ما حكم أخذ مكافأة على رد الحقوق لأصحابها؟ فيقول السائل: توفيت امرأةٌ عن قطعة أرض، ولها ثلاث بنات خارج البلاد لم يعلمن بإرثهنَّ من أُمِّهنَّ، فقام بعض الناس بالاستيلاء على قطعة الأرض وزَوَّروا مستندات ملكيتها لصالحهم، فاكتَشَفْتُ ذلك، واستطعت أن أَحصُل على مستندات تُفيد ملكية الأرض لأصحابها الأصليين، فلما علم غاصبو الأرض بذلك عَرَضوا عَلَيَّ قطعة أرض نظير سكوتي وإعطائهم ما معي من مستندات تُجَرِّمهم، فامتنعت، ثم توصَّلت للورثة بعد جهد جهيد، وأعلمتهم بحقوقهم وأن معي المستندات التي تثبتها.
فهل يحق لي شرعًا أن أحصل على مقابل من الورثة نظير ما فعلته، وما مقداره إن كان؟ وهل ما يقال مِن أنَّ مَن وَجَد شيئًا فله 10% من قيمته صحيح؟ وهل يَسري هنا في هذه الحالة؟
أخذ مكافأة على رد الحقوق لأصحابها
لا يجب على أصحاب الأرض في هذه الحالة أن يعطوا السائل مكافأة؛ لأنه لم يتفق معهم على ذلك في مقابل مجهوده في المحافظة على حقهم وإثباته، فيعد متبرعًا، ولكن إن طلب منهم أن يتبرعوا له بشيء دون أن يشترط ذلك عليهم أو بذلوا هم شيئًا له على سبيل المكافأة دون طلب منه فلا حرج عليه في أخذه، وتقدير المكافأة موكولٌ لأصحاب الأرض؛ لأنه تبرع منهم، وللسائل إن كان قد صرف مبالغ مالية محددة يعرفها ويحفظ قدرها للحصول على المستندات المطالبة بما دفع وغرم في سبيل الحفاظ على حق الورثة المذكورين.
وأما الشائع بين الناس مِن أنَّ مَن وَجَد شيئًا فله 10% من قيمته فمحلُّه اللُّقَطَةُ؛ فلا يسري في الواقعة المسؤول عنها.
المحتويات
- بيان المراد بالغصب وحكمه
- بيان حكم الإعانة على الغصب والتستر على فاعله
- بيان فضل السعي في مصالح المسلمين
- بيان الحكم إذا جعل أصحاب الحق الضائع جُعلاً لمن يأتيهم به
- بيان أصل ما هو شائع بين الناس بأن من وجد شيئًا فله 10% من قيمته
- الخلاصة
بيان المراد بالغصب وحكمه
الغَصب هو: الاستيلاء على مال الغير ظلمًا، وهو من كبائر الذنوب التي جاء فيها الوعيد الشديد؛ قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ﴾ [النساء: 29]، وروى أحمد في "مسنده" عن أبي حَرَّة الرَّقَاشي عن عَمِّه رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ إِلَّا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ».
وفي خصوص غصب الأرض: روى البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَن أَخَذَ مِنَ الأرضِ شَيئًا بِغَيرِ حَقِّهِ خُسِفَ بِهِ يَومَ القِيامَةِ إِلى سَبعِ أَرَضِين». انظر: "الزواجر" للهيتمي (1/ 434- 437، ط. دار الفكر).
بيان حكم الإعانة على الغصب والتستر على فاعله
كما أن الغصب مُحَرَّم فإن الإعانة عليه والتستر على فاعله أيضًا مثله في الحرمة؛ وروى الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَن أعانَ ظَالِمًا بِبَاطِلٍ لِيَدحَضَ بِبَاطِلِهِ حَقًّا فَقَدْ بَرِئَ مِنْ ذِمَّةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَذِمَّةِ رَسُولِهِ»؛ قال المناوي في "فيض القدير" (6/ 72، 73، ط. المكتبة التجارية الكبرى): [أي عهده وأمانته؛ لأن لكل أحد عهدًا بالحفظ والكلاءة، فإذا فعل ما حُرِّم عليه أو خالف ما أُمِر به خذلته ذمة الله] اهـ.
وإذا أخذ إنسانٌ مالًا نظير تَكَتُّمِه على الحق وستره على ما يوصله إلى أهله فإنه بذلك يكون آخذًا الرِّشوة المحرمة التي تُوُعِّد عليها باذلها وآخذها باللعن؛ وهي: ما يعطى لإبطال حق أو لإحقاق باطل. "التعريفات" للجرجاني (ص49، ط. المطبعة الخيرية)، وقد روى الأربعة إلا النسائي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: «لَعَن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الراشي والمرتشي»، قال الترمذي: «هذا حديث حسن صحيح» اهـ. وروى الطبراني -بسند رجاله ثقات- عنه أيضًا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «الراشي والمرتشي في النار».
