ما مدى صحة أحاديث فضل الجيش المصري؛ فبرجاء التكرم بإفادتنا رسميًّا وكتابيًّا عن مدى صحة هذه الأحاديث الشريفة:
1- عن عمرو بن العاص رضي الله عنه: حدثني عمر رضي الله عنه أنَّه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «إذا فتح الله عليكم مصر بعدي فاتخذوا فيها جندًا كثيفًا؛ فذلك الجند خير أجناد الأرض» فقال له أبو بكر: ولم ذلك يا رسول الله؟ قال: «لأنهم في رباط إلى يوم القيامة».
2- «إذا فتح الله عليكم مصر استوصوا بأهلها خيرًا فإنه فيها خير جند الله».
3- «إن جند مصر من خير أجناد الأرض لأنهم وأهلهم في رباط إلى يوم القيامة».
المطلوب: حكم صحة الأحاديث معتمدة من حضرتكم، ومرفق طيه الطلب المقدم منا.. ولكم جزيل الشكر.
صحة أحاديث فضل الجيش المصري
الأحاديث المذكورة في السؤال صحيحة المعاني عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولا مطعن على مضامينها بوجه من الوجوه؛ لأن الأئمة تلقت روايتها بالقبول ولم تردها، ولأنها واردة في الفضائل والأخبار، ولاتفاق المحدثين على أن أحاديث الفضائل يكتفى فيها بأقل شروط القبول في الرواية وتكون عندهم مقبولةً حسنة؛ لأنها لا يترتب عليها شيء من الأحكام، وقد وردت هذه الأحاديث بأكثر ألفاظها في خطبة عمرو بن العاص رضي الله عنه، وهي خطبة ثابتة مقبولة صحيحة بشواهدها، رواها أهل مصر وقبلوها، ولم يتسلط عليها بالإنكار أو التضعيف أحدٌ يُنسَب إلى العلم في قديم الدهر أو حديثه، ولا عبرة بمن يردُّها أو يطعن فيها هوًى أو جهلًا.
التفاصيل ....المحتويات
- صحة أحاديث فضل الجيش المصري
- بيان أن الجند الغربي السالم من الفتن هو الجندي المصري
- بيان فضل مصر
- الخلاصة
صحة أحاديث فضل الجيش المصري
مدار هذه الأحاديث على أن جند مصر هم خير أجناد الأرض؛ لأنهم في رباط إلى يوم القيامة، وعلى الوصية النبوية بأهلها؛ لأن لهم ذمة ورحمًا وصهرًا، وكلُّها معانٍ صحيحة ثابتة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ تتابع على ذكرها وإثباتها أئمة المسلمين ومحدثوهم ومؤرخوهم عبر القرون سلفًا وخلفًا، ولا يقدح في صحتها وثبوتها ضعفُ بعض أسانيدها؛ فإن في أحاديثها الصحيح والحسن والضعيف المنجبر الذي احتج به العلماء، وقد اتفق المؤرخون على إيراد هذه الأحاديث والاحتجاج بها في فضائل مصر من غير نكير.
ويجمع هذه المعاني: ما ذكره سيدُنا عمرو بن العاص رضي الله عنه وما أورده من أحاديث مرفوعة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في خُطبته الشهيرة التي خطب بها أهلَ مصر المحروسة على أعواد منبر مسجده العتيق بفسطاط مصر القديمة، وكان ذلك في أواخر فصل الشتاء، بعد أيام قليلة من (حميم النصارى) وهو خميس العهد عند المسيحيين؛ حيث كان يحض الناس في أواخر شهر مارس أو أوائل شهر أبريل على الخروج للربيع، وكان يخطب بذلك في كل سنة. وقد سمعها منه المصريون وحفظوها، وتداولوها جيلًا بعد جيلٍ، ودونوها في كتبهم ومصنفاتهم، وصدَّروا بها فضائل بلدهم، وذكروا رواتَها في تواريخِ المصريين ورجالِهم كابرًا عن كابرٍ، وأطبقوا على قبولها والاحتجاج بها في فضائل أهل مصر وجندها عبر القرون؛ لا ينكر ذلك منهم مُنكِرٌ، ولا يتسلط على القدح فيها أحدٌ يُنسَبُ إلى علمٍ بحديثٍ أو فقهٍ؛ بل عدُّوها من مآثر خُطَب سيدنا عمرو رضي الله عنه ونفيس حديثه، ولم يطعن فيها طاعن في قديم الدهر أو حديثه.
وقد أسند عمرو بن العاص رضي الله عنه في هذه الخطبة الحديثَ المرفوع في وصية النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأهل مصر خيرًا، عن عُمَر بن الخطاب رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، يقول: «إِنَّ اللهَ سَيَفْتَحُ عَلَيْكُمْ بَعْدِي مِصْرَ، فَاسْتَوْصُوا بِقِبْطِهَا خَيْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مِنْهُمْ صِهْرًا وَذِمَّةً».
وأسند أيضًا الحديثَ المرفوع في فضل جند مصر عن عُمَر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «إِذَا فَتَحَ عَلَيْكُمْ مِصْرَ؛ فَاتَّخِذُوا فِيهَا جُنْدًا كَثِيفًا؛ فَذَلِكَ الْجُنْدُ خَيْرُ أَجْنَادِ الْأَرْضِ»، فقال أبو بكر الصِّدِّيقُ رضي الله عنه: ولِمَ يا رسول الله؟ قال: «لِأَنَّهُمْ وَأَزْوَاجَهُمْ وأبناءَهم فِي رِبَاطٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ».
وقد روى هذه الخطبةَ قاضي مصر الإمامُ الحافظ عبد الله بن لهيعة، ورواها عنه الإمامان الحافظان: أبو نُعيم إسحاق بن الفرات التُّجِيبيُّ، وأبو زكريا يحيى بن عبد الله بن بُكَير المخزومي. فأخرجها مستوفاةً من طريق إسحاقَ بن الفرات عن ابن لهيعة: الإمامُ الحافظ أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم [ت257هـ] في "فتوح مصر والمغرب" (ص: 166-167، ط. مكتبة الثقافة الدينية) فقال: [حدثنا سعيد بن ميسرة، عن إسحاق بن الفرات، عن ابن لهيعة، عن الأسود بن مالك الحميرى، عن بحير بن ذاخر المعافري، قال: رحت أنا ووالدي إلى صلاة الجمعة تهجيرًا، وذلك آخر الشتاء، أظنه بعد حميم النَّصارى بأيام يسيرة، فأطلنا الركوع إذْ أقبل رجال بأيديهم السياط، يزجرون الناس، فذعرت، فقلت: يا أبت، من هؤلاء؟ قال: يا بنيَّ هؤلاء الشُّرَطُ. فأقام المؤذّنون الصلاة، فقام عمرو بن العاص رضي الله عنه على المنبر، فرأيت رجلًا ربعة قصد القامة وافر الهامة، أدعج أبلج، عليه ثياب مَوْشِيَّةٌ كأنَّ به العِقْيَان تأتلق عليه حلَّة وعمامة وجبَّة، فحمد الله وأثنى عليه حمدًا موجزًا وصلَّى على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ووعظ الناس، وأمرهم ونهاهم، فسمعته يحضُّ على الزكاة، وصلة الأرحام، ويأمر بالاقتصاد، وينهى عن الفضول وكثرة العيال. وقال فى ذلك: يا معشر الناس، إيَّاي وخلالًا أربعًا، فإنها تدعو إلى النصب بعد الراحة، وإلى الضيق بعد السعة، وإلى المذلَّة بعد العزَّة؛ إيَّايَ وكثرةَ العيال، وإخفاضَ الحال، وتضييعَ المال، والقيلَ بعد القال، في غير درك ولا نوال، ثم إنه لا بدَّ من فراغ يئول إليه المرء فى توديع جسمه، والتدبير لشأنه، وتخليته بين نفسه وبين شهواتها، ومن صار إلى ذلك فليأخذ بالقصد والنصيب الأقل، ولا يضيع المرء في فراغه نصيب العلم من نفسه فيحور من الخير عاطلًا، وعن حلال الله وحرامه غافلًا.
يا معشر الناس، إنه قد تدلت الجوزاء، وذَكَت الشِّعْرَى، وأقلعت السَّماء، وارتفع الوباء، وقلَّ الندى، وطاب المرعى، ووضعت الحوامل، ودرَّجت السخائل، وعلى الراعي بحسن رعيَّته حسن النظر، فحيَّ لكم على بركة الله إلى ريفكم؛ فنالوا من خيره ولبنه، وخرافه وصيده، وأربعوا خيلكم وأسمنوها وصونوها وأكرموها، فإنَّها جُنَّتكم من عدوكم، وبها مغانمكم وأثقالكم، واستوصوا بمن جاورتموه من القبط خيرًا، وإيَّاي والمشمومات والمعسولات، فإنهنَّ يفسدن الدِّين ويقصِّرن الهمم.
حدثني عمر أمير المؤمنين رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يقول: «إِنَّ اللهَ سَيَفْتَحُ عَلَيْكُمْ بَعْدِي مِصْرَ، فَاسْتَوْصُوا بِقِبْطِهَا خَيْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مِنْهُمْ صِهْرًا وَذِمَّةً»، فعفُّوا أيديكم وفروجكم، وغضُّوا أبصاركم، ولا أعلمنَّ ما أتى رجل قد أسمن جسمه، وأهزل فرسه، واعلموا أني معترض الخيل كاعتراض الرجال، فمن أهزل فرسه من غير علَّة حططتُه من فريضته قدر ذلك، واعلموا أنكم في رباط إلى يوم القيامة، لكثرة الأعداء حوالكم وتشوُّق قلوبهم إليكم وإلى داركم، معدن الزرع والمال والخير الواسع والبركة النامية.
وحدثني عمر أمير المؤمنين رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يقول: «إِذَا فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ مِصْرَ، فَاتَّخِذُوا فِيهَا جُنْدًا كَثِيفًا؛ فَذَلِكَ الْجُنْدُ خَيْرُ أَجْنَادِ الْأَرْضِ» فقال له أبو بكر: ولم يا رسول الله؟ قال: «لِأَنَّهُمْ وَأَزْوَاجَهُمْ فِي رِبَاطٍ إِلَى يَوْمٍ الْقِيَامَةِ».
فاحمدوا الله معشر الناس على ما أولاكم، فتمتَّعوا في ريفكم ما طاب لكم؛ فإذا يبس العود، وسخن العمود، وكثر الذباب، وحمض اللبن، وصوَّح البقل، وانقطع الورد من الشجر، فحيَّ على فسطاطكم، على بركة الله، ولا يقدَمَنَّ أحد منكم ذو عيال على عياله إلا ومعه تحفة لعياله على ما أطاق من سعته أو عسرته، أقول قولي هذا وأستحفظ الله عليكم.
قال: فحفظت ذلك عنه، فقال والدي بعد انصرافنا إلى المنزل لمَّا حكيتُ له خطبته: إنه يا بنيَّ يحدو الناس إذا انصرفوا إليه على الرباط، كما حداهم على الريف والدَّعة] اهـ.
وأخرجها مستوفاةً أيضًا: حافظُ عصره الإمامُ أبو الحسن علي بن عمر الدارقطني [ت385هـ] في "المؤتلف والمختلف" (2/ 1003-1004، ط. دار الغرب الإسلامي) فقال: حدَّثَنا أبو الحسن علي بن أحمد بن الأزرق المعدل، قال: حدثَنا محمد بن موسى بن عيسى الحضْرميُّ، قال: حدثنا أبو محمد وفاء بن سُهَيْل بن عبد الرحمن الكندي سنة ثلاث وستين ومائتين، قال: حدثنا إِسحاق بن الفرات، قال: حدثنا ابن لَهِيعَة، عن الأَسْود بن مالك الحميري، عن بَحِير بن ذَاخِرٍ المَعَافِريِّ، قال: ركبتُ أنا ووالدي إلى صلاة الجمعة. فساقها بتمامها، غير أنه قال في حديثها: «لِأَنَّهُمْ فِي رِبَاطٍ إِلَى يَوْمٍ الْقِيَامَةِ»، ومن طريق الإمام الدارقطني أخرجها الإمامان الحافظان: أبو عبد الله النميري [ت544هـ] في "الإعلام بفضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم والسلام" (ص: 83، ط. دار الكتب العلمية) حيث ساق أولها، وأبو القاسم بن عساكر [ت571هـ] في "تاريخ دمشق" (46/ 162، ط. دار الفكر) حيث ساقها بتمامها.
وأخرجها مختصرةً: الإمام الحافظ أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة الطحاوي الأزدي الحنفي [ت321هـ] في "شرح مشكل الآثار" (8/ 228، ط. مؤسسة الرسالة)؛ فقال: [حدثنا أحمد بن عبد الرحمن بن وهب قال: حدثنا إسحاق بن الفرات قال: حدثنا ابن لهيعة، عن الأسود بن مالك الحميري، عن بحير بن ذاخر المعافري، أنه سمع عمرو بن العاص رضي الله عنه في خطبته يوم الجمعة يقول: يا معشر الناس، إياي وخلالًا أربعًا؛ فإنهن يدعون إلى النصب بعد الراحة، وإلى الضيق بعد السعة، وإلى المذلة بعد العزة: إياك وكثرة العيال، وإخفاض الحال، والتضييع للمال، والقيل بعد القال، في غير درك ولا نوال] اهـ.
وأخرجها مستوفاةً من طريق يحيى بن بُكَير عن ابن لهيعة: الإمامُ المؤرخ أبو محمد الحسن بن إبراهيم بن زولاق الليثي الفقيه [ت387هـ] في "فضائل مصر وأخبارها" (ص: 83، ط. مكتبة الخانجي)؛ فقال: حدثنا علي بن أحمد بن سلامة، قال: حدثني عبد الملك بن يحيى بن بكير قال: حدثني أبي، قال: حدثنا عبد الله بن لهيعة، عن الأسود بن مالك الحميري، عن بحير بن ذاخر المعافري.. فساقها بتمامها، غير أنه قال فيها: «لِأَنَّهُمْ وَأَزْوَاجَهُمْ وَأَبْنَاءَهُمْ فِي رِبَاطٍ إِلَى يَوْمٍ الْقِيَامَةِ».. وقال في آخرها: أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، قال: فحفظتُ ذلك عنه، قال: فقال والدي بعد انصرافنا إلى المنزل لمَّا حكَيْتُ له خطبته: يا بني! إنه يحدو الناس على الرباط كلما انصرفوا، كما حداهم على الريف والدعة. وكان يخطب بها في كل سنة.
