السلام على النبي في الصلاة بصيغة الخطاب

السلام على النبي في الصلاة بصيغة الخطاب

السؤال عن صيغة التشهد في الصلاة؛ حيث ذكر بعضهم أنه ينبغي أن نقول في التشهد بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "السلام على النبي"، وأن من أخطاء المصلين الشائعة قولهم:" السلام عليك أيها النبي"، زاعمًا أن كاف المخاطبة كانت في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الدنيا، وأما بعد وفاته صلى الله عليه وآله وسلم فالصيغة اختلفت، وأنه على كل مصلٍّ أن يقول: "السلام على النبي"، وليس "السلام عليك أيها النبي"، وزعم هذا القائل أن هذا التغيير كان من السيدة عائشة رضي الله عنها بوصية من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد وفاته، وأنها أعلمت الصحابة بهذه الوصية للعمل بها.

الصيغة المتواترة المرفوعة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقولنا في التشهد «السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ» قد خوطبت بها الأمة كافة، وهي عامة في كل زمان ومكان، وتخصيصها بحال دون أخرى هو تخصيص بلا مخصص ولا دليل، ورغم اختلاف صيغ التشهد بين الصحابة رضي الله عنهم فقد اتفقوا على أن السلام عليه صلى الله عليه وآله وسلم يكون بصيغة «السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ»، وهذا موضع تواتر لا يرتاب فيه من له أدنى اشتغال بالحديث الشريف، وبناء عليه ترك أكثر أهل العلم وعلى رأسهم الأئمة الأربعة العملَ برواية "السلام على النبي"؛ لأنها موقوفة، وعملوا جميعًا بالمرفوع المتواتر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ وهو السلام عليه بصيغة الخطاب: «السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ».

التفاصيل ....

