الرد على مطوية داعش

الرد على مطوية داعش

السؤال عن صحة المعلومات التي تضمنتها مطوية منسوبة لتنظيم منشقي القاعدة، المعروف إعلاميًّا باسم "داعش"؛ وهي بعنوان: "عشر مسائل في العقيدة لا يسع المسلم جَهلُها، ويجب عليه تعلُّمُها".

خلاصة الكلام في هذه المطوية أنها قد اشتملت على جملة من الشذوذات الفكرية والبدع الخطيرة المخالفة لما استقر عليه علماء المسلمين واعتمدوه في أبواب العقائد وغيرها، مما يتسبب في مفاسد جمة وأضرار جسيمة، تتصل بالجرأة على الكلام في دين الله بغير علم، وبناء الأحكام الخطيرة على مقدمات فاسدة أو على كلام مجمل غير مفهوم، مع إساءة الظن بالمسلمين الموحدين، وتوسيع دائرة تكفيرهم، وتأسيس ما تحصل به الفتنة بينهم ويفرق كلمتهم، ويبيح الدماء المصونة المعصومة بيقين، ويكدر الأمن العام ويعتدي على السلام الاجتماعي.

التفاصيل ....

اطلعنا على المطوية المنسوبة لتنظيم منشقي القاعدة المتطرف، المعروف إعلاميًّا باسم: داعش، وهي بعنوان: عشر مسائل في العقيدة لا يسع المسلم جَهلُها، ويجب عليه تعلُّمُها، فوقفنا فيها على جملة من الأشياء الخطيرة التي تستدعي التنبيه عليها وبيان فسادها: ومن ذلك ما جاء في المسألة الثانية من تلك المطوية من أن أصل الدين عبادة الله والتحريض على ذلك والموالاة فيه، وتكفير من تركه، وكذلك الإنذار عن الشرك والتغليظ في ذلك، والمعاداة فيه، وتكفير من فعله. والتعبير بأصل الدين يفهم منه أن ما ذُكِر هو القاعدة التي يبنى عليها الدين؛ لأن الأصل هو ما بني عليه غيره، وبزوال الأصل يزول الفرع، وهو الدين، لكن المطوية اكتفت بكلام مبهم مجمل في أمر بهذه الجلالة والخطورة، يستطيع كل أحد أن يفهمه كما يشاء، ثم يصنف الناس إلى مسلم وكافر بناءً على فهمه ووهمه.
ثم جعلت المطوية ما أسمته بـ"عقيدة الولاء والبراء" فرعًا عما سبق؛ حيث قالت: ويتفرع عن هذا الأصل عقيدة الولاء والبراء الراسخة، وأصل هذه العقيدة قائم على المفاصلة والمفارقة بين المسلمين وغيرهم على أساس الدين لا على أساس الأرض والقومية؛ فالمسلم الموحد أخي في الله أُوَاليه وأنصره وإن كان أبعد بعيد، والكافر والمرتد عدوي أبغضه وأعاديه وإن كان أقرب قريب. اهـ.
ونقول: إن أصل الولاء والبراء: الحب والكره، وهما عملان قلبيان، لا اطلاع لأحد عليهما، فحب الكفر، وبغض الإسلام، لا يمكن أن يحكم على أحد بالكفر بموجبهما، إلا أن يصرح بذلك مع تحقق الشروط وانتفاء الموانع.
والقول بأن المفاصلة بين المسلم وغير المسلمين يجب أن تكون تامة عامة وإلا كان توحيده مخدوشًا، كلام فاسد؛ والله تعالى يقول: ﴿لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ﴾ [آل عمران: 28]؛ فظاهر هذه الآية أن الموالاة المؤثرة المذكورة على سبيل الذم هي ما كانت لأجل أنهم كفار؛ يعني كأن من يواليهم إنما يواليهم لأجل كفرهم؛ لأن القاعدة "أن تعليق الحكم بالمشتق مؤذن بعلِّيَّة ما منه الاشتقاق"، وهو هنا: الكفر.
وقد أشار إلى ذلك الإمام الطبري في تفسير هذه الآية من "جامع البيان" (6/ 313، ط. مؤسسة الرسالة)، فقال: [لا تتخذوا، أيها المؤمنون، الكفارَ ظهرًا وأنصارًا توالونهم على دينهم، وتظاهرونهم على المسلمين من دون المؤمنين] اهـ.
ومثله ما أشار إليه الإمام ابن عطية في تفسيره: "المحرر الوجيز" (5/ 282، ط. دار الكتب العلمية) عند الكلام على قوله تعالى: ﴿لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ﴾ [المجادلة: 22]؛ حيث قال: [وتحتمل الآية أن يريد بها لا يوجد من يؤمن بالله والبعث يواد مَنْ حَادَّ اللهَ من حيث هو محادٍ؛ لأنه حينئذٍ يود المحادة، وذلك يوجب أن لا يكون مؤمنًا] اهـ.
وأما المظاهر العملية للولاء والبراء فليست كلها على درجة واحدة، فمنها ما يحرم؛ كحب العاصي من أجل معصيته، ومنها ما يكره؛ كحب المقيم على ارتكاب مكروه من حيث إنه مرتكب لذلك المكروه، ومنها ما يباح؛ كالحب الطبعي الذي يكون بين الوالد وولده، والزوج وزوجه مثلًا، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يحب عمه أبا طالب، ويرجو له الهداية، وفيه نزل قوله تعالى: ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾ [القصص: 56]؛ روى البخاري عن سعيد بن المسيب عن أبيه، أن أبا طالب لما حضرته الوفاة، دخل عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعنده أبو جهل، فقال: «أَىْ عَمِّ قُلْ لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، كَلِمَةً أُحَاجُّ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللهِ»، فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب، ترغب عن ملة عبد المطلب؟! فلم يزالا يكلمانه، حتى قال آخر شيء كلمهم به: على ملة عبد المطلب، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْهُ»، فنزلت: ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ﴾ [التوبة: 113]، ونزلت: ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ﴾ [القصص: 56]. وقال الزجاج: [أجمع المفسرون أنها نزلت في أبي طالب] اهـ. انظر: "أسباب النزول للنيسابوري" (ص337-338، ط. دار الإصلاح بالدمام).