وأخرجها الإمام الحافظ المؤرخ أبو سعيد عبد الرحمن بن أحمد بن يونس بن عبد الأعلى الصَّدَفي [ت347هـ] في "تاريخ مصر"؛ حيث عزا إليه العلامة المقريزي في "إمتاع الأسماع" (14/ 185، ط. دار الكتب العلمية) تخريج الحديث المرفوع في فضل جندها، وعزا إليه الحافظ السخاوي في "المقاصد الحسنة" (ص: 610، ط. دار الكتاب العربي) تخريج الحديث المرفوع في الوصية النبوية بأهلها.
وأخرجها مختصرةً: الإمام الحافظُ أبو القاسم بن عساكر في "تاريخ دمشق" (46/ 161)؛ فقال: [أخبرنا أبو القاسم بن السمرقندي، قال: أخبرنا أبو الحسين بن النقور، قال: أخبرنا أبو الحسين محمد بن عبد الله بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن نصر بن طالب قال: حدثنا أبو الوليد عبد الملك بن يحيى بن عبد الله بن بكير المخزومي المصري، قال: حدثنا أبي، عن ابن لهيعة، عن الأسود بن مالك، عن بحير بن ذاخر، قال: رحت مع أبي إلى الجمعة، فأقبل قوم معهم السياط ومعهم رجل قصير القامة عظيم الهامة عليه ثيابُ وَشْيٍ تأْتَلِق، وإذا هو عمرو بن العاص رضي الله عنه، فخطب؛ فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ووعظ موعظة بليغة موجزة، ثم قال: أيها الناس! إيايَ وقيل وقال، في غير درك ولا نوال، وذكر عبد الملك خطبة طويلةً، وذكر فيها قال: وحدثني أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَن لَبِسَ الْحَرِيرَ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَلْبَسْهُ فِي الْآخِرَةِ»، قال: فقال لي أبي: يا بُنَيَّ هذا الأمير عمرو بن العاص رضي الله عنه، قال: فأعدتُ الخطبةَ على أبي فعجب مِن حفظي لها، أو فأُعجِبَ بحفظي] اهـ.
ومدار إسناد هذه الخطبة على الإمام الكبير؛ قاضي مصر وعالمها، ومحدثها وفقيهها، العلامة أبي عبد الرحمن عبد الله بن لَهِيعة بن عقبة الحضرمي [ت174هـ]، وكان من أوعية العلم وبحوره، وهو مقدَّمُ أهل مصر في الحديث والفقه والفتوى مع الإمام الليث بن سعد [ت175هـ] رحمهما الله تعالى، وكانا في الحديث كفرسَيْ رِهانٍ، بل إن ابن لهيعة فاق الليث في كثرة من أدركهم من التابعين؛ فقد كان طَلَّابًا للحديث جمَّاعةً له، وهو صاحبُ حديث المصريين وأعلمُ الناس به، وقد وثَّقه أهل مصر وهم أدرى الناس به، وكان كبار المحدِّثين يتمنَّوْنَ الأخذَ عنه، وروَى عنه جماعةٌ من كبار الأئمة؛ كالإمام الأوزاعي، وسفيان الثوري، وأمير المؤمنين في الحديث شعبة بن الحجاج، وإمام دار الهجرة مالك بن أنس رضي الله عنه، والليث بن سعد، وعبد الله بن المبارك، وعمرو بن الحارث، وراوي "الموطأ" يحيى بن يحيى النيسابوري وغيرهم، ومنهم من لم يكن يروي إلا عن ثقة؛ كشعبة ومالك رحمهما الله تعالى، وروى عنه إمام أهل السنة الإمام أحمد بن حنبل بواسطةٍ، وروى له الشيخان البخاري ومسلم في "صحيحيهما" مقرونًا بغيره، ووثَّقه كثير من المحدِّثين، وضعَّفه بعضهم.
والذي عليه التحقيق: أن رواياته مقبولة وأن حديثه حسنٌ أو صحيحٌ، وأن الضعف في بعض رواياته إنما أتى مِن جهة مَن روى عنه لا مِن قِبَله هو، ولو ادُّعِيَ أن بعض المحدثين أطلق القول بتضعيفه فهذا معارَضٌ بتوثيق كبار الأئمة له وروايتهم عنه: فكان ابن لهيعة مشتغلًا بحديث المصريين وكل من ورد على مصر؛ حتى كان يقول: كانت لي خريطة أضع فيها القراطيس والدواة والحبر، وأدور على القبائل والمساجد؛ أسأل رجلًا رجلًا: ممن سمعتَ؟ ومَن لَقِيتَ؟ اهـ. أسنده المنتجالي في "تاريخه" عن قتيبة بن سعيد عن ابن لهيعة، ونقله الحافظ مغلطاي في "إكمال تهذيب الكمال" (8/ 148، ط. الفاروق الحديثة).
وقال رَوْحُ بن صلاح: لقي ابن لهيعة اثنين وسبعين تابعيًّا، ولقي الليث بن سعد اثني عشر تابعيًّا خرَّجه الحافظ ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (32/ 141).
وقيل لأحمد بن صالح: أيما أحب إليك: حديث ابن لهيعة الذي رواه الثقات، أو حديث يحيى بن أيوب؟ فقال: كان يحيى حافظًا وفي بعض أحاديثه شيء، وحديث ابن لهيعة أصح. فقيل له: فحديث الليث وابن لهيعة؟ فقال: ابن لهيعة رَاوِيةُ المصريين، وأي شيء عند الليث من حديث مصر؟ كان ابن لهيعة من الثقات، إذا لقن شيئًا يحدثه. اهـ. نقلًا عن "إكمال تهذيب الكمال" (8/ 144).
وعن قتيبة بن سعيد قال: حضرتُ موتَ ابنِ لهيعة فسمعت الليثَ يقول: ما خلَّف مثلَه، خرَّجه ابن حبان في "المجروحين" (2/ 12، ط. دار الوعي).
وعن إمام أهل العلل والجرح والتعديل الإمام الحافظ علي بن المديني أنه قال: رجلان هما صاحبا حديث أهل بلدهما: إسماعيل بن عياش، وعبد الله بن لهيعة، خرَّجه الخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد" (7/ 186، ط. دار الغرب الإسلامي).
وروى الإمام النسائيُّ، عن الإمام أبي داود، عن الإمام أحمد بن حنبل قال: مَن كان بمصر يشبه ابنَ لهيعة في ضبط الحديث وكثرته وإتقانه! ما كان محدثُ مصرَ إلا ابنَ لَهِيعة. خرَّجه الحافظ ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (32/ 145)، وروى نحوَه أبو عُبيد الآجريُّ في "سؤالاته" عن الإمام أبي داود (2/ 175، ط. مؤسسة الريان)، وزاد: وحدَّث عنه أحمد بحديث كثير. اهـ.
وقد روى عنه الإمام أحمد في "المسند" أكثر من سبعمائة حديث. وخرَّج ابن حبان في "المجروحين" (2/ 12) عن إبراهيم بن إسحاق قاضي مصر قال: [أنا حملت رسالة الليث بن سعد إلى مالك بن أنس، فجعل مالك يسألني عن ابن لهيعة وأُخبِرُه بحاله، فجعل يقول: فابن لهيعة ليس يذكر الحج؟ فيسبق إلى قلبي أنه يريد مشافهته والسماع منه] اهـ.
وقال الحافظُ البيهقي -كما في "النفح الشذي" للحافظ العراقي (2/ 853، ط. دار العاصمة)-: [كان مالكٌ يُحَسِّنُ القولَ في ابن لهيعة] اهـ. وكذا قال الإمامُ السهيلي في "الروض الأنف" (2/ 286، ط. دار إحياء التراث العربي).
وقد روى الإمام مالك عن ابن لهيعة ووثقه؛ فإنه روى في "الموطأ" حديثين عن (الثقة)، وصرح باسمه فيهما خارج "الموطأ": فأما الحديث الأول: فأخرجه الإمام مالك في "الموطأ" عن الثقة عنده، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده رضي الله عنه: "أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلى الله عَلَيهِ وَآلِهِ وَسَلمَ نَهَى عَنْ بَيْعِ الْعُرْبَانِ". قال الحافظ ابن عدي في "الكامل" بعد أن أخرجه من طريق أبي مصعب الزهري عن مالك (5/ 252): [هكذا ذكره أبو مصعب عن مالك عن الثقة عن عَمْرو بن شُعَيب، وبعض أصحاب الموطأ يذكرون عن مالك قال: بلغني عن عَمْرو بن شُعَيب، ويقال: إن مالكًا سمع هذا الحديث من ابن لَهِيعَة عَنْ عَمْرو بْنِ شُعَيب، ولم يُسمِّه لضعفه، والحديثُ عن ابن لَهِيعَة عَنْ عَمْرو بْنِ شُعَيب مشهورٌ] اهـ.
وقال الحافظ ابن عبد البر في "الاستذكار" (6/ 263، ط. دار الكتب العلمية): [هكذا قال يحيى في هذا الحديث: عن مالك عن الثقة عنده عن عمرو بن شعيب، وقال ذلك جماعة من رواة "الموطأ" معه. وأما القعنبي والتنيسي وابن بكير وغيرهم فقالوا فيه: عن مالك أنه بلغه أن عمرو بن شعيب، والمعنى فيه عندي سواء؛ لأنه كان لا يروي إلا عن ثقة. وقد تكلم الناس في الثقة عند مالك في هذا الموضع، وأشبه ما قيل فيه: أنه ابن لهيعة والله أعلم؛ لأن هذا الحديث أكثر ما يعرف عند ابن لهيعة عن عمرو بن شعيب] اهـ.
وقال الإمام البيهقي في "السنن الكبرى" (5/ 559، ط. دار الكتب العلمية): [ويقال: إن مالكًا سمع هذا الحديث من ابن لهيعة، عن عمرو بن شعيب. والحديث عن ابن لهيعة عن عمرو بن شعيب مشهور] اهـ.
وقد صرَّح الإمام مالك في هذا الحديث بالرواية عن ابن لهيعة؛ وذلك من طريقين عنه: من طريق عبد الله بن وهب، عن مالك؛ فيما أخرجه الحافظ ابن عبد البر في "التمهيد" (24/ 177، ط. وزارة الأوقاف المغربية). ومن طريق محمد بن معاوية النيسابوري؛ فيما أخرجه الحافظ أبو أحمد الحاكم [ت378هـ] في "عوالي مالك" (1/ 189، ط. دار الغرب الإسلامي)، والإمام أبو موسى المديني [ت581هـ] في "اللطائف من علوم المعارف" (ص: 282، ط. مخطوط).
وأما الحديث الثاني: فأخرجه الإمام مالك في "الموطأ" أيضًا: عن الثقة عنده، عن بكير بن عبد الله بن الأشج، عن عبد الرحمن بن الحُبَاب الأنصاري، عن أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهى أن يُشرَب التمرُ والزبيبُ جميعًا، والزهوُ والرُّطَبُ جميعًا.
قال الحافظ ابن عبد البر في "التمهيد" (24/ 205): [هكذا روى هذا الحديثَ عامةُ رُواةِ "الموطأ" كما رواه يحيى، وممن رواه هكذا: ابنُ عبد الحكم، والقعنبيُّ، وعبد الله بن يوسف، وابن بكير، وأبو المصعب، وجماعتهم. ورواه الوليد بن مسلم عن مالك عن ابن لهيعة عن بكير بن الأشج.. ثم ساقه من طريقه] اهـ. وكذا أسنده الحافظ أبو القاسم المهرواني [ت468هـ] -فيما خرجه الحافظ الخطيب البغدادي في "المهروانيات" (2/ 553-554، ط. الجامعة الإسلامية)- من طريق الوليد بن مسلم عن الإمام مالك مصرحًا فيه بالرواية عن ابن لهيعة.
وتوثيق ابن لهيعة هو الذي اعتمده المالكية عن الإمام مالك رضي الله عنه؛ قال العلامة الحطاب المالكي في "مواهب الجليل" (1/ 195، ط. دار الفكر): [ابن حارث عن ابن وهب: رجع مالك عن إنكاره لوجوبه لما أخبرته بحديث ابن لهيعة: "كَانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ يُخَلِّلُهُمَا فِي وُضُوئِهِ" انتهى -يعني: الأصابع- وفيما ذكره ابن وهب دليل على الاحتجاج بحديث ابن لهيعة] اهـ.
بل هذا هو الذي اعتمده أرباب المذاهب الفقهية المتبوعة، حتى قال الحافظ أبو محمد بن حزم في "الإحكام في أصول الأحكام" (4/ 220، ط. دار الآفاق الجديدة): [ولا أحصي كم وجدتُ للحنفيين والمالكيين والشافعيين تصحيحَ روايةِ ابن لهيعة] اهـ.
وقال الحافظ ابن عدي في "الكامل في ضعفاء الرجال" (5/ 251، ط. الكتب العلمية) مؤكِّدًا سماع الإمام مالك، وغيره من الأئمة؛ كشعبة، والثوري، والليث، من ابن لهيعة: [حديثه أحاديث حسان، وما قد ضعفه السلف هو حسن الحديث يكتب حديثه، وقد حدث عنه الثقات: الثوري، وشعبة، ومالك، وعمرو بن الحارث، والليث بن سعد] اهـ.
ومن المقرر أن الإمام مالكًا لم يكن يروي إلا عن ثقة، وكذا شعبة؛ قال الإمام علي بن المديني: قال سمعت سفيان بن عيينة يقول: ما كان أشدَّ انتقادَ مالك للرجال وأعلمَه بشأنهم، خرَّجه ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" (1/ 23، ط. دائرة المعارف العثمانية)، وخرَّجه أبو نعيم في "الحلية" (6/ 322، ط. دار الفكر) عن علي بن المديني قال: حدثنا سفيان قال: كان مالك ينتقي الرجال ولا يحدث عن كل أحد، قال علي: ومالكٌ أمانٌ فيمن حدَّث عنه من الرجال؛ كان مالكٌ يقول: لا يُؤخَذ العلم إلا عن من يَعرِف ما يقول، وقال الإمام أحمد بن حنبل: كان شعبةُ أمةً وحدَه في هذا الشأن؛ يعني في الرجال، وبصره بالحديث، وتَثَبُّتِه، وتَنْقِيَتِه للرجال، رواه عنه ابنه عبد الله في "العلل" (2/ 539، ط. دار الخاني)، وقال الإمام الزركشي في "النكت على مقدمة ابن الصلاح" (3/ 370-371، ط. أضواء السلف): [الذي عادته لا يروي إلا عن ثقة ثلاثة: يحيى بن سعيد، وشعبة، ومالك. قاله ابن عبد البر وغيره، وقال النسائي: ليس أحدٌ بعدَ التابعين آمَنَ على الحديث مِن هؤلاء الثلاثة، ولا أقل رواية عن الضعفاء منهم] اهـ.
