01 يناير 2017 م

الوقف في الحضارة الإسلامية

الوقف في الحضارة الإسلامية

يقول الله تبارك وتعالى في كتابه الكريم: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ [آل عمران: 92]، وروى مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ: إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ».

وروى البخاري ومسلم، واللفظ للبخاري، عن أنس بن مالك قال: كان أبو طلحة أكثر أنصاري بالمدينة نخلًا وكان أحب أمواله إليه بيرحاء، وكانت مستقبلة المسجد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب فلما نزلت: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ [آل عمران: 92]، قام أبو طلحة فقال يا رسول الله إن الله يقول: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾، وإن أحب أموالي إليَّ بيرحاء وإنها صدقة لله أرجو برها وذخرها عند الله، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بَخٍ، ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ، ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ، وَقَدْ سَمِعْتُ مَا قُلْتَ، وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي الأَقْرَبِينَ». فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: أَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَسَمَهَا أَبُو طَلْحَةَ فِي أَقَارِبِهِ وَبَنِي عَمِّهِ.

الصدقة الجارية هي ما عرف اصطلاحًا في كتب أهل العلم بالوقف، وهو من مفاخر الحضارة الإسلامية، ومظهر من مظاهر التكافل الاجتماعي الذي عرف منذ عهد النبوة، فقد كان أول وقف في الإسلام هو المسجد الذي بناه النبي صلى الله عليه وسلم بقباء في مسيرة هجرته من مكة إلى المدينة ثم المسجد النبوي الشريف الذي بناه صلى الله عليه وسلم عند وصوله إلى المدينة المنورة، ومن العجيب أن من أوائل الأوقاف الخيرية في الإسلام وقف حبر يهودي اسمه مخيريق قاتل مع النبي صلى الله عليه وسلم في أحد، وعهِد إِلى من وراءهُ مِن قومِهِ: إِن قُتِلتُ هذا اليوم فمالِي لِمُحمَّد، يصنعُ فِيهِ ما أراهُ الله، وكان رسُولُ الله صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم يقُولُ: «مُخيرِيقٌ خيرُ يهُود». وقبض رسُولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم أموالهُ، فعامَّةُ صدقاتِ رسُولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم بِالمدِينةِ مِنها، رواه أبو نعيم في "الدلائل" والأزدي في "تركة النبي صلى الله عليه وسلم" من طريق محمد بن إسحاق. وتطورت مؤسسة الوقف وتشعبت مواردها ووظائفها بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكانت الأوقاف في عصر الخلافة الراشدة وما بعدها تبنى منها المساجد، والأربطة، والمدارس، والمكتبات الكبيرة، وكان ينفق منها على المجاهدين، والعلماء، والخطباء، وأهل الحسبة، وسائر أنشطة المجتمع التي تعود بالنفع العام على أفراد الأمة وتسهم في حضارتها ورقيها، وكان للأوقاف أيضًا أثر حميد في النهوض بعلوم الطب وتحسين الصحة والعلاج، فمثلًا أمر هارون الرشيد ببناء أول مستشفًى كبير في تاريخ الحضارة الإسلامية هو "البيمارستان" الذي كان في بغداد. ثم توالى بناء المستشفيات حسب نظام الوقف حتى أصبح ببغداد وحدها في مطلع القرن الرابع الهجري خمسة مستشفيات. وقال ابن جبير في رحلته أنه وجد ببغداد حيًّا كاملًا من أحيائها يشبه المدينة الصغيرة، كان يسمى بسوق المارستان، يتوسطه قصر فخم جميل وتحيط به الغياض والرياض والمقاصير والبيوت المتعددة، وكلها أوقاف وقفت على المرضى، وكان يؤمه الأطباء والصيادلة وطلبة الطب، إذ كانت النفقات جارية عليهم من الأموال الوقفية المنتشرة ببغداد.

