الادعاء أن الله يستلقي على العرش ويضع إحدى رجليه على الأخرى

الادعاء أن الله يستلقي على العرش ويضع إحدى رجليه على الأخرى

ما الحكم فيمن يدَّعون أن الله تعالى يستلقي على العرش ويضع إحدى رجليه على الأخرى؟

الافتراء على الله تعالى بأنه يصيبه التعب فيستريح منه هو قول أهل الجحود والكفر من اليهود وغيرهم، وقد رد الله عليهم بقوله: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ﴾ [ق: 38]، واللغوب: هو التعب والإعياء.
ويدخل في هذا الافتراء: نسبةُ الاستلقاء إلى الله تعالى وأنه وضع إحدى رجلَيه على الأخرى؛ فإن ذلك مظهرٌ من مظاهر الاستراحة مِن التعب بعد العمل الشاق. تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا.
فليتقِ الله أولئك المدَّعون على الله بغير علم، ولْيحذروا الانسياق خلف المنكر والباطل من الروايات الموجودة في بعض الكتب من غير دراية ولا دراسة ولا تمحيص؛ فإن القولَ على الله بغير علم قَرِينُ الشرك؛ قال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [الأعراف: 33].

التفاصيل ....

الافتراء على الله تعالى بأنه يصيبه التعب فيستريح منه هو قول أهل الجحود والكفر بالله تعالى من اليهود وغيرهم، وهو كفر صريح لا يُختَلَف فيه.
وقد رد الله تعالى على اليهود فِريتهم، وأَكذَبَهم في بهتانهم هذا بقوله سبحانه: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ﴾ [ق: 38]، واللغوب: هو التعب والإعياء؛ فعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنَّ اليهود أتت النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم فسألته عن خلق السماوات والأرض. فقال: «خَلَقَ اللهُ الأرضَ يَومَ الأحَد والإثنَينِ، وخَلَقَ الجِبالَ يومَ الثُّلاثاءِ وما فيهِنَّ مِن مَنافِعَ، وخَلَقَ يومَ الأربَعاءِ الشَّجَرَ والماءَ والمَدائِنَ والعُمرانَ والخَرابَ، فهَذِه أربَعةٌ»، ثمَّ قال: ﴿أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ • وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ﴾ [فصلت: 9، 10]؛ -لِمَن سألَ-». قال: «وخَلَقَ يَومَ الخَمِيسِ السَّماءَ، وخَلَقَ يَومَ الجُمعةِ النُّجُومَ والشَّمسَ والقَمَرَ والمَلائِكةَ إلى ثَلاثِ ساعاتٍ بَقِيَت مِنه؛ فخَلَقَ في أَوَّلِ ساعةٍ مِن هذه الثَّلاثةِ الآجالَ حينَ يَمُوتُ مَن ماتَ، وفي الثَّانِيةِ ألقى الآفةَ على كُلِّ شَيءٍ مِمَّا يَنتَفِعُ بِه النَّاسُ، وفي الثَّالِثةِ خلقَ آدَمَ وأَسكَنَه الجَنَّةَ، وأَمَرَ إبلِيسَ بالسُّجُودِ لَه، وأَخرَجَه مِنها في آخِرِ ساعةٍ»، قالت اليهود: ثم ماذا يا محمد؟ قال: «ثمَّ استَوى على العَرش، قالوا: قد أصبتَ لو أتممت، قالوا: ثم استراح، فغضب النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم غضبًا شديدًا، فنزل: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ • فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ﴾ [ق: 38، 39]. رواه ابن جرير وغيره في "التفسير" والحاكم في "المستدرك" وصححه، والبيهقي في "الأسماء والصفات".
وهذا الحديث وإن كان فيه ضعف إلا أنَّ ما ورد في آخره مِن أنَّ الآية نزلت ردًّا على اليهود في افترائهم على الله سبحانه ونسبتهم الراحةَ إليه تعالى يوم السبت له شواهد أخرى تقويه، وبذلك قال جماعة من السلف؛ كعكرمة وقتادة والكلبي، وعلى ذلك تضافر المفسرون.