وأخرج الحافظ ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (32/ 143، ط. دار الفكر) عن الإمام سفيان الثوري أمير المؤمنين في الحديث أنه قال: [عند ابن لهيعة الأصول، وعندنا الفروع] اهـ. وقال: [حججتُ حِجَجًا؛ لِأَلْقى ابنَ لهيعة] اهـ.
وأخرج الحافظ ابن عساكر أيضًا في "تاريخ دمشق" (32/ 143) عن الإمام الحافظ عبد الرحمن بن مهدي أنه قال: [ودِدت أني سمعتُ من ابن لهيعة خمسمائة حديث، وأني غرمتُ مؤدًّى] اهـ. أيْ: قدرَ دِية.
والإمام ابن لهيعة قد وثَّقه المصريون وحمِدوا روايته، ودفعوا دعوى اختلاطه، وصرَّحوا بأن الضعف إنما هو ممن روى عنه لا منه؛ كابن وهب، ويحيى بن حسان، والنضر بن عبد الجبار، وعثمان بن صالح، وسعيد بن أبي مريم، وأحمد بن صالح، وهم من كبار محدِّثي مصر وثقاتهم. وهؤلاء هم أهل بلده، وقد تقرر عند المحدثين والمؤرخين أن أهل بلد الراوي أعلمُ الناس به، قال حماد بن زيد: بلَدِيُّ الرجل أعرف بالرجل، أخرجه الخطيب في "الكفاية" (1/ 275، ط. دار ابن الجوزي):
فأخرج ابن عدي في "الكامل" (5/ 239) عن أبي الطاهر أحمد بن السَّرح قال: سَمعتُ ابن وهب (وهو الإمام عبد الله بن وهب [ت197هـ] تلميذ الإمام مالك) يقول، وسأله رجل عن حديث فحدثه به، فقال له الرجل: من حدثك بهذا يا أبا محمد؟ قال: حدثني به والله الصادق البار عبد الله بن لهيعة، زاد المزي في "تهذيب الكمال" (15/ 495، ط. مؤسسة الرسالة): [قال أبو الطاهر: وما سمعتُه يحلف بمثل هذا قط] اهـ.
وقال الإمام يحيى بن حسَّان [ت208هـ]: ما رأيت أحفظ من ابن لهيعة بعد هُشَيْم، فقال له ابنُه: إن الناس يقولون: احترق كتبُ ابن لهيعة، فقال: ما غاب له كتابٌ، خرَّجه ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" (5/ 148).
وقال أبو الأسود النضر بن عبد الجبار [ت219هـ]: كنا نرى أنه لم يَفُتْهُ من حديث مصرَ كبيرُ شيء، أخرجه ابن عدي في "الكامل" (5/ 237).
وقال ابن معين في "تاريخه" -رواية ابن محرز- (1/ 101، ط. مجمع اللغة العربية): [قال أبو الأسود النضر بن عبد الجبار المصري وكان ثقة: ما اختلط ابن لهيعة قط حتى مات] اهـ.
وهذا عثمان بن صالح السهمي [ت219هـ] يسأله ابنه يحيى: متى احترقت دار ابن لهيعة؟ فقال: في سنة سبعين ومائة ، قلت: واحترقت كتبه كما تزعم العامة؟ فقال: معاذ الله، ما كتبتُ كتابَ عمارة بن غزية إلا مِن أصل كتاب ابن لهيعة بعد احتراق داره، غير أن بعض ما كان يقرأ منه احترق وبقيت أصول كتبه بحالها، أخرجه العقيلي في "الضعفاء الكبير" (2/ 293، ط. دار المكتبة العلمية).
وقال سعيد بن أبي مريم الجُمَحي [ت224هـ]: لم تحترق كتب ابن لهيعة، ولا كتاب، إنما أرادوا أن يرققوا عليه أمير مصر، فأرسل إليه أمير مصر بخمسمائة دينار، خرَّجه الآجري في "سؤالاته للإمام أبي داود" (2/ 175).
وقال الحافظ أبو جعفر أحمد بن صالح المصري [ت248هـ]: [كان ابن لهيعة طَلَّابًا للعلم صحيحَ الكتاب، وكان أملى عليهم حديثه مِن كتابه قديمًا، فكتب عنه قوم يعقلون الحديث وآخرون لا يضبطون، وقوم حضروا فلم يكتبوا وكتبوا بعد سماعهم، فوقع علمه على هذا إلى الناس، ثم لم تخرج كتبه وكان يقرأ من كتب الناس، فوقع في حديثه إلى الناس على هذا، فمن كتب بأخرة من كتاب صحيح قرأ عليه على الصحة، ومَن كَتَبَ مِن كتابِ مَن كان لا يضبط ولا يصحح كتابه وقع عنده على فساد الأصل] اهـ. خرَّجه الفسوي في "المعرفة والتاريخ" (2/ 184، ط. مؤسسة الرسالة).
ونقل الحافظ أبو حفص عمر بن شاهين [ت385هـ] في "المختلف فيهم" (ص: 47، ط. مكتبة الرشد): [عن أحمد بن صالح أنه سئل عن ابن لهيعة، فقال: ثقة، قيل له: فيما روى الثقات عن ابن لهيعة، ووقع فيها تخليط، ترى أن نطرح ذلك التخليط؟ قال: ثقة، ورفع بابن لهيعة. ثم قال الحافظ ابن شاهين: والقولُ في ابن لهيعة عندي قولُ أحمد بن صالح؛ لأنه من بلده ومن أعرف الناس به وبأشكاله من المصريين، وقد حدَّث شعبة بن الحجاج عن ابن لهيعة] اهـ.
وفي "تاريخ يحيى بن معين" (ص: 97، ط. دار المأمون) أنه سُئِل عن ابن لهيعة؛ فقيل له: [فهذا الذي يحكي الناسُ أنه احترقت كتبه؟ قال: ليس لهذا أصلٌ؛ سألت عنها بمصر] اهـ. وأخرج ابن عساكر (32/ 147) [عن أبي أمية، عن أبيه، قال: قال أبو زكريا: أنكر أهل مصر احتراق كتب ابن لهيعة، والسماع منه واحد القديم والحديث زاد الدورقي: إلى آخره] اهـ.
وقال الإمام ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (7/ 516، ط. دار صادر): [وأما أهل مصر فيذكرون أنه لم يختلط، ولم يزل أول أمره وآخره واحدًا] اهـ.
وأخرج ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (32/ 144) [عن خالد بن خِداش قال: قال لي ابن وهب، ورآني لا أكتب حديث ابن لهيعة: إني لست كغيري في ابن لهيعة فاكتبها] اهـ.
ومما يدل على صحة رواية ابن لهيعة وأن الضعف إنما هو من جهة الرواة عنه: ما أخرجه ابن عساكر (32/ 147) عن إبراهيم بن الجنيد قال: قال لي يحيى بن معين: قال لي أهل مصر: ما احترق لابن لهيعة كتاب قط، وما زال ابن وهب يكتب عنه حتى مات. اهـ.
وهذا يدل على استواء أمره طيلة حياته وأن المعوَّل في قبول روايته على صحة الرواية عنه؛ فإنه لا نزاع بين المحدِّثين في قبول رواية عبد الله بن وهب عن ابن لهيعة، وابن وهب لم يزل يكتب عن ابن لهيعة حتى مات، ولم يَرِدْ أنه ترك الرواية عنه في وقت من الأوقات، وهذا ما قرره الحافظ ابن عدي في "الكامل" (5/ 253)؛ حيث قال فيه: [حديثه حسن؛ كأنه يسْتَبان عمَّن روى عنه، وهو ممن يُكتب حديثُه] اهـ.
والتحقيق الذي عليه جماهير المحدِّثين ومحققوهم قديمًا وحديثًا: أن حديثه صحيح أو حسن إذا لم يكن الراوي عنه ضعيفًا. ولقد صحح جماعات من كبار المحدِّثين قديمًا وحديثًا أحاديث ابن لهيعة، وحسَّنوها؛ منهم: الإمام مالك رضي الله عنه، وتلميذه عبد الله بن وهب، وبَلَدِيُّوه المصريون، والإمام أحمد رضي الله عنه، والإمام الترمذي في "سننه"، والحافظ الدارقطني في "العلل"، و"السنن"، والحافظ أبو سعد الخركوشي في "شرف المصطفى"، وحسَّن له الحافظ الذهبي في "السير" من رواية غير العبادلة عنه، واحتج بحديثه في "التنقيح"، وقوَّى له الحافظ ابن كثير في "البداية والنهاية" أحاديث من غير طريق العبادلة عنه، وحسَّن حديثَه الحافظُ الهيثمي في "مجمع الزوائد" ونقل الاحتجاجَ به وتحسين حديثه عن جماعة من العلماء، والحافظ العيني في "عمدة القاري"، والحافظ السيوطي في "حسن المحاضرة"، والعلامة ابن حجر الهيتمي في "تحفة المحتاج"، وغيرهم كثير.
قال إمام أهل الحديث في عصره الحافظ أبو الحجاج المزي [ت742هـ]: [ابن لهيعة من الأئمة الحفاظ.. وإنما تكلم فيه من تكلم بسبب الرواة عنه؛ فمنهم من هو عدلٌ؛ كابن المبارك ونحوه، ومنهم من هو غير عدل، فإن كان الذي روى عنه عدل فهو جيدٌ، وإلا كان غير عدل فالبلاء ممن أخذه عنه] اهـ. نقلًا عن "النكت على مقدمة ابن الصلاح" للإمام الزركشي (3/ 600).
وصحَّح حديثَه العلامةُ المحدِّث أحمد شاكر؛ فقال في تعليقه على "سنن الترمذي" (1/ 15، ط. مصطفى الحلبي): [وهو ثقة صحيح الحديث، وقد تكلم فيه كثيرون بغير حجة من جهة حفظه، وقد تتبعنا كثيرًا من حديث، وتفهمْنا كلام العلماء فيه، فترجح لدينا أنه صحيح الحديث، وأن ما قد يكون في الرواية في الضعف إنما هو ممن فوقه، أو ممن دونه، وقد يخطئ هو كما يخطئ كل عالم وكل راوٍ] اهـ. وقال في تحقيقه لـ"مسند" الإمام أحمد (1/ 202، ط. دار الحديث): [وهو ثقة تكلموا فيه من قبل حفظه بعد احتراق كتبه، ونحن نرى تصحيح حديثه إذا رواه عنه ثقة حافظ من المعروفين] اهـ.
وخطبة عمرو بن العاص رضي الله عنه: يرويها الإمامُ عبد الله بن لهيعة، عن الأسود بن مالك الحِمْيَرِي، عن بَحِير بن ذاخر المَعَافِري، عن عمرو بن العاص رضي الله عنه. فأمَّا بَحِيرُ بنُ ذَاخِر: فهو التابعي الثقة الجليل أبو علي بَحِيرُ بنُ ذَاخِرِ بنِ عامِر المَعَافِرِيُّ الناشِريُّ المصريُّ، وهو من تابعي أهل مصر؛ كما يقول الإمام أبو حاتم الرازي في "الجرح والتعديل" (2/ 411)، وهو صاحب عمرو بن العاص رضي الله عنه؛ كما يصفه الحافظ ابن حجر في "تبصير المنتبه" (1/ 60، ط. المكتبة العلمية)، ومجالستُه لعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما ثابتةٌ في "فتوح مصر والمغرب" لابن عبد الحكم (ص: 166)، وسماعه منه ثابتٌ في كتاب "الطهور" لأبي عبيد القاسم بن سلام (ص: 300، ط. مكتبة الصحابة). وهو يروي عن جماعة من الصحابة؛ منهم: عمرو بن العاص وابنه عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، ومَسْلَمَةُ بنُ مُخَلَّدِ بنِ الصامتِ الأنصاريُّ الخزرجيُّ رضي الله عنه -وكان سيَّافًا له-، وعُقبةُ بن نافع القرشي رضي الله عنه -وفي صحبته خلاف-، ويروي أيضًا عن عبد العزيز بن مروان بن الحكم؛ كما في "تاريخ ابن يونس" (1/ 58، ط. دار الكتب العلمية)، وكان مِن حَرَسِ عبد العزيز بن مروان؛ كما في ترجمة بَحِيرٍ مِن "التاريخ الكبير" للإمام البخاري (2/ 138، ط. دائرة المعارف العثمانية).
وقد حدَّث عنه جماعة؛ منهم: ابنه عليُّ بن بَحِير، وعبد الله بن لهيعة، والأسود بن مالك؛ كما في "تاريخ ابن يونس" (1/ 58)، وروى عنه غيرُهم أيضًا؛ كما ذكر الحافظ الذهبي في "تاريخ الإسلام" (3/ 211، ط. دار الغرب الإسلامي). وهو ثقة جليل لم يطعن فيه طاعنٌ بجهالة أو جرح؛ فقد وثَّقه الحافظ ابن حبان؛ حيث ذكره في ثقات التابعين من كتابه "الثقات" (4/ 81، ط. دائرة المعارف العثمانية)، ووثَّقه الحافظ ابن قُطْلُوْبَغَا الحنفي [ت879هـ] في كتابه "الثقات" ممن لم يقع في الكتب الستة (3/ 6، ط. مركز النعمان صنعاء).
ومما يدل على ثقة بَحِيرٍ وضبطه وإتقانه: أنه سمع خطبةَ عمرو بن العاص رضي الله عنه مع أبيه ذَاخِرٍ، ثم أعادها عليه كما سمعاها، حتى عجب أبوه من حفظه لها وإتقانه لعباراتها، وهذا من دلائل ضبطه وجودة روايته. ويرويها عن بَحِيرِ بن ذاخرٍ: الأسودُ بنُ مالك الحِمْيَرِيّ، وروايتُه عن بَحِير معروفة؛ فقد ذكره أهل التراجم وأصحاب التواريخ في الرواة عنه؛ كما في "تاريخ ابن يونس" (1/ 58)، وكما في "الإكمال في رفع الارتياب عن المؤتلف والمختلف في الأسماء والكنى والأنساب" للأمير الحافظ ابن ماكولا (1/ 197، 3/ 374، ط. دار الكتب العلمية)، وكما في "تهذيب مستمر الأوهام" له أيضًا (ص: 96، ط. دار الكتب العلمية)، وكما في "تاريخ الإسلام" للحافظ الذهبي (3/ 211)، وكما في "الثقات ممن لم يقع في الكتب الستة" للحافظ ابن قطلوبغا (3/ 6).
