النداء على المفقود عبر مكبرات الصوت بالمسجد

النداء على المفقود عبر مكبرات الصوت بالمسجد

حدث خلافٌ كبيرٌ في بلدتنا إثر نداء أحد العامة على طفل مفقود باستخدام مكبرات الصوت بالمسجد الكبير في البلدة؛ تلبيةً لاستغاثة أمه التي كاد قلبها ينفطر من البكاء، فاختلف الناس في أمر هذا النداء بين مؤيد ومعارض، حتى وصل الخلاف إلى حدِّ الاتهام في الدين والإيمان، فالمعارضون يستدلون بحديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إذا رأيتم الرجل ينشُد ضالته في المسجد فقولوا له: لا ردها الله عليك»، ويستدلون أيضًا بأن المساجد ما جُعلت لذلك، وإنما جُعِلت للعبادة، ويرون أن هذا ليس من العبادة.
والمؤيدون يستدلون بأن حفظ النفس من مقاصد التشريع، وأن هذه نفس مفقودة، ومن مقاصد التشريع أيضًا حفظ العقل والدين، ومن يكون في هذا الموقف يكاد يطير عقله، واستدل المؤيدون أيضًا بأن هذا الدين دين رحمة وسماحة، وأن المقصود بالضالة في الحديث: البهائم وما في حكمها كما ورد في سبب الحديث، وأن حرمة الإنسان أعظمُ من حرمة البنيان كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم للكعبة: «ما أعظم حرمتَك عند الله! وَلَدَمُ امرئ مسلم أعظمُ حرمةً منكِ».

يجوز شرعًا النداء على الأطفال المفقودين من ذويهم عن طريق مكبرات الصوت في المساجد؛ لما يترتب عليه من حفظ نفسه من الهلاك بالفقد، وفيه تعاون على البر والتقوى ونجدة وإغاثة الملهوف، ولا يدخل ذلك في باب النهي عن نشدان الضالة في المسجد؛ لأنَّ نشدان الضالة المقصودة بالنهي هي ما كانت من جنس الحيوان كالماشية، وما يكون فيه تشويش على مَن في المسجد بجعل المساجد مرتعًا للأمور الدنيوية المحضة.

التفاصيل ....

