هل نحن مأمورون باتباع رأي الدولة في التعليمات والتوجيهات الخاصة بوباء كورونا؟ وهل نحن مأجورون على ذلك، خاصة لما فيها من تقييد لحرية الإنسان الخاصة؟
الالتزام بتعليمات ولي الأمر طاعة لله تعالى
أجمع الفقهاء على أن طاعة الحاكم فيما يأمر به واجبة ولو كان فيما يُكره أو يُتردد في صحته -ما لم يكن ذلك معصية أو كفرًا بواحًا-؛ لأن الأمر بطاعته ثابت بنص قطعي، فلا يدفعه تردد أو كراهة، ولأن مفسدة معصيته أشد من مفسدة طاعته لو كان مخطئًا؛ لما في ذلك من تضرر المجتمع كله، ولتقديم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة.
التفاصيل ....المحتويات
يجب على ولي الأمر العمل على مصلحة الرعية
عقد الإمامة عقدٌ اجتماعيٌّ يُنِيبُ فيه الناسُ الحاكمَ في رعاية شؤونهم وحفظ أمنهم، ويفوضونه في سياسة أمورهم ومعاشهم، ويأتمنونه على القيام بمصالحهم.
وأخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن عظم الأمانة التي يحملها ولاة الأمر على عواتقهم، وأنها تستوجب العمل على مصلحة الرعية في كل أحوالها؛ لأنهم مأمورون بحفظها ومسؤولون عنها أمام الله تعالى؛ فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «مَا مِن عَبدٍ يَستَرعِيهِ اللهُ رَعِيَّةً يَمُوتُ يَومَ يَمُوتُ وهو غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ، إِلَّا حَرَّمَ اللهُ عَلَيهِ الجَنَّةَ» متفق عليه.
قال الإمام أبو العباس القرطبي في "المفهم" (1/ 353-354، ط. دار ابن كثير): [هو لفظٌ عامٌّ في كلِّ مَن كُلِّفَ حِفظَ غيرِهِ.. والرعايةُ: الحِفظُ والصيانة، والغِشُّ: ضِدُّ النصيحة. وحاصلُهُ: راجعٌ إلى الزجر عن أن يضيِّع ما أُمِرَ بحفظه، وأن يقصِّر في ذلك مع التمكُّنِ من فِعلِ ما يتعيَّنُ عليه] اهـ.
روى الإمام مسلم في "صحيحه" عن عوف بن مالك رضي الله عنه قال: قتل رجلٌ مِن حِمْيَرَ رجلًا من العدو، فأراد سَلَبَه، فمنعه خالد بن الوليد رضي الله عنه، وكان واليًا عليهم، فأتى رسولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم عوفُ بن مالك رضي الله عنه، فأخبره، فقال صلى الله عليه وآله وسلم لخالد رضي الله عنه: «مَا مَنَعَكَ أَنْ تُعْطِيَهُ سَلَبَهُ؟» قال: استكثرتُه يا رسول الله، قال: «ادْفَعْهُ إِلَيْهِ». فمر خالد بعوف رضي الله عنهما، فجرَّ بردائه، ثم قال: هل أنجزتُ لك ما ذكرتُ لك من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ فسمعه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاستُغضِبَ، فقال: «لَا تُعْطِهِ يَا خَالِدُ، لَا تُعْطِهِ يَا خَالِدُ، هَلْ أَنْتُمْ تَارِكُونَ لِي أُمَرَائِي؟ إِنَّمَا مَثَلُكُمْ وَمَثَلُهُمْ كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتُرْعِيَ إِبِلًا، أَوْ غَنَمًا، فَرَعَاهَا، ثُمَّ تَحَيَّنَ سَقْيَهَا، فَأَوْرَدَهَا حَوْضًا، فَشَرَعَتْ فِيهِ فَشَرِبَتْ صَفْوَهُ، وَتَرَكَتْ كَدَرَهُ، فَصَفْوُهُ لَكُمْ، وَكَدَرُهُ عَلَيْهِمْ».
قال إمام الحرمين في كتابه الغياثي "غياث الأمم" (ص: 104، ط. مكتبة إمام الحرمين): [والأخبار المستحِثَّةُ على اتِّباع الأمراء، في السراء والضراء، يكاد أن يكون معناها في حكم الاستفاضة، وإن كانت آحادُ ألفاظها منقولةً أفرادًا] اهـ.