قال الإمام القرطبي في "تفسيره": [قال قتادة والكلبي: هذه الآية نزلت في يهود المدينة؛ زعموا أن الله تعالى خلق السماوات والأرض في ستة أيام: أولها الأحد، وآخرها يوم الجمعة، واستراح يوم السبت؛ فجعلوه يوم راحة، فأكذبهم الله تعالى في ذلك] اهـ.
ويدخل في هذا الافتراء اليهودي: نسبةُ الاستلقاء إلى الله تعالى وأنه وضع إحدى رجلَيه على الأخرى؛ فإن ذلك مظهر من مظاهر الاستراحة مِن التعب بعد العمل الشاق.
وفيما يلي أقوال جماعة من المفسرين في نسبة ذلك إلى اليهود:
ففي "تفسير الإمام أبي عبد الله الإلبِيري" المعروف بابن أبي زَمَنِين. (ت: 399ه) الذي اختصر به "تفسير يحيى بن سلام": [﴿وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ﴾ مِن إعياء؛ وذلك أن اليهود أعداء الله قالت: لَمَّا فرغ الله مِن خلق السماوات والأرض أُعيي، فاستلقى ووضع إحدى رجلَيه على الأخرى؛ استراح، فأنزل الله: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ﴾ ليس كما قالت اليهود] اهـ.
وقال الإمام النسفي في "تفسيره": [قيل: نزلت في اليهود -لُعِنَت- تكذيبًا لقولهم: خلق الله السماوات والأرض في ستة أيامٍ أولها الأحد وآخرها الجمعة، واستراح يوم السبت واستلقى على العرش، وقالوا: إنَّ الذي وقع من التشبيه في هذه الأمة إنما وقع من اليهود، ومنهم أُخِذ، وأنكر اليهود التربيع في الجلوس وزعموا أنه جلس تلك الجِلسة يوم السبت] اهـ.
وقال الإمام البيضاوي في "تفسيره": [﴿وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ﴾: مِن تعب وإعياء، وهو رد لِما زعمت اليهود مِن أنه تعالى بدأ خلق العالم يوم الأحد وفرغ منه يوم الجمعة، واستراح يوم السبت واستلقى على العرش] اهـ.
وقال الإمام أبو حيان في "البحر المحيط" عند تفسير قوله تعالى: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا﴾ [المائدة: 64]: [إن كانوا أرادوا الجارحة فهو مناسب مذهبهم؛ إذ هو التجسيم، زعموا أن ربهم أبيضُ الرأس واللحية، قاعدٌ على كرسي، وزعموا أنه فرغ مِن خلق السماوات والأرض يوم الجمعة، واستلقى على ظهره واضعًا إحدى رجليه على الأخرى للاستراحة، وردَّ الله تعالى ذلك بقوله: ﴿وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ﴾ [الأحقاف: 33]، ﴿وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ﴾ [ق: 38]] اهـ.
وقال الشيخ الخطيب الشربيني في تفسيره "السراج المنير": [قال الكَلبِيُّ في هذه الآية وفي نظيرها في سورة الأنعام: إنها نزلت في جماعة مِن اليهود؛ مالك بن الصيف، وكعب بن الأشرف، وكعب بن أسد، وغيرهم؛ حيث قالوا: إنَّ الله تعالى لما فرغ مِن خلق السماوات والأرض وأجناس خلقها استلقى واستراح ووضع إحدى رجليه على الأخرى، فنزلت هذه الآية تكذيبًا لهم، ونزل قوله تعالى: ﴿وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ﴾] اهـ.
