف الجنب، وفيه وجه: يجوز إذا أمنت تلويثه] اهـ.
وقال الشيخ مغلطاي في "شرح ابن ماجه" (1/880، ط. مكتبة نزار مصطفى الباز): [ورخّص في المرور ابن مسعود وابن عبّاس وابن المسيّب وابن جبير، وهذا هو الملجا لأهل الظاهر بأن جوّزوا لهما دخول المسجد وكذلك النفساء، قال أبو محمد؛ لأنه لم يأت نهي عن شيء من ذلك.. ، وقال أحمد وإسحاق: الجنب إذا توضأ لا بأس أن يجلس في المسجد] اهـ.
وقال الإمام بدر الدين العيني في "البناية شرح الهداية" (1/642-643، ط. دار الكتب العلمية): [وعن أحمد: له المكث فيه إن توضأ وهو خلاف قول الجمهور، ولأنه لا أثر للوضوء في الجنابة لعدم تحريكها اتفاقا. وعن الحسن البصري، وابن المسيب، وابن جبير، وابن دينار، مثل قول الشافعي رضي الله عنه –أيْ: في جواز المرور-، وقول المزني، وداود، وابن المنذر: يجوز له المكث فيه مطلقا، ومثله عن زيد بن أسلم واعتبروه بالشرك بل أولى، وتعلقوا بقوله عليه الصلاة والسلام: «الْمُؤْمِنُ لَا يَنْجُسُ»] اهـ.
والزيارة النبوية هي من أعظم القربات وآكد المستحبات، وحاجة الحجاج إليها متأكدة؛ فإنهم يقطعون المسافات الطوال قصدًا لزيارة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والسلام عليه؛ امتثالًا لِمَا ورد من الأحاديث النبوية الشريفة في استحباب زيارة قبره الشريف صلى الله عليه وآله وسلم، وأن ذلك مستوجبٌ لشفاعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لزائره، وأن مِن الجفاء أن يحج الإنسان دون أن يزور قبره الشريف صلى الله عليه وآله وسلم، وقد صححها جمع من الحُفّاظ.
ودخول المسجد النبوي لزيارة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والسلام عليه هو بمنزلة المرور الجائز، وقد نص بعض الفقهاء على أن طواف الحائض المعذورة هو بمنزلة المرور الجائز في المسجد، ولا شك أن الزيارة النبوية حينئذ أولى بالجواز من الطواف:
قال الشيخ ابن القيم الحنبلي في "إعلام الموقعين" (3/24، ط. دار الكتب العلمية): [طوافُها بمنزلة مرورها في المسجد، ويجوز للحائض المرور فيه إذا أمنت التلويث، وهي في دورانها حول البيت بمنزلة مرورها ودخولها من باب وخروجها من آخر؛ فإذا جاز مرورها للحاجة فطوافها للحاجة التي هي أعظم من حاجة المرور أولى بالجواز.] اهـ.
وبناءً على ذلك: فيمكن للحائض أن تتحين فترات انقطاع حيضها، وتقلد المذهب القائل بأن النقاء في الحيض طهر؛ وهو قول المالكية والحنابلة وقول للإمام الشافعي يُعرَف بقول "التلفيق" ورجحه بعض الشافعية، ثم تغتسل وتزور النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتسلم عليه، فإن لم ينقطع دمها وخشيت فوات الرفقة قبل انقطاع حيضها فلا مانع من أن تزور وتسلم وهي حائض إذا أَمِنَت التلويث بما تتحفظ به؛ فإن ذلك بمنزلة مرورها الجائز في المسجد، ولها أن تتناول دواءً يمنع نزول الدم وذلك باستشارة أهل الطب.والله سبحانه وتعالى أعلم
 

التفاصيل ....

أولًا: أما طواف الحائض: فقد اتفق الفقهاء على أن الحيض والنفاس ليسا من موانع الإحرام، ولا يترتب عليهما فساد الحج أو العمرة إن حصلا خلالهما، ولا يمنعان شيئًا من أعمال الحج والعمرة إلا الطواف على ما يأتي فيه من الخلاف؛ لحديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قدمتُ مكة وأنا حائضٌ لم أطف بالبيت ولا بين الصفا والمروة، فشكوت ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: «افْعَلِي مَا يَفْعَلُ الْحَاجُّ، غَيْرَ أَلَّا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ حَتَّى تَطَّهَّرِي» متفق عليه، وروى الإمام أحمد في "المسند"، وأبو داود في "السنن"، والترمذي في "جامعه" وحسّنه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «النُّفَسَاءُ وَالْحَائِضُ إِذَا أَتَتَا عَلَى الْوَقْتِ تَغْتَسِلانِ وَتُحْرِمَانِ، وَتَقْضِيَانِ الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا، غَيْرَ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ». كما أنهم اتفقوا على أن المرأة إذا حاضت قبل طواف الركن في الحج أو العمرة وأمكنها الانتظار فعليها أن تنتظر لتطوف على طهارة.
قال الشيخ ابن تيمية الحنبلي -كما في "مجموع الفتاوى" (26/205-206، ط. مجمع الملك فهد)-: [الذي لا أعلم فيه نزاعًا: أنه ليس لها أن تطوف مع الحيض إذا كانت قادرة على الطواف مع الطُّهر؛ فما أعلم منازعًا أن ذلك يحرم عليها وتأثم به] اهـ.
وانتظار الرفقة للحائض حتى تطهر فتطوف أمرٌ مشروع ومستحبٌّ جاءت به السنة النبوية الشريفة؛ فروى البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: حاضتْ صفِيَّةُ بِنت حُيَيٍّ بعدما أفاضت، فذكرْتُ حَيْضَتَها لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: «أَحَابِسَتُنَا هِيَ؟» فقُلْتُ: يا رسول الله، إنها قد كانت أفاضت وطافت بالبيت، ثم حاضت بعد الإفاضة، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «فَلْتَنْفِرْ».
وروى عبد الرزاق وابن أبي شيبة في "مصنفيهما" عن إبراهيم النخعي وأبي هريرة رضي الله عنه موقوفًا قالا: "أَمِيرَانِ وَلَيْسَا بِأَمِيرَيْنِ: الرَّجُلُ يَكُونُ مَعَ الْجِنَازَةِ فَصَلَّى عَلَيْهَا فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ حَتَّى يَسْتَأْذِنَ وَلِيَّهَا، وَالْمَرْأَةُ الْحَائِضُ لَيْسَ لِأَصْحَابِهَا أَنْ يَصْدُرُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوا"، وفي لفظ لأبي هريرة رضي الله عنه عند ابن أبي شيبة: "وَالْمَرْأَةُ تَكُونُ مَعَ الْقَوْمِ فَتَحِيضُ قَبْلَ أَنْ تَطُوفَ بِالْبَيْتِ يَوْمَ النَّحْرِ لَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَنْفِرُوا إِلَّا بِإِذْنِهَا"، ورواه ابن أبي شيبة عن عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما موقوفًا، ويُروَى مرفوعًا من حديث أبي هريرة وجابر رضي الله عنهما بأسانيد فيها مقال.
غير أن انتظار الرفقة للحائض منوط بالإمكان والاستطاعة، فإذا تعذر ذلك أو تعسر فشأنه شأن الأوامر الشرعية التي تسقط عند العجز عنها؛ قال الشيخ ابن تيمية -كما في "مجموع الفتاوى" (26/224)-: [ولما كانت الطرقات آمنة في زمن السلف، والناس يَرِدُون مكةَ ويَصْدُرون عنها في أيام العام، كانت المرأة يمكنها أن تحتبس هي وذو محرمها ومَكَارِيُّها حتى تطهر ثم تطوف؛ فكان العلماء يأمرون بذلك. وربما أمروا الأمير أن يحتبس لأجل الحُيَّضِ حتى يطهرن؛ كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «أَحَابِسَتُنَا هِيَ؟»..
وأما هذه الأوقات فكثير من النساء -أو أكثرهن- لا يُمكنهنَّ الاحتباسُ بعد الوفد، والوفد ينفر بعد التشريق بيوم أو يومين أو ثلاثة، وتكون هي قد حاضت ليلة النحر؛ فلا تطهر إلى سبعة أيام أو أكثر، وهي لا يمكنها أن تقيم بمكة حتى تطهر؛ إما لعدم النفقة، أو لعدم الرفقة التي تقيم معها وترجع معها.. أو لخوف الضرر على نفسها ومالِها في المُقام وفي الرجوع بعد الوفد، والرفقة التي معها: تارة لا يمكنهم الاحتباس لأجلها؛ إما لعدم القدرة على المُقام والرجوع وحدهم، وإما لخوف الضرر على أنفسهم وأموالهم، وتارة يمكنهم ذلك لكن لا يفعلونه؛ فتبقى هي معذورة] اهـ.
والطهارة من الحيض والنفاس شرط لصحة الطواف دون السعي عند جمهور الفقهاء؛ مستدلين بحديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها السابق ذكرُه؛ فإن فيه نهيًا للحائض عن الطواف حتى ينقطع دمها وتغتسل، والنهيُ في العبادات يقتضي الفساد، ولذلك يبطل الطواف لو فعلَتْه.
وخالف في اشتراط الطهارة للطواف جماعةٌ مِن الفقهاء؛ فحملوا النهي في الحديث على الحالة المعتادة التي تستطيع فيها الحائض الانتظار حتى تطهر وتطوف، لا على حال الضرورة، وجعلوا الطهارة في الطواف واجبًا لا شرطًا؛ وهو مذهب الحنفية، وقول عند الحنابلة، ومنهم مَن جعلها سُنّة؛ وهو مذهب جماعة مِن التابعين، وقول عند الحنفية والمالكية والحنابلة.
فتُحْرِم الحائض أو النفساء بالحج أو بالعمرة من ميقات إحرامها وتنتظر على مذهب الجماهير حتى تطهر؛ سواء أتاها الحيض قبل الإحرام أم أثناءه أم بعده وقبل الطواف، فإذا طهرت اغتسلت ثم طافت وسعت من غير أن تحرم مرة أخرى من الحِلِّ.
فإن تخلل حيضها فترة انقطع فيها الدم، أو استعملت دواءً فانقطع دمُها: جاز لها الاغتسال والطواف، وطوافها صحيح حتى لو رجع إليها الدم بعد ذلك وكانت في مدة الحيض؛ على ما عليه المالكية والحنابلة مِن أن النقاءَ في الحيض طُهْر، وهو أحد قولي الإمام الشافعي ويُعرَف بقول "التلفيق"، ورجحه جماعة من الشافعية، وهو مذهب الإمام الحسن بن أبي الحسن البصري.
فإن تأخر طهرُها ولم ينقطع دمُ حيضها وخافت فوات الرُّفقة، وتعذر عليها الانتظارُ حتى تطهر: فالذي يقتضيه مذهب مَن يرى الطهارة شرطًا في الطواف: أنها تتحلل من إحرامها كالمُحصَر، وتذبح إن لم تكن قد اشترطت إحلالها إذا حُبِسَتْ، ويبقى الطواف في ذمتها ولو بعد سنين، وبعضهم يوجب عليها المكث بمكة حتى تطهر فتطوف، ولا يخفى ما في ذلك كلِّه مِن العسر والمشقة، سيّما إذا نأتِ الديار وبَعُدَت الشُّقّةُ، أو ضاق الحالُ وعزَّت النفقة، وقد أصبح الحج كالفرصة التي يندر تكرارها لعامّة الناس.