وقال الإمام النووي في "شرح صحيح مسلم" (12/ 65، ط. دار إحياء التراث العربي): [الرعية يأخذون صفو الأمور؛ فتصلهم أعطياتهم بغير نكد، وتُبْتَلَى الولاةُ بمقاساة الأمور وجمع الأموال على وجوهها، وصرفها في وجوهها، وحفظ الرعية، والشفقة عليهم، والذَّبِّ عنهم، وإنصاف بعضهم من بعض؛ ثم متى وقع عَلَقَة أو عَتَبٌ في بعض ذلك توجه على الأمراء دون الناس] اهـ.
وقد تقرر أن من شمولية الشريعة الإسلامية رعايتها لمصالح العامة ووضع الضوابط التي بها تستقر المجتمعات والشعوب، ومن أولى هذه الضوابط النص على ضرورة أن تكون هناك سلطة حاكمة تختص بمسؤولية تدبير شؤون الأمة وسياستها وإرساء قواعد العدل بين أفرادها، وتحقيق مصالحها الدينية والدنيوية.
ومصالح العباد في معاشهم ومعادهم لا تتحقق إلا بالتكامل والتعاون بينهم وبين حكامهم، فالحاكم بما منحه الله من السلطة وما يتبعها من القدرة على الاطلاع على خفايا الأمور وظواهرها، وما يصلح فيها وما يفسدها، أباح الشرع له سَنَّ القوانين ووضع الضوابط وإصدار القرارات، إلا أنه قيد ذلك كله بالمصلحة، فالحاكم منوط بتحقيق المصلحة، والمراد بالمصلحة أي: الشرعية المعتبرة أو المرسلة بضوابطها، لا الملغاة. والمصلحة تكون لعموم من تحته لا لفرد بعينه؛ ولذا وجب على ولي الأمر، وكذا نوابه، قصد مصلحة عموم المسلمين وتقديم المصالح الأخروية على الدنيوية، بما أسند إليه من أمر رعاية شؤون الناس.
قال صلى الله عليه وآله وسلم: «كُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالْإِمَامُ رَاعٍ وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ» متفق عليه.
الالتزام بتعليمات ولي الأمر طاعة لله تعالى
تغليبًا لتحقيق المصلحة العامة عملت الشريعة على الموازنة بين مصلحة الفرد ومصلحة الجماعة، ووضعت من القواعد ما يمنع التعارض بينهما، فبينت أن تصرف الفرد بحقه مقيد بما لا يتعارض مع مصلحة الجماعة، فإذا تعارضا قُدمت المصلحة العامة على المصلحة الخاصة، ومن هنا أجاز الشرع للحاكم تقييد المباح واتخاذ كافة الإجراءات التي تعمل على تحقيق المصلحة العامة إعمالًا لمقاصد الشرع، وتغليبًا لأمر العامة على الخاصة عند التعارض.
قال الإمام العز بن عبد السلام في "قواعد الأحكام" (2/ 188، ط. مكتبة الكليات الأزهرية): [المصلحة العامة كالضرورة الخاصة، ولو دعت ضرورةُ واحدٍ إلى غصب أموال الناس لجاز له ذلك، بل يجب عليه إذا خاف الهلاك لجوع أو حر أو برد، وإذا وجب هذا لإحياء نفس واحدة، فما الظن بإحياء نفوس؟!] اهـ.
وليتمكن الحاكم من القيام بدوره من تدبير الشؤون وتحقيق المصالح أوجب الله طاعته؛ فقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ﴾ [النساء: 59].
قال العلامة الطاهر بن عاشور في "تفسيره" (5/ 97-98، ط. الدار التونسية للنشر): [أولو الأمر مِن الأمَّة ومِن القوم هم الذين يُسنِد الناسُ إليهم تدبير شؤونهم ويعتمدون في ذلك عليهم، فيصير الأمر كأنَّه مِن خصائصهم. فأولو الأمر هنا هم مَن عدا الرسول مِن الخليفة إلى والي الحسبة، ومِن قواد الجيوش، ومِن فقهاء الصحابة والمجتهدين، إلى أهل العلم في الأزمنة المتأخِّرة، وأولو الأمر هم الذين يُطلَق عليهم أيضًا: أهل الحَلِّ والعقد] اهـ.