والأسود بن مالك وإن لم يُذكَرْ له راوٍ غيرُ ابن لهيعة إلا أنه معروفٌ عند أهل مصر بروايته خطبةَ عمرو بن العاص رضي الله عنه عن بَحِيرِ بن ذاخر المَعَافريِّ، ولا يُعرَف لها راوٍ غيره، وقد أثبت المحدِّثون رواية بَحِيرٍ لهذه الخطبة عن عمرو بن العاص رضي الله عنه، وهذا يدل على إثباتهم وقبولهم روايةَ الأسود لها عنه؛ فإنه لا يرويها عنه غيرُه، ولو كانت رواية الأسود مردودة لَمَا صحَّ جزمُ المُحدِّثين وأصحاب التواريخ والتراجم برواية بَحيرٍ لها:
قال الحافظ أبو سعيد بن يونس [ت347هـ] في "تاريخه" (1/ 58): [بَحِيرُ بنُ ذاخِر بن عامر المعافرىُّ، ثم النَّاشرىُّ: حدث عن عمرو بن العاص، وابنه، ومسلمة بن مخلد، وعقبة بن نافع. حدث عنه: الأسودُ بن مالك الحميرىُّ، وابنُ لهيعة، وكان سيَّافا لمسلمة، وروى أيضًا عن عبد العزيز بن مروان. روى عنه ابنُه علي بن بَحِير بن ذاخر] اهـ. وقال في موضع آخر من "تاريخه" (1/ 212): [سعيد بن ميسرة بن جنادة: يكنى أبا عثمان، كان عالمًا بأخبار مصر، روى عنه عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم خطبةَ عمرو بن العاص رضي الله عنه] اهـ.
ونقله الحافظ ابن ماكولا في "الإكمال" (2/ 154) معتمدًا إيَّاه.
وقال الإمام الحافظ الدارقطني في "المؤتلف والمختلف" (1/ 157): [بَحِير بن ذاخِر، عن عَمْرو بن العاص رضي الله عنه: الخطبة التي خطبها بمصرَ] اهـ. وقال في موضع آخر من "المؤتلف والمختلف" (2/ 1002): [وبَحِير بن ذَاخِر يَرْوي عن عَمْرو بن العاص رضي الله عنه خطبته بالفسطاط] اهـ. ثم أسندها عنه بتمامها كما سبق إيراده.
وقال العلَّامة المتقي الهندي في "كنز العُمَّال" (14/ 168، ط. مؤسسة الرسالة): [لم أرَ للأسود ترجمة، إلا أن ابن حبان ذكر في الثقات أنه يروي عن بحير بن ذاخر، ووثق بحيرًا] اهـ.
فإن قيل: الأسود بن مالك لم يروِ عنه إلَّا واحد، وهذا يقتضي كونه مجهولًا مردود الرواية. فالجواب: أن المحققين من أهل الحديث، في القديم والحديث، قد نَصُّوا على أن رواية الإمام العدل عن المجهول غير المجروح، في مقام الاحتجاج: كافيةٌ في تَقْوِيَتِه وتعديله، كأبي حاتم وأبي زرعة الرازيَّيْن، وابن خزيمة وابن حبان، وهو ظاهر صنيع الشيخين البخاري ومسلم في بعض أحاديث الوحدان، وهو قول الحنفية، وعزاه الإمام النووي في "شرح مسلم" لكثيرين من المحققين، واستظهره الإمام الزركشي وجزم به الحافظُ السخاوي، وغيرهم.
قال الحافظ ابن أبي حاتم [ت327هـ] في "الجرح والتعديل" (2/ 36، ط. الهند): [باب في رواية الثقة عن غير المطعون عليه أنها تُقوِّيه، وعن المطعون عليه أنها لا تُقوِّيه.. سألتُ أبي عن رواية الثقات عن رجل غير ثقة مما يقويه؟ قال: إذا كان معروفًا بالضعف لم تُقَوِّه روايتُه عنه، وإذا كان مجهولًا نفعه روايةُ الثقة عنه.. سألتُ أبا زرعة عن رواية الثقات عن رجل مما يقوى حديثه؟ قال: أي لعمري، قلتُ: الكلبي روى عنه الثوري؟ قال: إنما ذلك إذا لم يتكلم فيه العلماء، وكان الكلبي يُتَكَلَّم فيه] اهـ.
وقال الإمام الزركشي في "النكت على مقدمة ابن الصلاح" (3/ 390): [والظاهر أن رواية إمام ناقل للشريعة عن رجل في مقام الاحتجاج كافٍ في تعريفه وتعديله، وقد سبق أن البزار وابن القطان على أن رواية الجلة عن الشخص تثبت له العدالة] اهـ.
وقال الإمام الحافظ السخاوي في "فتح المغيث" (2/ 47-53): [وقد قبل أهل هذا القسم مطلقًا من العلماء من لم يشترط في الراوي مزيدًا على الإسلام، وعزاه ابن المواق للحنفية.. وهو لازم كل من ذهب إلى أن رواية العدل بمجردها عن الراوي تعديل له، بل عزا النووي في "مقدمة شرح مسلم" لكثيرين من المحققين الاحتجاج به. وكذا ذهب ابن خزيمة إلى أن جهالة العين ترتفع برواية واحد مشهور. وإليه يومئ قول تلميذه ابن حبان.. وبالجملة: فرواية إمام ناقل للشريعة لرجل ممن لم يروِ عنه سوى واحد في مقام الاحتجاج كافية في تعريفه وتعديله] اهـ.
وهذا يقتضي أن روايةَ عالمِ مصر وإمامِها وقاضيها وفقيهِها ومُحدِّثِها؛ عبدِ الله بن لهيعة، عن الأسود بن مالك الحميري، مما يرفع وصف الجهالة أو حكمَها عنه؛ فإن ابن لهيعة هو محدِّثُ مصر، الذي لا يشبهه أحد بها في ضبط الحديث وإتقانه؛ كما يقول الإمام أحمد بن حنبل، ورَاوِيَةُ المصريين؛ كما يقول أحمد بن صالح، وصاحب حديث أهل بلده؛ كما يقول علي بن المديني، والذي عنده الأصول؛ كما يقول سفيان الثوري، والذي ما خلَّف مثلَه؛ كما يقول الليث بن سعد، والصادق البار؛ كما أقسم بذلك عبد الله بن وهب. ومن كان بهذه المثابة فغير مُستَنكَرٍ في حقه ولا بمُسْتَكثَرٍ عليه أن ينفرد في فضائل أهل بلده بما لا يرويه غيره. كما أن الأسود بن مالك من أهل القرون المفضلة؛ فإنه من طبقة أتباع التابعين، والظن الحسن يسبق إليهم فهم أولى الناس به، ومظنة التوثيق فيهم غالبة، بل هي الأصل فيهم؛ لِمَا أخرجه البخاري ومسلم في "صحيحيهما" عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَجِيءُ مِنْ بَعْدِهِمْ قَوْمٌ تَسْبِقُ شَهَادَتُهُمْ أَيْمَانَهُمْ، وَأَيْمَانُهُمْ شَهَادَتَهُمْ».
وقد نص العلماء على أن المجهول من أهل القرون المفضلة جهالة مطلقةً يُستأنَس بروايته ويُستضاءُ بها، فكيف وقد ارتفعت الجهالة عن الأسود برواية ابن لهيعة عنه وقبول العلماء لروايته! قال الحافظ ابن كثير في "الباعث الحثيث" (ص: 97، ط. دار الكتب العلمية): [فأما المُبهَم الذي لم يُسَمَّ، أو مَن سُمِّيَ ولا تُعرَف عينُه: فهذا ممن لا يَقبَلُ روايتَه أحدٌ علمناه. ولكنه إذا كان في عصر التابعين والقرون المشهود لهم بالخير: فإنه يُستَأْنَس بروايته، ويُستَضاءُ بها في مواطن. وقد وقع في مسند الإمام أحمد وغيره من هذا القبيل كثيرٌ. والله أعلم] اهـ.
ونقله الحافظ السخاوي في "الغاية في شرح الهداية في علم الرواية" (ص: 126، ط. مكتبة أولاد الشيخ)، ثم قال عَقِيبَه: [وكذا قال شمس الأئمة من الحنفية، وقلنا المجهول من القرون الثلاثة عدل بتعديل صاحب الشرع إياه، ما لم يتبين منه ما يزيل عدالته فيكون خبره حجة. وهو محكي عن إمامه أبى حنيفة أنه قبله في عصر التابعين خاصة، لغلبة العدالة عليهم] اهـ.
فإذا أضيف إلى ذلك كون هذه الرواية في الفضائل والأخبار فإنها تكون في محل القبول، ولا وجه لردها؛ فإنه من المقرر أنه يُكتفى في أحاديث الفضائل بأقل شرائط القبول في الرواة ليكون الحديث مقبولًا حسنًا، وذلك باتفاق المحدثين؛ لأنه لا يترتب على الفضائل أحكام، فلا أقلَّ من العمل برواية من روى عنه واحد ولم يثبت فيه جرح ولا ما يُترَك حديثُه لأجله، وتلقى الأئمة روايته بالقبول، بل تكون روايته صحيحة؛ لتلقي الأئمة لها بالقبول، على أن الخلاف في قبول من هو أقل من ذلك ممن لم يروِ الأئمة روايته قد جرى فيه احتياطًا لأحكام الدين وأمور الشريعة، والأمر في الفضائل لا يستوجب هذا الاحتياط؛ لعدم ترتُّب الأحكام الشرعية عليها.
فنقل الحافظ السخاوي في "فتح المغيث" (1/ 350) عن الإمام ابن مهدي قولَه: [إذا روينا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحلال والحرام والأحكام شددنا في الأسانيد وانتقدنا في الرجال وإذا روينا في الفضائل والثواب والعقاب سهلنا في الأسانيد وتسامحنا في الرجال] اهـ. وقولَ الإمام أحمد بن حنبل: [الأحاديث الرقائق يحتمل أن يتساهل فيها حتى يجيء شيء فيه حكم] اهـ. وقولَ الحاكم: [سمعت أبا زكريا العنبري يقول: الخبر إذا ورد لم يحرم حلالًا ولم يوجب حكمًا وكان في ترغيب أو ترهيب أغمض عنه وتسوهل في رواته] اهـ.
وقال الحافظ ابن عبد البر في "التمهيد" (6/ 39، ط. وزارة عموم الأوقاف والشئون الإسلامية): [وأحاديث الفضائل لا يحتاج فيها إلى ما يحتج به] اهـ.
وهذا الصنيع من المُحَدِّثين في سياقتهم لخطبة عمرو بن العاص رضي الله عنه وجزمهم بروايتها يبين أنهم لم يتعاملوا مع الأسود بن مالك الحميري تعاملهم مع المجهول الذي تُرَدُّ روايتُه، يقتضي أن تفرد الأسود بن مالك بروايتها لا يطعن في ثبوتها: من المقرر عند المحدِّثين أن الراوي إذا كان قليل الحديث كان من السهل عليه ضبط حديثه وإتقان حفظه، إلا أن الأسود بن مالك لم يكن ذا شهرة تجعله محط رحال المحدثين، فيشتهر بينهم وتنطلق ألسنتهم بمدحه والثناء عليه، أو ذمه والحط منه، لذا بقي هذا الراوي دائراً في فلك خاص به، فليس هو بالحافظ المشهور ولا بالضعيف المردود، فيكفي للحكم بتوثيقه أقلُّ مرجِّح لكونه ثقة، وفي كون هذا الراوي معروفًا بخطبة عمرو بن العاص رضي الله عنه، وروى عنه إمام عالم ثقة، ورواها عنه أهل بلده: ترجيحٌ لقبول الرواية. وهذه الخطبة قد قبلها أهل مصر من المحدثين وأصحاب التواريخ والتراجم، ورووها في كتبهم من غير نكير: فمنهم:
الإمام المحدث المؤرخ أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم [ت257هـ] في "فتوح مصر والمغرب" (ص: 166-167)، والإمام الحافظ المؤرخ أبو سعيد عبد الرحمن بن أحمد بن يونس بن عبد الأعلى الصَّدَفي [ت347هـ] في "تاريخ مصر"، والعلامة المؤرخ أبو عمر محمد بن يوسف الكندي [ت بعد 355هـ] في "فضائل مصر المحروسة" (ص: 2)، وحافظُ عصره الإمامُ أبو الحسن علي بن عمر الدارقطني [ت385هـ] في "المؤتلف والمختلف" (2/ 1003-1004)، والإمامُ المؤرخ أبو محمد الحسن بن إبراهيم بن زولاق الليثي الفقيه [ت387هـ] في "فضائل مصر وأخبارها" (ص: 83)، والعلامة شمس الدين أبو عبد الله بن الزيات [ت814هـ] في "الكواكب السيارة في ترتيب الزيارة" (ص: 6، ط. المكتبة الأزهرية للتراث)، والعلامة المؤرخ تقي الدين المقريزي [ت845هـ] في "المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار" (1/ 46، ط. دار الكتب العلمية)، والإمام المؤرخ أبو المحاسن جمال الدين بن تغري بردي [ت874هـ] في "النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة" (1/ 29، ط. دار الكتب المصرية)، والعلامة المؤرخ ابن ظهيرة [ت888هـ] في "الفضائل الباهرة في محاسن مصر والقاهرة" (ص: 76، ط. دار الكتب)، والإمام الحافظ السيوطي [ت911هـ] في "حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة" (1/ 14، 153، ط. دار إحياء الكتب العربية)، والإمام أبو البركات أحمد بن إياس الحنفي [ت930هـ] في "بدائع الزهور في وقائع الدهور" (1/ 6، ط. دار الباز)، والإمام العارف محمد بن أبي السرور البكري [ت1087هـ] في "الروضة المأنوسة في أخبار مصر المحروسة" (ص: 50، ط. مكتبة الثقافة الدينية)، وغيرهم.