بل ورد التصريح بنسبة هذه المقولة بعينها -رفع إحدى الرِّجلين على الأخرى- إلى اليهود عند الضياء المقدسي في "الأحاديث المختارة" في روايةٍ لحديث ابن عباس رضي الله عنهما، ولفظها: قالوا: ثم مه؟ فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «الله أعلم». قالوا: أخبرنا عن يوم السبت. قال: «الله أعلم». قالوا: لكنا نعلم؛ ثم رفع إحدى رِجليه على الأخرى فاستراح، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «سبحان الله». فأنزل الله: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ • فَاصْبِرْ﴾ يا محمد ﴿عَلَى مَا يَقُولُونَ﴾.
فأما الخبر الذي يرويه ابن أبي عاصم في "السُّنَّة" والطبراني في "المعجم الكبير" والبيهقي في "الأسماء والصفات" مِن طريق عُبَيدِ بن حُنَينٍ، قال: "بينا أَنا جالِسٌ إذ جاءَني قَتادةُ بن النُّعمانِ، فقال لي: انطَلِق بنا يا ابن حُنَين إلى أَبي سَعِيدٍ الخُدرِيِّ؛ فإنِّي قد أُخبِرتُ أَنَّه قد اشتَكى، فانطَلَقنا إلى أَبِي سَعِيدٍ، فوَجَدناه مُستَلقِيًا رافِعًا رِجلَه اليُمنى على اليُسرى، فسَلَّمنا وجَلَسنا، فرَفَعَ قَتادةُ بن النُّعمانِ يَدَه إلى رِجلِ أَبِي سَعِيدٍ فقَرَصَها قَرصةً شَدِيدةً، فقالَ أَبُو سَعِيدٍ: سُبحانَ اللهِ يا ابنَ آدَمَ، لقد أَوجَعتنِي، فقالَ لَه: ذلكَ أَرَدتُ، فقال: إنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم، قالَ: «إنَّ اللهَ عزَّ وجَلَّ لَمَّا قَضى خَلقَه استَلقى فوَضَعَ إحدى رِجلَيه على الأُخرى، وقال: لا يَنبَغِي لأَحَدٍ مِن خَلقِي أَن يَفعَلَ هذا». فقالَ أَبُو سَعِيدٍ: لا جَرَمَ، واللهِ لا أَفعَلُه أَبَدًا".
فهذا الخبر خبرٌ منكرٌ وباطل إسنادًا ومتنًا، وقد رد العلماء على مَن صحَّحَ هذا الخبر الباطل -وممَّنْ صحَّحَه أبو محمد الخلال الذي نقل عنه أبو يعلى الحنبلي في "إبطال التأويلات" أنه قال: هذا حديث إسناده كلهم ثقات، وهم مع ثقتهم شرط الصحيحين مسلم والبخاري-، وبينوا أنَّ هذا كلامٌ مجانب للصواب، ولا يلزم مِن كون الشيخين ذكرا أحد الرواة في صحيحيهما أن يكون كلُّ خبر رواه هذا الراوي على شرطهما، وأثبتوا أنَّ هذا الخبر متلَقًّى عن اليهود، وأنه مخالفٌ لصحيح المنقول وصريح المعقول؛ قال الإمام الحافظ البيهقي في "الأسماء والصفات": فهذا حديث منكر، ولم أكتبه إلا مِن هذا الوجه، وفليح بن سليمان -الذي انفرد برواية هذا الحديث- مع كونه مِن شرط البخاري ومسلم فلم يخرجا حديثه هذا في الصحيح، وهو عند بعض الحفاظ غير محتج به، ثم نقل عن يحيى بن معين أنه قال: فليح بن سليمان لا يُحتَجُّ بحديثه، وقال أيضًا: فليح ضعيف، وعن النسائي أنه قال: فليح بن سليمان ليس بالقوي، ثم قال الإمام البيهقي: فإذا كان فليح بن سليمان المدني مختلَفًا في جواز الاحتجاج به عند الحفاظ لم يثبت بروايته مثلُ هذا الأمر العظيم.