والمقصود أن الله تعالى قد أثبت في الآية الكريمة المحبة من النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعمه أبي طالب وهو غير مسلم، ولم يعتب عليه في ذلك، وهو دليل على أن ذلك ليس ممنوعًا؛ لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز. انظر: "جمع الجوامع بشرح المحلي مع حاشية العطار" (2/ 73، ط. دار الكتب العلمية).
ثم إن الحكم الشرعي خطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين، والحب والكره أمور انفعالية، فلا تكليف فيها في نفسها، إنما التكليف متعلق بمقدماتها وآثارها. ومن المتقرر طبعًا وشرعًا أَنَّ المسلم -كشأن كل إنسان- له مجموعة من دوائر الانتماء غير المتعارضة فيما بينها؛ منها: الانتماء للأسرة، ومنها: الانتماء للوطن، ومنها: الانتماء للقومية التي يتبعها، ومنها الانتماء الأكبر للإنسانية، ولكل دائرة من هذه الدوائر حقوق وواجبات، وهذا كله ليس بالضرورة أن يتعارض مع الانتماء للدين في شيء، بل يمكن جدًّا أن يتكامل معه، كما أَنَّه ليس من المقبول ولا من المستساغ أَنْ يكون كل من خالفني في الدين عدوًّا من كل وجه، فتنقطع كل وسيلة للعيش المشترك بيني وبينه، وهذا فوق أنه مخالف للطبع فإنه أيضًا مخالف لما قرره الشرع الشريف من مشروعية صلة الناس، وخصوصًا من كان بيننا وبينه موجب قوي لتلك الصلة؛ كعلاقة النسب أو القرابة، واستحسان التعاون على الخير مع الإنسانية كلها؛ قال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾ [الحجرات: 13]، وقال تعالى: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ • إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ [الممتحنة: 8-9].
وأما المسألة الثالثة وهي المتعلقة بمعنى (لا إله إلا الله) وشروطها، فتذكر المطوية أنَّ (لا إله إلا الله) هي الفارقة بين الكفر والإسلام، وأنها لا تتحقق بمجرد اللسان مع الجهل بمعناها وعدم العمل بمقتضاها، وإنما تتحقق بقولها، ومعرفة معناها، ومحبتها، ومحبة أهلها، وموالاتهم، وبغض من خالفها، ومعاداته، وقتاله. فقد اعتبرت الورقة أن الجهل بمعنى كلمة التوحيد لا يصححها، ولكن هذا يتصور مثلًا فيمن قالها ولغته غير العربية ولا يدري معنى ما يقول، أما التوسل بذلك إلى الزعم بأن عوام المسلمين يرددونها مع الجهل بالمعنى المخصوص الذي يدعو إليه هؤلاء؛ المشتمل على تفاصيل دقيقة بعضها حق وبعضها باطل، فهُم -أي: عوام المسلمين- بذلك لم يحققوا معنى كلمة التوحيد، فليسوا بمسلمين، بل هم كفار وإن صلوا وصاموا وزعموا أنهم مسلمون، كما هي العبارة التي دائمًا ما تتردد في أدبيات التكفيريين. والنبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقبل الشهادتين فقط من كل من جاءه يريد الدخول في الإسلام، ويعتبره مسلمًا، ويعصم دمه بذلك؛ وقد روى مسلم عن أسامة بن زيد رضي الله عنه قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في سرية، فصبحنا الحرقات من جهينة، فأدركت رجلًا فقال: لا إله إلا الله، فطعنته فوقع في نفسي من ذلك، فذكرته للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «أَقَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَقَتَلْتَهُ؟» قال: قلت: يا رسول الله، إنما قالها خوفًا من السلاح، قال: «أَفَلَا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ حَتَّى تَعْلَمَ أَقَالَهَا أَمْ لَا؟» فما زال يكررها عليَّ حتى تمنيتُ أني أسلمت يومئذٍ.
والنبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقبل من الناس الإسلام، ثم يعلمهم مسائل الإيمان والحلال والحرام بعد ذلك؛ وقد روى الشيخان أن وفد عبد القيس لما أتوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَن القوم؟ -أو مَن الوفد؟-» قالوا: ربيعة. قال: «مرحبًا بالقوم، أو بالوفد، غير خزايا ولا ندامى»، فقالوا: يا رسول الله، إنا لا نستطيع أن نأتيك إلا في الشهر الحرام، وبيننا وبينك هذا الحي من كفار مُضَر، فمُرْنا بأمرٍ فَصْل، نخبر به من وراءنا، وندخل به الجنة. وسألوه عن الأشربة؛ فأمرهم بأربع، ونهاهم عن أربع، أمرهم: بالإيمان بالله وحده، قال: «أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟» قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: «شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، وأن تعطوا من المغنم الخمس»، ونهاهم عن أربع: عن الحَنْتَم والدُّبَّاء والنَّقِير والمُزَفَّت، وربما قال: «المقير» وقال: «احفظوهن، وأخبروا بهن مَن وراءكم».
وروى الشيخان عن المقداد بن الأسود رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله، أرأيت إن لقيتُ رجلًا من الكفار فقاتَلَني، فضَرَب إحدى يدي بالسيف فقطعها، ثم لاذ مِنِّي بشجرة فقال: أسلمتُ لله؛ أفأقتله يا رسول الله بعد أن قالها؟ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لا تَقْتُلْهُ». فقلت: يا رسول الله، إنه قد قطع يديَّ ثم قال ذلك بعد أن قطعها؛ أفأقتله؟ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لا تَقْتُلْهُ، فَإِنْ قَتَلْتَهُ فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَتِكَ قَبْلَ أَنْ تَقْتُلَهُ، وَأَنْتَ بِمَنْزِلَته قَبْلَ أَنْ يَقُول كَلِمَته التي قَال».
قال ابن حبان في "صحيحه" معقبًا على الحديث (1/ 382، ط. مؤسسة الرسالة): [يريد به أنك تقتل قودًا؛ لأنه كان قبل أن أسلم حلال الدم، وإذا قتلته بعد إسلامه صرت بحالة تقتل مثله قودًا به، لا أن قتل المسلم يوجب كفرًا يخرج من الملة] اهـ.
