سئل بخطاب وزارة الداخلية بما صورته: رفعتِ امرأة دعوى شرعية بإحدى المحاكم الجزئية ضد مطلقها تطلب بها تقرير نفقة لولديه منها، ولما حضر الخصمان أمام المحكمة اصطلحا على تنازل المدعية عن نفقة أحد الولدين مقابل تسليمه لوالده، وفرض المدعى عليه على نفسه نفقة للآخر الذي بقي عند والدته، والمحكمة قررت اعتبار هذا الصلح. بعد ذلك حصل الوالد المدعى عليه من المحكمة على صورة تنفيذية من محضر الصلح وقدمها إلى محافظة مصر قائلًا: إن الحكم يقضي بتسليمه الولد، وطلب منها التنفيذ بتسليمه إليه؛ لأنه موجود الآن مع والدته، والمحافظة رأت أن الحكم لم تؤمر فيه المدعية بتسليم الولد، وفقط بني على اعتبار الصلح المتقدم بيانه، ولذلك استعلمت المحافظة من هذه الوزارة عن جواز إجابة طلب التنفيذ من عدمه، ونحن رأينا أن تسليم الولد من والدته لأبيه كان في دعوى طلب نفقة، فكأن الصلح تنازل من المدعية عن نفقة أحد الابنين مقابل تسلم الوالد له، وليس بناءً على طلب منه في الدعوى بصفة دعوى فرعية، وإذن لا يمكن إجراء التنفيذ المطلوب؛ لأن محضر الصلح غير مشتمل على شيء يستدل منه أن التسليم كان اعترافًا أو تسليمًا من الوالدة بحق الوالد في الحضانة. هذا، فضلًا عن كون محضر الصلح المذكور لا يلزم الوالدة بتسليم الولد لأبيه إن هي أخذته منه بعد التسليم الاختياري كما حصل. ومع أننا كنا سنجيب المحافظة بهذا المعنى، غير أنه لوحظ من جهة أخرى أن المحكمة أعطت صورة تنفيذية من الحكم إلى المدعى عليه للتنفيذ بها، وهذا يفيد أن المحكمة تعتبر الحكم أو الصلح واجب التنفيذ لصالح المدعى عليه بتسليمه الولد مع عدم إمكان ذلك للأسباب السالفة الذكر؛ لذلك أردنا معرفة رأي الحقانية في المسألة، وإن كان للمحكمة حق في إعطاء تلك الصورة التنفيذية أم لا، ولما كتبنا إلى الوزارة المشار إليها عن ذلك قد أجابتنا بأن الصلح ملزم لطرفي الخصوم كل خصم بما ألزم به فللمحكمة الحق في إعطاء صورة تنفيذية من هذا الحكم للمدعى عليه ولا مانع من التنفيذ بالطرق المتبعة، وبما أننا للأسباب المتقدم بيانها لا نزال نرى عدم قابلية هذا الصلح للتنفيذ الجبري بتسليم الولد من أمه الحاضنة له شرعًا إلى أبيه، ونفتكر كذا أنه لأجل توصل الوالد إلى غرضه هذا يجب عليه رفع دعوى شرعية، والحصول على حكم ضد مطلقته بتسليمه الولد. فنبعث إلى فضيلتكم بأوراق هذه المسألة رجاء الاطلاع عليها والتكرم لإبداء رأيكم في ذلك.
رجوع الأم في إسقاط حضانتها
إسقاط الزوجة حقَّها في حضانة ابنها في وقتٍ ما لا يمنع من رجوعها في الحضانة بعد ذلك إذا كان الولد لا يزال في سن الحضانة؛ لأن الحضانة حقٌّ متجدد فالإسقاط يصح في الحاضر لا في المستقبل. وعليه: فحكم المحكمة المذكور لا يسري ولا ينفذ في حق الأم المتجدد في حضانتها لولدها.
التفاصيل ....اطلعنا على خطاب الوزارة وعلى الأوراق المرفقة به، وتبين من صورة الحكم الشرعي المرفقة طيه الصادر من المحكمة الشرعية أن المُدَّعِيَّة رفعت دعوى تطلب نفقة لولديها وأجرة حضانة من مطلقها، وبعد المرافعة اصطلح الخصمان على أن سلمت المدعية للمدعى عليه أحد أبنائه واكتفت بأن يكون بيدها الابن الثاني... إلى آخر ما جاء به من أن المحكمة بناءً على طلب الخصمين اعتبار هذا الصلح قررت اعتباره، ونفيد أنه في "تنقيح الحامدية" (1/ 58 ،ط المكتبة الأميرية سنة 1300هـ): [أن الحاضنة لو أسقطت حقها من الحضانة وتريد الآن أخذ الصغار وتربيتهم وهي أهل لذلك كان لها ذلك؛ لأنها لا تقدر على إبطال حق الصغير في الحضانة. وقال في "شرح الدر" و"متن التنوير": وإذا أسقطت الأم حقها صارت كميتة أو متزوجة فتنتقل للجدة ولا تقدر الحاضنة على إبطال حق الصغير فيها حتى لو اختلعت على أن تترك ولدها عند الزوج صح الخلع وبطل الشرط] اهـ.
