اطلعنا على الطلب المتضمن النقاط التالية:
1- هل يمكن أن يوجد تعريف اصطلاحي شرعي جامع للآية الواحدة من آيات القرآن الكريم؟
2- اشتهر بين المسلمين أن عدد آيات القرآن الكريم توقيفي لا مدخل فيه للاجتهاد مع أنه يوجد الاختلاف في عدد آيات الفاتحة.
3- أن ترتيب الآيات في المصحف هو الترتيب المطابق لما في اللوح المحفوظ، والربط المعنوي بين الآيات واضح في كتب التفسير، أما الربط اللفظي بين كلام الله من أوله إلى آخره ففي حاجة إلى بيان شافٍ.
4- مسألة الوقوف في القرآن الكريم وعلامات هذه الوقوف وتقسيماتها ورموزها مما يعسر فهمه وتطبيقه في التلاوة، ولا بد لهذه الأمور من بيان واضح إذ المعنى يختلف تبعًا للوقف والوصل في القراءة.
من أحكام القرآن الكريم
أجمع أهل العلم المعتد بهم على أن آيات القرآن الكريم وضعت في أماكنها بمعرفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي تلقاها وحيًا من جبريل عليه السلام، فلا محل لوضع تعريف اصطلاحي شرعي جامع للآية الواحدة؛ إذ ليست هذه الآيات في حاجة إلى توصيف أو تعريف، بل هي معجزة بوضعها هذا.
أما الاختلاف في عدد آيات سورة الفاتحة فمبناه الاختلاف بين الفقهاء فيما إذا كانت "بسم الله الرحمن الرحيم" آية من سورة الفاتحة أو لا على أقوال أشهرها أربعة؛ ثلاثة آراء اتفقوا على أن البسملة آية من القرآن، والرأي الثالث اعتبرها آية من سورة الفاتحة دون غيرها، وأما الرابع: فرأى أنها ليست قرآنًا في فواتح السور وإنما وضعت للفصل بين السور، وذلك بعد أن اتفقوا على أن وضع البسملة في أول كل سورة عدا سورة براءة توقيفي بأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وأما مسألة ارتباط كلام الله تعالى من أوله إلى آخره ربطًا لفظيًّا وأنه مشكل، فهذا الإشكال كان أولى بإثارته أولئك العرب في وقت نزوله وتلاوته عليهم فقد تحداهم أن يأتوا بحديث مثله أو بعشر سور أو بسورة، وهم من بلغوا شأوًا لا يُجَارى ولا يُمَارى، وقد انفرد القرآن الكريم بالنظم البديع المخالف لكل نظم معهود في لسان العرب وبالأسلوب المخالف لجميع أساليبهم وبالجزالة التي لم تصح من مخلوق، ثم بالربط المحكم في كل آية وكل سورة.
وبالنسبة لمسألة الوقوف في القرآن وعلاماته ورموزه وأقسامه فقد أجهد العلماء أنفسهم واجتهدوا في خدمة القرآن وفي وضع هذه العلامات وتلك الرموز لتسهيل تلاوته تلاوة صحيحة المبنى والمعنى مراعين فيها التفسير الصحيح لمعاني الآيات والعبارات والارتباط بينها في السياق والسباق واللحاق، وفي هذا كتب علماء القراءات في الوقف التام والوقف الكافي والوقف الحسن والوقف الناقص وما يجوز الابتداء به في التلاوة وما لا يجوز إلى آخر ما هو مفصل القواعد في كتب القراءات وهي ميسَّرة ومطبوعة.