وقال الحافظ ابن رجب الحنبلي في "شرح الأربعين النووية" المسمى بـ"جامع العلوم والحكم" (1/ 228، ط. مؤسسة الرسالة): [من المعلوم بالضرورة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقبل من كل من جاءه يريد الدخول في الإسلام الشهادتين فقط، ويعصم دمه بذلك، ويجعله مسلمًا] اهـ.
أما ما جاء في المطوية من أن كلمة التوحيد لا تتحقق من غير العمل بمقتضاها، ثم عددت أشياء على سبيل التمثيل لهذا العمل، فهو غير مسَلَّم؛ لأن العمل خارج عن مسمى الإيمان وليس جزءًا منه، ولا شرطًا لصحته؛ فالإيمان هو التصديق الجازم -الذي فيه إذعان وقبول- بجميع ما جاء به النبي صلى الله عليه وآله وسلم مما علم من الدين بالضرورة إجمالًا في الإجمالي، وتفصيلًا في التفصيلي. أما العمل فشرط كمال على ما هو المختار عند أهل السنة، فمن أتى بالعمل فقد حَصَّل الكمال، ومَن تركه فهو مؤمن، لكنه فوت على نفسه الكمال، إذا لم يكن مع ذلك استحلال أو عناد للشارع، أو شكٌّ في مشروعيته. انظر: "حاشية البيجوري على جوهرة التوحيد" (ص92، 94، ط. دار السلام).
ومما جعلته المطوية مما لا تتحقق كلمة التوحيد إلا به: بغض من خالفها، ومعاداته، وقتاله، وهذا الكلام الفاسد يجريه التكفيريون من داعش وأخواتها في من لم يقل بمثل أقوالهم الخارجية في التوحيد والإيمان؛ لأنه حينئذٍ يعد مخالفًا لمقتضى كلمة التوحيد في زعمهم، ثم لو سلمنا أن هذا في الكافر الأصلي، فمن أين أن قتاله من شروط التوحيد، وترك قتاله مخل به؟! هذا الكلام منبئ عن جهل مركب شديد، وصاحبه متلبس ببدعة غليظة شنيعة، مع ما فيه من افتراء على الشرع والدين.
والمقصود الأعظم هو هداية الخلق ودعاؤهم إلى التوحيد والإسلام، وتحصيل ذلك لهم ولأعقابهم إلى يوم القيامة، فلا يعدله شيء، فإن أمكن ذلك بالعلم والمناظرة وإزالة الشبهة فهو أفضل، وهو الآن أوضح مما كان قبل ذلك، وقتل الكافر ليس مقصودًا بالذات؛ لأنه تفويت نفس يترجى أن تؤمن وأن تخرج من صلبها من يؤمن، وقد قرر الإمام تقي الدين السبكي في "فتاويه" هذا المعنى بوضوح. انظرها: (2/ 340، 341، ط. دار المعارف).
ثم جاءت المطوية وخصصت المسألة الرابعة لشروط (لا إله إلا الله)، ثم ذكرت لها سبعة شروط، ونحن نجمل مناقشة هذا الكلام في النقاط التالية:
أولا: أَنَّ الشرع قد جعل مجرد النطق بكلمة التوحيد: لا إله إلا الله، محمد رسول الله عاصمًا للإنسان ومانعًا مِنْ رَميه بالكفر، ويصعب بعد نطق الإنسان بها أَنْ يحكم عليه بالشرك أو الكفر، إلا إذا ظهر ما يقطع بكونه كفرًا وقد زالت الموانع وتحققت الشروط، وقد سبق تقرير هذا المعنى، ولذلك سمي المسلم بـ (المسلم الصعب)؛ لأن الحكم عليه بالكفر والخروج عن الدين أمر صعب جدًّا.
ثانيًا: ما ذكرته المطوية من أَنَّ قبول كلمة التوحيد لا يتحقق بمجرد النطق بها باللسان مع الجهل بمعناها وعدم العمل بمقتضاها؛ لأَنَّ المنافقين يقولونها وهم في الدرك الأسفل من النار، وهذا كلام باطل؛ لأَنَّ استحقاق المنافقين للنَّار إِنَّما كان لجحودهم للإيمان مع بقائهم على النطق بلسانهم؛ وحقيقة الإيمان في التصديق القلبي وحقيقة الكفر في الجحود والنكران؛ ولذلك قال فيهم القرآن الكريم: ﴿يَحْلِفُونَ بِاللهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا﴾ [التوبة: 74].
ثالثًا: معنى كون أمرٍ ما شرطًا لأمر: أَنَّه إذا انعدِمَ الشرط انعدم المشروط؛ فالشرط هو ما يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم. فمعنى أَنَّ هذه الأمور السبعة شروط لـ(لا إله إلا الله) أَنَّ فقدان أحدها انعدام لـ(لا إله إلا الله)، وهو غير صحيح أيضًا؛ فبعض هذه الأمور التي جعلوها شرطًا، إنما هي من كمال الإيمان؛ مثل: الانقياد لحقوقها إخلاصًا لله وطلبًا لمرضاته.
وفي المسألة الخامسة تعرضت المطوية لنواقض الإسلام، وعَدَّ كاتبها أمورًا عشرة وصفها بأنها: أشياء تخرج المسلم من دائرة الإسلام، وتسقط عليه -إذا ارتكبها- اسم المرتد عن ملة التوحيد. اهـ. وقد توسع كاتبها في هذه الأمور بما يوسع دائرة تكفير المسلمين جدًّا، وأدخل فيها من الأفعال الظاهرة التي إن عُدَّتْ من الكبائر، فإنها لا توجب الكفر إلا إذا اقترن بها سببه. ومن ذلك:
قوله: الشرك في عبادة الله تعالى، وهذا كلام صحيح في نفسه، لكن هؤلاء يُدخِلون في الشرك ما ليس منه، كما سيأتي بيانه.