قال الإمام الغزالي في "الإحياء" (2/ 917، 918، ط. دار الشعب): [باذل المال لا يبذله قَطُّ إلا لغرض، فإن كان المراد إعانة بفعل معين، فهذه هدية بشرط ثواب يعرف بقرينة الحال، فلينظر في ذلك العمل الذي هو الثواب فإن كان حرامًا؛ كالسعي في تنجيز إدرار حرام أو ظلم إنسان أو غيره حَرُم الأخذ، وإن كان واجبًا؛ كدَفع ظلم مُتَعَيِّن على كل مَن يَقدر عليه أو شهادة متعينة فيحرم عليه ما يأخذه، وهي الرشوة التي لا يُشَكُّ في تحريمها] اهـ بتصرف.
بيان فضل السعي في مصالح المسلمين
كذلك فإنَّ السَّعي في مصالح المسلمين، والاجتهاد في إيصال الحقوق الضائعة إلى أصحابها، وتنبيه الغافل منهم على مستحقاته السليبة عَمَلٌ مَشكورٌ مُثابٌ عليه صاحبه؛ وقد روى مسلم في "صحيحه" عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «اللهُ في عَونِ العَبدِ ما كانَ العَبدُ في عَونِ أَخيه».
بيان الحكم إذا جعل أصحاب الحق الضائع جُعلاً لمن يأتيهم به
إذا جعل أصحاب الحق الضائع أو المستحقات السليبة جُعلًا معينًا لمن يأتيهم بما يثبت ما لهم جاز لهم ذلك، وجاز قبوله لمن يحقق مأربهم، ولا عبرة بالعمل الواقع قبل إعلان الجُعل، فهو محض تبرع، وإذا وجد إنسان ما يثبت هذا الحق فيجب عليه أداؤه لأصحابه بلا شرطٍ مقابل.
قال الشيخ عليش المالكي في "مِنَحِ الجليل" (8/ 71، ط. دار الفكر): [إنما يجوز الجُعل على طلب آبق يُجهل مكانه، وأما من وجده آبقًا أو ضالًّا أو ثيابًا فلا يجوز له أخذ الجُعل على رده، ولا على أن يدل على مكانه؛ إذ ذلك واجب عليه، فأما مَن وَجَده بعد جَعل رَبِّه فيه جُعلًا فله الجُعل، علم بما جُعل فيه أو لم يعلم ما تكلَّف طلب هذه الأشياء أو لم يتكلفه] اهـ.
وجاء في "المنهاج" للإمام النووي وشرحه "مغني المحتاج" للعلامة الشربيني من كتب الشافعية (3/ 617، 618، ط. دار الكتب العلمية): [ويشترط فيها -أي الجعالة- لتتَحَقَّق (صيغة) من الجاعل... (تدل على) إذنٍ في (العمل) بطلب؛ كقوله: رُدَّ عبدي أو عبد فلان ولك كذا، أو بشرط؛ كقوله: إن رددت عبدي فَلَكَ كذا... (بِعِوَضٍ) معلوم مقصود (مُلتَزَم)...؛ لأنها معاوضة فافتقرت إلى صيغة تدل على المطلوب وقدر المبذول... (فلو... عمل بلا إذن) كأن عَمِلَ قبل النداء فلا شيء له؛ لأنه عَمِلَ مُتَبَرِّعًا] اهـ.
وقال العلامة الشَّمس الرمليُّ الشافعي في "نهاية المحتاج" (5/ 471، ط. دار الفكر): [ولو قال: (مَن دَلَّني على مالي فله كذا)، فدَلَّه غير مَنْ هو بيده استحق؛ لأن الغالب أنه تلحقه مشقة بالبحث عنه، كذا قالاه -يعني: الرافعي والنووي. قال الأَذرَعي: ويجب أن يكون هذا فيما إذا بحث عنه بعد جَعْلِ المالك، أما البحث السابق والمشقة السابقة قبل الجُعل فلا عبرة بهما] اهـ.
وقال الشيخ البُهوتي في "شرح منتهى الإرادات "من كتب الحنابلة (4/ 281، ط. مؤسسة الرسالة): [(فمَن بَلَغه) الجُعل (قبل فِعله)؛ أي: العمل المجعول له عليه ذلك العوض (استحقه)؛ أي: الجُعل (به)؛ أي: العمل بعده؛ لاستقراره بتمام العمل، كالربح في المضاربة. فإن تلف فله مثل مثله وقيمة غيره، ولا يحبس العامل العين حتى يأخذه، (و) من بلغه الجُعل (في أثنائه)؛ أي: العمل (فـ) له من الجُعل (حصة تمامه)؛ أي: بقسط ما عمله بعد بلوغه (إن أتمه بِنِيَّة الجُعل)؛ لأن عمله قبل بلوغه غير مأذون فيه، فلا يستحق عنه عوضًا؛ لتبرعه به (و) من بلغه (بعده)؛ أي: بعد تمام العمل (لم يستحقه) أي: الجُعل ولا شيئًا منه؛ لما سبق (وحَرُم) عليه (أخذه) إلا إن تبرع له به ربه بعد إعلامه بالحال] اهـ.