والذي عليه جماهير المحققين وكثيرٌ مِن فقهاء المذاهب وعليه العمل والفتوى: صحّةُ طوافِها حالَ حيضها حينئذٍ؛ لأن المشقة تجلب التيسير، وإذا ضاق الأمر اتسع.
- ثم منهم مَن يُلزِمُها بشاة عن طواف العمرة وبدنة عن طواف الإفاضة في الحج، وهم الحنفية في المعتمد؛ بناءً على أن ترك الطهارة يُجْبَرُ بدمٍ؛ لأنها مِن واجبات الطواف لا مِن شروطه، ويروي الحنفية هذا القولَ عن ابن عباس رضي الله عنهما، وذكره الإمام أبو يعقوب الأبيوردي وجهًا في مذهب الشافعي في طواف الوداع، وإن لم يعتمده الشافعية، وهو رواية عن الإمام أحمد، ونص المالكية على تقليده وأن الأخذ به هو مقتضَى يسر الدين، ونص الشافعية على أنه هو الأحوط.
- ومنهم مَن لا يُلزمها بدمٍ أصلًا:
1. إمّا لأنها معذورة؛ كما هو مرويٌّ عن السيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، وقد نقله عنها عطاء بن أبي رباح وهو أعلم التابعين بالمناسك، وهو مقتضى قول عطاء بن أبي رباح وإبراهيم النخعي في تصحيحهما الطواف إذا حاضت المرأة أثناءه، وقول الحكم بن عُتَيْبة، وحماد بن أبي سليمان، ومنصور بن المعتمر، وسليمان الأعمش؛ كما نقله عنهم إمام المحدِّثين شعبة بن الحجّاج، وهو المُفتَى به عند السادة المالكية تخريجًا على ما رواه البصريون عن الإمام مالك في جعله طواف القدوم بدلًا عن طواف الإفاضة لمن سافر لبلده ونسيه، وهو مرويٌّ عن الإمام أحمد واختاره الشيخ ابن تيمية وتلميذه ابن القيم الحنبليان وبعض أئمة الحنابلة.
2. وإما لأن الطهارة في الطواف سنة لا واجب؛ وهو قول الإمام محمد بن شُجَاع الثلجي مِن أئمة الحنفية، وقول الإمام المغيرة بن عبد الرحمن المخزومي؛ فقيه أهل المدينة بعد الإمام مالك، ورواية عن الإمام أحمد. غير أنّ مِن الفقهاء مَن لا يجعل القولَ بسُنِّيّة الطهارة مسقطًا للزوم الدم.
وقد وردت الآثار عن السلف بصحة طواف الحائض: 
فجاء ذلك عن جماعة من الصحابة؛ منهم: عائشة أم المؤمنين، وابن عمر، وابن عباس رضي الله عنهم:
- فقال سعيد بن منصور: حدثنا أبو عوانة، عن أبي بشر، عن عطاء، قال: "حاضت امرأةٌ وهي تطوف مع عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، فأتمَّت بها عائشةُ بقيةَ طوافِها". ذكره ابن حزم في "المحلَّى" (5/189، ط. دار الفكر)، وابن القيم في "إعلام الموقعين" (4/372، ط. دار ابن الجوزي) واللفظ لهما، وابن جماعة في "هداية السالك" (3/917)، والزيلعي في "نصب الراية" (3/128، ط. مؤسسة الريان)، ولفظه عندهما: "فأتمَّت بها عائشةُ سُنّة طوافها".
قال الإمام ابن حزم عقب ذكره: [فهذه أم المؤمنين لم تر الطهارة مِن شروط الطواف] اهـ.
وقال العلامة الكمال بن الهمام الحنفي في "فتح القدير" (2/244، ط. المطبعة الأميرية ببولاق 1315هـ): [وهذا يؤيد انتفاء الاشتراط] اهـ بتصرف.
وهذا إسناد مسلسَل بالأئمة الأثبات الثقات؛ فأبو عوانة: هو الوضّاح بن عبد الله اليشكري؛ الإمام الحافظ محدِّث البصرة، وأبو بشر: هو جعفرُ بن أبي وحشيةَ إياسٍ الواسطيُّ؛ تابعي من رجال الصحيحين، وثقه جماعة من الأئمة، وعطاء: هو ابن أبي رباح؛ مفتي أهل مكة، وأعلم التابعين بالمناسك، حتى قال الإمام محمد الباقر رضي الله عنه -فيما أخرجه ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" (6/330، ط. دار إحياء التراث العربي)-: "ما بقي أحدٌ مِن الناس أعلم بأمرِ الحج مِن عطاء"، وقد سمع عطاءٌ مِن عائشة رضي الله عنها؛ كما قال الإمام أحمد -فيما رواه عنه حرب في "مسائله" (3/1314، ط. جامعة أم القرى)-، ويحيى بن معين، وأبو حاتم وأبو زرعة الرازيان -كما في "الجرح والتعديل" (6/330)-، وحديثه عنها مُخرَّج في الصحيحين والمسانيد والسنن.
- ونقل الإمام أحمد عن عبد الله بن عُمَر رضي الله عنهما التسهيلَ والتيسيرَ على مَن طاف للإفاضة على غير طهارة ثم جامع أهله، ذكره أبو بكر عبد العزيز في كتاب "الشافي" من رواية عبد الملك الميموني عن أحمد، وأنه قال: "هذه مسألة الناس فيها مختلفون"، وذكَر قولَ ابن عمر وما يقول عطاء وما يسهل فيه، وما يقول الحسن. وهذا يقتضي عدم اشتراط الطهارة في الطواف، وقد نقل ذلك ابنُ تيمية -كما في "مجموع الفتاوى" (26/207-208)- ثم قال: [وجواب أحمد المذكور يبين أن النزاع عنده في طواف الحائض وغيره، وقد ذَكَرَ عن ابن عمر وعطاء وغيرِهما التسهيلَ في هذا] اهـ.
- ونقَل فقهاء الحنفية عن حبر الأُمّة سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنّه أوجب بدَنَةً على مَن طاف وهو جنب، وهذا يقتضي تصحيح طوافه، والحائض كالجنب، بل هي أَوْلَى؛ لأن العذر في حقها أشد:
قال الإمام السرخسي الحنفي في "المبسوط" (4/39، ط. دار المعرفة): [وهو مرويٌّ عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: البدنة في الحج تجب في شيئين: على مَن طاف جُنُبًا، وعلى مَن جامع بعد الوقوف، وإن أعاد طوافه سقطت عنه البدنة] اهـ.
وقال الإمام الكاساني في "بدائع الصنائع" (2/217، ط. دار الكتب العلمية): [رُوِيَ عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: البدنة في الحج في موضعين أحدهما: إذا طاف للزيارة جنبًا ورجع إلى أهله ولم يعد، والثاني: إذا جامع بعد الوقوف] اهـ.
ونقله بمعناه الإمام المرغيناني في "الهداية" (1/161، ط. دار إحياء التراث العربي) فقال: [(ولو طاف طواف الزيارة محدثًا فعليه شاة) لأنه أدخل النقص في الركن فكان أفحش من الأول، فيجبر بالدم (وإن كان جنبا فعليه بدنةٌ) كذا رُوِيَ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما] اهـ.
وقال الشيخ ابن تيمية كما في "مجموع الفتاوى" (26/126، ط. مجمع الملك فهد): [ونقَل بعضُ الفقهاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: "إذا طاف بالبيت وهو جُنُبٌ عليه دمٌ"] اهـ.
قال الحافظ الزيلعي في "نصب الراية" (3/128، ط. دار الريان): [غريب] اهـ، وقال الحافظ ابن حجر في "الدراية في تخريج أحاديث الهداية" (2/41، ط. دار المعرفة): [لم أجده] اهـ.
 ورُوِيَ ذلك أيضًا عن جماعة من التابعين، ومَن بعدهم:
فروى الإمام أبو بكر بن أبي شيبة في "المصنف" عن غندر، عن شعبة قال: سألتُ الحكَمَ، وحمّادًا، ومنصورًا، وسليمانَ، عن الرجل يطوف بالبيت على غير طهارة، «فلم يروا به بأسًا». وسقط اسم "الحكَم" من مطبوعة "المصنَّف"، وهي ثابتة في "فتح الباري" للحافظ ابن حجر (3/505، ط. دار المعرفة) و"طرح التثريب" للحافظ أبي زرعة العراقي (5/120، ط. دار الفكر العربي).
ونقل الحافظ أبو عمر بن عبد البر ذلك عن إبراهيم النخعي أيضًا؛ كما في كتابه "الاستذكار" (4/207، ط. دار الكتب العلمية).
وورد عن عطاء وإبراهيم أيضًا الاعتدادُ بطواف الحائض إذا جاءها الحيض أثناء الطواف:
فروى ابن أبي شيبة في "المصنف" من طريق ليث، عن عطاء بن أبي رباح قال: "إذا طافت المرأة ثلاثة أطواف فصاعدًا ثم حاضت، أجزأ عنها"، وفي لفظ آخر من طريق حجاج، عن عطاء: "تستقبل الطواف أحبُّ إلي، وإن فعلَتْ فلا بأس به". ورَوَى أيضًا عن إبراهيم النخعي في المرأة تطوف ثلاثة أشواط ثم تحيض، قال: "يُعتَدُّ به".
قال الشيخ ابن تيمية -كما في "مجموع الفتاوى" (26/208)-: [وهذا صريح عن عطاء أن الطهارة من الحيض ليست شرطًا، وقولُه مما اعتَدَّ به أحمدُ] اهـ.
وقال تلميذه الشيخ ابن القيم الحنبلي في "إعلام الموقعين" (4/372): [وأشار أحمد إلى تسهيل عطاء إلى فتواه أن المرأة إذا حاضت في أثناء الطواف فإنها تتم طوافها، وهذا تصريح منه أن الطهارة ليست شرطًا في صحة الطواف] اهـ.
وأفتى الإمام الحسن بن أبي الحسن البصري المرأةَ الحائضَ التي شربت دواءً فانقطع دمها، فطافت في أيام عادتها، أن طوافها صحيح؛ وذلك فيما أخرجه الإمام أحمد -كما في "مسائل أبي داود" عنه (ص: 163، ط. مكتبة ابن تيمية)- قال: حدثنا معاذ بن معاذ، عن أشعث، عن الحسن، أنه قال في امرأة قضت المناسك كلها إلا الطواف الواجب، ثم حاضت فشربت دواء، فقطع الدم عنها، فطافت في أيام حيضتها وهي طاهرٌ؛ قال: "أَجزَأَ عنها".