ومنه: قوله: من جعل بينه وبين الله وسطاء يدعوهم، ويسألهم الشفاعة، ويتوكل عليهم، وهذا كلام فاسد؛ لأن الواحد منا يذهب إلى أخيه الصالح ويطلب منه الدعاء، وهذا جائز بالاتفاق، أما أنه يدعوه يعني يطلب منه، فلا يكون ذلك مكفرًا إلا إذا اعتقد ثبوت الخلق والتأثير الذاتي له من دون الله تعالى، وأما إذا انتفى هذا الاعتقاد الفاسد، فلا يعدو الأمر إلا أن يكون على سبيل المجاز في التعبير، والقرينة الصارفة هي: التوحيد، وإسناد الشيء إلى غير فاعله الحقيقي أسلوب بلاغي معروف عند العرب؛ كمن يقول: أنبت الربيع البقل. وحمل كلام المسلمين يجب أن يكون على أحسن المحامل، لا سيما إذا تعلق بأمر خطير كالكفر ومفارقة الملة، وقد قال القاضي عياض في "الشفا" (2/ 277، ط. دار الفكر): [استباحة دماء المصلين الموحدين خطر، والخطأ في ترك ألف كافر أهون من الخطأ في سفك محجمة من دم مسلم واحد؛ وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: «فإذا قالوها -يعني: الشهادة- عصموا مني دماءهم وأموالهم، إلا بحقها، وحسابهم على الله»، فالعصمة مقطوع بها مع الشهادة، ولا ترتفع ويستباح خلافها إلا بقاطع] اهـ.
وقال الشيخ عليش في "فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب الإمام مالك" (2/ 358، ط. دار المعرفة): قد قالوا: إن كان للتكفير تسعة وتسعون وجهًا، ولعدمه وجه واحد، فإنه يقدم، ولا يفتى بالكفر الموجب للقتل وحل العصمة وعدم الميراث وغيرها من أحكامه الصعبة. اهـ.
وهؤلاء يستدلون على دعاواهم الفاسدة بآيات أنزلها الله في المشركين ويجعلونها في المسلمين؛ كما كان سلفهم الخوارج يفعلون؛ من نحو الاستدلال بقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى﴾ [الزمر: 3]، وقد أغفلوا أن المذكورين في الآية قد صرحوا بأنهم عبدوهم لذلك، والمستشفِع لم يعبد المستشفَع به، وإنما علم أن له مزية عند الله فتوسل به لذلك، وكان ابن عمر رضي الله عنهما يرى الخوارج شرار خلق الله، وقال فيهم: إنهم انطلقوا إلى آيات نزلت في الكفار، فجعلوها على المؤمنين. انظر: "صحيح البخاري" (كتاب استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم، باب قتل الخوارج والملحدين بعد إقامة الحجة عليهم).
ومنها: السحر، وهو من الكبائر، ولا يكفر صاحبه به من حيث هو -على الصحيح من أقوال أهل العلم-، إلا إذا اقترن به ما يقتضي الكفر؛ نحو امتهان مصحف أو عبادة غير الله تعالى.
قال الإمام الشافعي في "الأم" (1/ 293، ط. دار المعرفة): [فإن كان ما يسحر به كلام كفر صريح استتيب منه فإن تاب، وإلا قتل، وأخذ ماله فيئًا، وإن كان ما يسحر به كلامًا لا يكون كفرًا، وكان غير معروف، ولم يضر به أحدًا نهي عنه فإن عاد عزر] اهـ.
وجاء في جواب للإمام تقي الدين السبكي عن سؤال -عن حكم الساحر، وما يجب عليه- في ضمن "فتاويه" (2/ 324) ما يلي: [أما مذهب الشافعي فحاصله: أن الساحر له ثلاثة أحوال: حال يقتل كفرًا، وحال يقتل قصاصًا، وحال لا يقتل أصلًا، بل يعزر.
أما الحالة التي يقتل فيها كفرًا: فقال الشافعي رحمه الله: أن يعمل بسحره ما يبلغ الكفر؛ وشرح أصحابه ذلك بثلاثة أمثلة:
أحدها: أن يتكلم بكلام هو كفر، ولا شك في أن ذلك موجب للقتل، ومتى تاب منه، قبلت توبته، وسقط عنه القتل، وهو يثبت بالإقرار وبالبينة.
المثال الثاني: أن يعتقد ما اعتقده من التقرب إلى الكواكب السبعة، وأنها تفعل بأنفسها، فيجب عليه أيضًا القتل -كما حكاه ابن الصباغ-، وتقبل توبته، ولا يثبت هذا القسم إلا بالإقرار.
المثال الثالث: أن يعتقد أنه حق يقدر به على قلب الأعيان، فيجب عليه القتل، كما قاله القاضي حسين والماوردي، ولا يثبت ذلك أيضًا إلا بالإقرار، وإذا تاب قبلت توبته، وسقط عنه القتل.
وأما الحالة التي يقتل فيها قصاصًا: فإذا اعترف أنه قتل بسحره إنسانًا، فكما قاله، وأنه مات به، وأن سحره يقتل غالبًا فها هنا يقتل قصاصًا، ولا يُثبِت هذه الحالة إلا الإقرار، ولا يسقط القصاص بالتوبة.
وأما الحالة التي لا يقتل فيها أصلًا ولكن يعزر: فهي ما عدا ذلك، ويضمن ما اعترف بإتلافه به] اهـ.
ثم إنهم لم يعرفوا لنا ما هو هذا السحر الذي حكموا بكفر فاعله، وعدم ضبط مدلولات الألفاظ في هذا المضايق مهلكة لصاحبها ولمن اعتمد كلامه دون فهم صحيح؛ قال الإمام القرافي في "الفروق" (4/ 135، 136، ط. دار الفكر): [(مسألة): أطلق المالكية وجماعة معهم الكفر على الساحر، وأن السحر كفر، ولا شك أن هذا قريب من حيث الجملة، غير أنه عند الفتيا في جزئيات الوقائع يقع فيه الغلط العظيم المؤدي إلى هلاك المفتي، والسبب في ذلك: أنه إذا قيل للفقيه: ما هو السحر؟ وما حقيقته؟ حتى يقضى بوجوده على كفر فاعليه يعسر عليه ذلك جدًّا، فإنك إذا قلت له: السحر، والرقى، والخواص، والسيميا، والهيميا، وقوى النفوس شيء واحد وكلها سحر؟ أو بعض هذه الأمور سحر، وبعضها ليس بسحر؟ فإن قال: الكل سحر، يلزمه أن سورة الفاتحة سحر؛ لأنها رقية إجماعًا، وإن قال: بل لكل واحدة من هذه خاصية يختص بها، فيقال: بَيِّن لنا خصوص كل واحد منها، وما به تمتاز، وهذا لا يكاد يعرفه أحد من المتعرضين للفتيا، وأنا طول عمري ما رأيت من يفرق بين هذه الأمور، فكيف يفتي أحد بعد هذا بكفر شخص معين، أو بمباشرة شيء معين؛ بناءً على أن ذلك سحر، وهو لا يعرف السحر ما هو؟! ولقد وجد في بعض المدارس بعض الطلبة عنده كراسة فيها آيات للمحبة، والبغضة، والتهييج، والنزيف، وغير ذلك من الأمور التي تسميها المغاربة علم المخلاة، فأفتَوا بكفره، وإخراجه من المدرسة؛ بناءً على أن هذه الأمور سحر، وأن السحر كفر، وهذا جهل عظيم، وإقدام على شريعة الله بجهل، وعلى عباده بالفساد من غير علم، فاحذر هذه الخطة الردية المهلكة عند الله] اهـ.