وقال في" كشاف القناع" (4/ 203، ط. دار الكتب العلمية): [وإن كانت -أي اللقطة- بِيَدِ إنسان فجعل له مالكها جُعلًا ليردها لم يُبَحْ له أخذُه] اهـ.
بيان أصل ما هو شائع بين الناس بأن من وجد شيئًا فله 10% من قيمته
أما الشائع بين الناس مِن أنَّ مَن وَجَد شيئًا فله 10% من قيمته فأصله: ما جاء في الأمر العالي الصادر في 18 مايو سنة 1898م، والذي يقضي بأن من يعثر على شيء أو حيوان ضائع فإنه يجب عليه أن يُبَلِّغ عنه أمام أقرب نقطة للشرطة في المُدُن وأمام العُمَد في القُرى، وأن يُسَلِّمَه، فإذا لم يُطالِب به مالكُه بِيعَ الشيء في خلال سنةٍ مِن تسليمه، أو الحيوان في خلال عشرة أيام في المزاد العلني بواسطة الإدارة، ويصح تقصير الميعاد الذي يتم فيه البيع إذا كان الشيء الضائع يُخشى عليه من التلف، ويكون لمن عثر على الشيء الضائع عُشر الثَّمَن، وتحتفظ الإدارة بالباقي لحساب المالك مدة ثلاث سنوات، فإذا لم يَتَقَدَّم المالِك في خلال هذه المدة لتسلمه فإنه يَؤُول إلى الدولة، أما إذا احتفظ مَن عَثَر على الشيء الضائع به ولم يبلغ عنه ولم يسلمه في خلال ثلاثة أيام في المدن وثمانية أيام في القرى فإنه يُحرَم مِن حَقِّه في العُشر، ويُحكَم عليه بغرامة، وإذا احتفظ به بِنِيَّة تملكه فإنه يُعَدُّ سارقًا -بالاصطلاح القانوني الذي يوسع من مفهوم السرقة عن المفهوم الشرعي.
وهذا القانون إنما هو في خصوص اللُّقَطَة، وهي: الشيء الضائع الذي يفقده صاحبه ولا يعثر عليه، فيَعثُر عليه غيره ويلتقطه، وهي لا تكون إلا في المنقولات التي لها مالِكٌ، فتضيع منه؛ بأن يفقد حيازته المادية لها، وتخرج من حوزته تمامًا، وتنتفي سيطرته عليها، مع ثبوت ملكيته لها. انظر: "الوسيط في شرح القانون المدني" للدكتور السنهوري (9/ 35، 36، ط. دار النشر للجامعات).
الخلاصة
عليه وفي واقعة السؤال: فإن ما قام به السائل من امتناعه عن قبول الرشوة نظير السكوت عن الحق والتكتم على الباطل هو فعل واجب عليه، وله ثواب عظيم عند الله سبحانه لا يساويه شيء من حطام الدنيا وزخرفها.
وأما جهوده في تحقيق صحة ملكية الأرض والسعي وراء تحصيل مستنداتها التي تُثبِت حَقَّ أصحاب الأرض وتُعِينُهم على رَفع يد الغاصبين فهي مَحض تَبَرُّعٍ منه، فلا يجب على أصحاب الأرض الحقيقيين أن يعطوه أي مكافأة؛ إذ لم يتم أي اتفاق بينه وبينهم على مقابلٍ لما فَعَل، ومن ثَمَّ فإنه يجب عليه تسليم المستندات إلى أصحاب الحق حتى تبرأ ذمته أمام الله تعالى، ولا يجوز له الامتناع عن تسليمها حتى يعطوه شيئًا، وإلا كان مُعينًا على استمرار الظلم والغصب وإضاعة الحق.
ولو طلب من أصحاب الحق أن يتبرعوا له بشيء دون أن يشترط ذلك عليهم فلا حرج عليه من أخذه حينئذٍ، وكذلك لو بذلوا هم شيئًا له على سبيل المكافأة دون طلبٍ منه جاز بالأَوْلى، وتقدير المكافأة في الحالين موكولٌ لهم؛ لأنه تبرع منهم لا واجب عليهم.
ومع ذلك فإذا كان قد صرف مبالغ مالية محددة يعرفها ويحفظ قدرها للحصول على المستندات فله أن يطالب بما دفع وغَرِمَ في سبيل الحفاظ على حق الورثة المذكورين.
وأما ما ورد في القانون المصري مِن أن مَن التقط شيئًا فله عُشر ثَمَنِهِ بعد بيع الإدارة له، فلا يسري في الواقعة المسؤول عنها؛ لأن موضوعها ليس لُقَطَة، ولو فرضناه لُقَطَة فإن القانون قد وضع شرائط وقيودًا لأخذ العُشر، وكلها مُتَخَلِّفة عن واقعة السؤال.
والله سبحانه وتعالى أعلم.