وقد التزم جماعة منهم الصحة فيما يذكرونه:
قال العلامة الكندي في "فضائل مصر المحروسة" (ص: 1): [فجمعت ما أمر به من كتب شيوخ المصريين وغيرهم من أهل العلم والخبرة، والبحث والذكاء والفطنة، والتفتيش والرحلة والطلب] اهـ.
وقال العلامة ابن إياس الحنفي في "بدائع الزهور في وقائع الدهور" (1/ 9، ط. مكتبة دار الباز): [انتهى ما أوردناه من الآيات الشريفة، والأحاديث النبوية، في أخبار مصر، ومُعوَّلي في صحة هذه الأحاديث والأخبار، بما أورده الشيخ جلال الدين الأسيوطي في كتابه المسمَّى بـ"حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة"] اهـ.
وقد تقرر عند المحدثين أن قبول العلماء للحديث مما يصححه أو يقوي الاحتجاج به:
قال الإمام العارف أبو طالب المكي [ت386هـ] في كتابه "قوت القلوب في معاملة المحبوب" (1/ 300، ط. دار الكتب العلمية): [وقال بعض العلماء: الحديث وإن كان شهادة فقد وُسِّعَ فيه بحسن الظن كما جُوِّز فيه قبولُ شهادة واحد؛ أي: للضرورة؛ كشهادة القابلة ونحوها، وروينا معناه عن الإمام أحمد بن حنبل رضي لله عنه، والحديث إذا لم ينافه كتاب أو سنَّة -وإن لم يشهدا له- إن لم يخرج تأويلُه عن إجماع الأمة: فإنه يوجب القبول والعمل؛ بقوله صَلَّى الله عليه وآله وسلم: «كَيْفَ وَقَدْ قِيلَ!» والحديث الضعيف عندي آثر من الرأي والقياس، وهذا مذهب الإمام أبي عبد الله أحمد بن حنبل رضي الله عنه. والحديث إذا تداوله عصران، أو رواه القرون الثلاثة، أو دار في العصر الواحد فلم ينكره علماؤه، وكان مشهورًا لا ينكره الطبقةُ من المسلمين: احتُمِلَ ووقع به حجةٌ، وإن كان في سنده قول، إلا ما خالف الكتاب والسنن الصحيحة، أو إجماع الأمة، أو ظهر كذب ناقليه بشهادة الصادقين من الأئمة] اهـ.
وهذه الخطبة هي من عيون الخطب المروية عن سيدنا عمرو بن العاص رضي الله عنه وأحسنها وأنفسها؛ وقد وصفها الشيخ محمد رشيد رضا في مجلة "المنار" (المجلد السابع، ص: 52) بأنها خطبة نفيسة لسيدنا عمرو بن العاص رضي الله عنه وأنها من أحسن أقواله، ثم أكد ما يدل عليه مضمونُها من أفضلية جندها وديمومة رباطهم فقال عَقِيبَ إيرادها: [والوصية من النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعمرو رضي الله عنه بالمرابطة في مصر: تدل على أن هذه البلاد لا تُحفَظ مِن اعتداء الأجانب إلا بالقوة الجندية الدائمة؛ فإنها مقصودة من الفاتحين لخيرها وضعف أهلها] اهـ.
وقد احتج بهذه الخطبة جماعة من العلماء في أحكام الفقه ومعاني الشريعة؛ فمنهم من احتج بها لإثبات أن المراد بالمال المنهي عن إضاعته يشمل الحيوان وغير الحيوان؛ وذلك ردًّا على من فسر النهيَ بخصوصية الحيوان؛ قال الإمام أبو جعفر الطحاوي في "شرح مشكل الآثار" (8/ 228، ط. مؤسسة الرسالة): [تأوله آخرون على خلاف ذلك، وذهبوا إلى أنه النهي عن إضاعة المال الذي جعله الله قيامًا للناس في معايشهم، وفيما لا تستقيم لهم أمورهم إلا به، من الحيوان ومن غير الحيوان. واحتجوا في ذلك بما قد روي عن عمرو بن العاص وعن قيس بن عاصم في هذا المعنى: كما حدثنا أحمد بن عبد الرحمن بن وهب قال: حدثنا إسحاق بن الفرات قال: حدثنا ابن لهيعة، عن الأسود بن مالك الحميري، عن بحير بن ذاخر المعافري، أنه سمع عمرو بن العاص رضي الله عنه في خطبته يوم الجمعة يقول: يا معشر الناس، إياي وخلالًا أربعًا؛ فإنهن يدعون إلى النصب بعد الراحة، وإلى الضيق بعد السعة، وإلى المذلة بعد العزة: إياك وكثرة العيال، وإخفاض الحال، والتضييع للمال، والقيل بعد القال، في غير درك ولا نوال] اهـ.
وقال الحافظ ابن عبد البر في "التمهيد" (21/ 293، ط. وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية) في هذا المعرِض: [القول الثاني: إضاعة المال بترك إصلاحه والنظر فيه وكسبه، واحتج من قال هذا بقول قيس بن عاصم لبنيه حين حضرته الوفاة: يا بني عليكم بالمال واصطناعه؛ فإن فيه منبهة للكريم ويستغنى به عن اللئيم ، وبقَوْل عمرو بن العاص رضي الله عنه في خطبته؛ حيث قال: يا معشر الناس إياي وخلالًا أربعًا؛ فإنها تدعو إلى النصب بعد الراحة، وإلى الضيق بعد السعة، وإلى المذلة بعد العز: إياي وكثرة العيال، وإخفاض الجلال، والتضييع للمال، والقيل والقال في غير درك ولا نوال] اهـ. ونحوه في "الاستذكار" (8/ 580، ط. دار الكتب العلمية).
كما أخرج الحافظ النميري هذه الخطبة في جملة أحاديث اشترط فيها القبول والخلو من النكارة والسقوط عن مرتبة العدالة؛ وذلك في كتابه "الإعلام بفضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم والسلام"، كما سبق تخريجه؛ فقد قال في مقدمة كتابه هذا سَرْدًا وبيانًا لما اشترطه على نفسه فيما أورده فيه من أحاديث: [ولم أعدل عما صح إسناده، وكثر في كتب الأئمة تكراره وترداده، وعما اشتهر نقلته بالستر والسلامة، وإن لم يبلغوا درجة أهل الاتفاق والإمامة، وعما حملته الجهابذة وحملوه، وإن تركوا بعض نقلته وغمزوه، ولم أعرج على من بانت نكرته، وسقطت عن مرتبة العدالة أصلًا نقلته] اهـ.
ولو كان إسنادها باطلًا أو ضعيفًا لما أوردوها في مقام الاحتجاج، ولما انتهضت لديهم حجيتها. ولقد أوردها الحافظ ابن عبد البر بصيغة الجزم في كتابَيْه "التمهيد" و"الاستذكار"، وهذا يدل على صحة نسبتها إلى عمرو بن العاص رضي الله عنه. ثم إنَّ الحديث المذكور يشهد له من الكلام النبوي الشريف وسائر الأحاديث ما يرجح صحته وقوته:
فمن ذلك ما رواه أبو يعلى في "مسنده" (3/ 51، رقم 1473، ط. دار المأمون للتراث)، وعنه ابن حبان في "صحيحه" (15/ 69، رقم 6677، ط. مؤسسة الرسالة)، وابن عبد الحكم في "فتوح مصر" (ص: 22، ط. مكتبة الثقافة الدينية) من طُرقٍ عن أَبي هانئٍ حميد بن هانئٍ الخَوْلاني، أنه سمع أبا عبد الرحمن الحُبُلِيَّ؛ وهو عبدُ الله بن يزيد، وعمْرَو بن حُرَيْث، وغيرَهما يقولون: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إِنَّكُمْ سَتَقْدُمُونَ عَلَى قَوْمٍ، جُعْدٌ رُءُوسُهُمْ، فَاسْتَوْصُوا بِهِمْ خَيْرًا، فَإِنَّهُمْ قُوَّةٌ لَكُمْ، وَبَلاغٌ إِلَى عَدُوِّكُمْ بِإِذْنِ اللهِ» يعني: قبط مصر، وسنده صحيح على شرط مسلم. قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في "المطالب العالية" (17/ 152، ط. دار العاصمة): [رواه ابن حبان في "صحيحه" عن أبي يعلى، وأبو عبد الرحمن –يعني الحبلي– تابعيٌّ بلا ريب، وعمرو بن حريث ليس هو المخزومي، بل هو آخر مختلف في صحبته] اهـ. وقال في "الإصابة في تمييز الصحابة" (4/ 511، ط. دار الكتب العلمية) بعد ذكر حديث آخر: [مقتضاه أن يكون لعمرو صحبة. وقد أنكر ذلك البخاري، فقال: عمرو بن حريث روى عنه حميد بن هانئ مرسلًا. وقال: روى ابن وهب بإسناده إلى عمرو بن حريث، سمع أبا هريرة.. وقال ابن صاعد: عمرو هذا من أهل مصر ليست له صحبة، وهو غير المخزومي] اهـ. وقال الحافظ الهيثمي في "مجمع الزوائد" (10/ 64، ط. مكتبة القدسي): [رجاله رجال الصحيح] اهـ.
ومن الشواهد أيضًا ما أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير" (23/ 265 رقم 561، ط. مكتبة ابن تيمية) عن أم المؤمنين أم سلَمة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أوصى عند وفاته، فقال: «اللهَ اللهَ فِي قِبْطِ مِصْرَ، فَإِنَّكُمْ سَتَظْهَرُونَ عَلَيْهِمْ، وَيَكُونُونَ لَكُمْ عِدَّةً، وَأَعْوَانًا فِي سَبِيلِ اللهِ». قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (10/ 63، ط. مكتبة القدسي): [رجاله رجال الصحيح] اهـ.
وأخرجه ابن عبد الحكم في "فتوح مصر والمغرب" (ص: 21-22) عن أبي سلمة بن عبد الرحمن مرفوعًا. وأخرج ابن عبد الحكم في "فتوح مصر والمغرب" (ص: 21) عن مسلم بن يسار، أن رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم قال: «اسْتَوْصُوا بِالْقِبْطِ خَيْرًا، فَإِنَّكُمْ سَتَجدُونَهُمْ نِعْمَ الْأَعْوَانُ عَلَى قِتَالِ عَدُوِّكُمْ». وهذا الحديث أخرجه ابن عبد الحكم، فقال: حدثنا أبي، حدثنا إسماعيل بن عيَّاش، عن عبد الرحمن بن زياد، عن مسلم بن يسار، أن رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم، قال: .. وذكر الحديث. وإسناده حسن؛ فيه عبد الرحمن، وهو ابن زياد بن أَنْعُم بن منبه الشعباني الإفريقي، قاضي إفريقية، قال ابن معين في "تاريخه" (رواية الدوري) (4/ 421 رقم 5075، ط. مركز البحث العلمي وإحياء التراث الإسلامي): [ليس به بأس، وفيه ضعف] اهـ. وقال مرة؛ كما أخرج الخطيب في "تاريخ بغداد" (11/ 475، ط. دار الغرب الإسلامي): [هو ضعيف، ويكتب حديثه، وإنما أنكر عليه الأحاديث الغرائب التي كان يجيء بها] اهـ.
وأخرج ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" (5/ 235، ط. دار إحياء التراث العربي) قولَ عمرو بن علي الفلاس: [مليح الحديث، ليس مثل غيره في الضعف] اهـ. وقال البخاري في "الضعفاء الصغير" (ص 84 رقم 213، ط. مكتبة ابن عباس): [حدثنا المقري، عن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم، في حديثه بعض المناكير] اهـ. وقال الترمذي في "سننه" (1/ 273، ط. دار الغرب الإسلامي): [رأيت محمد بن إسماعيل يقوي أمره، ويقول: هو مقارب الحديث] اهـ. وقال في "علل الترمذي الكبير" (ص 38 رقم 29، ط. عالم الكتب): [رأيت محمدًا –أيْ: البخاري- يثني على الإفريقي خيرًا ويقوي أمره، يعني: عبد الرحمن بن زياد] اهـ. ونقل الحافظ ابن حجر في "تهذيب التهذيب" (6/ 176، ط. مطبعة دائرة المعارف النظامية) قولَ الحربي: [غيره أوثق منه] اهـ.
وقال أبو العرب الإفريقي في "طبقات علماء إفريقية" (ص 27، ط. دار الكتاب اللبناني): [سمع من جلة التابعين، وكان قد ولي قضاء إفريقية، وكان عدلًا، صلبًا في قضائه، وأنكروا عليه أحاديث] اهـ.
ونقل الحافظ ابن حجر في "تهذيب التهذيب" (6/ 176، ط. مطبعة دائرة المعارف النظامية) قول أبي الحسن بن القطان: [كان من أهل العلم والزهد بلا خلاف بين الناس ومن الناس من يوثقه ويربأ به عن حضيض رد الرواية، والحق فيه أنه ضعيف لكثرة روايته المنكرات وهو أمر يعتري الصالحين] اهـ. توفي سنة 156هـ. وأخرج له من أصحاب الصحاح: أبو داود، والترمذي، وابن ماجه، كما أخرج له أحمد في "مسنده"، والبخاري في "الأدب المفرد"، وابن حبان في "صحيحه"، وغيرهم. وقال البزار في "مسنده" (10/ 99، ط. مكتبة العلوم والحكم): [كان من أهل العلم والزهد] اهـ. وقال مرة (16/ 243): [عبد الرحمن بن زياد كان حسن العقل، ولكن وقع على شيوخ مجاهيل فحدث عنهم بأحاديث مناكير فضعف حديثه] اهـ.