ومن توسعاته الباطلة أيضًا: قوله: مظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمين، وهي إنما تكون من الكفر إذا اقترنت بالولاء لعقائدهم أو البراءة من عقائد المؤمنين القطعية كما تقدم تفصيله عند ذكر الولاء والبراء. أما نحو الاستعانة بالكفار في الحرب مثلًا ولو على بغاة المسلمين عند الاحتياج لهم، فليس ذلك من المظاهرة الممنوعة؛ وقد روى أبو داود أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «سَتُصَالِحُونَ الرُّومَ صُلْحًا آمِنًا فَتَغْزُونَ أَنْتُمْ وَهُمْ عَدُوًّا مِنْ وَرَائِكُمْ».
كما اشتملت هذه النواقض المذكورة على ما لا ينضبط مفهومه؛ كقوله: من لم يكفِّر المشركين أو شكَّ في كفرهم أو صحح مذهبهم، وهي عبارة موهمة لا يتضح المراد منها وتحتاج إلى تحرير، فهل المقصود أَنَّ من لم يعتقد أن مَنْ اعتقد ما يخالف معلومًا من الدين بالضرورة فهو كافر؟ وهل يقصِدُ بذلك أفعالًا؛ بحيث يكون الأليق بالعبارة أن تتوجه إلى الكفر لا الكافر؟ أم أَنَّه يقصد ذواتهم على الجملة؟ أم يقصد الذوات على التفصيل بحيث يتوجب على كل أحد تكفير الكفَّار فردًا فردًا؟ أم أنَّ المقصود أَنَّ من لم يتخذ إجراءات التكفير حيال من كَفَر يلحقه حكم الكفر؟ وأي كافرٍ يقصده صاحب هذه المقالة؟ هل من أُجْمِعَ على أنَّه ليس مؤمنًا بل هو خارج عن أهل الإسلام، لمخالفته معلومًا من الدين بالضرورة إما أصالة لكونه من أهل ملة غير المسلمين، وإما لطروء ذلك عليه لكونه كان من أهل الإسلام ثم عرض له الكفر؟
ومن هنا، فإنه إذا كان المقصود الاعتقاد فيجب أن يتوجه الكلام إلى نبذ الكفر لا تكفير الأشخاص مع غاية الاحتياط من اعتقاد كفر الخلق. وإن كان مقصود القائل متوجهًا للإجراءات التي تتخذ حيال كافر، فهذا لا يتوجب على أحد من عوامِّ الناس حتى يعبر بلفظ مَن المفيد للعموم في قوله من لم يكفر.. إلخ، بل يشترط فيمن تعرض لهذا أن يكون من العالمِين بأسبابه وشروطه وضوابطه وما يترتب عليه من مصالح ومفاسد؛ وهم القادرون على التفريق بين ما أُجْمِع عليه وما اختلف فيه، وبين ما يسوغ تأويله وما لا يسوغ، فإِنَّ المسلم لو مات ولم يتعرض لتكفير أحد ممن ثبت كفره لم يكن مسئولًا إلا عن إيمانه هو وأعماله هو لا عن التكفير، فالسكوت لا خَطَرَ فيه.
وتعميم الحكم -في القاعدة السابقة- على كل كافر مجازفة كبيرة؛ إذ قد يكون كافرًا عند البعض؛ كما جاء في بعض المذاهب التي تكفر تارك الصلاة، وقد يكون متأولًا في كلامه الذي ظاهره الكفر، ويكون تأويل كلامه أولى من تكفيره، ولذلك كان مسلك أهل السنة الاحتراز التام من التكفير وعدم تكفير المتأول، والتأويل لمن ظاهر كلامه الكفر من أهل القبلة. قال السبكي في "فتاويه" (2/ 586): [التكفير حكم شرعي سببه جحد الربوبية، أو الوحدانية، أو الرسالة، أو قول أو فعل حكم الشارع بأنه كفر، وإن لم يكن جحدًا] اهـ. فالكفر كالإيمان؛ كلاهما أمران قلبيان -أولًا وآخرًا-، قد يدل عليهما بعض الأعمال الظاهرة، وتبقى حقيقتهما في التصديق القلبي أو عدمه.
يقول أبو حامد الغزالي رحمه الله في "فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة" (ص 82، 88، ط. دار البيروني): [واعلم أنه لا تكفير في الفروع أصلًا، إلا في مسألة واحدة. وهي أن ينكر أصلًا دينيًّا علم من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بالتواتر] اهـ.
ولذلك يقول الإمام الشافعي في الأم (4/264): [قد علم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن المنافقين كاذبون، وحقن دماءهم بالظاهر] اهـ.
ومن العبارات الموهمة غير المفهومة أيضًا قولهم: إن من نواقض الإسلام الإعراض عن دين الله تعالى لا يتعلمه ولا يعمل به. وهي عبارة مطاطة وسلاح يمكن لكل أحد أن يشهره ليكفر به الناس، بزعم إعراضهم عن الدين.
وعلى كل حال فإن سلوك طريق التكفير حيال المؤمنين وتكثير أسبابه فعلٌ يخالف المسلك النبوي الذي دلت عليه النصوص الشرعية من إحسان الظن والإمساك عن تكفير كل من نطق بالشهادتين؛ قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾ [النساء: 94].