ومذهب الإمام أبي ثور فيمن طاف على غير طهارة: أنه إن فعل ذلك وهو لا يعلم أجزأه، بخلاف العامد فإنه لا يجزئه، وهذا يقتضي أن الطهارة عنده ليست شرطًا في الطواف؛ فإن الشرط لا يسقط بالنسيان؛ قال الإمام ابن رشد في "بداية المجتهد" (2/109، ط. دار الحديث): [وقال أبو ثور: إذا طاف على غير وضوء أجزأه طوافه إن كان لا يعلم، ولا يجزئه إن كان يعلم] اهـ.
ومذهب الإمام داود الظاهري أن الطهارة ليست شرطًا في الطواف؛ كما نقل ذلك الإمام النووي في "شرح مسلم" (8/147، ط. دار إحياء التراث العربي).
وأمّا عند أرباب المذاهب الفقهية المتبوعة:
- فنص السادة الحنفية على أن الطهارة من الحيض ليست شرطًا للطواف، وأن طواف المحدث حدثًا أكبر؛ جنُبًا أو حائضًا أو نفساء للعمرة يُجبَر بشاة، وطواف الزيارة يُجبَرُ ببدنة، ونقلوا ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما، وتجب الإعادة بعد ارتفاع الحدث، فإن أعيد الطواف حال الطهر فلا يجب الدم، إلا إذا حصلت الإعادة بعد أيام النحر فيجب الدم عند الإمام أبي حنيفة للتأخير:
قال الإمام الكاساني الحنفي في "بدائع الصنائع" (2/129، ط. دار الكتب العلمية): [فأما الطهارة عن الحدث, والجنابة, والحيض, والنفاس؛ فليست بشرط لجواز الطواف, وليست بفرض عندنا، بل واجبة حتى يجوز الطواف بدونها] اهـ.
وقال الإمام مجد الدين أبو الفضل الحنفي في "الاختيار في تعليل المختار" (1/162، ط. مطبعة الحلبي): [لو طاف للعمرة جنبًا أو محدثا فعليه شاة؛ لأنه ركن فيها، وإنما لا تجب البدنة لعدم الفرضية; والحائض كالجنب لاستوائهما في الحكم، ولو أعاد هذه الأطوفة على طهارة سقط الدم؛ لأنه أتى بها على وجه المشروع فصارت جنايته متداركة، فسقط الدم] اهـ.
وقال في طواف الزيارة (1/163-164): [(وإن طاف للزيارة جنبا فعليه بدنة، وكذلك الحائض) لأنه لما وجب جبر نقصان الحدث بالشاة وجب جبر نقصان الجنابة بالبدنة، لأنها أعظم فتعظم العقوبة، وهو مرويٌّ عن ابن عباس رضي الله عنهما، والأَوْلَى أن يعيده ليأتي به على أكمل الوجوه، فإن أعاد فلا شيء عليه؛ لأنه استدرك ما فاته في وقته] اهـ.
واختلف مشايخ الحنفية في كون الطهارة للطواف واجبًا أو سُنّة، وصححوا أنها واجبةٌ:
قال الإمام السرخسي في "المبسوط" (4/38، ط. دار المعرفة): [الصحيح من المذهب أن الطهارة في الطواف واجبة، وكان ابن شجاع رحمه الله تعالى يقول: إنها سنة] اهـ.
وقال الإمام الموفق بن قدامة الحنبلي في "المغني" (3/343، ط. مكتبة القاهرة): [وقال أبو حنيفة: ليس شيء من ذلك -يعني: الطهارة في الطواف- شرطا. واختلف أصحابه؛ فقال بعضهم: هو واجب، وقال بعضهم: هو سنة؛ لأن الطواف ركن للحج؛ فلم يشترط له الطهارة، كالوقوف] اهـ.
ونص بعض الحنفية على أن القول بالسُّنِّيَّة عندهم لا ينافي وجوب الكفارة:
قال العلامة زين الدين بن نجيم في "البحر الرائق" (3/19، ط. دار الكتاب الإسلامي): [وظاهر كلام "غاية البيان": أن الدم واجب اتفاقًا: أما على القول بوجوبها - وهو الأصح- فظاهر، وأما على القول بسنيتها فلأنه لا يمتنع أن تكون سُنّة ويجب بتركها الكفارة؛ ولهذا قال: محمد فيمن أفاض من عرفة قبل الإمام يجب عليه دم؛ لأنه ترك سنة الدفع. اهـ. وبهذا علم أن الخلف لفظي لا ثمرة له] اهـ. وتعقبه الشيخ سراج الدين بن نُجيم في "النهر الفائق" (2/125-126، ط. دار الكتب العلمية) بقوله: [وفيه نظر؛ إذ إثم ترك الواجب أشد] اهـ.
وقال الشيخ ابن تيمية الحنبلي في "الفتاوى الكبرى" (1/448، ط. دار الكتب العلمية): [وكذلك قال بعض الحنفية: إن الطهارة ليست واجبة في الطواف، بل سنة، مع قوله: إن في تركها دمًا] اهـ.
ومذهب الحنفية أن الحائض إذا طافت أثمت بدخولها المسجد الحرام مع صحة طوافها؛ قال العلامة ابن أمير الحاج الحنفي في "منسكه": [لو هَمَّ الركبُ على القفول ولم تطهر، فاستفتت: هل تطوف أم لا؟ قالوا: يُقال لها: لا يحل لك دخول المسجد، وإن دخَلْتِ وطُفْتِ أَثِمْتِ وصح طوافُكِ، وعليك ذبح بدنة. وهذه مسألة كثيرة الوقوع يتحير فيها النساء] اهـ نقلًا عن "حاشية ابن عابدين على الدر المختار" (2/519، ط. دار الفكر).
وقال العلامة ملا علي القاري الحنفي في "المسلك المتقسط في المنسك المتوسط" (ص: 73، ط. المطبعة الكبرى 1288هـ): [(الطهارة عن الحدث الأكبر والأصغر).. ووجوبها عنهما هو الصحيح من المذهب، وهو إحدى الروايتين عن الإمام أحمد، وقال ابن شجاع: هو سنة.. ثم إذا ثبت أن الطهارة عن النجاسة الحكمية واجبة فلو طاف معها يصح عندنا وعند أحمد، ولم يحل له ذلك ويكون عاصيًا، ويجب عليه الإعادة أو الجزاء إن لم يعد] اهـ.
والتحقيق أن الإثم إنما يلحق الحائض بطوافها في الحالة المعتادة، أما في حالة الضرورة التي تخشى فيها فوات رفقتها ويتعذر أو يتعسر عليها العود للبيت الحرام للطواف: فإن الإثم ينتفي عنها حينئذ للضرورة؛ فقد نص الحنفية على جواز دخول الحائض إلى المسجد للضرورة؛ قال الإمام أبو الفضل الموصلي في "المختار" (1/13، ط. مطبعة الحلبي): [ولا يدخل -أي: الجنب- المسجد إلا لضرورة، والحائض والنفساء كالجنب] اهـ.
وقال العلامة ملا خسرو الحنفي في "درر الحكام شرح غرر الأحكام" (1/20، ط. دار إحياء الكتب العربية): [(وحرُم على الجنب دخولُ المسجد ولو للعبور.. إلا لضرورة) كأن يكون بابُ بيتِه إلى المسجد] اهـ، ونقله ابنُ نجيم في "البحر الرائق" (1/205، ط. دار الكتاب الإسلامي) ثم قال: [وهو حسن] اهـ. والتمثيل بما ذُكِرَ يكشف أن المقصود بالضرورة: الحاجة الأكيدة، وهي متحققة بأبلغ من ذلك في حالة الحائض المعذورة التي تخشى فوات رفقتها ولا يمكنها الانتظار.
ولذلك جاء في "الفتاوى الأسعدية في فقه الحنفية" للعلامة السيد أسعد المنورة الحسيني مفتي المدينة المنورة (1/21، ط. المطبعة الخيرية):
[سؤال في المرأة إذا حاضت وهي محرمة، ما حكمها؟ أفتونا.
الجواب: تعمل جميع ما يعمل الحاج من الوقوف بعرفة والغسل والوقوف بمزدلفة والرمي والتقصير، غير أنها لا تطوف طواف القدوم ولا طواف الإفاضة حتى تطهر، ويسقط عنها طواف الوداع إن لم تطهر قبل ذلك، وأما طواف الإفاضة فلم يسقط بحال، وإن لم تطهر يقال لها: تربصي حتى تطهري وتطوفي، وإلا تطوفي وعليك بدنة. والله أعلم] اهـ.
فأمرها بالطواف إن لم يتيسر لها التربُّصُ، ومفهومه: أنه لا إثم عليها إن فعلت ذلك؛ إذ الإثم هنا يتعلق بالفعل المتعمَّد من غير حاجة.
ومع انتفاء الإثم عن المضطرة للطواف وهي حائض فإن وجوب الكفارة لا يسقط عنها عند الحنفية؛ فإنهم لم يستثنوا حال الاضطرار والعذر من وجوب الكفارة، وسبب وجوبها مع وجود العذر: أن العذر حصل مِن قِبَل العِبَاد؛ حيث إن اضطرارها إنما جاء بسبب تعجل رفقتها.
وبيانُ ذلك: أنه قد تقرر في قواعد فقه الحنفية أن ترك النسك الواجب لعذر يسقط الكفارة؛ ولذلك سقط عن المرأة الدمُ إذا حاضت قبل طواف الوداع مع كونه طوافًا واجبًا عند الحنفية؛ قال العلامة الكاساني في "بدائع الصنائع" (2/142، ط. دار الكتب العلمية): [رخص النبي صلى الله عليه وآله وسلم للنساء الحُيَّضِ في ترك طواف الصدر لعذر الحيض، ولم يأمرهن بإقامة شيء آخر مقامه وهو الدم، وهذا أصل عندنا في كل نسك جاز تركُه لعُذرٍ: أنه لا يجب بتركه من المعذور كفارة] اهـ بتصرف، لكنهم قيدوا العذر المسقطَ للدَّمِ ببعض القيود:
منها: أن لا يمكن تدارك الواجب، فإن أمكن تداركه ولم يُتَدارك وجبت فيه الكفارة.
ومنها: أن لا يكون هذا العذر مِن قِبَل العِبَاد، فإن كان كذلك وجبت فيه الكفارة أيضًا.
قال العلامة ابن عابدين في "رد المحتار على الدر المختار" (2/544، ط. دار الفكر): [تتمة: يُستَثنَى مِن الإطلاق المار في وجوب الجزاء ما في اللباب: لو ترك شيئًا من الواجبات بعذر، لا شيء عليه على ما في "البدائع"، وأطلق بعضهم وجوبه فيها إلا فيما ورد النص به؛ وهي ترك الوقوف بمزدلفة، وتأخير طواف الزيارة عن وقته، وترك الصدر للحيض والنفاس، وترك المشي في الطواف والسعي، وترك السعي، وترك الحلق لعلة في رأسه اهـ لكن ذكر شارحه ما يدل على أن المراد بالعذر: ما لا يكون من العباد؛ حيث قال عند قول "اللباب": "ولو فاته الوقوف بمزدلفة بإحصار فعليه دم": هذا غير ظاهر؛ لأن الإحصار من جملة الأعذار، إلا أن يقال: إن هذا مانع من جانب المخلوق؛ فلا يؤثر، ويدل له ما في "البدائع" فيمن أحصر بعد الوقوف حتى مضت أيام النحر ثم خُلِّيَ سبيلُه: أن عليه دمًا لترك الوقوف بمزدلفة، ودمًا لترك الرمي، ودمًا لتأخير طواف الزيارة اهـ . ومثله في إحصار "البحر"] اهـ.