وأخرج الستة عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «السَّمعُ والطَّاعةُ على المَرءِ المُسلِمِ فيما أَحَبَّ وكَرِهَ ما لم يُؤمَر بمَعصِيةٍ، فإذا أُمِرَ بمَعصِيةٍ فلا سَمعَ ولا طاعةَ»، والأدلة على هذا كثيرة ومتنوعة.
وسبب ذلك كله: أن طاعة أولي الأمر سببٌ لاجتماع الكلمة وانتظام المعاش؛ فلا بُدَّ للناس مِن مَرجِع يأتمرون بأمره؛ رفعًا للنزاع والشقاق، وإلا عَمَّت الفوضى واختل النظام العام، ودخل على الناس فساد عظيم في دينهم ودنياهم.
فإذا انتشر الوباء وأصدر الحاكم تعليمات من شأنها تقييد حرية الإنسان الخاصة إلا أنها تصب في مصلحته أولًا ثم في مصلحة العامة؛ فيلزمه حينئذ طاعته والالتزام بتعليماته، ويأثم في مخالفتها إلا لضرورة، لعِظَم ما قد يؤول ترك العمل بها من مفاسد.
ولكون طاعة الحاكم وولي الأمر من طاعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ لقوله فيما روى البخاري في "صحيحه": «مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ عَصَى اللهَ، وَمَنْ يُطِعِ الأَمِيرَ فَقَدْ أَطَاعَنِي، وَمَنْ يَعْصِ الأَمِيرَ فَقَدْ عَصَانِي، وَإِنَّمَا الإِمَامُ جُنَّةٌ يُقَاتَلُ مِنْ وَرَائِهِ وَيُتَّقَى بِهِ، فَإِنْ أَمَرَ بِتَقْوَى اللهِ وَعَدَلَ فَإِنَّ لَهُ بِذَلِكَ أَجْرًا، وَإِنْ قَالَ بِغَيْرِهِ فَإِنَّ عَلَيْهِ مِنْهُ»، وقال صلى الله عليه وآله وسلم «مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ، وَمَنْ يَعْصِنِي فَقَدْ عَصَى اللهَ، وَمَنْ يُطِعِ الأَمِيرَ فَقَدْ أَطَاعَنِي، وَمَنْ يَعْصِ الأَمِيرَ فَقَدْ عَصَانِي» رواه مسلم في "صحيحه"، وأحمد في "مسنده".
قال الإمام النووي في "شرحه على صحيح مسلم" (12/225، ط. دار إحياء التراث): [وهذه الأحاديث في الحث على السمع والطاعة في جميع الأحوال وسببها اجتماع كلمة المسلمين فإن الخلاف سبب لفساد أحوالهم في دينهم ودنياهم] اهـ.
فتحقيق مصالح العباد في أنفسهم وأموالهم ودينهم لن يتحقق إلا بطاعتهم لأولياء الأمور، إذ لو ترك الأمر دون حاكم مطاع لعم الهرج وكثر الفساد وضاعت الحقوق.
قال الإمام الغزالي في "الاقتصاد في الاعتقاد" (ص: 128، ط. دار الكتب العلمية): [إن الدنيا والأمن على الأنفس والأموال لا ينتظم إلا بسلطان مطاع، فتشهد له مشاهدة أوقات الفتن بموت السلاطين والأئمة، وإن ذلك لو دام ولم يُتدارَك بنصب سلطان آخر مطاع دام الهرج وعمَّ السيف وشمل القحط وهلكت المواشي وبطلت الصناعات، وكان كل غلب سلب، ولم يتفرغ أحد للعبادة والعلم إن بقي حيًّا، والأكثرون يهلكون تحت ظلال السيوف، ولهذا قيل: الدين والسلطان توأمان، ولهذا قيل: الدين أس والسلطان حارس، وما لا أس له فمهدوم، وما لا حارس له فضائع] اهـ.
وقال العلامة الماوردي في "الأحكام السلطانية" (ص: 40، ط. دار الحديث): [أن يباشر بنفسه مُشارَفة الأمور، وتصفُّح الأحوال؛ لينهض بسياسة الأمة وحراسة الملة، ولا يُعوِّل على التفويض تشاغلًا بلذة أو عبادة، فقد يخون الأمين ويغش الناصح] اهـ.
وقد أجمع الفقهاء على أن طاعة الحاكم فيما يأمر به واجبة، ولو كان فيما يُكره، أو يُتردد في صحته -ما لم يكن ذلك معصية أو كفرًا بواحًا-؛ لأن الأمر بطاعته ثابت بنص قطعي، فلا يدفعه تردد أو كراهة، ولأن مفسدة معصيته أشد من مفسدة طاعته لو كان مخطئًا، لما في ذلك من تضرر المجتمع كله، ولتقديم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة.