وروى البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ صَلَّى صَلاتَنَا وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا وَأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا فَذَلِكَ الْمُسْلِمُ الَّذِى لَهُ ذِمَّةُ اللهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ فَلا تُخْفِرُوا اللهَ فِى ذِمَّتِهِ»، وليس فيه تعرض لهذا التكلف الذي يجعل المؤمن ينقب عن تكفير المسلمين.
ويقول حجة الإسلام الإمام أبو حامد الغزالي في كتابه: "الاقتصاد في الاعتقاد" (ص135، ط. دار الكتب العلمية): [إن التكفير هو صنيع الجهال، ولا يسارع إلى التكفير إلا الجهلة، فينبغي الاحتراز من التكفير ما وجد الإنسان إلى ذلك سبيلًا، فإن استباحة الدماء والأموال من المصلين إلى القبلة، المصرحين بقول: (لا إله إلا الله محمد رسول الله) خطأ، والخطأ في ترك ألف كافر أهون من الخطأ في سفك محجمة من دم مسلم] اهـ.
وجاء في المسألة السادسة الكلام على تقسيم التوحيد إلى توحيد الألوهية، وتوحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات، وهو تقسيم للتوحيد لم يرد عن أحد من السلف، وأوَّل من أحدثه -على ما هو المشهور- هو الشيخ ابن تيمية رحمه الله مُدَّعِيـًا أَنَّه استقراء لكلام السلف ثم أخذه عنه مَن تكلَّم به بعد ذلك. وقد تعدَّى هذا التقسيم للتوحيد كوْنَه اصطلاحًا خاصًّا تجرى عليه قاعدة: "لا مشاحة في الاصطلاح" إلى أَنْ صار بابًا للتوسع في تكفير المسلمين وذريعة لسفك الدماء المعصومة. وهو تقسيم مبني على جعل الأعمال داخلة في مفهوم الإيمان وهو مذهب الخوارج الباطل كما تقدم، ومبني على أَنَّ الربَّ والإله استعمالان شرعيان مختلفان، وأنَّ توحيد الربِّ مختلفٌ عن توحيد الإله، وأَنَّ ما سماه توحيد الربوبيَّة كان معلومًا مستقرًّا لدى المشركين، وأَنَّ توحيد الألوهية هو ما دعا إليه الأنبياء. وهذا التقسيم غير مقبول؛ وغير موافق لاستعمال القرآن؛ فإِنَّ الإله الحق هو الرَّبُّ الحق، ولا يستحق العبادة والتأليه إلا مَنْ كان ربًّا، ولا معنى لأَن نعبد من لا نعتقد فيه أنه ربٌّ ينفع ويضر، فهذا مرتب على ذلك. فالله تعالى هو الرَّب، والرَّب هو الإله. وقد تلازم في النصوص الشرعية استعمال الرب والإله كلاهما في موضع الآخر، ونجد لفظ (الإله) ولفظ (الرب) استخدموا في القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة بمعنًى واحد؛ قال تعالى: ﴿أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ﴾ [يوسف: 39]، وقال بعدها: ﴿مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ﴾ [يوسف: 40]، وقال الله تعالى في حق نبيه عيسى عليه السلام: ﴿وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا﴾ [آل عمران: 80]، وقال في الآية الأخرى: ﴿وَإِذْ قَالَ اللهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ﴾ [المائدة: 116].
ومن الأدلة على أَنَّ شرك الكفار في الربوبية كشركهم في الألوهية، وأنهما واحد: أَنَّ الميت في قبره يُسأل عن الربوبية، فيقول الملكان من ربك؟ لا يسألانه عن الألوهية؛ فعن الْبَرَاءِ بن عَازِبٍ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ﴿يُثَبِّتُ الله الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ﴾ قال: «نَزَلَتْ في عَذَابِ الْقَبْرِ، فَيُقَالُ له: من رَبُّكَ؟ فيقول: رَبِّيَ الله، ونبيي مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وآله وسلم، فَذَلِكَ قَوْلُهُ عز وجل: ﴿يُثَبِّتُ الله الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ في الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وفي الآخِرَةِ﴾» رواه مسلم.
فتبين لنا بهذا أَنَّ (الرب) و(الإله) استخدمهما القرآن والسنة بمعنًى واحد، فالمشرك لا بد أَنْ يكون أشرك بالربوبية، ولا يعبد الله، ويعبد تلك الأرباب الباطلة، والدليل على هذا أَنَّ كلمة (لا إله إلا الله) تتضمن توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية، ولو كانت تتضمن توحيد الألوهية فقط -كما يقولون- لاقتضى أَن لتوحيد الربوبية كلمة أخرى غير هذه، ولا قائل بذلك. والآيات تدل على أن الرُّسل كما خاصموا المشركين في صرفهم العبادة لغير الله، فكذلك خاصمتهم في إثباتهم بعض خصائص الربوبية لغير الله من نفوذ شفاعتهم عنده تعالى بحكم شراكتهم له في الربوبية، ومن نفوذ مشيئة مَن اتخذوهم أربابًا بجعلهم متصرفين فيهم استقلالًا بقدرة (كن)؛ نفعًا، وضرًّا، ونصرًا، وإعطاءً، ومنعًا، وتوسعةً في الرزق، وشراكة في الملك والربوبية، وقد وردت آيات كثيرة في القرآن الكريم تذكر دعوة الرسل للمشركين إلى عدم الإشراك في خصائص الربوبية، منها قوله تعالى -يحكي قول سيدنا إبراهيم لقومه-: ﴿قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ﴾ [الأنبياء: 56]. يعني: لا أربابكم التي تعبدونها.
وقال سيدنا يوسف على نبينا وعليه الصلاة والسلام وهو يدعو صاحبي السجن إلى التوحيد: ﴿يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ﴾ [يوسف: 39].
وقال فرعون لموسى عليه السلام: ﴿أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى﴾ [النازعات: 24].
فهل كان صاحبا السجن -اللذان كانا يعبدان الأصنام- وفرعون مقرِّين بالألوهية لله؟! وقال تعالى أيضًا عن الكفار: ﴿وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ﴾ [الجاثية: 24]؛ وفي هذا تصريح منهم بنفي الصانع، وقد نفى الله تعالى عنهم العلم؛ إذ ينسبون ذلك للدهر.