وفي "الدر المختار" للعلامة الحصكفي: [(أو أفاض من عرفة) ولو بِنَدِّ بعيرِه (قبل الإمام) والغروب، ويسقط الدم بالعود ولو بعده في الأصح "غاية"].
قال العلامة ابن عابدين في حاشيته عليه "رد المحتار على الدر المختار" (2/552): [قال في "اللباب": ولو ند به بعيره فأخرجه من عرفة قبل الغروب لزمه دم، وكذا لو ند بعيره فتبعه لأخذه اهـ. قال شارحه القاري: وفيه أن ترك الواجب لعذر مسقط للدم. اهـ. وأجيب بأنه يمكنه التدارك بالعود، وهو مسقط للدم. قلت: الأحسن الجواب بما قدمناه أول الباب من أن المراد بالعذر المسقط للدم ما لا يكون من قبل العباد وسيأتي توضيحه في الإحصار] اهـ.
وقال العلامة الطحطاوي في "حاشيته" عليه (1/523، ط. بولاق): [وفيه أن النَّدَّ عذر؛ لأن حفظ المال واجب كحفظ النفس، وحكم الواجب: سقوط الدم فيه للعذر، ولم يعتبروه هنا] اهـ.
- ونص المالكية على أن الحائض إذا انقطع دمُها ولو لمدة يسيرةٍ جاز لها أن تطوف في وقت انقطاع الدم بعد أن تغتسل، فإن استمر دم الحيض بلا انقطاع: ففي تقرير المذهب قولان:
الأول: أن طوافها لا يصح، وعليها أن تمكث في مكة وحدها حتى تطهر ثم تطوف إن أمكنها المقام بمكة، وإلا رجعت إلى بلدها ثم عادت من قابل، وهذا جارٍ على ما نقله البغداديون عن الإمام مالك رحمه الله تعالى.
الثاني: أن طوافها صحيح؛ أخذًا من قول المغيرة بن عبد الرحمن المخزومي -فقيه أهل المدينة بعد الإمام مالك- فيمن طاف على غير طهارة وخرج إلى بلده فإن ذلك يجزئه، وتخريجًا على ما رواه البصريون عن الإمام مالك من إحلاله طواف القدوم محل طواف الركن لمن نسيَه أو جهل فرضيته، فرجع إلى بلده دون أن يؤديه، من غير أن يوجب عليه دمًا، وعذر الحائض أبلغ من ذلك، وتصحيح طوافها أولى؛ فإن تصحيح الطواف دون شرطه أَوْلَى من تصحيحه قبل وقته؛ إذ حُرمة الوقت مقدمةٌ على حرمة الشرط.
والعمل والفتوى عندهم على هذا التخريج، كما نصوا أيضًا على جواز تقليد الإمام أبي حنيفة:
قال الإمام أبو محمد بن شاس المالكي في "عقد الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة" (1/398، ط. دار الغرب الإسلامي): [لو طاف غير متطهر أعاد، فإن رجع إلى بلده قبل الإعادة رجع من بلده على إحرامه إلى مكة فيطوف. وقال المغيرة: يُعِيد ما دام بمكة، فإن أصاب النساء وخرج إلى بلده أجزأه] اهـ. وظاهر هذا النقل عن المغيرة أنه لا دم عليه.
ونقله الإمام أبو زرعة العراقي الشافعي في "طرح التثريب" (5/121، ط. دار إحياء التراث العربي) فقال: [وعند المالكية قولٌ يوافق هذا] -أي: قول الحنفية- فذكره.
وقال الإمام القرافي المالكي في "الذخيرة" (3/238، ط. دار الغرب الإسلامي): [وقال الإمام أبو حنيفة والمغيرة: لا يشترط الطهارة؛ قياسًا على الوقوف، بل هي سُنّةٌ؛ إن طاف محدِثًا فعليه شاةٌ، أو جنُبًا فعليه بدَنةٌ] اهـ.
وقال الإمام ابن جماعة الكناني الشافعي في "هداية السالك إلى المذاهب الأربعة في المناسك" (3/916): [وقال المغيرة من أصحاب مالك: إنه لا تُشتَرطُ الطهارة؛ بل هي سُنَّة، إن طاف مُحْدِثًا فعليه شاة، وإن طاف جُنُبًا فعليه بدنة] اهـ.
وقال العلامة الشيخ عليش المالكي في "منح الجليل شرح مختصر خليل" (2/298، ط. دار الفكر): [ولا يُحبَسُ كَرِيٌّ ولا وَلِيٌّ لأجل طوافها، وتمكث وحدها بمكة حتى تطهر وتطوف إن أمكنها المُقام بها، وإلا رجعت لبلدها وهي محرمة وتعود في القابل. سند.. وهذا كله إن لم ينقطع دمها أصلًا، وإلا اغتسلت وطافت حال انقطاعه ولو بعض يوم.
هذا تقرير المذهب، وفيه مشقة؛ خصوصًا على مَن بلادُها بعيدةٌ. ومقتضى يُسرِ الدين:
- إمّا تقليدُ ما رواه البصريون عن الإمام مالك رضي الله عنه: أن من طاف للقدوم وسعى ورجع لبلده قبل طواف الإفاضة جاهلًا أو ناسيًا أجزأه عن طواف الإفاضة، وإن كان خلافَ رواية البغداديين عدمَه وهو المذهب، ولا شك أن عذر الحائض والنفساء أبلغ من عذر الجاهل والناسي.
- وإمّا تقليدُ أبي حنــيفة رضي الله عنه: أن الحائض تطوف؛ لأنه لا يشترط في الطواف الطهارة من حدث ولا من خبث، وهي رواية عن أحمد رضي الله عنه، وعليها بدنة، ويتم حجها؛ لصحة طوافها، وإن أثمت عندهما، أو عند أحمد فقط، بدخولها المسجد حائضًا. والله أعلم بالصواب] اهـ.
ونحوه للشيخ مبارك الأحسائي المالكي في "تسهيل المسالك إلى هداية السالك إلى مذهب الإمام مالك" (3/925، ط. مكتبة الإمام الشافعي)، غير أنه اقتصر في اقتضاء اليسر على القول الثاني عند المالكية دون أن يعرج على تقليد الحنفية، ولا يخفى أن ذلك أيسرُ؛ لإسقاطه الدم، وذاك أحوطُ؛ لأدائها الطواف صحيحًا على مذهبٍ معتبَر.
- وعند الشافعية: أن الحائض لا تطوف حتى تطهر؛ لأن الطهارة شرط صحة في الطواف.
وقد ذكر الإمام أبو يعقوب الأبيوردي من أئمة الشافعية وجهًا في صحة طواف الوداع من غير طهارة مع جبره بدم، وغلَّطه إمام الحرمين؛ فقال في "نهاية المطلب" (4/300، ط. دار المنهاج): [وإنما قال هذا مِن حيث إنه أُلزم وقيل: لو جاز جبر طواف الوداع بالدم، لجاز جبرُ الطهارة فيه بالدم، فارتكبه وقال تُجبر. وهذا غلط؛ لأنه إذا وجب الدم فهذا جبرُ الطواف؛ لا جبرُ الطهارة] اهـ.
ونصُّوا على أن الحائض إذا استعملت دواءً لينقطع دمُها، أو انقطع دمُها أثناء الحيض، فاغتسلت وطافت، فإن طوافَها صحيح وإن عاد الدم بعد ذلك؛ بناءً على أن النقاء في الحيض طهرٌ، وهو أحد قولي الإمام الشافعي رضي الله عنه فيمن انقطع دمُها يومًا ويومًا، ويُعرَف بقول "التلفيق"، ورجحه جماعةٌ من الشافعية، وبه قال الإمامان مالك وأحمد رحمهما الله تعالى.
فإن لم ينقطع دمُها ولم يمكن التخلف: خرجت معهم إلى محل لا يمكن عودُها له، ثم تتحلل كالمُحصَر؛ أي: بذبحٍ فتقصيرٍ مع النية، وإذا عادت إلى مكة -ولو بعد مدة مديدة- طافت بلا إحرام.
غير أنهم نصُّوا على أن الأحوط لها والألْيَقَ بمحاسن الشريعة في حالتها هذه: أن تقلد مذهب مَن يصحح طوافَها وهي حائض؛ فتهجم وتطوف بالبيت، ويلزمها بدنة، مع إثمها. وكذلك الحال في كل مسألة خلافية قال بها إمام معتبر؛ فإن الواقع فيها يقلِّدُ القائل بما له فيه مَخْلَصٌ.
قال الإمام شمس الدين الرملي الشافعي في "نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج" (3/317، ط. دار الفكر): [وبحث بعضهم أنها إن كانت شافعية تقلد الإمام أبا حنيفة أو أحمد على إحدى الروايتين عنده؛ في أنها تهجم وتطوف بالبيت، ويلزمها بدنة، وتأثم بدخولها المسجد حائضًا، ويجزيها هذا الطواف عن الفرض؛ لِمَا في بقائها على الإحرام من المشقة] اهـ.
وقال الإمام ابن حجر الهيتمي الشافعي في "حاشيته على شرح الإيضاح" للإمام النووي (ص: 387-388، ط. دار الحديث): [فائدة: كثر كلامُ الأئمة في نساء الحجيج إذا حِضْنَ قبل طواف الإفاضة ولم يمكنهن التخلفُ لفعله.
وللبارزي كلامٌ في المسألةِ حسنٌ طويلٌ، حاصله: أن مَن استعملت دواءً فانقطع دمُها، أو انقطع لا لدواءٍ، فاغتسلت وطافت، ثم عاد الدم بعد سفرها: يجوز لها العمل بأحد قولي الشافعي فيمن انقطع دمُها يومًا ويومًا؛ فإن يوم النقاء طهرٌ على هذا القول المعروف بقول "التلفيق"، ورجحه جماعة من الأصحاب، ويوافقه مذهب مالك وأحمد: أن النقاءَ في أيام التقطعِ طُهْرٌ.
ومَن لم ينقطع دمُها يصح طوافُها عند أبي حنيفة وعلى إحدى الروايتين عند أحمد، لكن يلزمها بدنة، وتأثم بدخول المسجد وهي حائض؛ فيقال لها: لا يحلُّ لكِ ذلك، لكن إن فعلتِ أثِمْتِ وأجزأكِ عن الفرض.