قال الإمام السرخسي الحنفي في "السير الكبير" (ص: 165، ط. الشرقية للإعلانات): [إن أمروهم بشيء لا يدرون أينتفعون به أم لا، فعليهم أن يطيعوه؛ لأن فرضية الطاعة ثابتة بنص مقطوع به. وما تردد لهم من الرأي في أن ما أمر به منتفع أو غير منتفع به لا يصلح معارضًا للنص المقطوع] اهـ.
وقال فيه أيضًا (ص: 166): [وإن كان الناس في ذلك الأمر مختلفين؛ فمنهم من يقول: فيه الهلكة، ومنهم من يقول: فيه النجاة، فليطيعوا الأمير في ذلك؛ لأن الاجتهاد لا يعارض النص، ولأن الامتناع من الطاعة فَتْحُ لسانِ اللَّائمَة عليهم، وفي إظهار الطاعة قطع ذلك عنهم، فعليهم أن يطيعوه] اهـ.
وقد جاء في كتب السادة الشافعية أن وليَّ الأمر إذا أمر بمستحبٍّ أو مكروه أو مباح وَجَب فعله؛ كما في "الفتاوى الفقهية الكبرى" للعلامة ابن حجر الهيتمي الشافعي (1/ 278، ط. المكتبة الإسلامية).
وقال إمام الحرمين الجويني في "غياث الأمم" (ص: 216، ط. مكتبة إمام الحرمين): [إن اجتهاد الإمام إذا أدى إلى حكم في مسألة مظنونة ودعا إلى موجب اجتهاده قومًا؛ فيتحتم عليهم متابعة الإمام] اهـ.
وقال الإمام ابن حزم الظاهري في "مراتب الإجماع" (ص: 126، ط. دار الكتب العلمية): [وَاتَّفَقُوا أن الإمام الوَاجِب إمامته فإن طَاعَته فِي كل مَا أَمر مَا لم يكن مَعْصِية فرض، والقتال دونه فرض، وخدمته فِيمَا أَمر بِهِ وَاجِبَة، وأحكامه وأحكام مَن ولَّى نَافِذَة، وعزله مَن عَزَل نَافِذ] اهـ.
وقال العلامة ابن القطان في "الإقناع في مسائل الإجماع" (1/ 60، ط. الفاروق الحديثة): [وأجمعوا أن السمع والطاعة واجبة لأئمة المسلمين، وأجمعوا على أن كل مَن ولي شيئًا من أمورهم -عن رضًا أو غلبة-، واشتدت وطأته من بَرٍّ وفاجرٍ؛ لا يلزمهم الخروج عليهم بالسيف، جاروا أو عدلوا] اهـ.
وقال العلامة ابن الأزرق في "بدائع السلك" (1/ 78، ط. وزارة الإعلام): [دلَالَة وجوب دَرْء أعظم الْمَفَاسِد عَلَيْهِ؛ إِذْ لا خفاء أَن مفْسدَة عصيانه تربي على مفْسدَة إعانته بِالطَّاعَةِ لَهُ، كَمَا قَالُوا فِي الْجِهَاد مَعَه، وَمن ثمَّ قيل: عصيان الْأَئِمَّة هدم أَرْكَان الْملَّة] اهـ.
الخلاصة
بناءً على ذلك وفي واقعة السؤال: فإذا انتشر الوباء وأصدرت الدولة تعليمات وتوجيهات من شأنها تقييد حرية الإنسان الخاصة، إلا أنها تصبُّ في مصلحته أولًا ثم في مصلحة العامَّة -كما هو حاصل في وباء كورونا-؛ فإنه حينئذٍ يجبُ الالتزام بهذه التعليمات والتوجيهات، ويُؤجر على ذلك من امتثل، ويأثم في مخالفتها المخالف إلا لضرورة؛ لعظم ما قد يؤول ترك العمل بها من مفاسد وضرر يعود على المجتمع بأڪمله، ولڪون المصلحة العامة تُقدَّم على المصلحة الخاصة، ولما في طاعة ولاة الأمور القائمين على رعاية مصالح الناس وتدبير شؤونهم من طاعة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
والله سبحانه وتعالى أعلم.