قال الإمام البيهقي: وفيه علة أخرى؛ وهي أن قتادة بن النعمان مات في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وصلى عليه عمر، وعبيد بن حنين مات سنة خمس ومائة، وله خمس وسبعون سنة في قول الواقدي وابن بُكَير، فتكون روايته عن قتادة منقطعة، وقول الراوي: "وانطلقنا حتى دخلنا على أبي سعيد" لا يرجع إلى عبيد بن حنين، وإنما يرجع إلى مَن أرسله عنه، ونحن لا نعرفه، فلا نقبل المراسيل في الأحكام، فكيف في هذا الأمر العظيم؟ ثم إن صح طريقه يحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم حدَّث به عن بعض أهل الكتاب على طريق الإنكار فلم يَفهَم عنه قتادة بن النعمان إنكارَه. ثم روى عن عبد الله بن عروة بن الزبير أن الزبير بن العوام رضي الله عنه سمع رجلًا يحدث حديثًا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فاستمع الزبير له، حتى إذا قضى الرجل حديثه قال له الزبير: أنتَ سمعتَ هذا مِن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ فقال الرجل: نعم، قال: هذا وأشباهه مما يمنعنا أن نحدث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قد لعمري سمعتُ هذا من رسول الله صلى الله عليه آله وسلم وأنا يومئذٍ حاضر، ولكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ابتدأ هذا الحديث فحدَّثَناه عن رجل مِن أهل الكتاب حدَّثه إياه، فجئتَ أنتَ يومئذٍ بعد أن قَضى صدرَ الحديث وذَكَر الرجلَ الذي مِن أهل الكتاب، فظننتَ أنه مِن حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
قال الإمام البيهقي: [ولهذا الوجه مِن الاحتمال تَرَكَ أهلُ النظر مِن أصحابنا الاحتجاج بأخبار الآحاد في صفات الله تعالى إذا لم يكن لما انفرد منها أصلٌ في الكتاب أو الإجماع، واشتغلوا بتأويله، وما نُقِلَ في هذا الخبر إنما يفعله في الشاهد مِنَ الفارغِينَ مِن أعمالهم مَن مَسَّه لُغُوبٌ، أو أصابه نَصَبٌ مما فعل، ليستريح بالاستلقاء ووَضعِ إحدى رجليه على الأخرى. وقد كذَّب الله تعالى اليهود حين وصفوه بالاستراحة بعد خلق السماوات والأرض وما بينهما فقال: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ • فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ﴾ [ق: 38، 39]] اهـ.
وأمَّا ما جاء في هذا الخبر مِن أنَّ ذلك هو علة النهي عن وضع إحدى الرِّجلَينِ على الأخرى فهو كلام باطل اتفق السلف على إنكاره وأنه مأخوذ عن اليهود، بل كان سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يجلس هذه الجِلسة إنكارًا لهذا الأمر، وممن صرَّح من السلف ببطلان ذلك وأنه متلقًّى عن اليهود: الحسن البصري وسعيد بن جُبَير والزهري وأبو مِجلَز وأبو سِنان الشيباني، واستدل العلماء بِما رُوِي في الصحيحين مِن فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لذلك، وحملوا النهي الوارد في "صحيح مسلم" وغيره عن ذلك على مخافة انكشاف العورة، فإذا أُمِن الانكشاف جاز ذلك عند الجميع كما قال الإمام البيهقي.
فروى الإمام إسحاق بن راهويه في "مسنده" عن أبي مِجلَزٍ لاحِق بن حُمَيد السَّدُوسي قال: "إنَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه استلقى في حائط من حيطان المدينة فوضع إحدى رجليه على الأخرى، وكان اليهود تفتري على الله عز وجل يقولون: إن ربنا تبارك وتعالى فرغ مِن الخلق يوم السبت ثم تَرَوَّح، فقال الله عز وجل: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ﴾ [ق: 38]، فكان أقوام يكرهون أن يضع إحدى رجليه على الأخرى، حتى صنع عمر رضي الله عنه". قال الحافظ ابن حجر في "إتحاف الخِيَرة": رواته ثقات.