واستدرك الحافظ ابن الملقن في "البدر المنير" (3/ 293-294، ط. دار الهجرة للنشر والتوزيع) على من ضعَّفه؛ فقال: [قال يحيى القطان: ثقة. وقال أبو داود: قلت لأحمد بن صالح: يحتج به؟ قال: نعم. قلت: صحيح الكتاب؟ قال: نعم. وقال أحمد بن صالح: ثقة وينكر على من (تكلم) فيه، وقال: من يتكلم فيه (فليس بمقبول) ابن أنعم من الثقات. (وكان) ابن وهب يطريه. وكان الثوري يعظمه. وقال الترمذي: رأيت البخاري (يقوي أمره ويقول) هو مقارب الحديث.. وذكره ابن الجوزي في "ضعفائه" ونقل كلام الأئمة في تضعيفه، وقال في تحقيقه بعد استدلاله به: إن قيل الإفريقي هذا (قال) الدارقطني (فيه): ليس بقوي. قلنا: قد قال يحيى بن معين: لا يسقط حديثه] اهـ. وقال (3/ 408-409): [وثَّقه جماعة.. وقال إسحاق بن راهويه: سمعت يحيى القطان يقول: عبد الرحمن بن زياد ثقة. وهذا خلاف ما نقله الترمذي عنه من تضعيفه له، وقال أبو بكر بن أبي داود: إنما تكلم الناس في عبد الرحمن بن زياد بن أنعم، وضعفوه؛ لأنه روى عن مسلم بن يسار فقيل له: أين رأيت مسلم بن يسار؟! فقال: بإفريقية. فكذبه الناس وضعفوه، وقالوا: ما دخل مسلم بن يسار إفريقية قط! -يعنون: البصري- ولم يعلموا أن مسلم بن يسار آخر يقال له: أبو عثمان الطُّنبُذي، وطُنبُذ بطنٌ من اليمن، وعنه روى، وكان (الإفريقي) رجلًا صالحًا، قال ابن يونس: هو أول مولود ولد في الإسلام بإفريقية. واعترض المنذري على قوله في طُنبُذ (أنها) بطن من اليمن؛ فقال: فيه نظر، وإنما هي قرية من قرى مصر من أعمال البهنسا، وهي بضم الطاء، ثم نون ساكنة، ثم باء مضمومة ثم ذال معجمة مكسورة.. وذكره ابن الجوزي في "ضعفائه" ونقل كلام الأئمة في تضعيفه، وقال في تحقيقه بعد استدلاله به: إن قيل الإفريقي هذا (قال) الدارقطني (فيه): ليس بقوي. قلنا: قد قال يحيى بن معين: لا يسقط حديثه.. وقال الرافعي في "أماليه": الإفريقي هذا غمزه بعضهم في الحديث، ووثقه أحمد بن صالح المصري وآخرون. (قال): وهو قاضي إفريقية، وكان (عابدًا) قوالًا بالحق] اهـ.
وقد حسَّن الحافظ البوصيري الكناني حديثه؛ فقال في "إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة" (6/ 390، ط. دار الوطن للنشر): [هذا إسنادٌ حسن، وعبد الرحمن بن زياد بن أنعم قاضي إفريقية وإن ضعَّفه أحمد بن حنبل والنسائي وابن حبان؛ فقد وثَّقهُ يحيى بن سعيد وأحمد بن صالح، وقال ابن معين: ليس به بأس] اهـ.
ومن المعلوم لدى المحدثين أن قول ابن معين في الراوي: ليس به بأس يعني أنه ثقة؛ كما قال الحافظ النووي في "التقريب والتيسير" (ص 52، ط. دار الكتاب العربي): [وعن يحيى بن معين: إذا قلتُ لا بأس به فهو ثقة] اهـ.
كما حسَّن الحافظ ابن حجر حديثَه في "المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية" (11/ 287، ط. دار العاصمة).
ومن العلماء من حسَّن حديثه –مع التسليم بقول من ضعَّفه-؛ استنادًا إلى وجود شاهدٍ لحديثه؛ كما فعل الحافظ المنذري في "الترغيب والترهيب" (3/ 321، ط. دار الكتب العلمية). وقال الحافظ الهيثمي في "مجمع الزوائد ومنبع الفوائد" (5/ 204، ط. مكتبة القدسي): [وثقه أحمد بن صالح، ورد على من تكلم فيه] اهـ. وقال (8/ 185): [وثقه يحيى القطان وغيره] اهـ. وأما الحافظ الذهبي فقد وصفه في "سير أعلام النبلاء" (6/ 411، ط. مؤسسة الرسالة)؛ فقال: [الإمام، القدوة، شيخ الإسلام، أبو أيوب الشعباني، الإفريقي، قاضي إفريقية، وعالمها، ومحدثها، على سوء في حفظه] اهـ.
على أنه لم يصفه أحدٌ من المتقدمين –كما تبيَّن- بسوء الحفظ.
ووالد ابن عبد الحكم هو: عبد الله بن عبد الحكم بن أعين بن ليث المصري، نقل ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" (5/ 106) قولَ الحافظ أبي زرعة: ثقة، وقول الحافظ أبي حاتم: [صدوق] اهـ. وقال الخليلي في "الإرشاد في معرفة علماء الحديث" (1/ 263، ط. مكتبة الرشد): [ثقة مشهور] اهـ. توفي سنة 214هـ.
وإسماعيل هو ابن عياش بن سليم العنسي الحمصي، إمام حافظ، قال البخاري: إذا حدث عن أهل بلده فصحيح، وإذا حدث عن غيرهم ففيه نظر، وقال يعقوب بن سفيان في "المعرفة والتاريخ" (2/ 424، ط. مؤسسة الرسالة): [تكلم قوم في إسماعيل، وإسماعيل ثقة عدل أعلم الناس بحديث الشام، ولا يدفعه دافع، وأكثر ما تكلموا قالوا: يغرب عن ثقات المدنيين والمكيين] اهـ. ونقل الحافظ ابن حجر في "تهذيب التهذيب" (1/ 323، ط. مطبعة دائرة المعارف النظامية) قولَ يزيد بن هارون: [ما رأيت أحفظ من إسماعيل بن عياش ما أدري ما سفيان الثوري] اهـ. وقولَ أبي بكر بن أبي خيثمة: سئل يحيى بن معين عن إسماعيل بن عياش فقال: [ليس به في أهل الشام بأس والعراقيون يكرهون حديثه] اهـ. وقال الذهبي في "سير أعلام النبلاء" (8/ 312، ط. مؤسسة الرسالة): [الحافظ، الإمام، محدث الشام، بقية الأعلام] اهـ. توفي سنة 181هـ.
ومسلم بن يسار هو أبو عثمان الطُّنبُذي -بضم الطاء وسكون النون وضم الموحدة والذال معجمة؛ كما ضبطه الحافظ ابن حجر في "تبصير المنتبه بتحرير المشتبه" (3/ 871، ط. المكتبة العلمية)-، روى له مسلم في "صحيحه"، قال العجلي في "معرفة الثقات" (504 رقم 1997، ط. دار الباز): [تابعي ثقة] اهـ. وذكره ابن حبان في "الثقات" (5/ 390، ط. دائرة المعارف العثمانية)، وقال في "مشاهير علماء الأمصار" (196 رقم 947، ط. دار الوفاء للطباعة والنشر والتوزيع): [من جلة المصريين] اهـ. وقال الذهبي في "الكاشف" (2/ 261، ط. دار القبلة للثقافة الإسلامية): [ثقة] اهـ. توفي سنة 110هـ. وهذا حديثٌ مرسَلٌ حسن؛ أرسله ثقة من القرون المفضلة.
وأخرج ابن عبد الحكم أيضًا في "فتوح مصر والمغرب" (ص: 22) عن موسى بن أيَّوب الغافقيِّ، عن رجل من الزبد أن رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم مرض، فأغمى عليه ثم أفاق، فقال: «اسْتَوْصُوا بِالْأُدْمِ الْجُعْدِ»، ثم أغمى عليه الثانية ثم أفاق، فقال مثل ذلك، قال: ثم أغمى عليه الثالثة فقال مثل ذلك، فقال القوم: لو سألنا رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم من الأدم الجعد! فأفاق، فسألوه فقال: «قِبْطُ مِصْرَ؛ فَإِنَّهُمْ أَخْوَالٌ وَأَصْهَارٌ، وَهُمْ أَعْوَانُكُمْ عَلَى عَدُوِّكُمْ، وَأَعْوَانُكُمْ عَلَى دِينِكُمْ» قالوا: كيف يكونون أعواننا على ديننا يا رسول الله؟ قال: «يَكْفُونَكُمْ أَعْمَالَ الدُّنْيَا وَتَتَفَرَّغُونَ لِلْعِبَادَةِ؛ فَالرَّاضِي بِمَا يُؤْتَى إِلَيْهِمْ كَالْفَاعِلِ بِهِمْ، وَالْكَارِهُ لِمَا يُؤْتَى إِلَيْهِمْ مِنَ الظُّلْمِ كَالْمُتَنَزِّهِ عَنْهُمْ». وهذا حديث جيِّد الإسناد؛ فموسى بن أيوب الغافقي [ت153هـ] من خيار المصريين؛ كما قال ابن حبان في "مشاهير علماء الأمصار" (ص: 298، ط. دار الوفاء)، وذكره في "الثقات" (7/ 455، ط. دائرة المعارف العثمانية) فقال: [موسى بن أيوب الغافقي من أهل مصر، يروي عن جماعة من التابعين، روى عنه أهل مصر] اهـ. وأخرج الدوري عن ابن معين في "تاريخه" (4/ 429، ط. مركز البحث العلمي وإحياء التراث الإسلامي) عن ابن معين أنه قال فيه: [موسى بن أيوب الغافقي ثقة] اهـ. وقال أحمد بن حنبل: [شيخ روَوْا عنه] اهـ. كما في "سؤالات أبي داود للإمام أحمد" (ص 243 رقم 249، ط. مكتبة العلوم والحكم)، وقال العجلي في "معرفة الثقات" (443 رقم 1654، ط. دار الباز): [مصري، لا بأس به] اهـ. وقال الحافظ الذهبي في "الكاشف" (2/ 302، ط. دار القبلة): [ثقة فقيه] اهـ. وقال في "المغني في الضعفاء" (2/ 682، ط. تحقيق د. نور الدين عتر): [موسى بن أيوب الغافقي عن عمه عن علي: أنكر حديثه ابنُ معين، ووثقه أيضًا] اهـ. وقال الحافظ أبو زرعة العراقي في "تحفة التحصيل في ذكر رواة المراسيل" (ص: 319، ط. مكتبة الرشد): [موسى بن أيوب بن عامر الغافقي روى عن عقبة بن عامر الجهني مرسلًا ذكره في التهذيب] اهـ. وقال الحافظ ابن حجر في "لسان الميزان" (7/ 402، ط. دائرة المعارف النظامية): [وثقه ابن معين وأبو داود] اهـ. روى له أبو داود، والنسائى، وابن ماجه.
وأخرج ابن هشام في "السيرة النبوية" (1/ 6، ط. شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي)، والزبير بن بكار في "المنتخب من كتاب أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم" (ص: 60، ط. مؤسسة الرسالة)، ومن طريق ابن هشام ابنُ عبد الحكم في "فتوح مصر والمغرب" (ص 22، مكتبة الثقافة الدينية) من طريق عبد الله بن وهب، عن ابن لهيعة، عن عمر مولى غُفْرة، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «اللهَ اللهَ فِي أَهْلِ الذِّمَّةِ، أَهْلِ الْمَدَرَةِ السَّوْدَاءِ، السُّحْمِ الْجِعَادِ؛ فَإِنَّ لَهُمْ نَسَبًا وَصِهْرًا»، وهو حديث حسن؛ فإن عمر مولى غُفْرة [المتوفى 145هـ] قال فيه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (5/ 426، ط. دار الكتب العلمية): [كان ثقة كثير الحديث ليس يكاد يسند. وهو يرسل أحاديثه. أو عامتها] اهـ. وأخرج ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" (6/ 119، ط. دار إحياء التراث العربي) عن أحمد بن حنبل: [ليس به بأس ولكن أكثر حديثه مراسيل] اهـ. وقال البخاري في "التاريخ الكبير" (6/ 169، ط. دائرة المعارف العثمانية): [قال عيسى بن يونس: أدرك ابن عباس، رضي الله عنهما] اهـ. وقال العجلي في "معرفة الثقات" (359 رقم 1238، ط. دار الباز): [مدني، ثقة، رجل صالح] اهـ. وقال ابن منده في "فتح الباب في الكنى والألقاب" (210 رقم 1715، ط. مكتبة الكوثر): [حدث عن: أنس بن مالك، ونافع مولى ابن عمر رضي الله عنهما] اهـ. وقال ابن عدي في "الكامل في ضعفاء الرجال" (6/ 69): [عمر مولى غفرة ليس هو بكثير الحديث وقد روى عنه الثقات، وهو ممن يكتب حديثه] اهـ. وقال الحافظ الذهبي في "الكاشف" (2/ 64، ط. دار القبلة للثقافة الإسلامية): [يقال أدرك ابن عباس، سمع أنسًا وابن المسيب] اهـ. روى له أبو داود، والترمذي.
وبناءً على ذلك فإن أمْرَ عمر مولى غُفْرة ليس ببعيد عن الدرجة العليا من التوثيق؛ فهو حسن الحديث ما دام لم يخالف غيره؛ إذ هو مقبولٌ غير متهم بكذب ولا في بمغموزٍ في عدالته، كما أن بعض أئمة الحديث عده من التابعين، وهم أهل القرون المفضلة الموسومين بالعدالة ما لم يثبت في حقم خلاف ذلك، ومراسيلهم حسنة؛ ولا سيما في أحاديث الفضائل؛ كما هو مذهب جماهير المحدِّثين والعلماء.
ومن ذلك: ما أخرجه البخاري في "التاريخ الكبير" (6/ 314، ط. دائرة المعارف العثمانية)، وابن عبد الحكم في "فتوح مصر والمغرب" (ص: 342-343، ط. مكتبة الثقافة الدينية)، وعمر بن شبة في "تاريخ المدينة" (3/ 1116، ط. على نفقة السيد حبيب محمود)، ويعقوب بن سفيان الفسوي في "المعرفة والتاريخ" (1/ 330، ط. مؤسسة الرسالة)، وأبو زرعة الدمشقي في "الفوائد المعللة" (ص: 160، ط. مكتبة الإمام الذهبي)، والبزار في "مسنده" (6/ 287، ط. مكتبة العلوم والحكم)، وابن قانع في "معجم الصحابة" (2/ 202، ط. مكتبة الغرباء الأثرية)، والطبراني في "المعجم الأوسط" (8/ 315، ط. دار الحرمين)، والحاكم في "المستدرك" (4/ 495، ط. دار الكتب العلمية)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (45/ 492-493، ط. دار الفكر)، واللفظ للحاكم، عن أبي شريح عبد الرحمن بن شريح، عن عميرة بن عبد الله المعافري، عن أبيه، عن عمرو بن الحَمِق الخُزَاعيِّ رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «سَتَكُونُ فِتْنَةٌ أَسْلَمُ النَّاسِ فِيهَا -أَوْ قَالَ: لَخَيْرُ النَّاسِ فِيهَا- الْجُنْدُ الْغَرْبِيُّ» فلذلك قدمت مصر. قال الحاكم: [هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه] اهـ. قال الحافظ الذهبي في تعليقه على "المستدرك": [صحيح] اهـ.