المحتويات
- معنى جامع للآية الواحدة من آيات القرآن الكريم
- سبب الاختلاف في عدد آيات سورة الفاتحة
- الرد على من زعم أن لربط اللفظي بين كلام الله من أوله إلى آخره في حاجة إلى بيان شافٍ
- مسألة الوقوف في القرآن الكريم وعلامات هذه الوقوف ورموزه
معنى جامع للآية الواحدة من آيات القرآن الكريم
أجمع أهل العلم المعتد بهم على أن آيات القرآن الكريم رُتِّبت على الوجه الوارد بالمصحف العثماني بتنزيل من الله تعالى؛ إذ كانت الآية إذا نزلت يعلنها النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتلاوتها على كُتَّاب الوحي وسائر الصحابة ويقول: «ضَعُوهَا فِي مَوْضِعِ كَذَا مِنْ سُورَةِ كَذَا»، ولذا وضعت الآيات المكية في السور المكية، والمدنية كذلك في السور المدنية، إلا بعض آيات مدنية وضعت في سور مكية بأمر من رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، وكانت العرضة الأخيرة التي قرأ النبي عليه الصلاة والسلام فيها القرآن على جبريل عليه السلام بترتيب الآيات على هذا الوجه، ولقد انعقد إجماع الأمة على هذا منذ لحوق الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بربه، وأجمع العلماء على أن من أنكر هذا كان منكرًا ومماريًا فيما عرف من الدين بالضرورة، ويخشى عليه الخروج من الدين وملة الإسلام.
وإذا كانت الآيات قد وضعت في أماكنها بمعرفة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الذي تلقاها وحيًا من جبريل عليه السلام فإنه لا محل للاجتهاد فيها؛ لأنها نزلت محددة بالجمل والكلمات والحروف والبدء والنهاية.
وعلى ذلك: فهل يجوز وضع تعريف اصطلاحي شرعي جامع للآية الواحدة من آيات القرآن الكريم كما جاء في الفقرة الأولى من ورقة الاستفسار أم لا؟
والجواب: أنه متى لوحظ مما سبق من أن بيان الآيات في القرآن الكريم توقيفي –أي: إنه منقول عن صاحب الرسالة ومتلقي هذا الكتاب وحيًا صلوات الله وسلامه عليه- فإنه لا محل لوضع تعريف اصطلاحي شرعي جامع للآية الواحدة؛ إذ ليست هذه الآيات في حاجة إلى توصيف أو تعريف، ومع هذا فإن الإمام أبا عبد الله القرطبي ذكر في مقدمة تفسيره للقرآن المسمى بـــ"الجامع لأحكام القرآن" أن الآية هي العلامة، بمعنى أنها علامة لانقطاع الكلام الذي قبلها عن الذي بعدها وانفصالها –أي: هي بائنة من أختها ومنفردة- تقول العرب: بيني وبين فلان آية، أي: علامة، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ﴾ [البقرة: 248]، وقيل: سميت آية؛ لأنها جماعة حروف من القرآن وطائفة منه، وقيل: سميت آية؛ لأنها عجب يعجز البشر عن التكلم بمثله. (صفحة 66 من الجزء الأول) بتصرف.
وهذه التعاريف كلها تعاريف لغوية؛ إذ لا تليق ولا تجوز التعاريف الاصطلاحية لأمر عرفناه نقلًا مجمعًا عليه ممن سمعوا القرآن ودونوه وحفظوه عن الرسول الأكرم، ولقد روى قتادة عن ابن مسعود رضي الله عنه قوله: "من كان منكم متأسيًا فليتأسَّ بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإنهم كانوا أبر هذه الأمة قلوبًا، وأعمقها علمًا، وأقلها تكلفًا، وأقومها هديًا، وأحسنها حالًا، اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم وإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوهم في آثارهم؛ فإنهم كانوا على الهدي المستقيم".
هذا، وليس الأمر فقط توقيفيًّا في شأن بيان الآيات وترتيبها، بل قال جماعة من أهل العلم: إن تريب سور القرآن على ما هو في مصحفنا كان عن توقيف عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ ففي الآثار الصحيحة أن الله تعالى أنزل القرآن جملة إلى سماء الدنيا، ثم فرق على النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ثلاث وعشرين سنة، وكانت السورة تنزل في أمر يحدث، والآية جوابًا لمستخبر يسأل، ويوقف جبريل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على موضع السورة والآية، فاتساق السور كاتساق الآيات والحروف، فكله عن خاتم النبيين عليه السلام عن رب العالمين، فمن أخَّر سورة أو قدم أخرى مؤخرة فهو كمن أفسد نظم الآيات وغير الحروف والكلمات. "القرطبي" (صفحة 59، 60 مقدمة الجزء الأول)، وكتاب "لطائف الإشارات لفنون القراءات" (الجزء الأول صفحة 21: 25 للقسطلاني ومراجعهما).