وروى الإمام الطحاوي في "شرح معاني الآثار" بسند حسن أنه قيل للحسن البصري: قد كان يُكرَه أَن يَضَعَ الرَّجُلُ إحدى رِجلَيه على الأُخرى؟ فقال الحَسَنُ: ما أَخَذُوا ذلك إلا عن اليَهُودِ.
وروى عبد الله بن أحمد في "السنَّة" عن أبي سفيان السعدي قال: رأيت الحسن قد وضع رِجلَ يمينِه على شماله وهو قاعد، قلت: يا أبا سعيد تُكرَه هذه القِعدة. فقال الحسن: قاتل الله اليهود؛ ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ﴾ [ق: 38]، فعرَفتُ ما عَنى، فسَكَتُّ.
وأخرج الإمام الخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد" عن العوَّام بن حوشب قال: "سألت أبا مِجلَزٍ عن الرجل يجلس فيضع إحدى رجليه على الأخرى، فقال: لا بأس به، إنما كَرِهَ ذلك اليهودُ؛ زعموا أن الله خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استراح في يوم السبت فجلس تلك الجِلسة، فأنزل الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ﴾ [ق: 38]".
وروى الإمام سفيان الثوري في "تفسيره" عن هارون بن عنترة قال: "رأى رجلًا واضعًا إحدى الرجلين على الأخرى وآخر ينهى، فقال سعيد بن جبير: هذا شيء قالته اليهود، ثم قرأ: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ﴾ [ق: 38]".
وقال الإمام الجليل عبد الله بن المبارك في "كتاب الزهد": "سمعت أبا سِنان الشيباني يقول: فرغ الله مِن خلق السماوات والملائكة إلى ثلاث ساعات بَقِينَ مِن يوم الجمعة، فخلقَ الآفةَ في ساعة، والأجلَ في ساعة، فلا أدري بأيتهما بدأ؟ وخلق آدمَ في الساعة الآخرة، فقالت اليهود: فجلس هكذا يوم السبت، فأنزل الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ﴾ [ق: 38]".
وأخرج عبد الرزاق في "المصنَّف" عن الزهري قال: "وأخبرني ابن المسيب قال: كان ذلك مِن عمر وعثمان رحمة الله عليهما ما لا يحصى منهما، قال الزهري: وجاء الناس بأمر عظيم" اهـ. ومما يؤيد أنَّ ذلك متلَقًّى عن اليهود أنه مروي من كلام كعب الأحبار كما رواه عنه ابن جرير الطبري في "تفسيره" في أوائل سورة الشورى، وكعب الأحبار كثير النقل عن كتب أهل الكتاب، وقد أنكر السادةُ الحنابلة كلامَ أبي محمد الخلال هذا في تصحيح الحديث، بل عدَّه الحافظ زين الدين ابن رجب الحنبلي طامَّة مِن الطامَّات التي لا تُحتَمل؛ فقال في كتابه "فتح الباري شرح صحيح البخاري": "واختلفوا في أحاديث النهي -أي: عن وضع إحدى الرِّجلين على الأخرى-: فمنهم مَن قال: هي منسوخة بحديث الرخصة، ورجحه الطحاوي وغيره، ومنهم مَن قال: هي محمولة على مَن كان بين الناس فيخاف أن تنكشف عورته، أو لم يكن عليه سراويل، رُوِيَ ذلك عن الحسن، وروي عنه أنه قال فيمن كَرِهَ ذلك: ما أخذوا ذلك إلا عن اليهود. خرجه الطحاوي، وروى عبد الرزاق في "كتابه" عن معمر عن الزهري قال: أخبرني ابن المسيب قال: كان ذلك من عمر وعثمان ما لا يُحصى منهما، قال الزهري: وجاء الناس بأمر عظيم، وقال الحكم: سُئِل أبو مِجلَز عن الرَّجُل يضع إحدى رِجليه على الأخرى، فقال: لا بأس به، إنما هذا شيء قاله اليهود: أنَّ الله لَمَّا خلق السماوات والأرض استراح، فجلس هذه الجلسة، فأنزل الله عز وجل: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ﴾ [ق: 38]"، خرجه أبو جعفر ابن أبي شيبة في "تاريخه".