وهذا الحديث لم ينفرد به أبو صالح عبد الله بن صالح الجهني، كاتب الليث عن أبي شريح، بل تابعه كلٌّ من الإمام عبد الله بن وهب، وحسبك به، وعمران بن عطية الجذامي. وليس في الإسناد ما يعاب؛ فلقد روى عن عميرة بن عبد الله المعافري أكثرُ من واحد؛ حيث روى عنه: أبو شريح عبد الرحمن بن شريح، وعبد الله بن عياش القتباني؛ كما ذكر ابن ماكولا في "الإكمال" (6/ 278، ط. دار الكتب العلمية) فارتفعت جهالة عينه، وأما حاله فهو على الأصل من السلامة والعدالة مما أثبتاه سابقًا لأصحاب القرون المفضلة؛ حيث لم يثبت في حقه خلاف ذلك، ولم يصحح الحاكم والذهبي حديثه إلا وقد عرفاه وارتفعت لديهما جهالته؛ والحاكم من أوسع أئمة الإسلام رواية، وكان قد كتب عن ألفي شيخ، أو زيادة. وأما والده عبد الله المَعَافِرِيُّ فهو إما صحابي، أو من كبار التابعين، أهل القرن الأول، المشهود لهم بالصدق والفضل.
ولقد توبع عميرة المعافري في هذا الحديث؛ فلقد أخرج الحافظ أبو زرعة الدمشقي في "الفوائد المعللة" (ص: 160، ط. مكتبة الإمام الذهبي) من طريق عبد الله بن صالح، نا أبو شريح عبد الرحمن بن شريح الإسكندراني، عن عميرة بن ناجية، عن أبيه، عن عمرو بن الحمق رضي الله عنه. وفي رواية عمر بن شبة لهذا الحديث: أنه قام عند المنبر بمصر -وذاك عند فتنة عثمان رضي الله عنه- فقال: أيها الناس إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «إِنَّهَا سَتَكُونُ فِتْنَةٌ، خَيْرُ النَّاسِ فِيهَا الْجُنْدُ الْغَرْبِيُّ» وأنتم الجند الغربي، فجئتكم لأكون فيما أنتم فيه، قال الليث: فكان معهم في أشرِّ أمورهم. ولقد توبع والد عميرة في هذا الحديث؛ تابعه جبير بن نفير؛ فلقد أخرج البخاري في "التاريخ الكبير" (6/ 314) بسند صحيح من طريق حيوة عن بقية عن بُحَيْرٍ عن خالد حدثنا جُبَير: أن عُمَرَ الحَمِقِيَّ حدثه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. قال البخاري: وَلا يَصِحُّ عُمَر. وهذا إسنادٌ صحيحٌ متصل لا مطعن فيه؛ ورجاله ثقات، والخطأ من أحد رواته في اسم الصحابي لا ينزل بهذا الراوي عن مرتبة التوثيق العليا؛ وقد كان شعبة يخطئ في الأسماء؛ وفهم ذلك أهل الحديث في كل العصور وقرروه في كتبهم، من ذلك ما قاله الحافظ ابن عديٍّ في "الكامل في ضعفاء الرجال" (7/ 105): [إنَّ الثقة، وإن كان ثقة، فلا بدَّ فإنه يَهِم في الشيء بعد الشيء] اهـ.
وأخرجه نعيم بن حماد في "الفتن" (1/ 54، ط. مكتبة التوحيد) من طريق الوليد، عن ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «تَكُونُ فِتْنَةٌ تَشْمَلُ النَّاسَ كُلَّهُمْ، لَا يَسْلَمُ مِنْهَا إِلَّا الْجُنْدُ الْغَرْبِيُّ»، وهو صحيح مرسل؛ أرسله ثقة من القرون المفضلة (53- 128هـ)، وإنما ارتقى من مرتبة الحسن إلى الصحة لمتابعاته التي ذكرناها، ومرسلات يزيد جيدة؛ ولا سيما وهو يقول فيما نقله أبو داود السجستاني في "رسالته إلى أهل مكة" (ص: 30، ط. دار العربية): [إذا سمعت الحديث فانشده كما تنشد الضالة، فإن عرف وإلا فدعه] اهـ. وكما قال الحافظ أبو زرعة العراقي في "تحفة التحصيل في ذكر رواة المراسيل" (ص: 53، ط. مكتبة الرشد): [المرسل إنما تظهر فائدته إذا كان المُرسِل محتجًّا به] اهـ. ويزيد بن أبي حبيب تابعيٌّ مصري إمامٌ كبير مُفْتٍ عالِم ثقةٌ جليل لم يختلف في ذلك أحد. فهذا الحديث صحيح، بالإضافة إلى أن له متابعةً وشاهدًا على ما بيَّنَّا.
وأخرج البزار في "مسنده" (10/ 79، ط. مكتبة العلوم والحكم)، والطبراني في "مسند الشاميين" (3/ 262-263، ط. مؤسسة الرسالة)، وعبد الجبار الخولاني في "تاريخ داريا" (ص: 49، ط. مطبعة البرقي)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (1/ 71، ط. دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع) عن أبي الدرداء رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إِنَّكُمْ سَتُجَنِّدُونَ أَجْنَادًا؛ جُنْدًا بِالشَّامِ وَمِصْرَ وَالْعِرَاقِ وَالْيَمَنِ». قال البزار: [وهذا الحديث لا نعلمه يروى عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أحسن من حديث أبي الدرداء هذا، وقد روي عن غير أبي الدرداء نحو من هذا الكلام وذكرنا حديث أبي الدرداء رضي الله عنه لجلالته وحسن إسناده] اهـ. وقال الحافظ المنذري في "الترغيب والترهيب" (4/ 30، ط. دار الكتب العلمية): [رواه البزار والطبراني من حديث أبي الدرداء بإسنادٍ حسن] اهـ. وقال الحافظ الهيثمي في "مجمع الزوائد ومنبع الفوائد" (10/ 58، ط. مكتبة القدسي): [وفيهما سليمان بن عقبة، وقد وثقه جماعة، وفيه خلاف لا يضر، وبقية رجاله ثقات] اهـ. وقال الإمام السيوطي في "حسن المحاضرة" (1/ 16، ط. دار إحياء الكتب العربية): [سند صحيح] اهـ. وقال في "الدر المنثور" (3/ 528، ط. دار الفكر): [أخرجه البزار والطبراني بسندٍ حسن] اهـ.
بيان أن الجند الغربي السالم من الفتن هو الجندي المصري
لقد ذَكَر المقريزي في "المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار" (1/ 46، ط. دار الكتب العلمية) عن تبيع بن عامر الكلاعيِّ قال: [أقبلت من الصائفة فلقيت أبا موسى الأشعريَّ رضي الله عنه فقال لي: من أين أنت؟ فقلت: من أهل مصر، قال: من الجند الغربيِّ؟ فقلت: نعم، قال: الجند الضعيف؟ قال: قلت: أهو الضعيف؟ قال: نعم، قال: أما إنه ما كادهم أحد إلا كفاهم الله مؤنته، اذهب إلى معاذ بن جبل حتى يحدَّثك، قال: فذهبت إلى معاذ بن جبل رضي الله عنه فقال لي: ما قال لك الشيخ؟ فأخبرته، فقال لي: وأيُّ شيء تذهب به إلى بلادك أحسن من هذا الحديث، أكتبت في أسفل ألواحك؟ فلما رجعت إلى معاذ رضي الله عنه أخبرني أن بذلك أخبره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم] اهـ.
ومن ذلك أيضًا: ما أخرجه أبو العرب التميمي في "طبقات علماء إفريقية" (ص: 11، ط. دار الكتاب اللبناني) عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «لا يَزَالُ عِصَابَةٌ مِنْ أُمَّتِي بِالْمَغْرِبِ يُقَاتِلُونَ عَلَى الْحَقِّ، لا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ، حَتَّى يَرَوْا يَوْمًا قَتَامًا، فَيَقُولُونَ: غُشِيتُمْ، فَيَبْعَثُونَ خَيْلَهُمْ يَنْظُرُونَ، فَيَرْجِعُونَ إِلَيْهِمْ، فَيَقُولُونَ: الْجِبَالُ سُيِّرَتْ فَيَخِرُّونَ سُجَّدًا، فَتُقْبَضُ أَرْوَاحُهُمْ».
وأخرج أيضًا من طريق يحيى بن عون، قال: حدثنا أبو زكرياء الحفري -في ترتيب المدارك: الجعفري-، قال: حدثنا أبو معمر عباد بن عبد الصمد، قال: حدثنا أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «سَتُجَنِّدُونَ أَجْنَادَكُمْ، وَخَيْرُ أَجْنَادِكُمُ الْجُنْدُ الْغَرْبِيُّ».
وأخرج ابن عبد الحكم في "فتوح مصر والمغرب" (ص 21) من طريق عبد الملك بن مسلمة، ويحيى بن عبد الله بن بكير، عن ابن لهيعة. والدولابي في "الكنى والأسماء" (2/ 573، ط. دار ابن حزم) من طريق يونس بن عبد الأعلى قال: أنبأ ابن وهب قال: أخبرني ابن لهيعة. ورواه ابن لهيعة عن ابن هبيرة، أن أبا سالم الجيشانيَّ سفيان بن هانئ، أخبره أن بعض أصحاب رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم، أخبره أنه سمع رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم، يقول: «إِنَّكُمْ سَتَكُونُونَ أَجْنَادًا، وَإِنَّ خَيْرَ أَجْنَادِكُمْ أَهْلُ الْغَرْبِ مِنْكُمْ؛ فَاتَّقُوا اللهَ فِي الْقِبْطِ؛ لَا تَأْكُلُوهُمْ أَكْلَ الْحَضِر»، والحَضِر هو الذي يتحين طعام الناس حتى يحضُره، وفي رواية: «أَكْلَ الْخَضِر»؛ وهو النبات الغضُّ.
وأخرج مسلم في "صحيحه" عن سعد بن أبي وقَّاصٍ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لَا يَزَالُ أَهْلُ الْغَرْبِ ظَاهِرِينَ على الْحَقِّ حتى تَقُومَ السَّاعَةُ». ومصنفو كتب التاريخ من كبار المحدثين والمؤرخين وأئمتهم قد أوردوا هذه الأحاديث في كتبهم؛ وذلك في مقام الاحتجاج بها على فضائل مصر.
قال الحافظ السيوطي في "الديباج على صحيح مسلم بن الحجاج" (4/ 514، ط. دار ابن عفان للطباعة والنشر): [ومما يؤيد أن المراد بالغرب من الأرضِ روايةُ عبد بن حميد وبقيُّ بن مخلد: «ولا يزال أهل الغرب»، ورواية الدارقطني: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق في المغرب حتى تقوم الساعة». قلت: لا يبعد أن يراد بالمغرب مصر؛ فإنها معدودة في الخط الغربي بالاتفاق؛ وقد روى الطبراني والحاكم وصححه عن عمرو بن الحمق رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «سَتَكُونُ فِتْنَةٌ أَسْلَمُ النَّاسِ الْجُنْدُ الْغَرْبِيُّ» قال ابن الحمق: فلذلك قدمت عليكم مصر.
وأخرجه محمد بن الربيع الجيزي في "مسند الصحابة الذين دخلوا مصر" وزاد فيه: وأنتم الجند الغربي. فهذه منقبة لمصر في صدر الملة، واستمرت قليلة الفتن معافاة طول الملة لم يعترها ما اعترى غيرها من الأقطار، وما زالت معدن العلم والدين، ثم صارت في آخر الأمر دار الخلافة ومحط الرحال، ولا بلد الآن في سائر الأقطار بعد مكة والمدينة يظهر فيها من شعائر الدين ما هو ظاهرٌ في مصر] اهـ.
وقال الحافظ الدمياطي فيما حكاه عنه التاج السبكي في "طبقات الشافعية الكبرى" (10/ 120، ط. هجر للطباعة والنشر والتوزيع): [وهذا قول عبد المؤمن بن خلف الدمياطي خادم السنة النبوية بالديار المصرية، وهي الجند الغربي السالم من الفتن؛ لما روى أبو شُرَيْح عبد الرحمن بن شُرَيْح الإسكندري، عن عميرة بن أبي ناجِية، عن أبيه عن عمرو بن الحمق الخُزَاعي، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «َتكُونُ فِتَنٌ خَيْرُ النَّاسِ فِيهَا أَو أَسْلَمُ النَّاسِ فِيهَا الْجُنْدُ الْغَرْبِيُّ»، فلذلك قدمت عليكم مصر] اهـ.
وقال العلامة شهاب الدين بن فضل الله العمري في "مسالك الأبصار في ممالك الأمصار" (3/ 180، ط. المجمع الثقافي): [ونهض الجيش المصري بما عجزت عنه ملك أقطار الأرض، مع اجتهاد السلطان جلال الدين محمد بن خوارزمشاه رحمه الله، حتى قتل، ولم يكن الجيش المصري بالنسبة إلى الجيوش الجلالية إلا كالنقطة في الدائرة، والنغبة من البحر، والله يؤيد بنصره من يشاء، وكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين، وهذا من المعجزات النبوية وهو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى مَنْ عَادَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، أَلَا وَهُمْ الْجُنْدُ الْغَرْبِيُّ»، وقوله: (ألا وهم الجند الغربي) زيادة في الروايات، وهذه الرواية إن لم تصح روايتها صحت بالمعنى؛ لأن هذه الطائفة وهي كانت الطائفة الظاهرة التي أرادها النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله وعناهم بها؛ لأنه لم يظهر على التتار سواهم، وبهذه النصرة دامت النصرة على التتار، وكانت بهم لا بغيرهم، مع كثرة من كان من ملوك الإسلام، واجتهادهم في الجهاد، فتماسك بهذه المرة رمق الإسلام، وبقيت بقية الدين، ولولاهم لانصدع شعب الأمة، ووهَى عمود الملة، ووصلت خيل عبدة الشمس إلى أقصى المغارب، ودكت جميع رعان الأرض] اهـ.