ومن هذا نصل إلى نتيجة حتمية هي أنه لا يجوز لمسلم أن يضع آيات القرآن الكريم موضع القواعد النظرية العلمية أو القواعد التجريبية فيضع لها تعريفًا منطقيًّا بمقدمات ونتائج؛ لأن هذه الآي جاءت محددة البدء والنهاية، والكلمات والحروف معجزة بوضعها هذا بأن نزلت بلغتهم في عصرهم، وأنى نحن الآن مما كانوا عليه من فصاحة وبلاغة؟ ومع هذا فقد وقفوا عاجزين عندما تحداهم القرآن.
سبب الاختلاف في عدد آيات سورة الفاتحة
أما عن الاستفسار الثاني: وهو أنه قد اشتهر عند المسلمين أن عدد آيات القرآن توقيفي ولازم هذا ألا يقع خلاف في عدد الآيات وتعيينها مع أنه وجد اختلاف في تحديد عدد آيات سورة الفاتحة، والجواب: أن الاختلاف في عدد آيات هذه السورة، هل هي سبع أو ست مبناه الاختلاف بين الفقهاء فيما إذا كانت بسم الله الرحمن الرحيم آية من سورة الفاتحة أو ليست آية منها، بعد أن اتفقوا على أن وضع البسملة في أول كل سورة عدا سورة براءة توقيفي بأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبعد أن أجمع الصحابة رضي الله عنهم على وضع بسم الله الرحمن الرحيم في جميع المصاحف العثمانية في أوائل السور عدا براءة، بعد هذا وقع الخلاف في احتسابها آية من كل سورة على أقوال أشهرها أربعة هي:
الأول: أن البسملة آية كاملة في أول سورة الفاتحة وأول كل سورة من سور القرآن الكريم عدا براءة وهذا مذهب فقهاء مكة والكوفة وقرائهما، إليه ذهب عبد الله بن المبارك والإمام الشافعي، وقد جزم بأنها آية في أول سورة الفاتحة، وأما في غيرها فقد روي عنه ثلاثة أقوال:
الأول: أنها بعض آية.
الثاني: أنها ليست من القرآن الكريم.
الثالث: أنها آية كاملة. وهذا هو صحيح مذهبه.
الثاني: أنها آية منفردة وضعت في أول كل سورة من القرآن -الفاتحة وغيرها- عدا براءة ولا تعد ضمن آيات كل سورة وهذا مروي عن داود الظاهري وأحمد بن حنبل، وذهب إليه بعض فقهاء المذهب الحنفي منهم أبو بكر الرازي.
الثالث: أنها آية من الفاتحة وليست قرآنًا في غيرها من السور، وهذا مذهب سفيان الثوري وإسحاق والزهري وأبي عبيد وبعض فقهاء مكة والكوفة وأكثر أهل العراق ورواية عن أحمد وأحد الأقوال المنسوبة للشافعي.
الرابع: أنها ليست قرآنًا في فواتح السور وإنما وضعت للفصل بين السور وهو مذهب مالك وأبي حنيفة والأوزاعي ورواية عن أحمد.
ولكل رأي من هذه الآراء الأربعة أدلته المبسوطة في كتب الفقه والتفسير والحديث.
وظاهر من الآراء الثلاثة الأُوَل اتفاقها على أن البسملة آية من القرآن، وأن الرأي الثالث اعتبرها آية من سورة الفاتحة دون غيرها، وهذا الرأي هو المتفق مع إجماع الصحابة رضوان الله عليهم على وضعها في المصحف العثماني على هذا الوجه.
وبعد فقد وضح أن الاختلاف في عدد آيات سورة الفاتحة ليس اختلافًا في تحديد الآيات وإنما أساسه احتساب البسملة آية منها أو عدم احتسابها كغيرها من السور.
الرد على من زعم أن لربط اللفظي بين كلام الله من أوله إلى آخره في حاجة إلى بيان شافٍ
أما عن ارتباط كلام الله تعالى من أوله إلى آخره ربطًا لفظيًّا وأنه مشكل، فالجواب: أن هذا الإشكال كان أولى بإثارته أولئك العرب في وقت نزوله وتلاوته عليهم؛ فقد تحداهم أن يأتوا بحديث مثله أو بعشر سور أو بسورة وهم من بلغوا شأوًا لا يُجَارى ولا يُمَارى.