ومَن سافرَتْ بلا طوافٍ: فنقل البصريون عن مالك أن مَن طاف طواف القدوم وسعى ورجع لبلده قبل طواف الإفاضة جاهلًا أو ناسيًا؛ أجزأه، وقياسه: أن هذه كذلك؛ لأن عذرها أظهر مِن عذرهما؛ لتعذر بقائها بمكة، فإن لم يصح هذا النقل أو ما قيس عليه وأرادت التحلل، فقياس مذهبنا وغيره: أنها تصبر حتى تجاوز مكة إلى محل لا يمكنها الرجوع منه لنحو خوف على بُضْعٍ أو مالٍ، فتصير حينئذ كالمحصر؛ لأنها تتيقن الإحصار لو رجعت، وتيقُّنُه كوجوده، فتتحلَّلُ كتَحَلُّلِه، ثم إن كان إحرامها بفرض بقي في ذمتها، ومشى على ما قال بعض علماء اليمن وأطال في الاستدلال له، وقال: إن ما قاله آخرًا مذهبُ الشافعي لمن أعمل فكره في حقائقه..
قال العلامة ابن حجر: ثم رأيت البلقيني استنبط مما ذكروه في الإحصار من الطواف: أنها إذا لم يمكنها الإقامة حتى تطهر وجاءت بلدها وهي محرمة وعدمت النفقة ولم يمكنها الوصول إلى البيت: أنها كالمحصر؛ فتتحلل تحلله، وأيده بما في "المجموع": أنه لو صُدَّ عن طريقٍ ووجدَ آخرَ أطولَ ولم يكن معه ما يكفيه إذا سلكه: فله التحلُّلُ. قال الولي العراقي: وهو استنباط حسن، وبه أفتى شيخ الإسلام فقيه عصره الشرف المناوي، وهو مؤيِّد لما قاله البارزي، فهو المعتمد.
وإذا علمت ما تقرر: فالأليق بمحاسن الشريعة أن مَن ابتليت بشيء مِن أحد الأقسام الأربعة المذكورة تقلِّدُ القائل بما لها فيه مَخْلَصٌ، بل اختار بعض الحنابلة، وتبعه بعضُ متأخري الشافعية: أنه لا يشترط طهرُها إذا لم تتوقع فراغ حيضها قبل الركب؛ للضرر الشديد بالمقام والرحيل محرمة، وأنه يجوز لها دخول المسجد للطواف بعد إحكام الشد والغسل والعصب، كما تباح الصلاة لنحو السلس، وأنه لا فدية عليها لعذرها، لكن لا يجوز تقليدُ القائل بذلك؛ لأنه لم يُعلَم مَن قالَه مِن المجتهدين، وغيرُ المجتهد لا يجوز تقليدُه] اهـ.
ومقتضى ما سبق من الآثار عن السلف، وتحقيق مذهب الحنفية، وإفتاء المالكية بالجواز والصحة تخريجًا على ما رواه البصريون عن الإمام مالك، وما يأتي من الرواية عن الإمام أحمد، وما يأتي أيضًا مِن تقرير جواز دخول الحائض المسجدَ للعذر: أن تقليد القائل بجواز طوافها حائضًا للعذر غير ممنوع شرعًا؛ فإن هذه كلها أقوال أئمة مجتهدين نقلها أهل مذاهبهم، فتقليدهم مشروع؛ ولا يخفى أن تصحيح الطواف دون شرطه أَوْلَى مِن تصحيحه قبلَ وقته؛ قال الشيخ ابن تيمية الحنبلي -كما في "مجموع الفتاوى" (26/232)-: [الأصول متفقة على أنه: "متى دار الأمر بين الإخلال بوقت العبادة والإخلال ببعض شروطها وأركانها كان الإخلال بذلك أولى"، كالصلاة؛ فإن المصلِّيَ لو أمكنه أن يُصلِّيَ قبل الوقت بطهارة وستارة مستقبلَ القبلة مجتنبَ النجاسة ولم يمكنه ذلك في الوقت فإنه يفعلها في الوقت على الوجه الممكن ولا يفعلها قبله؛ بالكتاب والسنة والإجماع] اهـ.
وقد قال ابن حجر في "تحفة المحتاج في شرح المنهاج" (4/74-75، ط. المكتبة التجارية الكبرى): [الأحوط لها أن تقلد من يرى براءة ذمتها؛ بطوافها قبل رحيلها] اهـ.
وقال العلامة الشَّبْرَامَلِّسيُّ في "حاشيته على نهاية المحتاج" (3/317، ط. دار الفكر): [(مسألة) قال الشيخ منصور الطبلاوي: سُئِل شيخُنا ابن قاسم العبّادي عن امرأة شافعية المذهب طافت للإفاضة بغير سترةٍ معتبَرةٍ؛ جاهلةً بذلك أو ناسيةً، ثم توجهت إلى بلاد اليمن فنكحت شخصًا، ثم تبين لها فسادُ طوافِها، فأرادت أن تقلد أبا حنيفة في صحته لتصير به حلالًا وتتبين صحة النكاح، وحينئذ فهل يصح ذلك وتتضمن صحة التقليد بعد العمل؟
فأفتى بالصحة وأنه لا محذور في ذلك، ولَمّا سمعت عنه ذلك اجتمعتُ به؛ فإني كنت أحفظ عنه خلافَه في العام الذي قبله فقال: هذا هو الذي أعتقده من الصحة، وأفتى به بعض الأفاضل أيضا تبعًا له، وهو مسألة مهمة كثيرة الوقوع وأشباهها. ومرادُه "بأشباهها": كلُّ ما كان مخالفًا لمذهب الشافعي مثلًا وهو صحيح على بعض المذاهب المعتبرة؛ فإذا فعله على وجه فاسد عند الشافعي وصحيح عند غيره ثم علم بالحال جاز له أن يقلد القائل بصحته فيما مضى وفيما يأتي فتترتب عليه أحكامه، فتنبَّهْ له فإنه مُهمٌّ جدًّا] اهـ.
- وعند الحنابلة: اختلف النقل عن الإمام أحمد رحمه الله في حكم مَن طاف على غير طهارة:
فمِن أصحابه مَن نقل عنه عدم الإجزاء مطلقًا؛ كما نقل حنبل، وأبو طالب، والأثرم، والكوسج.
ومنهم من نقل عنه الفرق بين المتعمد فلا يجزئه، وبين الناسي فيجزئه؛ كما يقول العكبري.
ومنهم من نقل عنه أن طوافه صحيح ويجبره بدم؛ كما في رواية محمد بن الحَكَم.
ومنهم من نقل عنه التسهيل في الطهارة للطواف؛ كما في رواية الميموني.
وذلك كله متفرع على كون الطهارة شرطًا في صحة الطواف أم لا.
وإن لم تكن شرطًا لصحته فهل هي واجبة فيه أم سُنّة فقط.
والمشهور عن الإمام أحمد اشتراط الطهارة للطواف؛ كما يقول الإمام ابن قدامة في "المغني" (3/343، ط. مكتبة القاهرة)، وهو الذي صححه جماهير الأصحاب؛ كما يقول العلامة المرداوي في "الإنصاف" (1/348، ط. دار إحياء التراث العربي)، غير أن القول بصحة طواف تارك الطهارة ناسيًا أو معذورًا -كالحائض التي تخشى فوات رفقتها- مِن غير وجوب دم: هو روايةٌ صحيحة مُفتًى بها في المذهب الحنبلي:
فقد نص عليها شيخ الحنابلة في عصره الإمام أبو بكر عبد العزيز بن جعفر الحنبلي المعروف "بغلام الخلال"؛ حيث يقول في كتابه "الشافي" بعد أن نقل رواية الميموني عن الإمام أحمد: [قد بينا أمر الطواف بالبيت في أحكام الطواف على قولين؛ أحد القولين: إذا طاف الرجل وهو غير طاهر أن الطواف يجزئ عنه إذا كان ناسيًا، والقول الآخر: أنه لا يجزئه حتى يكون طاهرًا. فإن وطئ وقد طاف غيرَ طاهر ناسيًا فعلى قولين؛ مثل قوله في الطواف؛ فمن أجاز الطواف غير طاهر قال: تم حجه، ومن لم يُجِزْهُ إلا طاهرًا ردَّه مِن أي المواضع ذكر حتى يطوف. وبهذا أقول] اهـ.
وقد نقل كلامَه الشيخُ ابن تيمية الحنبلي في "مجموع الفتاوى" (26/208)، ثم قال عقبه: [فأبو بكر وغيره من أصحاب أحمد يقولون في إحدى الروايتين: يجزئه مع العذر ولا دم عليه، وكلام أحمد بَيِّنٌ في هذا. وجواب أحمد المذكور يبين أن النزاع عنده في طواف الحائض وغيره. وقد ذكر عن ابن عمر وعطاء وغيرهما التسهيلَ في هذا، ومما نُقِل عن عطاء في ذلك: أن المرأة إذا حاضت في أثناء الطواف فإنها تتم طوافها، وهذا صريح عن عطاء أن الطهارة من الحيض ليست شرطًا، وقوله مما اعتد به أحمد، وذكر حديث عائشة رضي الله عنها، وأن قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «إن هذا أمر كتبه الله على بنات آدم» يبين أنه أمر بُلِيَتْ به نزل عليها ليس مِن قِبَلِها؛ فهي معذورة في ذلك] اهـ.
والإمام أبو بكر عبد العزيز المعروف بغلام الخلال [ت363هـ] هو من كبار أئمة الحنابلة المعتمد عليهم في نقل المذهب؛ قال الحافظ الذهبي في "تاريخ الإسلام" (8/214، ط. دار الغرب الإسلامي): [وكان كبير القدْر، صحيح النقل، بارعًا في نقل مذهبهِ] اهـ.
ونص على هذه الرواية أيضًا: شيخُ المذهب الإمام الموفق بن قدامة؛ حيث يقول في "المغني" (3/343): [(ويكون طاهرا في ثياب طاهرة) يعني في الطواف؛ وذلك لأن الطهارة من الحدث والنجاسة والستارة شرائط لصحة الطواف، في المشهور عن أحمد. وهو قول مالك والشافعي. وعن أحمد: أن الطهارة ليست شرطًا؛ فمتى طاف للزيارة غير متطهر أعاد ما كان بمكة، فإن خرج إلى بلده جبره بدم. وكذلك يخرج في الطهارة من النجس والستارة. وعنه في من طاف للزيارة وهو ناس للطهارة: لا شيء عليه] اهـ. وقال أيضًا في "الكافي" (2/412، ط. دار هجر): [وعنه فيمَن طاف للزيارة ناسيًا لطهارته حتى رجع: فحجُّه ماضٍ ولا شيء عليه، وهذا يدل على أنها تسقط بالنسيان] اهـ.
وقال الإمام أبو عبد الله بن مفلح المقدسي الحنبلي في "الفروع" (6/40، ط. مؤسسة الرسالة): [وتشترط الطهارة من حدث, قال القاضي وغيره: الطواف كالصلاة في جميع الأحكام إلا في إباحة النطق, وعنه: يجبره بدم، وعنه: إن لم يكن بمكة, وعنه: يصح من ناسٍ ومعذور فقط, وعنه: ويجبره بدم, وعنه: وكذا حائض, وهو ظاهر كلام القاضي وجماعة, واختاره شيخنا -يعني: الشيخ ابن تيمية- وأنه لا دم لعذر, وقال: هل هي واجبة أو سنة لها؟ فيه قولان في مذهب أحمد وغيره, ونقل أبو طالب: والتطوع أيسر] اهـ.