بيان فضل مصر
قد سميت مصر بـ"أم البلاد و غوث العباد"؛ فبهذا سماها نبي الله نوحٌ عليه السلام؛ فقد أخرج ابن عبد الحكم في "فتوح مصر والمغرب" (ص: 27، ط. مكتبة الثقافة الدينية) بسندٍ حسن عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن نوحًا عليه السلام قال لابنه حينما أجاب دعوته: [اللهم إنه قد أجاب دعوتي؛ فبارك فيه وفي ذريته وأسكنه الأرض المباركة، التي هي أم البلاد، وغوث العباد، التي نهرها أفضل أنهار الدنيا، واجعل فيها أفضل البركات، وسخر له ولولده الأرض وذللها لهم، وقوهم عليها] اهـ. وهذا الأثر ذكره جماعة من العلماء في كتبهم، واحتجوا به على فضائل مصر، ومنهم: الحافظ الكندي (355) في "فضائل مصر المحروسة"، والمؤرخ العلامة البكري (487) في "المسالك والممالك "(2/ 566، ط. دار الغرب الإسلامي)، وصاحب (ق 6) "الاستبصار في عجائب الأمصار" (ص: 65، ط. دار الشئون الثقافية)، والحافظ جمال الدين بن حديدة (783) في "المصباح المضي في كتاب النبي الأمي ورسله إلى ملوك الأرض من عربي وعجمي" (2/ 148، ط. عالم الكتب)، والمؤرخ العلامة ابن تغري بردي (874) في "النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة" (1/ 30، ط. وزارة الثقافة والإرشاد القومي، دار الكتب)، والحافظ السيوطي في "حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة" (1/ 34، ط. دار إحياء الكتب العربية)، والعلامة المقريزي (845) في "المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار" (1/ 40-51، ط. دار الكتب العلمية)، والعلامة النويري (733) في "نهاية الأرب في فنون الأدب" (1/ 347، ط. دار الكتب والوثائق القومية)، ومصر هي البلد الوحيد الثابت تسميته بهذا الاسم، وذلك كما سمى الله تعالى مكة المشرفة بــ أم القرى، وهذا الاسم له دلالة المركزية والصدارة بين بقية البلاد، وله أيضًا دلالة الخير الوفير الذي يخص الله به أرض مصر مما لا يوجد في غيرها، ويحتاج الخلق إليه؛ فيفيض على جميع البلاد؛ كما هو الشأن الذي يُثبته التاريخ دومًا في مصر؛ قال العلامة الألوسي في "روح المعاني" (13/ 14، ط. دار الكتب العلمية): [قد يقال لبلد: هي أم البلاد باعتبار احتياج أهالي البلاد إليها] اهـ. وقد ذكرها بهذا اللقب سعيد بن أبي هلال، ونقل ذلك عنه العلماء والمؤرخون؛ كالحافظَيْن الكندي (355) في "فضائل مصر المحروسة"، والسيوطي في "حسن المحاضرة" (1/ 21)؛ [فقد ذكرا عن سعيد بن أبي هلال أنه قال: اسم مصر في الكتب السالفة أم البلاد، وذكر أنها مصورة في كتب الأوائل وسائر المدن مادة أيديها إليها تستطعمها] اهـ.
كما ذكرها بذلك الأديب علي بن ظافر الأزدي (613) في "بدائع البدائه" (ص 180)، والمؤرخ الرحالة ابن بطوطة (779) في "تحفة النظار" (1/ 201، ط. أكاديمية المملكة المغربية)، والمؤرخ الغزي (1351) في "نهر الذهب في تاريخ حلب" (1/ 123، ط. دار القلم)، وقال المرتضى الزبيدي في "تاج العروس" (14/ 126، ط. دار الهداية): [قال الحافظ أبو الخطاب بن دحية: مصر أخصب بلاد الله، وسماها الله تعالى بمصر وهي هذه دون غيرها، ومن أسمائها أم البلاد، والأرض المباركة، وغوث العباد، وأم خنور، وتفسيره: النعمة الكثيرة، وذلك لما فيها من الخيرات التي لا توجد في غيرها، وساكنها لا يخلو من خير يدر عليه فيها، فكأنها البقرة الحلوب النافعة] اهـ.
وقال عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما -فيما حكاه العلامة المؤرخ ابن زولاق في "فضائل مصر وأخبارها" (ص: 10)، والعلامة الشهاب النويري في "نهاية الأرب" (1/ 347، ط. دار الكتب المصرية)، والعلامة المؤرخ المقريزي في "المواعظ والاعتبار" (1/ 50، ط. دار الكتب العلمية)، والعلامة ابن ظهيرة في "الفضائل الباهرة" (ص: 78)، والحافظ السيوطي في "حسن المحاضرة" (1/ 20، ط. دار إحياء الكتب العربية)، والمؤرخ ابن تغري بردي في "النجوم الزاهرة" (1/ 30، ط. دار الكتب المصرية)-: [لمَّا خلق الله عز وجل آدم عليه السلام مثَّل له الدنيا؛ شرقها وغربها، وسهلها وجبلها، وأنهارها وبحارها، وبناءها وخرابها، ومن يسكنها من الأمم، ومن يملكها من الملوك، فلمَّا رأى مصر رآها أرضًا سهلة، ذاتَ نهر جارٍ؛ مادَّتُه من الجنة، تنحدر فيه البركة، وتمزجه الرحمة، ورأى جبلًا من جبالها مكسوًّا نورًا، لا يخلو من نظر الرب إليه بالرحمة، في سفحه أشجار مثمرة، فروعها في الجنة، تُسقَى بماء الرحمة، فدعا آدم في النيل بالبركة، ودعا في أرض مصر بالرحمة والبر والتقوى، وبارك على نيلها وجبلها سبع مرات، وقال: يا أيها الجبل المرحوم، سفحك جنة، وتربتك مسك، يدفن فيها غراس الجنة، أرض حافظة مطيعة رحيمة، لا خلتك يا مصر بركة، ولا زال بك حفظ، ولا زال منك ملك وعز، يا أرض مصر فيك الخبايا والكنوز، ولك البر والثروة، سال نهرك عسلًا، كثَّر الله زرعك، ودر ضرعك، وزكى نباتك، وعظمت بركتك وخصبت، ولا زال فيك خير ما لم تتجبري وتتكبري أو تخوني، فإذا فعلت ذلك عراك شرٌّ، ثم يعود خيرك. فكان آدم عليه السلام أول من دعا لها بالرحمة والخصب والبركة والرأفة] اهـ.
قال أبو الحسن أحمد بن محمد بن المدبر المصري الكاتب [ت270هـ]: [مصر اختيار نوح عليه السلام لولده، واختيار الحكماء لأنفسهم، واختيار أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه لأنفس الصحابة.. واختيار عمرو بن العاص رضي الله عنه لنفسه.. واختيار الخلفاء لمن يقوم منهم، وكذلك الملوك والسلاطين إلى وقتنا هذا، وقد صارت دار الملك وبيضة الإسلام] اهـ. نقلًا عن القاضي ابن ظهيرة في "الفضائل الباهرة في مصر والقاهرة" (ص: 82).
ثم إنَّ الحديث المذكور يشهد له من الكلام النبوي الشريف وسائر الأحاديث ما يرجح صحته وقُوَّته:
فمن ذلك ما رواه أبو يعلى في "مسنده" (3/ 51، رقم 1473، ط. دار المأمون للتراث)، وعنه ابن حبان في "صحيحه" (15/ 69، رقم 6677، ط. مؤسسة الرسالة)، وابن عبد الحكم في "فتوح مصر" (ص: 22، ط. مكتبة الثقافة الدينية) من طُرقٍ عن أَبي هانئٍ حميد بن هانئٍ الخَوْلاني، أنه سمع أبا عبد الرحمن الحُبُلِيَّ؛ وهو عبدُ الله بن يزيد، وعمْرَو بن حُرَيْث، وغيرَهما يقولون: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إِنَّكُمْ سَتَقْدُمُونَ عَلَى قَوْمٍ، جُعْدٌ رُءُوسُهُمْ، فَاسْتَوْصُوا بِهِمْ خَيْرًا، فَإِنَّهُمْ قُوَّةٌ لَكُمْ، وَبَلاغٌ إِلَى عَدُوِّكُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ» يعني: قبط مصر، وسنده صحيح على شرط مسلم. قال الحافظ الهيثمي في "مجمع الزوائد" (10/ 64، ط. مكتبة القدسي): [رجاله رجال الصحيح] اهـ.
ومن الشواهد أيضًا ما أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير" (23/ 265 رقم 561، ط. مكتبة ابن تيمية) عن أم المؤمنين أم سلَمة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أوصى عند وفاته، فقال: «اللهَ اللهَ فِي قِبْطِ مِصْرَ، فَإِنَّكُمْ سَتَظْهَرُونَ عَلَيْهِمْ، وَيَكُونُونَ لَكُمْ عِدَّةً، وَأَعْوَانًا فِي سَبِيلِ اللهِ». قال الهيثمي في مجمع الزوائد (10/ 63، ط. مكتبة القدسي): [رجاله رجال الصحيح] اهـ. وأخرجه ابن عبد الحكم في "فتوح مصر والمغرب" (ص: 21-22) عن أبي سلمة بن عبد الرحمن مرفوعًا.
وأخرج الحاكم في "المستدرك" (4/ 495، ط. دار الكتب العلمية) عن عمرو بن الحَمِق الخُزَاعيِّ رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «سَتَكُونُ فِتْنَةٌ أَسْلَمُ النَّاسِ فِيهَا -أَوْ قَالَ: لَخَيْرُ النَّاسِ فِيهَا- الْجُنْدُ الْغَرْبِيُّ» فلذلك قدمت مصر. قال الحاكم: [هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه] اهـ. قال الحافظ الذهبي في تعليقه على "المستدرك": [صحيح] اهـ.
ولقد تضافرت الوقائع التاريخية منذ قديم الزمان وعلى مر العصور وكرِّ الدهور على إثبات الخيرية والأفضلية لجيش مصر من الناحية الواقعية العملية، وشهد بذلك المؤرخون؛ ومنهم العلامة شهاب الدين بن فضل الله العمري؛ الذي قال في "مسالك الأبصار وممالك الأمصار" (3/ 180، ط. المجمع الثقافي): [ونهض الجيش المصري بما عجزت عنه ملك أقطار الأرض، مع اجتهاد السلطان جلال الدين محمد بن خوارزمشاه رحمه الله، حتى قتل، ولم يكن الجيش المصري بالنسبة إلى الجيوش الجلالية إلا كالنقطة في الدائرة، والنغبة من البحر، والله يؤيد بنصره من يشاء، وكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين، وهذا من المعجزات النبوية وهو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى مَنْ عَادَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، أَلَا وَهُمْ الْجُنْدُ الْغَرْبِيُّ»، وقوله: (ألا وهم الجند الغربي) زيادة في الروايات، وهذه الرواية إن لم تصح روايتها صحت بالمعنى؛ لأن هذه الطائفة وهي كانت الطائفة الظاهرة التي أرادها النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله وعناهم بها، لأنه لم يظهر على التتار سواهم، وبهذه النصرة دامت النصرة على التتار، وكانت بهم لا بغيرهم، مع كثرة من كان من ملوك الإسلام، واجتهادهم في الجهاد، فتماسك بهذه المرة رمق الإسلام، وبقيت بقية الدين، ولولاهم لانصدع شعب الأمة، ووهَى عمود الملة، ووصلت خيل عبدة الشمس إلى أقصى المغارب، ودكت جميع رعان الأرض] اهـ.
ولقد صحح جماعةٌ من المحدثين أحاديث ضعُف سندها؛ لمطابقتها للواقع، وعدُّوا هذا طريقًا من طرق تصحيح الأحاديث النبوية؛ ومنهم القاضي عياض؛ فقد قال الإمام في "البيان المُغرِب في أخبار الأندلس والمغرب" (1/ 203، ط. دار الثقافة): [عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إن بأقصى المغرب مدينة تسمى سبتة أسسها رجل صالح اسمه سبت من ولد سام بن نوح، واشتق لها اسما من اسمه ودعا لها بالبركة والنصر فما رماها أحد بسوء إلا رد الله بأسه عليه». قال بن حمادة: قال شيخنا العالم أبو الفضل عياض بن موسى: وهذا الحديث تشهد بصحته التجربة، فإنها ما زالت محمية عند من وليها من الملوك وقل وما أحدث أحد منهم فيها حدث سوء إلا هلك] اهـ.
ومنهم الإمام القرطبي؛ حيث قال يصحِّح حديثًا: [هذا خبر صحيح وقول صادق؛ علمنا صدقه دليلًا وتجربة] اهـ.
ومنهم الشيخ ابن القيم؛ فقال في "زاد المعاد" (2/ 370، ط. مؤسسة الرسالة) في حكمه على حديثٍ ذَكَره: [وأحرى بهذا الحديث أن يكون صحيحًا والواقع في التجربة يشهد به] اهـ.
ومنهم أيضًا العلامة ابن الوزير؛ حيث قال في "العواصم من القواصم في الذب عن سنة أبي القاسم صلى الله عليه وآله وسلم" (1/ 202، ط. مؤسسة الرسالة): [وعرفتُ بالتجربة: صحةَ ما رواه عليٌّ عليه السلام عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أنهُ قال في كتاب الله تعالى: «مَن الْتَمَسَ الهُدَى مِنْ غَيْرِهِ ضَلَّ»] اهـ.
ومنهم الإمام الحرضي؛ حيث قال في "بهجة المحافل وبغية الأماثل" (2/ 363، ط. دار صادر)؛ يُقَوِّي حديثًا: [شهد على صحته ما صحَّ منه بالتجربة] اهـ.
ومنهم الحافظ السخاوي؛ حيث قال في "الابتهاج بأذكار المسافر والحاج" (ص: 39)؛ يُقوِّي حديثًا ذكره: [وسنده ضعيف، لكن قال النووي: إنه جرَّبه هو وبعضُ أكابر شيوخه] اهـ.
الخلاصة
بناءً على ما سبق: فالأحاديث المذكورة في السؤال صحيحة المعاني عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا مطعن على مضامينها بوجه من الوجوه، وقد وردت بأكثر ألفاظها خطبةُ عمرو بن العاص رضي الله عنه، وهي خطبة ثابتة مقبولة صحيحة بشواهدها، رواها أهل مصر وقبلوها، ولم يتسلط عليها بالإنكار أو التضعيف أحد يُنسَب إلى العلم في قديم الدهر أو حديثه، ولا عبرة بمن يردُّها أو يطعن فيها هوًى أو جهلًا.
والله سبحانه وتعالى أعلم.