وقال تعالى: ﴿إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ [العنكبوت: 17]؛ فلو كان الكفار يعتقدون أن الله هو الرزاق، ما أمرهم الله بابتغاء الرزق عنده وحده، ولكن لما كانوا يطلبونه من آلهتهم أمرهم الله بابتغاء الرزق من عنده، ومجانبة هذا النوع من الشرك الذي يدعي القائلون بالتقسيم المبتدع أن الكفار كانوا يؤمنون بأنه تعالى الخالق الرازق المدبر.
أما توحيد الأسماء والصفات فالمقصود به عندهم إثبات حقائق أسماء الله وصفاته على ظواهرها، حتى الموهمة للتشبيه منها، وهو من المحال عليه جل في علاه. ولم يثبت عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان يقول لأحد يريد الدخول في الإسلام أن هناك توحيدين أو ثلاثة، وأنك أيها الداخل في الدين لا تكون مسلمًا حتى تقر بها، ولا نُقِلَ ذلك عن أحد من السَّلفِ رضوان الله عليهم، ولا أشار إليه أحد من الأئمة المتبوعين. والإشكال الأعظم من هذا التقسيم يأتي من أَنَّهم اتخذوا من هذا التقسيم وسيلة إلى الزعم بأَنَّ توحيد الربوبية وحده لا يكفي في الإيمان، وأَنَّ المشركين مُقِرُّون بتوحيد الربوبية، وأَنَّ كثيرًا من طوائف الأمة من المتكلمين وغيرهم قد اقتصروا عليه وأهملوا توحيد الألوهية، مما ترتب عليه سوء فهمٍ لكثير من المفاهيم الإسلامية الصحيحة؛ كالتوسل، والاستغاثة، والتبرك، وزيارة القبور، والنذر، والدعاء، والاستعانة؛ لأَنَّهم رأَوا أَنَّ المشركين كانوا يتقربون لآلهتهم بهذا، فتخيَّلوا أن مجرد إتيان هذه الأعمال والأقوال هي العبادة لذاتها، وأَنَّ كلَّ عمل أو قول يصلح للتعبد به لا يقع إلا عبادة، إن وقع لله فهو التوحيد، وإن وقع لغيره فهو الشرك. كما تخيلوا أنَّ شرك المشركين إنما كان بإتيان هذه الأمور لمن اتخذوهم أربابًا، وأن المشركين كانوا مُقرِّين بتوحيد الربوبية، ولذلك لم تدعُ الرسل إليه. وكلُّ ذلك تخيل باطل؛ فإن العبادة ليست مجرد إتيان العمل والقول الذي يصلح للتعبُّد به، بل هي إتيان تلك الأعمال والأقوال بنية العبادة لمن يعتقد فيه الربوبية.
ثم تعرض في المسألة العاشرة إلى الكلام على معنى الطاغوت ورؤوس أنواعه، فقال: وصفة الكفر بالطاغوت أن تعتقد بطلان عبادة غير الله وتتركها وتبغضها وتكفر أهلها وتعاديهم، وقال: والطاغوت هو كل من تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع. ومَثَّل للمعبود بشياطين الجن التي تأمر سحرة البشر بعبادتهم فيعبدونهم، ومثال المتبوع: رؤساء الدول والحكومات والملوك والأمراء، الذين يأمرون رعيتهم بمخالفة الشريعة والتحاكم إلى القوانين الوضعية..، وأَمَّا المطاع: فمِثلُ الأحبار، والرهبان، ومشايخ السوء الذين يحلون ما حرم الله، ويحرمون ما أحل الله، فيطاعون في ذلك. وكرر ذكر بعض ذلك فيما سماه رؤوس الطواغيت؛ التي عَدَّ فيها الشيطان والحاكم الجائر المغيِّرَ لأحكام الله تعالى والذي يحكم بغير ما أنزل الله أو يحتكم إليه كالحكم بالقوانين الوضعية أو الأعراف والتقاليد وحكم على الجميع بالردة. هنا لا بد من التنبيه على عدة أمور:
الأول: الطواغيت مفرد طاغوت، وهو مشتق في اللغة من مادة (طغى) التي تدل على مجاوزة الحد في العصيان؛ قال ابن منظور في "لسان العرب" (15/ 9 مادة: طغي، 8/ 444، مادة: طوغ - ط. دار صادر، بيروت): [أصل وزن طاغوت طغيوت على فعلوت، ثم قدمت الياء قبل الغين محافظة على بقائها فصار طيغوت، ووزنه فلعوت، ثم قلبت الياء ألفًا؛ لتحركها وانفتاح ما قبلها فصار طاغوت. والطاغوت: ما عبد من دون الله عز وجل، وكل رأس في الضلال طاغوت، وقيل: الطاغوت الأصنام، وقيل: الشيطان] اهـ بتصرف.
أما معناه في الاصطلاح فهو غير بعيد عن معناه اللغوي؛ يقول الإمام ابن جرير الطبري في تفسيره "جامع البيان" (5/ 419): [ والصواب من القول عندي في (الطاغوت)، أنه كل ذي طغيان على الله، فعُبد من دونه، إما بقهر منه لمن عبده، وإما بطاعة ممن عبده له، وإنسانًا كان ذلك المعبود، أو شيطانًا، أو وثنًا، أو صنمًا، أو كائنًا ما كان من شيء] اهـ.
وقال ابن القيم في "إعلام الموقعين عن رب العالمين" (1/ 40، ط. دار الكتب العلمية): [الطاغوت: كل ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع؛ فطاغوت كل قوم من يتحاكمون إليه غير الله ورسوله، أو يعبدونه من دون الله، أو يتبعونه على غير بصيرة من الله، أو يطيعونه فيما لا يعلمون أنه طاعة لله؛ فهذه طواغيت العالم إذا تأملتها وتأملت أحوال الناس معها رأيت أكثرهم عدلوا من عبادة الله إلى عبادة الطاغوت، وعن التحاكم إلى الله وإلى الرسول إلى التحاكم إلى الطاغوت، وعن طاعته ومتابعة رسوله إلى طاعة الطاغوت ومتابعته] اهـ.