روى الإمام مسلم في "صحيحه" عن أبي هُرَيْرَة رضي الله عنه: أَنه سمع رَسُول الله صلى الله عليه وآله وسلم يَقُول: «مَن سَمِعَ رَجُلًا يَنْشُد ضَالَّةً فِي الْمَسْجِد فَلْيقلْ: لَا رَدَّهَا اللهُ عَلَيْك؛ فَإِنَّ الْمَسَاجِدَ لَمْ تُبْنَ لهَذَا»، وروى مسلم أيضًا عَن بُرَيْدَة رضي الله عنه: أَن رجلًا نَشد فِي الْمَسْجِد، فَقَالَ: من دَعَا إِلَى الْجمل الْأَحْمَر؟ فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لَا وجدت، إِنَّمَا بُنِيَتِ الْمَسَاجِدُ لما بنيت لَهُ».
وعلَّة النهي صونُ حرمة المساجد التي بُنيت للعبادة والصلاة والذكر وقراءة القرآن والاعتكاف عن ملهيات الدنيا ومشغلاتها، وما يقتضيه ذلك من طلب الهدوء والسكينة فيها حتى لا يحصل التشويش على المصلين والعابدين، أو الانصراف عن عمل الخير.
والمنهي عنه في هذه الأحاديث ما يكون فيه تشويش على من في المسجد، ومنافاة لما جُعِلَت المساجد لأجله؛ بحيث تكون المساجد مرتعًا للأمور الدنيوية المحضة من البيع والشراء المشتمل على المساومة والتغابن، وطلب البحث عن الحيوانات الضالة والممتلكات المفقودة، مع ما قد يكون فيه مِن جُعل مادِّي يلهي عن حضور الصلاة أو يشوش على صلاة الحضور، ونحو ذلك من المُلهيات والمشغلات.
والضَّالَّةُ في اللغة: هي الحيوان الضائع، ولا تطلق على غير الحيوان، أما غير الحيوان فيقال فيه: لُقَطَة، وضائع، ولا يطلق على الضائع من الإنسان ضالة.
قال الإمام أبو عبيد القاسم بن سلَّام في "غريب الحديث" (2/ 203، ط. دائرة المعارف العثمانية): [الضَّالة لَا يَقع مَعْنَاهَا إِلَّا على الْحَيَوَان خَاصَّةً الَّتِي هِيَ تضل] اهـ.
ومن العلماء من نَصَّ على أن الضَّالة إنما تُطلق في الأصل على البهيمة دون غيرها، قال الإمام الجوهري في "الصحاح" (5/ 1748، ط. دار العلم للملايين): [الضَالَّةُ: ما ضَلَّ من البهيمة للذكر والأنثى] اهـ.
وقال العلامة الزمخشري في "الفائق" (1/ 65، ط. دار المعرفة): [الضَّالة: صفة في الأَصْل للبهيمة فَغلبَتْ] اهـ.
وقال الحافظ ابن الجوزي في "غريب الحديث" (2/ 17، ط. دار الكتب العلمية): [إِنَّمَا تسْتَعْمل الضَّالةُ فِي الْحَيَوَان، فَأَما الجمادات فَهِيَ اللُّقطَة] اهـ.
وقال العلامة الفيومي في "المصباح المنير" (2/ 363، ط. المكتبة العلمية): [والأصل في الضلال: الغيبة، ومنه قيل للحيوان الضائع: ضالة بالهاء للذكر والأنثى، والجمع الضوال، مثل: دابة ودواب، ويقال لغير الحيوان: ضائع، ولقطة.. إلى أن قال: فإن الضالَّ: هو الإنسان، والضالة: الحيوان الضائع] اهـ.
وجاء في "شرح حدود ابن عرفة" للعلامة الرَّصَّاع (ص: 431، ط. المكتبة العلمية) في تعريف الضالَّة: [نَعَمٌ وُجِدَ بغير حِرْزٍ مُحتَرَم، فيدخل فيه الإبل والبقر والغنم] اهـ.
ومن ذلك كله يتبين أن البحث عن الأطفال التائهين عن طريق النداء عليهم عبر مكبرات الصوت بالمساجد لا صلة له بالنهي الوارد في الحديث لا من جهة اللفظ ولا من جهة المعنى.
أما اللفظ: فإن الطفل التائه لا يُسَمَّى ضالة في لغة العرب فلا يشمله لفظ الحديث أصلًا.
وأما المعنى: فإن النداء على الطفل والبحث عنه هو من باب حفظ النفوس من التلف، وهو أهم الكُلِّيات الشرعية الخمس، ولا شك أن صيانة المُهَج وإبقاءها مُقَدَّم على غيره من المصالح الخاصة والعامة، وإذا ضاع الطفل من أهله يجب على الناس شرعًا التكاتفُ والتعاونُ والعمل على رجوعه إليهم عن طريق أرجى الوسائل لذلك، فإن المساجد هي مجامع الناس، خاصة في القرى والبلدان الصغيرة التي يعرف الناس فيها بعضهم، فيُرجَى مِن خلال النداء عبر مكبراتها عودةُ الأطفال التائهين، فإذا تعينت المساجد طريقًا لذلك صار واجبًا؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وذلك كله من باب التعاون على البر والتقوى، وفيه مِن ثواب إغاثة الملهوف وتفريج كُرَب الناس وإعانتهم ونجدتهم ما رغَّبت إليه الشريعة وأمرت به وحثَّت عليه، لكن يُرَاعَى تطبيق ذلك بطريقة منظمة لا تشويش فيها على المصلين، ولا يجوز بحال من الأحوال لا شرعًا ولا عقلًا ولا عُرفًا أن يقال لهم: لا ردَّه الله عليكم! ومن خاطبهم بذلك فهو آثمٌ شرعًا وملومٌ عُرْفًا.
وبناءً على ذلك: فإن البحث عن الأطفال التائهين من ذويهم أو الإخبار عنهم والنداء عليهم عن طريق مكبرات الصوت في المساجد هو أمرٌ جائز شرعًا، بل ومستحب أيضًا؛ لما فيه من التعاون على البر والتقوى والنجدة وإغاثة الملهوف، بل إذا غلب على الظن تَعَيُّنُه طريقًا للحفاظ على الطفل من الضياع أو التلف فإنه يصير واجبًا شرعًا، وليس هو داخلًا في باب النهي عن نشدان الضالة في المسجد مِن قريب أو بعيد.
والله سبحانه وتعالى أعلم.

اقرأ أيضا