وقد ذكر غير واحد مِن التابعين أن هذه الآية نزلت بسبب قول اليهود: إنَّ الله خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استراح في اليوم السابع، منهم: عكرمة وقتادة.
فهذا كلام أئمة السلف في إنكار ذلك ونسبته إلى اليهود، وهذا يدل على أن الحديث المرفوع المروي في ذلك لا أصل لرفعه، وإنما هو مُتَلقًّى عن اليهود، ومَن قال إنه على شرط الشيخين فقد أخطأ، وهو مِن رواية محمد بن فليح بن سليمان، عن أبيه، عن سعيد بن الحارث، عن عبيد بن حنين: سمع قتادة بن النعمان يحدثه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمعنى قول أبي مجلز، وفي آخره: «وقال عز وجل: إنها لا تصلح لبشر»، وعبيد بن حنينٍ قيل إنه لم يسمع من قتادة بن النعمان؛ قاله البيهقي.
وفليح وإن خرج له البخاري فقد سبق كلام أئمة الحفاظ في تضعيفه، وكان يحيى بن سعيد يقشعر مِن أحاديثه، وقال أبو زرعة فيما رواه عنه سعيد البرذعي: فليح واهي الحديث، وابنه محمد واهي الحديث، ولو كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يروي عن ربه أنه قال: «إنها لا تصلح لبشر» لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولو كان قد انتسخ فعلُه الأول بهذا النهي لم يستمر على فعله خلفاؤه الراشدون الذين هم أعلم أصحابه به، وأتبعهم لهديه وسنته.
وقد روي عن قتادة بن النعمان مِن وجه آخر منقطع، مِن رواية سالم أبي النضر، عن قتادة بن النعمان -ولم يدركه-، أنه روى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه نهى عن ذلك. خرجه الإمام أحمد. وهذا محتمَل، كما رواه عنه جابر وغيره، فأما هذه الطامَّة فلا تُحتَمَل أصلًا.
وقد قيل: إنَّ هذه مما اشتبه على بعض الرواة فيه ما قاله بعض اليهود، فظنه مرفوعًا فرفعه، وقد وقع مثل هذا لغير واحد مِن متقدمي الرواة، وأُنكر ذلك عليهم، وأنكر الزبير على مَن سمعه يحدث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقال: إنما حكاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن بعض أهل الكتاب، وروى مسلم أيضًا في كتاب التفصيل بإسناد صحيح عن بكير بن الأشج: قال لنا بُسرُ بن سعيد: أيها الناس! اتقوا الله وتَحَفَّظُوا من الحديث؛ فوالله لقد رأيتُنا نجالس أبا هريرة، فيحدثنا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ويحدثنا عن كعب، ثم يقوم، فأسمع بعض مَن كان معنا يجعل حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن كعب، ويجعل حديث كعب عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولو ذكرنا الأحاديث المرفوعة التي أُعِلَّت بأنَّها موقوفة: إما على عبد الله بن سلام، أو على كعب، واشتبهت على بعض الرواة فرفعها لطال الأمر. انتهى كلامه رحمه الله تعالى، وهو كلام في غاية التحرير.
فليتقِ الله أولئك الذين يتكلمون في دِين الله تعالى بغير علم، وينساقون خلف الغث والمنكر والباطل من الروايات المذكورة في الكتب من غير دراية ولا دراسة ولا تمحيص، وليَكِلُوا الأمر لأهله؛ فإن الله تعالى في كتابه الكريم جعل القول عليه سبحانه من غير علم قَرِينَ الشرك به عز وجل؛ فقال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [الأعراف: 33].
والله سبحانه وتعالى أعلم.

اقرأ أيضا