وقد انفرد القرآن الكريم بالنظم البديع المخالف لكل نظم معهود في لسان العرب وبالأسلوب المخالف لجميع أساليبهم وبالجزالة التي لم تصح من مخلوق، ثم بالربط المحكم في كل آية وكل سورة، فهو متميز عند تلاوته وسماعه عن أي حديث يقرأ أو يسمع من كلام البشر.
وقد شرح كثير من العلماء إعجاز القرآن وارتباط آياته وترابطها، فلتراجع مؤلفاتهم في هذا الصدد، منها على سبيل المثال: "إعجاز القرآن" للباقلاني، و"إعجاز القرآن" لمصطفى صادق الرافعي، و"دلائل الإعجاز" لعبد القاهر الجرجاني.
مسألة الوقوف في القرآن الكريم وعلامات هذه الوقوف ورموزه
أما عن مسألة الوقوف في القرآن وعلامات الوقوف ورموزه وأقسامه فقد أجهد العلماء أنفسهم واجتهدوا في خدمة القرآن وفي وضع علامات الوقوف هذه وتلك الرموز؛ لتسهيل تلاوته تلاوة صحيحة المبنى والمعنى مراعين فيها التفسير الصحيح لمعاني الآيات والعبارات والارتباط بينها في السياق والسباق واللحاق، وفي هذا كتب علماء القراءات في الوقف التام، والوقف الكافي، والوقف الحسن، والوقف الناقص، وما يجوز الابتداء به في التلاوة وما لا يجوز، إلى آخر ما هو مفصل القواعد في كتب القراءات، وهي ميسرة ومطبوعة.
وبعد، فإن القرآن كتاب الله لا يأتيه الباطل، تنزيل من حكيم حميد، تلقاه المسلمون بالقبول جيلًا عن جيل أربعة عشر قرنًا من الزمان، عكف عليه العلماء بالتفسير، وبيان إعجازه في المعنى والمبنى وما حواه من تشريعات، ولما يسبروا غوره أو يصلوا إلى مكنون سره، وما زال يغدق عليهم من فيضه ويمدهم من ثمره، فهو كتاب مفتوح مع الزمان يأخذ كل مسلم منه ما يسر له، وقد وَسِع الفرق الإسلامية على اختلاف مصادرها في الأصول والفروع، واتسع للآراء العلمية على اختلاف وسائلها في القديم والحديث.
وإنا لننصح الأخ المستفسر عن تلك الأمور المتعلقة بكتاب الله أن يعود لدراستها على مهل، وسيجد أن بحوث علمائنا الأُوَل قد أوفت واستوفت وأزالت كل شبهة وأدانت كل من حاد عن الجادة، وما أتينا فيما سطرنا بجديد، ولكنه قبس مما أناروا به الطريق، فعلينا أن نتبع هديهم؛ فقد بذلوا وسعهم وبلغوا شأوهم، وقد أحسن قائلهم في شأن الوقوف في التلاوة: لا ينبغي أن يعتمد في الوقف إلا على ما يرتضيه المتقنون من أهل العربية ويتأوله المحققون من الأئمة، فليس كل ما يتعسفه بعض المعربين أو يتكلفه متكلف من المقرئين أو يتناوله محرف من أهل الأهواء المخطئين يعتمد عليه.
وبعد، فإنا نأمل في وعد الله الحق ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر: 9] صدق الله العظيم، وحفظ هذا الذكر بانتباه المسلمين لهذه الأفكار التي يبثها أعداء القرآن والإسلام والتي يحاولون بها التشكيك في مصدري الإسلام القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، ولكن الله متم نوره وحافظ دينه، فقد هيَّأ له من أرسوا عمده ومكنوا له في النفوس بالعلم والحكمة.
وأخيرًا أنصح السيد المستفسر بالاستماع إلى القرآن الكريم ممن أتقنوا النطق به عربيًّا فصيحًا مقروءًا قراءة صحيحة مروية عن السلف الصالح؛ فإن القراءة الصحيحة تعين على الفهم الصحيح.
هذا، ونسأل الله التوفيق للعمل بكتابه القرآن الكريم وسنة خاتم المرسلين، سبحانه هو الهادي إلى الصراط المستقيم.
والله سبحانه وتعالى أعلم.