وقد جمع الشيخ ابن تيمية الحنبلي الروايات عن الإمام أحمد في ذلك؛ فقال في "شرح العمدة" (3/586-589، ط. مكتبة العبيكان):
[فإن طاف على غير طهارة ففيه روايتان:
إحداهما: لا يجزئه بحال:
قال في رواية حنبل: "إذا طاف بالبيت طواف الواجب غير طاهر لم يجْزِه"، وقال في رواية أبي طالب: "إذا طاف مُحْدِثًا أو جنُبًا أعاد طوافه"، وكذلك نقل الأثرم، وابن منصور.
والثانية: يجزئه في الجملة:
قال في رواية ابن الحكم، وقد سأله عن الرجل يطوف للزيارة أو الصدر وهو جنب أو على غير وضوء؛ قلتُ: إن مالكًا يقول: يعود للحج والعمرة وعليه هدي، قال: "هذا شديد"، قال أبو عبد الله: "أرجو أن يجزئه أن يهريق دمًا إن كان جنُبًا، أو على غير وضوء ناسيًا.. وإن ذكر وهو بمكة أعاد الطواف"، وفي لفظ: "إذا طاف طواف الزيارة وهو ناسٍ لطهارته حتى يرجع فإنه لا شيء عليه، وأختار له أن يطوف وهو طاهر، وإن وطئ فحجه ماضٍ ولا شيء عليه". فقد نص على أنه يجزئه إن كان ناسيًا، ويجب عليه أن يعيد إذا ذكر وهو بمكة، فإن استمر به النسيان أهرق دمًا وأجزأه.
قال أبو حفص العكبري: لا يختلف قوله إذا تعمد فطاف على غير طهارة لا يجزئه، واختلف قوله في النسيان على قولين؛ أحدهما: أنه معذور بالنسيان، والآخر: لا يجزئه؛ مثل الصلاة.
وكذلك قال أبو بكر عبد العزيز: في الطواف قولان؛ أحدهما: أنه إذا طاف وهو غير طاهر أن الطواف يجزئ عنه إذا كان ناسيًا، فإذا وطئ بعد الطواف فقد تم حجه، والآخر: لا يجزئه حتى يكون طاهرًا؛ فعلى هذا يرجع من أي موضع ذكر حتى يطوف، وبه أقول.. وذكر القاضي وأصحابه والمتأخرون مِن أصحابنا المسألة على روايتين في طواف المُحْدِث مطلقًا..
ثم ذكر ابن تيمية رواية الميموني عن الإمام أحمد، وقد نقلها تلميذه ابن القيم على التمام؛ فقال في "إعلام الموقعين" (4/371-372): [قال عبد الملك الميموني في "مسائله": قلتُ لأحمد: من طاف طوافَ الواجب على غير وضوء وهو ناسٍ، ثم واقع أهله؟ قال: "أخبرك مسألة فيها وهمٌ وهم مختلفون"، وذكر قول عطاء والحسن، قلتُ: ما تقول أنت؟ قال: "دَعْها"، أو كلمةً تشبهها. وقال الميموني في "مسائله" أيضًا: قلتُ له: مَن سعَى وطاف على غير طهارة، ثم واقع أهله؟ فقال لي: "مسألةٌ الناسُ فيها مختلفون"، وذكر قول ابن عمر، وما يقول عطاء مما يسهل فيها، وما يقول الحسن، وأن عائشة رضي الله عنها قال لها النبي صلى الله عليه وآله وسلم حين حاضت: «افْعَلِي ما يَفْعَلُ الحاجُّ غيرَ أن لا تَطُوفِي بِالبَيْتِ»، ثم قال لي: "إلّا أنّ هذا أمرٌ بُلِيَتْ به، نَزَلَ عليها ليس مِن قِبَلِهَا"، قلتُ: فمِن الناس مَن يقول: عليها الحجُّ مِن قابل؟ فقال لي: "نعم؛ كذا أكبرُ عِلْمي"، قلتُ: ومِنهم مَن يذهب إلى أنّ عليها دمًا؟"، فذكر تسهيل عطاء فيها خاصةً، قال لي أبو عبد الله: "أولًا وآخرًا هي مسألةٌ مشتبهةٌ فيها موضع نَظَرٍ؛ فدعني حتى أنظرَ فيها"، قال ذلك غير مرة، ومِن الناس مَن يقول: وإن رجع إلى بلده يرجع حتى يطوف"، قلت: والنسيان؟ قال: "والنسيان أهونُ حكمًا بكثير"؛ يريد: أهون ممن يطوف على غير طهارة متعمدًا. هذا لفظ الميموني] اهـ النقل عن ابن القيم.
ثم قال الشيخ ابن تيمية: [والرواية الأولى: اختيار أصحابنا: أبي بكر، وابن أبي موسى، والقاضي وأصحابه، وقال ابن أبي موسى: إن حاضت قبل طواف الإفاضة لزم انتظارها حتى تطهر ثم تطوف، وإن حاضت بعدما أفاضت لم يجب انتظارها وجاز لها أن تنفر ولم تودع] اهـ.
وقال أيضًا في "الفتاوى الكبرى" (1/447-448، ط. دار الكتب العلمية): [وتعليل منع طواف الحائض بأنه لأجل حرمة المسجد، رأيته يعلل به بعض الحنفية؛ فإن مذهب أبي حنيفة أن الطهارة واجبة له، لا فرض فيه ولا شرط له، ولكن هذا التعليل يناسب القول بأن طواف المحدث غير محرم، وهذا مذهب منصور بن المعتمر، وحماد بن أبي سليمان، رواه أحمد عنهما.
قال عبد الله: سألت أبي عن ذلك فقال: "أحبُّ إليَّ أن يطوف بالبيت وهو متوضئ؛ لأن الطواف صلاة"، وأحمد عنه روايتان منصوصتان في الطهارة هل هي شرط في الطواف أم لا؟ وكذلك وجوب الطهارة في الطواف كلامه فيها يقتضي روايتين] اهـ.
وقال في "مجموع الفتاوى" (26/206-214) في الكلام على طواف الحائض، مرجحًا الرواية المقتضية لطواف الحائض عند العذر بلا دم عليها، ومنتصرًا للقول بأن الطهارة ليست شرطًا في الطواف: [وتنازعوا في إجزائه؛ فمذهب أبي حنيفة: يجزئها ذلك، وهو قول في مذهب أحمد؛ فإن أحمد نص في رواية على أن الجنب إذا طاف ناسيًا أجزأه ذلك؛ فمِن أصحابه مَن قصر ذلك على حال النسيان، ومنهم مَن قال: هذا يدل على أن الطهارة ليست فرضًا؛ إذ لو كانت فرضًا لما سقطت بالنسيان..
ثم إن مِن أصحابه مَن قال: هذا يدل على أن الطهارة في الطواف ليست عنده ركنا على هذه الرواية، بل واجبة تجبر بدم، وحكى هؤلاء في صحة طواف الحائض روايتين؛ إحداهما: لا يصح، والثانية: يصح وتجبره بدم. وممن ذكر هذا أبو البركات وغيره، كذلك صرح غير واحد منهم بأن هذا النزاع في الطهارة من الحيض والجنابة كمذهب أبي حنيفة. فعلى هذا القول تسقط بالعجز كسائر الواجبات.
وذكر آخرون من أصحابه عنه ثلاث روايات: رواية يجزئه الطواف مع الجنابة ناسيا ولا دم عليه، ورواية أن عليه دمًا، ورواية أنه لا يجزئه ذلك.
وبعض الناس يظن أن النزاع في مذهب أحمد إنما هو في الجنب والمحدث دون الحائض، وليس الأمر كذلك؛ بل صرح غير واحد من أصحابه بأن النزاع في الحائض وغيرها، وكلام أحمد يدل على ذلك، وتبين أنه كان متوقفا في طواف الحائض وفي طواف الجنب، وكان يذكر أقوال الصحابة والتابعين وغيرهم في ذلك..
ومعلوم أن الذي طاف على غير طهارة متعمدًا آثمٌ، وقد ذكر أحمد القولين: هل عليه دم؟ أم يرجع فيطوف؟ وذكر النزاع في ذلك، وكلامُه يبين في أن توقفه في الطائف على غير طهارة يتناول الحائض والجنب مع التعمد، ويبين أن أمر الناسي أهون بكثير، والعاجز عن الطهارة أعذر من الناسي.
وقال أبو بكر عبد العزيز في "الشافي": (باب في الطواف بالبيت غير طاهر):
قال أبو عبد الله في رواية أبي طالب: "ولا يطوف بالبيت أحدٌ إلا طاهرًا، والتطوع أيسر، ولا يقف مَشاهِدَ الحج إلا طاهرًا".
وقال في رواية محمد بن الحكم: "إذا طاف طواف الزيارة وهو ناسٍ لطهارته حتى رجع فإنه لا شيء عليه، وأختار له أن يطوف وهو طاهر، وإن وطئ فحجه ماضٍ ولا شيء عليه".
فهذا النص من أحمد صريح بأن الطهارة ليست شرطًا، وأنه لا شيء عليه إذا طاف ناسيًا لطهارته: لا دم ولا غيره، وأنه إذا وطئ بعد ذلك فحجه ماضٍ ولا شيء عليه.
كما أنه لَمّا فرق بين التطوع وغيره في الطهارة؛ فأمر بالطهارة فيه وفي سائر المناسك دل ذلك على أن الطهارة ليست شرطًا عنده؛ فقطع هنا بأنه لا شيء عليه مع النسيان.
وقال في رواية أبي طالب أيضًا: "إذا طاف بالبيت وهو غير طاهر يتوضأ ويعيد الطواف، وإذا طاف وهو جنب فإنه يغتسل ويعيد الطواف".
وقال في رواية أبي داود: حدثنا سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء: "إذا طاف على غير وضوء فليعد طوافه".
وقال أبو بكر عبد العزيز: (باب في الطواف في الثوب النجس):
قال أبو عبد الله في رواية أبي طالب: "وإذا طاف رجل في ثوب نجس فإن الحسن كان يكره أن يفعل ذلك، ولا ينبغي له أن يطوف إلا في ثوب طاهر".
وهذا الكلام من أحمد يبين أنه ليس الطواف عنده كالصلاة في شروطها؛ فإن غاية ما ذكر في الطواف في الثوب النجس أن الحسن كره ذلك، وقال: لا ينبغي له أن يطوف إلا في ثوب طاهر. ومثل هذه العبارة تقال في المستحب المؤكد، وهذا بخلاف الطهارة في الصلاة. ومذهب أبي حنيفة وغيره: أنه إذا طاف وعليه نجاسة صح طوافه ولا شيء عليه.
