حكم البناء في حريم القرية للشباب

حكم البناء في حريم القرية للشباب

ما حكم البناء في حريم القرية للشباب؟ حيث تسأل جامعة الإمام أبي الحسن الأشعري بداغستان -بعد شرح موجز لأحوال المسلمين هناك-: ما حكم حريم القرية الذي يضم غابةً وكلأً واسعًا حول القرية؛ هل يجوز لأهل القرية إذا ضاقت بهم القرية لزيادة سكانها بالتوالد أن يخصصوا لكل من يتزوج أو لكل عائلةٍ قطعةً من أرض حريم القرية؟

حريم القرية هو ما يتصل بالبلد من مُرتَكَض الخيل وملعب الصبيان وكافة المواضع القريبة التي يُحتاج إليها لتمام الانتفاع، وهو منفعة عامة لأهل القرية، والأصل أنه لا يجوز لأحد أن ينتفع به دون سائر أهل القرية إلا بما فيه مصلحة للجميع مع مراعاة الضوابط العامة والخاصة في ذلك.
وعليه: فإذا أَذِنت الدولة بالبناء في حريم القرية للمصلحة العامة، ولم يكن ذلك يضر بانتفاع أهل القرية بمرافقها تعطيلًا أو نقصانًا -حيث إن التصرف في ذلك منوطٌ بالمصلحة- فلا مانع شرعًا من البناء فيه، أو الانتفاع به بأوجُهِ الانتفاع الخاصة والعامة، وإذا حصل تَمَلُّكُه ولم تَعُد مرافق أهل القرية متوقفةً عليه فإنه لا يُسَمَّى حينئذٍ حريمًا؛ لأن الحريم هو ما يُحتاج إليه لتمام الانتفاع.

التفاصيل ....

المحتويات

 

بيان مفهوم حريم الأرض

المقرر شرعًا أن المراد بحريم الأرض: ما يتصل بالبلد من مُرتَكَض الخيل، وملعب الصبيان، ومُناخ الإبل، ومُجتمَع النادي، وكافة المواضع القريبة التي يُحتاج إليها لتمام الانتفاع، كالطريق ومسيل الماء.

وإنما سَمَّاه الفقهاء حريمًا ليُعطَى حكمَ أصله من امتناع التعدي عليه وتملكه بالإحياء من غير صاحبه كما مُنِع تَمَلُّكُ أصله؛ حيث قد تقرر عندهم أن "حريم الحرام حرام"، وأن "الحريمَ له حكمُ ما هو حريمٌ له" كما يقول الإمام السيوطي في "الأشباه والنظائر" (125، ط. دار الكتب العلمية).