الثاني: أَنَّ التعميم بإدخال الرؤساء والعلماء في الطواغيت باب من أبواب الفتنة، وتقوُّل على الشرع بما ليس فيه، ومبالغة في سوء الظن بحكام المسلمين وعلمائهم لدرجة إطلاق الحكم بتكفيرهم، وفي هذا من أبواب الشر والفساد ما الله به عليم.
الثالث: أَنَّه من المقرر أَنَّ الله تعالى وحده هو الحاكم على الحقيقة، له الخلق والأمر؛ ﴿أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ [الأعراف: 54]، يحكم لا معقب لحكمه؛ ﴿وَاللهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ﴾ [الرعد: 41]؛ لذا فتحكيم شرعه تعالى واجب، وأيضًا يجب تحكيم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وقبول حكمه والتسليم له؛ قال تعالى: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [النساء: 65].
والعبارة التي دائمًا ما يذكرها علماء الأصول عند كلامهم على الحاكم الذي هو أحد أركان الحكم الشرعي هي أن الحاكم هو الله. انظر: "التلويح على التوضيح" (2/ 244، ط. صبيح)، وفي معناها: لا يدرك حكم إلا من الله. انظر: "غاية الوصول شرح لب الأصول" (ص7، ط. الحلبي)، وفي معناهما: الحاكم هو الشرع لا العقل. انظر: "منهاج الوصول للبيضاوي" (ص13، ط. صبيح).
ثم إن مَنْ لا يحكم بما أنزل الله لا يخلو من حالين:
الأول: أن يكون منكرًا له كارهًا معتقدًا عدم أحقيته بالتطبيق واصفًا إياه بأوصاف تتضمن انتقاصًا أو اعتداءً وعدوانًا.
والثاني: أن يكون مُقرًّا بأحقية ما أنزل الله لكنه يرغب عنه للهوى أو التشهي أو لشبهة أو لعجز عن التطبيق أو لتأويل في النصوص.. إلخ.
ومما لا شك فيه أن الحكم في الحال الأول يختلف عن الثاني.
أما الأول فهو كفر أكبر مخرج من الملة، وأما الثاني فمعصية وكفر أصغر غير مخرج من الملة.
وقد ذكر العلماء حالات يحكم فيها على الحاكم بغير شريعة الله بالكفر الأصغر، ومن ثم لا يخرج من ملة الإسلام؛ منها: أن يترك الحكم بما أنزل الله في بعض مسائله لهوى في نفسه، مع اعتقاده بأن هناك شرعًا لله فيه الهدى والخير المطلق. يقول الإمام القرطبي في تفسيره "الجامع لأحكام القرآن" (6/ 191، ط. دار الكتب المصرية): [وإنْ حَكَمَ به -يعني بما عنده، لا بما أنزل الله- هَوًى ومعصيةً فهو ذنبٌ تُدركه المغفرة على أصل أهل السنة في الغفران للمذنبين] اهـ.
ومن الأمثلة الواضحة التي ذكرها العلماء لذلك: النجاشي؛ فقد كان ملكًا على قومه، فأسلم دونهم، ولم يَقْدِر على تعلم الشريعة فضلًا عن تطبيقها، ومع ذلك فإنه لا يشك أحدٌ في صحة إسلامه. يُنظر: "منهاج السنة النبوية" لابن تيمية (5/ 112-113، نشر: جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية).
الثالث: أنه ليس كل حكم بقانون وضعي أو عرف يكون بالضرورة مخالفًا لشرع الله تعالى، بل ينبغي عرض ذلك على الشريعة فما كان موافقا قبل، وما لم يكن كذلك غُيِّرَ بما يوافق الشرع، وما كان مسكوتًا عنه فإن مرده إلى المصلحة.
وينبغي أن يتنبه إلى أن معنى تحكيم الشرع أعم من مجرد تحكيم مذهب مخصوص أو اجتهاد الخاص، فقد تكون القوانين السارية مرجعها إلى اجتهاد معين أو مذهب محدد، فتكون مندرجة تحت مفهوم الشريعة الواسع؛ الذي يندرج تحته عموم مذاهب المجتهدين وأقوالهم، وإن خالف ذلك ما يعتقده ويقلده من يتكلم عن تحكيم الشريعة ويدعو إليه؛ قال العلامة ابن حزم: [جميع ما استنبطه المجتهدون معدود من الشريعة، وإن خفي دليله على العوام، ومَن أنكر ذلك فقد نَسَبَ الأئمة إلى الخطأ، وأنهم يُشَرِّعون ما لم يأذن به الله، وذلك ضلال مِن قائله عن الطريق، والحق أنه يجب اعتقاد أنهم لولا رأوا في ذلك دليلًا ما شرعوه] اهـ. بواسطة: "الميزان الكبرى" للإمام الشعراني (1/ 116، ط. عالم الكتب).
الرابع: أنه ليس كل متبوع ولا مطاع طاغوتًا مذمومًا، إلا إذا كان اتباعه أو طاعته باب لمعصية الله ورسوله، وطاعة الحاكم والعالم من طاعة الله ورسوله وهو مقصود في نحو قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا﴾ [النساء: 59].
وروى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ عَصَى اللهَ، وَمَنْ يُطِعِ الأَمِيرَ فَقَدْ أَطَاعَنِي، وَمَنْ يَعْصِ الأَمِيرَ فَقَدْ عَصَانِي».
والخلاصة: أن هذه المطوية قد اشتملت على جملة من الشذوذات الفكرية والبدع الخطيرة المخالفة لما استقر عليه علماء المسلمين واعتمدوه في أبواب العقائد وغيرها، مما يتسبب في مفاسد جمة وأضرار جسيمة، تتصل بالجرأة على الكلام في دين الله بغير علم، وبناء الأحكام الخطيرة على مقدمات فاسدة أو على كلام مجمل غير مفهوم، مع إساءة الظن بالمسلمين الموحدين، وتوسيع دائرة تكفيرهم، وتأسيس ما تحصل به الفتنة بينهم ويفرق كلمتهم، ويبيح الدماء المصونة المعصومة بيقين، ويكدر الأمن العام ويعتدي على السلام الاجتماعي.
والله سبحانه وتعالى أعلم.

اقرأ أيضا