وبالجملة: هل يشترط للطواف شروط الصلاة؟ على قولين في مذهب أحمد وغيره:
أحدهما: يشترط كقول مالك والشافعي وغيرهما. والثاني: لا يشترط، وهذا قول أكثر السلف وهو مذهب أبي حنيفة وغيره، وهذا القول هو الصواب..
وإذا تبين أن الطهارة ليست شرطًا: يبقى الأمر دائرا بين أن تكون واجبة، وبين أن تكون سُنّةً، وهما قولان للسلف، وهما قولان في مذهب أحمد وغيره، وفي مذهب أبي حنيفة؛ لكن من يقول هي سنة من أصحاب أبي حنيفة يقول: مع ذلك عليه دم، وأما أحمد فإنه يقول: لا شيء عليه: لا دم ولا غيره؛ كما صرح به فيمن طاف جنبا وهو ناسٍ، فإذا طافت حائضا مع التعمد توجه القول بوجوب الدم عليها. وأما مع العجز فهنا غاية ما يقال: إن عليها دمًا، والأشبه أنه لا يجب الدم؛ لأن هذا واجب تؤمر به مع القدرة لا مع العجز؛ فإن لزوم الدم إنما يجب بترك مأمور وهي لم تترك مأمورًا في هذه الحالة ولم تفعل محظورا من محظورات الإحرام، وهذا ليس من محظورات الإحرام؛ فإن الطواف يفعله الحلال والحرام، فصار الحظر هنا من جنس حظر اللبث في المسجد، واعتكاف الحائض في المسجد، أو مس المصحف، أو قراءة القرآن، وهذا يجوز للحاجة بلا دم] اهـ.
ورواية محمد بن الحكم عن الإمام أحمد في إيجاب الدم على الناسي فيها ذكر جنس الدم، وهذا يقتضي أن أقل الدم، وهو الشاة، مجزئٌ؛ قال الشيخ ابن تيمية -كما في "مجموع الفتاوى" (26/221، 246)-: [وأما أحمد فأوجب دمًا ولم يعين بدنة.. وعند أحمد دمٌ؛ وهي شاة] اهـ.
وقد وافقه تلميذه ابن القيم الحنبلي على اعتماد الرواية التي تقتضي صحة طواف الحائض إذا لم يمكنها الاحتباس في مكة حتى تطهر، من غير إثم ولا دم، وذلك حتى لو جعلنا الطهارة شرطًا لصحة الطواف؛ لأنه يسقط عند العجز عنه كما في التيمم وصلاة فاقد الطهورين، واستفاض في الاستدلال لذلك والاحتجاج له، وجعله مثالا على ما يتغير من الفتوى بتغير الزمان والمكان والأحوال؛ فقال في "إعلام الموقعين عن رب العالمين" (4/359، ط. دار ابن الجوزي): [هذا الذي قالوه متوجه فيمن أمكنها الطواف ولم تطف، والكلام في امرأة لا يمكنها الطواف ولا المقام لأجله، وكلام الأئمة والفقهاء هو مطلق كما يتكلمون في نظائره، ولم يتعرضوا لمثل هذه الصور التي عمت بها البلوى، ولم يكن ذلك في زمن الأئمة، بل قد ذكروا أن المكري يلزمه المقام والاحتباس عليها لتطهر ثم تطوف، فإنه كان ممكنا -بل واقعًا- في زمنهم، فأفتوا بأنها لا تطوف حتى تطهر؛ لتمكنها من ذلك، وهذا لا نزاع فيه ولا إشكال، فأما في هذه الأزمان فغير ممكن] اهـ. ثم قال (4/376-377): [كلام الأئمة وفتاويهم في الاشتراط أو الوجوب إنما هو في حال القدرة والسعة، لا في حال الضرورة والعجز؛ فالإفتاء بها لا ينافي نص الشارع ولا قول الأئمة، وغاية المفتي بها: أن يقيد مطلق كلام الشارع بقواعد شريعته وأصولها، ومطلق كلام الأئمة بقواعدهم وأصولهم؛ فالمفتي بها موافق لأصول الشرع وقواعده ولقواعد الأئمة] اهـ.
وأمّا الاستدلال على المنع بحديث: «لَا أُحِلُّ الْمَسْجِدَ لِحَائِضٍ وَلَا جُنُبٍ»: فالجواب عنه عند القائلين بجواز طوافها: أنه مجمل قد خُصَّ منه إباحةُ المرور للحاجة والعذر باتفاق العلماء، وطواف الحائض كمرورها في المسجد، بل الطواف أولى؛ لأن المرور جائز عند بعض العلماء من غير ضرورة، بل أجاز لها جماعة من العلماء المكث في المسجد أيضًا إذا أمنت التلويث، وطواف الحائض إنما هو للضرورة، فإذا أمنت التلويث ارتفعت الحرمة والكراهة؛ كما في المستحاضة.
قال الشيخ ابن القيم الحنبلي في "إعلام الموقعين" (3/24، ط. دار الكتب العلمية): [طوافُها بمنزلة مرورها في المسجد، ويجوز للحائض المرور فيه إذا أمنت التلويث، وهي في دورانها حول البيت بمنزلة مرورها ودخولها من باب وخروجها من آخر؛ فإذا جاز مرورها للحاجة فطوافها للحاجة -التي هي أعظم من حاجة المرور- أولى بالجواز] اهـ.
ولم ينفرد الشيخ ابن تيمية وتلميذه ابن القيم من بين الحنابلة بترجيح هذه الرواية والفتوى بها كما يُفهَم من كلام العلامة ابن حجر الهيتمي الشافعي ومَنْعِه مِن الأخذ بذلك فيما سبق؛ بل أخذ بها جماعةٌ من كبار الحنابلة وأئمتهم؛ كالإمامين الحنبليين البغداديَّيْن: سراج الدين أبي عبد الله الحسين بن أبي السَّرِيِّ الدُّجَيْلِي [ت732هـ]، وشيخه تقي الدين أبي بكر عبد الله بن محمد الزَّرِيرَاني [ت729هـ]؛ حيث نص الإمام الدُّجَيْليُّ على أن الطهارة سُنّةٌ في الطواف، وهذا يقتضي جواز طواف الحائض عند الضرورة من غير إيجاب دم عليها؛ فقال في كتابه "الوجيز" عند ذكر الطواف -كما في "فتح الملك العزيز بشرح الوجيز" (3/533، ط. دار خضر)-: [والطهارة والستارة والموالاة سُنّةٌ فيه] اهـ.
وكتاب "الوجيز" هذا من كُتُب الفتوى المعتمدة في المذهب الحنبلي، وقد قال فيه مصنفُه (1/117): [جمعتُه وجيزًا قولًا واحدًا مختارًا؛ من ترجيح الروايات المنصوصة عنه المعنعنة المتداولة] اهـ، قال شارحُه العلامة العلاء بن البهاء البغدادي الحنبلي في "فتح الملك العزيز" (1/118): [اعلم أن المصنف رحمه الله تعالى ذكر أنه بنى كتابه على الروايات المنصوصة عن الإمام أحمد، الثابتة عنه، التي تداولها الأصحاب وذهبوا إليها، وجعله رواية واحدة، وأنه المذهب، وأنه لم يعول في الترجيح إلّا على ما ذكر، لا على دليل آخر، بخلاف غيره من الأصحاب] اهـ.
وهذا الكتاب قد عرضه مصنفُه على شيخه الإمام تقي الدين أبي بكر الزريراني فهذّبه له واعتمد الفتوى بما فيه، وأنه هو المذهب؛ إذ يقول المصنف (1/118): [وعرضتُه مرارًا على شيخنا الإمام العلامة والحبر الفهامة، نسيج وحده، وفريد عصره، مفتي الفرق؛ تقي الدين أبي بكر عبد الله الزريراني، عضد الله الإسلام بحياته المتواصلة، وقضاياه القاطعة الفاصلة، فهذبه وأملى عليه فيه من فيه مسائل منصوصة عن الإمام، صارت أحكام الكتاب بها كاملة، وأجاز الإفتاء بحكمه، وأنه المذهب، فالتاطت به طلاة طائلة] اهـ.
والشيخ الإمام تقي الدين الزريراني البغدادي الحنبلي هذا كان شيخ الحنابلة ومفتيهم في العراق في زمنه؛ حتى ترجمه الإمام العلامة الحافظ زين الدين بن رجب الحنبلي في "ذيل طبقات الحنابلة" (5/1-6، ط. مكتبة العبيكان) بقوله: [الإمام فقيه العِراق ومفتي الآفاق.. وبرع فِي الفقه وأصوله، ومعرفة المذهب والخلاف.. وانتهت إليه معرفةُ الفقه بالعراق، ومن محفوظاته فِي المذهب: كتاب "الخرقي" و"الهداية" لأبي الْخَطَّاب، وذكر أَنَّهُ طالع "المغنى" للشيخ موفق الدين ثلاثًا وعشرين مرة، وَكَانَ يستحضر كثيرًا منه أو أكثرَه، وعلَّق عَلَيْهِ حواشيَ وفوائد، ووَلِيَ القضاء، ودرّس بالبشيرية ثم بالمستنصرية واستمر فيها إلى حين وفاته، وَلَهُ اليد الطُّولَى فِي المناظرة والبحث، وكثرة النقل، ومعرفة مذاهب النَّاس، وانتهت إِلَيْهِ رياسة العلم ببغداد مِن غَيْر مدافِع، وأقر له الموافق والمخالف، وَكَانَ الفُقَهَاء من سائر الطوائف يجتمعون بِهِ، يستفيدون منه فِي مذاهبهم، ويتأدبون مَعَهُ، ويرجعون إِلَى قَوْله ونقله لمذاهبهم، ويردهم عَن فتاويهم، فيذعنون لَهُ ويرجعون إِلَى مَا يقوله، ويعترفون لَهُ بإفادتهم فِي مذاهبهم، حَتَّى ابْن المطهر شيخ الشيعة: كَانَ الشيخ تقي الدين يبين لَهُ خطأه فِي نقله لمذهب الشيعة فيذعن لَهُ، وَقَالَ لَهُ مرة بَعْض أئمة الشَّافِعِية -وَقَدْ بحث مَعَهُ-: "أَنْتَ اليوم شيخ الطوائف ببغداد"، وَقَالَ العلامة الشيخ شمس الدين البرزالي والد الشيخ شمس الدين مدرس المستنصرية: "مَا درَّس أحد بالمستنصرية منذ فُتِحَتْ إِلى الآن أفقه منه"، ويوم وفاته قال الشيخ شهاب الدين عبد الرحمن بن عسكر شيخ المالكية: "لَمْ يبقَ ببغداد مَن يُراجَع فِي علوم الدين مثله". قرأ عَلَيْهِ جَمَاعَة من الْفُقَهَاء، وتخرج بِهِ أئمة] اهـ.