الوقف أسلوب ابتكره المسلمون لدعم كافة أنشطة المجتمع التي يصعب على الأفراد أن يقوموا بمثلها دون هدف تجاري أو ربحي، ونستطيع أن نقول إن فكرة منظمات وجمعيات العمل الخيري والمدني الحديثة تكاد تكون مستوحاة من فكرة الوقف عند المسلمين، ويحتاج نشاط الوقف حاليًّا إلى الإحياء والتطوير والتفعيل بعدما عزف عنه كثير من الناس وتعطلت مع توقفه أنشطة خيرية كبيرة، كما يحتاج إلى الاستفادة من العلوم الحديثة في إحياء وتطوير نشاط الأوقاف حتى تعود مرة أخرى مسهمة في خدمة الناس أجمعين.

 

يُعَدُّ "الإسناد" إحدى خصائص الأمة الإسلامية؛ ذلك أن حضارتنا الإسلامية تتميز بسمة المشافهة، أي: انتقال العلم فيها بالتلقي الشفوي، وهذا النوع أضبط الطرق لتوثيق العلم؛ فالكتابة بمفردها لا توفر الثقة الكاملة بما تفيده؛ لأن كثيرًا من الإشكالات تتعلق بضبط المكتوب، فتم الجمع بين التلقي الشفوي والتوثيق بالكتابة، وهذا أمر تتفرد به الأمة الإسلامية وحضارتها، قال الإمام محمد بن حاتم: "إن الله أكرم هذه الأمة وشرفها وفضلها بالإسناد، وليس لأحد من الأمم كلها -قديمهم وحديثهم- إسناد".


شكلت المياه في مسيرة الإنسانية عاملًا مهما من عوامل قيام الحضارات وازدهارها، كما كان في فقد الماء أو سوء استخدامه تأثير بالغ في انهيار الحضارات واختفائها. وقد وقف القرآن موقفا صريحًا كشف فيه عن أهمية الماء في حياة المخلوقات؛ حيث قال المولى عز وجل: ﴿وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ﴾ [الأنبياء: 30]، كما جاء في سياق بيان طلاقة القدرة والامتنان على العباد بخلق الماء قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ ۞ يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [النحل: 10-11]، وغير ذلك من آيات تكرر فيها ذكر الماء وأنواعه ومصادره ووظائفه وغيرها.


لم تكن الرِّسالةُ الإِسلاميَّة داعيةً للانغلاق والانكفاء على الذَّات، بل إنَّ هذا الانغلاقَ والانكفاءَ يتناقضُ مع كونها دعوةً للعالمين، تخاطب كافَّة الأجناس وتتواصل مع مختلف الثَّقافات، وهذا التَّواصل مُنبنٍ على أساسٍ راسخٍ من رؤية نقيَّةٍ للكون والحياة والوجود، ثم بعد ذلك يمكن أن يتم تطعيم أدوات هذه الرؤية ووسائلها بما توصَّلت إليه من أدوات ووسائل تنفع ولا تخالف هذه الرؤية الذَّاتيَّة الإسلاميَّة.


اهتمت الحضارة الإسلامية بإعمار الأرض انطلاقًا من المنظور القرآني لوظيفة الإنسان في الكون وفي الحياة؛ وهو الاستخلاف في الأرض لعمارتها وإقامة عبادة الله عز وجل في ربوعها، فالإنسان هو خليفة الله في أرضه؛ قال الله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ [البقرة: 30]، وقال تعالى: ﴿يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ﴾ [ص: 26] وقال تعالى: ﴿هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ﴾ [هود: 61]. ونهى الله تعالى الإنسان


كان نشرُ العلم أحدَ القواعد الأساسيَّة التي قامت عليها الحضارة الإسلامية؛ فكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم معلِّمًا وداعيًا، يهديِ به اللهُ من يشاءُ إلى صراطٍ مستقيمٍ، فقد خاطبه الله تعالى قائلًا له: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ۞ وَدَاعِيًا إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا﴾ [الأحزاب: 45-46].


مَواقِيتُ الصَّـــلاة

القاهرة · 10 أكتوبر 2025 م
الفجر
5 :27
الشروق
6 :54
الظهر
12 : 42
العصر
4:1
المغرب
6 : 30
العشاء
7 :47