وقال في "رد المحتار" (2/ 983، ط. أميرية سنة 1286ه)، عند قوله: وإذا أسقطت الأم حقها صارت كميتة أو متزوجة، فتنتقل للجدة... إلخ اهـ. ما نصه: [أي تنتقل الحضانة لمن يلي الأم في الاستحقاق كالجدة إن كانت، وإلا فلمن يليها فيما يظهر. واستظهر الرحمتي أن هذا الإسقاط لا يدوم فلها الرجوع؛ لأن حقها يثبت شيئًا فشيئًا فسقط الكائن لا المستقبل. اهـ. أي فهو كإسقاطها القسم لضرتها فلا يرد أن الساقط لا يعود؛ لأن العائد غير الساقط بخلاف إسقاط حق الشفعة، ثم رأيت بخط بعض العلماء عن المفتي أبي السعود: في رجل طلق زوجته ولها ولد صغير منه، وأسقطت حقها من الحضانة وحكم بذلك حاكم، فهل لها الرجوع بأخذ الولد؟ الجواب: نعم، لها ذلك؛ فإن أقوى الحقين في الحضانة للصغير، ولئن أسقطت الزوجة حقها فلا تقدر على إسقاطه أبدًا] اهـ.
ثم نقل في "رد المحتار" بالصحيفة المذكورة الخلاف في أن الحضانة حق الحاضنة أو حق الولد، فقيل بالأول فلا تجبر إذا امتنعت، ورجحه غير واحد وعليه الفتوى، وقيل بالثاني فتجبر، واختاره الفقهاء الثلاثة أبو الليث والهندواني وجواهر زاده وأيده في "الفتح" بما في "كافي الحاكم الشهيد" الذي هو جمع كلام محمد من مسألة الخلع المذكورة، قال: فأفاد -أي كلام الحاكم- أن قول الفقهاء جواب "ظاهر الرواية". قال في "البحر": فالترجيح قد اختلف والأولى الإفتاء بقول الفقهاء الثلاثة، ثم استدرك بما في "الظهيرية"؛ لأن محل جبر الأم بأن لا يكون للصغير ذو رحم محرم، أما لو كانت له جدة رضيت بإمساكه دفع إليها، وبعد نقل ما ذكر، قال: قلت: ويؤخذ من هذا توفيق بين القولين، وذلك أن ما في "المحيط" يدل على أن لكل من الحاضنة والمحضون حقًّا في الحضانة، فقول من قال إنها حق الحاضنة فلا تجبر محمول على ما إذا لم تتعين لها، واقتصر على أنها حقها؛ لأن المحضون حينئذٍ لا يضيع حقه. ومن قال إنها حق المحضون فتجبر، محمول على ما إذا تعينت واقتصر على أنها حقه بعدم من يحضنه غيرها. اهـ ملخصًا.
ومن ذلك يعلم أن إسقاط الزوجة المذكورة حقها في حضانة الابن المذكور وتسليمها له في ذلك الوقت -أي وقت الصلح- لا يمنع من رجوعها في الحضانة وأخذ الولد؛ لأنها بمطالبتها بتسلم الولد لم تكن ممتنعة عن حضانتها، والخلاف المذكور إنما هو فيما إذا امتنعت ولم تطلب، وأما إذا طلبت فلا كلام في أن لها ذلك؛ لأن الحضانة تثبت شيئًا فشيئًا فيصح الإسقاط في الكائن لا في المستقبل؛ لأنها لا تقدر على إسقاطها على الدوام مراعاة لأقوى الحقين في الحضانة وهو حق الولد.
وبذلك يعلم أن الحكم الصادر من المحكمة فيما أسقطته من حق الحضانة إنما هو في الحق الكائن عند صدور الحكم، وأما حق الحضانة المتجدد بعد ذلك فلا يسقط إلا بإسقاط جديد ولها حق المطالبة به، ولا يسري الحكم المذكور على ذلك الحق المتجدد، فلا وجه لتنفيذه عليها في الحق المتجدد الذي لم يدخل تحت الحكم، وهذا إذا كان الولد لا يزال في سن الحضانة. وأما ما أجابت به وزارة الحقانية فهو بالطبيعة خاص بما شمله الصلح وحكم به من إسقاط الحق الكائن وقت الصلح. وللإحاطة تحرر هذا، والأوراق عائدة من طيه كما وردت.
والله سبحانه وتعالى أعلم.