واعتماد الإمام التقي الزريراني كتابَ "الوجيز" مرجعًا للفتوى، وترجيحًا لروايات المذهب الحنبلي، مع كونه فقيهَ العراق ومفتيَ الآفاق، ومَن انتهت إليه معرفة الفقه ورياسة العلم في عصره ومصره: يقتضي أن المدرسة الحنبلية البغدادية كانت تعتمد مِن روايات المذهب كونَ الطهارة سُنّةً في الطواف، وتُفتِي بذلك في تلك الحقبة الزمنية مِن القرن الثامن الهجري على الأقل. وبذلك يندفع القول بانفراد ابن تيمية وابن القيم الحنبليين عن الحنابلة في تصحيح طواف الحائض للعذر مع عدم إيجاب الدم عليها، ويثبت كون ذلك روايةً صحيحة الورود عن صاحب المذهب رحمه الله تعالى، وأنه قد رجّحها وعمل بها جماعةٌ مِن أئمة الحنابلة؛ ممن يُرجَع إليهم ويُعَوَّل عليهم في الترجيح والفتوى في المذهب، وصح بذلك جواز تقليد هذه الرواية والفتوى والعمل بها.
وبناءً على ذلك: فإذا حاضت الحاجّة قبل طوافها الإفاضة، أو المعتمرة عمرةً مستقلة قبل طواف عمرتها، فإن لها أن تتحين وقت انقطاع دمها خلال الحيض أو تأخذ دواءً يمنع نزول الدم بما يسع زمن الطواف، ثم تغتسل وتطوف في فترة النقاء؛ أخذًا بقول التلفيق الذي يجعل النقاء بين الدمين في الحيض طهرًا؛ كما هو مذهب المالكية والحنابلة وقولٌ للشافعية، فإن لم تفعل ولم ينقطع دمها، ولم يمكنها الانتظار حتى تطهر؛ لعذر من الأعذار التي لا مناص منها، فالأحوط لها؛ كما يقول الشافعية، والذي يقتضيه يسر الشريعة؛ كما يقول المالكية، وهو الذي عليه العمل والفتوى: أن تقلد الحنفية في القول بصحة طواف الحائض؛ فيجوز لها حينئذٍ أن تُقْدِمَ على الطواف وتهجم عليه بعد أن تشد على نفسها ما تأمن به مِن تلويث الحرم، ولا إثم عليها؛ لأنها معذورة بما لا يدَ لها فيه ولا اختيار، ويستحبُّ لها أن تذبح بدنة؛ خروجًا من خلاف مَن أوجبها مِن الحنفية، وإلّا فلتذبح شاة؛ كما هو عند الحنابلة في رواية، فإن شق عليها ذلك فلا حرج عليها ألّا تذبح أصلًا؛ أخذًا بما ورد عن السيدة عائشة رضي الله عنها وجماعة من السلف، واختاره مَن قال مِن الفقهاء إن الطهارة للطواف سُنّة، أو هو واجب تسقط المؤاخذة به عند العذر، وهو رواية عن الإمام أحمد أفتى بها جمعٌ مِن أهل مذهبه.
 ثانيًا: وأما دخول الحائض للمسجد النبوي للزيارة والسلام على النبي صلى الله عليه وآله وسلم: فالذي عليه جمهور الفقهاء: أنه لا يجوز للحائض المكث في المسجد، وأجازوا لها المرور داخله إذا أمنت تلويثه، واتفقوا على جواز مرورها فيه للضرورة والحاجة:
قال الإمام الخطابي الشافعي في "معالم السنن" (1/77، ط. المطبعة العلمية):
[وقد اختلف العلماء في ذلك؛ فقال أصحاب الرأي: لا يدخل الجنب المسجد إلّا بأحد الطهرين، وهو قول سفيان الثوري، فإن كان مسافرًا ومر على مسجد فيه عين ماء تيمم بالصعيد ثم دخل المسجد واستقى، وقال مالك والشافعي: ليس له أن يقعد في المسجد، وله أن يمر فيه عابرَ سبيل، وتأول الشافعي قوله تعالى ﴿لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا﴾ [النساء: 43] على أن المراد به: المسجد؛ وهو موضع الصلاة، وعلى هذا تأوله أبو عبيدة معمر بن المثنى، وكان أحمد بن حنبل وجماعة من أهل الظاهر يجيزون للجنب دخول المسجد، إلّا أن أحمد كان يستحب له أن يتوضأ] اهـ.
وقال الإمام حجة الإسلام أبو حامد الغزالي الشافعي في "الوسيط في المذهب" (2/185، ط. دار السلام): [شرط المكث في المسجد عدم الجنابة؛ فيجوز للمحدث المكث وللجنب العبور، ولا يلزمه في العبور انتحاء أقرب الطرق، وليس له التردد في حافات المسجد من غير غرض، وليس للحائض العبور عند خوف التلويث وكذا من به جراحة نضاخة بالدم، فإن أمنت التلويث فوجهان؛ لغلظ حكم الحيض] اهـ.
وقال الإمام النووي الشافعي في "المجموع شرح المهذب" (2/162، ط. دار الفكر): [الأصح جواز عبورها إذا أمنت التلويث. والله أعلم]. وقال (2/358): [أما عبورها بغير لبث فقال الشافعي رضي الله عنه في "المختصر": أكره ممر الحائض في المسجد. قال أصحابنا: إن خافت تلويثه -لعدم الاستيثاق بالشد، أو لغلبة الدم- حرم العبور بلا خلاف، وإن أمنت ذلك فوجهان: الصحيح منهما جوازه، وهو قول ابن سريج وأبي إسحاق المروزي، وبه قطع المصنف والبندنيجي وكثيرون، وصححه جمهور الباقين؛ كالجنب، وكمن على بدنه نجاسة لا يخاف تلويثه. وانفرد إمام الحرمين فصحح تحريم العبور وإن أمنت؛ لغلظ حدثها، بخلاف الجنب. والمذهب الأول] اهـ.
وقال الإمام البيجوري في "حاشيته على شرح العلامة ابن قاسم الغزي على متن الشيخ أبي شجاع" (1/148-149): [متى خافت التلويث حرم عليها الدخول، وإن لم يوجد التلويث لقلَّة الدم، والمراد بالخوف: ما يشمل التوهُّم، فإن لم تخف تلويثه -بل أمنته- لم يَحرُم، بل يكره لها حينئذٍ، وهو خلاف الأَوْلى للجنب، إلا لعذرٍ فيهما، فتنتفي الكراهةُ لها، وكونُه خلافَ الأَوْلى للجنب للعذر، ومثلها كل ذي نجاسة؛ فإن خاف تلويث المسجد حرم، وإلا كره، إلا لحاجة] اهـ.
على أن من العلماء من قال بجواز مكث الحائض في المسجد إذا أمنت التلويث، وإن كان هذا خلاف ما عليه الجمهور؛ فقد قال بذلك من التابعين: الحسن وابن سيرين؛ فقد أخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه" عَنِ الْحَسَنِ وَابْنِ سِيرِينَ، أَنَّهُمَا قَالَا: «لَا بَأْسَ أَنْ يَرُشَّ الْجُنُبُ وَالْحَائِضُ الْمَسْجِدَ». وهو رواية عن الإمام أحمد، وقول أهل الظاهر.
قال الإمام البغوي في "تفسيره" (1/628، ط. دار إحياء التراث العربي): [وجوَّز أحمد المكث فيه، .. وبه قال المزني] اهـ.
وقال الحافظ ابن رجب الحنبلي في "فتح الباري" (2/112، ط. مكتبة الغرباء الأثرية) في حكم دخول الحائض المسجد إذا توضأت: [ونص أحمد على أنها لو توضأت وهي حائض لم يَجُزْ لها الجلوس في المسجد؛ بخلاف الجنب، وفيه وجه: يجوز إذا أمنت تلويثه] اهـ.
وقال الشيخ مغلطاي في "شرح ابن ماجه" (1/880، ط. مكتبة نزار مصطفى الباز): [ورخّص في المرور ابن مسعود وابن عبّاس وابن المسيّب وابن جبير، وهذا هو الملجا لأهل الظاهر بأن جوّزوا لهما دخول المسجد وكذلك النفساء، قال أبو محمد؛ لأنه لم يأت نهي عن شيء من ذلك.. ، وقال أحمد وإسحاق: الجنب إذا توضأ لا بأس أن يجلس في المسجد] اهـ.
وقال الإمام بدر الدين العيني في "البناية شرح الهداية" (1/642-643، ط. دار الكتب العلمية): [وعن أحمد: له المكث فيه إن توضأ وهو خلاف قول الجمهور، ولأنه لا أثر للوضوء في الجنابة لعدم تحريكها اتفاقا. وعن الحسن البصري، وابن المسيب، وابن جبير، وابن دينار، مثل قول الشافعي رضي الله عنه –أيْ: في جواز المرور-، وقول المزني، وداود، وابن المنذر: يجوز له المكث فيه مطلقا، ومثله عن زيد بن أسلم واعتبروه بالشرك بل أولى، وتعلقوا بقوله عليه الصلاة والسلام: «الْمُؤْمِنُ لَا يَنْجُسُ»] اهـ.
والزيارة النبوية هي من أعظم القربات وآكد المستحبات، وحاجة الحجاج إليها متأكدة؛ فإنهم يقطعون المسافات الطوال قصدًا لزيارة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والسلام عليه؛ امتثالًا لِمَا ورد من الأحاديث النبوية الشريفة في استحباب زيارة قبره الشريف صلى الله عليه وآله وسلم، وأن ذلك مستوجبٌ لشفاعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لزائره، وأن مِن الجفاء أن يحج الإنسان دون أن يزور قبره الشريف صلى الله عليه وآله وسلم، وقد صححها جمع من الحُفّاظ.
ودخول المسجد النبوي لزيارة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والسلام عليه هو بمنزلة المرور الجائز، وقد نص بعض الفقهاء على أن طواف الحائض المعذورة هو بمنزلة المرور الجائز في المسجد، ولا شك أن الزيارة النبوية حينئذ أولى بالجواز من الطواف:
قال الشيخ ابن القيم الحنبلي في "إعلام الموقعين" (3/24، ط. دار الكتب العلمية): [طوافُها بمنزلة مرورها في المسجد، ويجوز للحائض المرور فيه إذا أمنت التلويث، وهي في دورانها حول البيت بمنزلة مرورها ودخولها من باب وخروجها من آخر؛ فإذا جاز مرورها للحاجة فطوافها للحاجة التي هي أعظم من حاجة المرور أولى بالجواز.] اهـ.
وبناءً على ذلك: فيمكن للحائض أن تتحين فترات انقطاع حيضها، وتقلد المذهب القائل بأن النقاء في الحيض طهر؛ وهو قول المالكية والحنابلة وقول للإمام الشافعي يُعرَف بقول "التلفيق" ورجحه بعض الشافعية، ثم تغتسل وتزور النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتسلم عليه، فإن لم ينقطع دمها وخشيت فوات الرفقة قبل انقطاع حيضها فلا مانع من أن تزور وتسلم وهي حائض إذا أَمِنَت التلويث بما تتحفظ به؛ فإن ذلك بمنزلة مرورها الجائز في المسجد، ولها أن تتناول دواءً يمنع نزول الدم وذلك باستشارة أهل الطب.والله سبحانه وتعالى أعلم
 

اقرأ أيضا
;