الانتفاع بالحريم بإحياء الموات

إنما كان حريمًا للحاجة إلى الانتفاع والارتفاق به؛ إما في المصلحة الخاصة لمالك المعمور، وإما في المصلحة العامة لأهل البلدة، فلا يجوز لغيرهم تملُّك هذا الحريم بإحياء الموات. وقد نصَّ فقهاء الشافعية على ذلك:
يقول حجة الإسلام الغزالي في "الوسيط" (4/ 219، ط. دار السلام): [وأما القرية المعمورة في الإسلام فما يتصل بها من مُرتَكَض الخيل، وملعب الصبيان، ومُناخ الإبل، ومُجتمَع النادي: فهو حريمها، فليس لغيرهم إحياؤها] اهـ.
وقال الإمام النووي في "روضة الطالبين" (5/ 218، ط. المكتب الإسلامي): [حريم المعمور لا يُملَك بالإحياء؛ لأن مالك المعمور يستحق مرافقه] اهـ، ثم قال (5/282): [فرع في بيان الحريم: وهو المواضع القريبة التي يُحتاج إليها لتمام الانتفاع، كالطريق ومسيل الماء ونحوهما] اهـ.
وقال شيخ الإسلام زكريا الأنصاري في "أسنى المطالب في شرح روض الطالب" (2/ 445- 446، ط. دار الكتاب الإسلامي): [(فرع) في بيان الحريم: (الحريمُ ما يتمُّ به الانتفاعُ) وإن حصل أصلُ الانتفاعِ بدونه (فحريمُ القريةِ مُرتَكَضُ الخَيلِ) ونحوِها (ومَلعَبُ الصِّبيانِ)، التصريحُ به من زيادته (والنادي) وهو مجتمعُ القومِ للحديث. وعبارةُ الرافعيِّ: مجتمعُ النادي. فلفظ النادي يطلق على المجلس الذي يجتمعون فيه يَندون -أي يتحدثون- وعلى أهله المجتمعين. وعلى الأول يُحمَلُ تعبيرُ الروضةِ بمجتمع أهل النادي (ومُناخُ الإبلِ) بضم الميم: موضعُ إناختِها (ومُطَّرَحُ الكُناساتِ والمَرعى المُستَقِلُّ والمُحتَطَبُ) أعني (القريبَين) مِن القريةِ بخلاف البعيدَين عنها عند الإمام دون البغوي كما حكى الخلاف بقوله: (وفي البعيد) منهما (تردد)، واختار السبكيُّ والأَذرَعِيُّ قولَ البغويِّ، واقتضاه كلامُ القاضي وغيرِه. قال الأذرعي: وينبغي أن يكون محلُّه إذا لم يفحش بُعدُه عن القرية وكان بحيث يُعَدُّ مِن مرافقها. والاستقلالُ معتبرٌ في المحتطَبِ أيضًا كما أفاده كلام الأصل، أما إذا لم يستقلَّ كلٌّ مِن المذكورَين ولكن كان يُرعى فيه أو يُحتَطَب منه عند خوف البُعد فليس بحريم. ومِن حريم القرية مُراحُ الغَنَمِ والطريقُ ومَسِيلُ الماءِ] اهـ.
فكلامهم في منع تملك الحريم مختصٌّ بتملُّك حريم المعمور من غير مالكه، مما يعطل انتفاعهم بمرافقها أو ينقصه، أما إذا أراد صاحب المعمور أو أهل البلدة التصرفَ في هذا الحريم -للمصلحة الخاصة لصاحب المعمور في حريمه أو المصلحة العامة لأهل البلدة في حريمها- فإن هذا لا يقول بمنعه أحدٌ من فقهاء الشافعية ولا من غيرهم من الفقهاء.

وحريم القرية يُحتاج إليه في فروع كثيرة في الفقه؛ منها بدء مسافة السفر والتَّرَخُّص برُخَصه، ومنها إحياء الموات، ومنها مسائل البيع والشراء، وغير ذلك.
وحريم القرية وغيرها سُمِّي بذلك لأنه يحرم على غير مالكه أن يستبد بالانتفاع به؛ فالأصل أن حريم القرية هو منفعة عامة لأهلها؛ لا يجوز للأجنبي الانتفاع به دون أهل القرية، كما لا يجوز لبعض أهل القرية الانتفاع به دون بعضٍ إلا بإذن الجميع؛ لأنهم يملكون الانتفاع به على الشيوع بموجب سُكناهم للقرية.

تملك الحريم والانتفاع به لغير أهل البلد

كونُ حرمة تملُّك حريم البلد أو القرية من غير أهلها هو الأصل لا يقدح فيه أن يُخرَج عنه عند تعارض أصلٍ آخر؛ من باب الجمع بين المصالح المتعارضة بفعل أعظمها نفعًا، والترجيح بين المفسدتين بارتكاب أخفهما درءًا لأشدهما، أو يُخرَج عن الأصل عند الضرورات أو الحاجات التي تُنَزَّل منزلتها؛ لأن "الضرورات تبيح المحظورات".
وفرقٌ بين الفقه وما يُسطَر في كتبه من أحكام وفروعٍ لها صبغةُ التأصيل والعموم وبين الفتوى التي تراعي تنزيلَ الحكم على الواقع الذي يتغير بتغير الزمان والمكان والأحوال والأشخاص وتراعي القواعدَ الفقهية العامة والنظرة الكلية التي تكون تحت نظر المفتي عندما يفتي في قضايا الأعيان، وهو يشبه في ذلك القاضي الذي يكون حكمه اجتهادًا في قضية عين، لا في قضايا عامة.
فإذا أَذِنت الدولة مع ذلك بالبناء في حريم القرية للمصلحة العامة، ولم يكن ذلك يضر بانتفاع أهلها بمرافقها تعطيلًا أو نقصانًا -حيث إن التصرف في ذلك منوطٌ بالمصلحة- فلا مانع شرعًا من البناء فيه، أو الانتفاع به بأوجُهِ الانتفاع الخاصة والعامة، وإذا حصل تَمَلُّكُه ولم تَعُد مرافق أهل القرية متوقفةً عليه فإنه لا يُسَمَّى حينئذٍ حريمًا؛ لأن الحريم هو ما يُحتاج إليه لتمام الانتفاع.
وقد نص المحققون من الشافعية على أن بعض أوجه الانتفاع بالحريم فيما لا يضر عموم الناس ولا ينقص من ارتفاقهم جائزٌ شرعًا، قال العلَّامة ابن قاسم العبادي في "حاشيته على تحفة المحتاج للإمام ابن حجر" (6/ 207، ط. المكتبة التجارية الكبرى): [الانتفاع بحريم الأنهار؛ كحافاتها، بوضع الأحمال والأثقال وجعل زريبة من قصب ونحوه لحفظ الأمتعة فيها -كما هو الواقع اليوم في ساحل بولاق ومصر القديمة ونحوها- ينبغي أن يقال فيه: إنْ فعَلَه للارتفاق به، ولم يضر بانتفاع غيره, ولا ضيَّق على المارة ونحوهم، ولا عطَّل أو نقص منفعة النهر، كان جائزًا, ولا يجوز أخذ عِوَض منه على ذلك، وإلَّا حَرُم ولزمَتْه الأجرة لمصالح المسلمين, وكذا يقال فيما لو انتفع بمحل انكشف عنه النهر في زرع ونحوه] اهـ.

الخلاصة

ما نحن بصدده هي قضيـة عين تتعلق باستخدام أبناء القرية لحريمها بعد إذن الدولة في ذلك بما لا يتعارض مع مصالح أهلها، وهذه مسألة قائمة على مراعاة قواعد الشرع الكلية ومصالح الخلق المرعية؛ فما كان الحكمُ بحرمة تملك الأجنبي لحريم القرية أو الاستفادة منه بما يضر مرافقها إلَّا حمايةً لحق أهلها في الانتفاع به، فإذا وُجِدَتِ الضرورةُ لأهل القرية أو مسَّت الحاجةُ بعموم شبابها بحيث كان البناء في الحريم -الذي تسمح به الحكومة ويتحرج بعض العلماء منه ظنًّا منهم أنه يخالف مذهب السادة الشافعية- تعود مصلحته على عموم القرية وأهلها وشبابها، ويعود التضررُ من عدم البناء على عمومهم أيضًا؛ متمثلًا -على سبيل المثال- بعزوف الشباب عن الزواج لارتفاع تكاليفه وعجزهم عن متطلباته واضطرارهم إلى الهجرة والانتقال إلى أماكن يقعون فيها عرضة لفساد الدِّين والأخلاق وانحلال الروابط الاجتماعية، فإن الصواب في ذلك عند الشافعية وغيرهم هو تقديم المصلحة التي لا مُعارض لها وهي بناء الشباب في حريم القرية؛ حيث إنَّ مَنْعَ تَمَلُّكِ الحريم إنما كان رعايةً لمصالح عموم أهل القرية، فإذا كانت مصالح شبابهم في البناء ولم يكن ثَمَّ مفسدةٌ فيه كان ذلك جائزًا؛ لأن الحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا، وحيثما كانت المصلحة فثَمَّ شرعُ الله، وهذا هو اللائق بمقصود الشارع، وهو مذهب الشافعية وغيرهم في هذا الأمر.

والله سبحانه وتعالى أعلم.

اقرأ أيضا