ثبتت عبارة: «السلام عليك أيها النبي» في التشهد عن جماعة من الصحابة يصل إلى حد التواتر، وبه أخذ الأئمة الأربعة وجماهير علماء الأمة سلفًا وخلفًا، بل نقل الإمام أبو محمد بن حزم الإجماع على ذلك؛ فقال في كتابه "الفِصَل في المِلَل والأهواء والنِّحَل" (1/ 76، ط. مكتبة الخانجي): [وكذلك ما أجمع الناس عليه وجاء به النصُّ من قول كل مُصَلٍّ فرضًا أو نافلةً: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته] اهـ.
ذلك أنه اتفقت روايات الأحاديث على بعض ألفاظ التشهد واختلفت في أخرى، فيصير ما اتفقت عليه رواياتُهم محل تواتر. ومما اتفقت عليه الروايات عبارة: «السلام عليك أيها النبي»، وقد أشار إلى هذا التواتر الإمام أبو جعفر الطحاوي في "شرح معاني الآثار"؛ حيث يقول رحمه الله (1/ 265): [قد تواترت بذلك عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم الروايات فلم يخالفها شيء؛ فلا ينبغي خلافُها، ولا الأخذُ بغيرها، ولا الزيادة على شيء مما فيها] اهـ.
فممن رُوي عنه حديث التشهد وفيه عبارة «السلام عليك أيها النبي»: أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وابن مسعود، وأبو موسى، وجابر بن عبد الله إن كان محفوظًا، وعبد الله بن عمر، وأبو سعيد الخدري، وابن عباس، وعائشة، وسلمان الفارسي، ومعاوية بن أبي سفيان، وكعب بن عجرة، وعبد الله بن الزبير رضي الله عنهم، كلهم يقول في حديثه: «السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ» أو «سَلَامٌ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ»، وعامة أسانيدهم صحيحة أو حسنة، وهي بمجموعها تبلغ درجة التواتر.
كما ورد ذلك عن التابعين وتابعيهم؛ كعلقمة بن قيس النخعي، والحسن البصري، وطاوس، وإبراهيم النخعي وغيرهم مقطوعًا عليهم، مما يعني أن التشهد بذلك تَعَلَّمَه التابعون من الصحابة واستمروا عليه وعلموه لمن بعدهم.
قال الإمام العيني في "شرح البخاري" (9/ 374): [وفي الباب عن الحسين بن علي، وطلحة بن عبيد الله، وأنس، وأبي هريرة، والفضل بن عباس، وأم سلمة، وحذيفة، والمطلب بن ربيعة، وابن أبي أوفى رضي الله تعالى عنهم، قالوا: جملة من روى في التشهد من الصحابة أربعة وعشرون صحابيًّا] اهـ.
وأما ما أخرج الطبراني في "الأوسط" (ح 218): [عن عبد الجبار، عن عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود قال: علمني أبي كلمات زعم أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه علمه إياهنَّ، وزعم عمر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علمه إياهنَّ: «التَّحِيَّاتُ الصَّلَوَاتُ الطَّيِّبَاتُ الْمُبَارَكَاتُ لِلَّهِ، السَّلَامُ عَلَى النَّبِيِّ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ، وَالسَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللهِ الصَّالِحِينَ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ»، قال الطبراني: لا يُروَى هذا الحديث عن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن عمر رضي الله عنه إلا بهذا الإسناد، تفرد به ابن لهيعة] اهـ. وإسناده مسلسل بالضعفاء لا تقوم به حجة، ومتنه منكر، والمحفوظ عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ما تقدم.
وأما حديث ابن مسعود رضي الله عنه: فقد رواه جماعة من أصحابه عنه، وفى حديثهم جميعًا: «السلام عليك أيها النبي»، فمِمَّن رواه عنه: أبو وائل شَقِيق بن سَلَمة في "الصحيحين" و"السنن"، والأسود بن يزيد، وأبو الأَحوَص عَوف بن مالك، وعَلقَمة بن قيس، وأبو عبد الرحمن السُّلَمِي، وعمرو بن ميمون، وعامر الشَّعبِي ولم يسمع من ابن مسعود، وسعيد بن فَيرُوز، وأبو الكَنُود الأَزدي، وأبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود وفي سماعه من أبيه خلاف.
فهؤلاء عشرة أَنفُس رَوَوه عن ابن مسعود كلهم قالوا في حديثهم: «السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ»، ومن هؤلاء العشرة علقمة والأسود، وهما من أعلم الناس بابن مسعود رضي الله عنه، قال الإمام علي بن المديني: "أعلم الناس بعبد الله: علقمة، والأسود، وعَبِيدة، والحارث".
ورواه أبو معمر عبد الله بن سخبرة عن ابن مسعود رضي الله عنه مثلهم، غير أنه تارة يزيد فيه: "وهو بين ظهرانِينا، فلما قبض قلنا: السلام -يعني على النبي صلى الله عليه وآله وسلم-"، وتارة لا يذكر هذه الزيادة. وهذا الحديث بزيادته تلك أخرجه البخاري واللفظ له (رقم: 5910)، وابن أبي شيبة (رقم: 2986)، وأحمد (1/ 414)، وأبو يعلى (رقم: 5347) جميعًا من طريق سيف بن سليمان، عن مجاهد، عن أبي معمر به. وقد رواه النسائي في "الصغرى" (رقم: 1171) و"الكبرى" (رقم: 759) والبزار (رقم: 1799) من طريق سيف أيضًا فلم يذكر هذه الزيادة. كما أخرجه الطبراني (رقم: 9937)، والدارقطني (1/ 354) من وجه آخر ضعيف عن عبد الوهاب ابن مجاهد، عن مجاهد، عن أبي معمر، دون ذكرها أيضًا.
فأبو معمر عبد الله بن سَخبَرة أتى بزيادة لم يذكرها غيره من أصحاب عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ممن رووا هذا الحديث، وغاية ما يقال فيها: إنها زيادة ثقة، فتكون مقبولة، لكنها موقوفة، فلا تعارض المرفوع الذي رواه ابن مسعود رضي الله عنه نفسه وذكر أنه تعلمه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما يتعلم السورة من القرآن، ثم مضى ابن مسعود رضي الله عنه يعلمه للناس، واستمر أصحاب ابن مسعود -وعلى رأسهم علقمة بن قيس النخعي رضي الله عنه- يعلمونه للناس كما سيأتي عنه، لا يغيرونه، ولا يذكرون فيه زيادة ابن سخبرة، ثم أخذ فقهاء الكوفة بما استمر عليه أصحاب ابن مسعود رضي الله عنه مخالفًا لما رواه ابن سخبرة، فاختار الإمام أبو حنيفة وأصحابه تشهد ابن مسعود رضي الله عنه الثابت عنه مرفوعًا الذي فيه: «السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ»، ووافقهم الحنابلة على اختيار تشهد ابن مسعود. ومع اختيار بقية الفقهاء لغير تشهد ابن مسعود فإنهم اتفقوا جميعًا على ذكر صيغة الخطاب في السلام على النبي صلى الله عليه وآله وسلم في التشهد.
على أن العلامة الشيخ عليًّا القاري أورد على رواية أبي معمر احتمالًا أخرجها به عن الاستدلال طبقًا لقاعدة: "ما تطرق إليه الاحتمال سقط به الاستدلال"، فقال رحمه الله في "شرح مشكاة المصابيح" (2/ 734، ط. دار الفكر): [وأما قول ابن مسعود: "كنا نقول في حياة رسول الله: السلام عليك أيها النبي"، فلما قُبِضَ عليه السلام قلنا: "السلام على النبي"، فهو رواية أبي عوانة، ورواية البخاري الأصح منها بينت أن ذلك ليس من قول ابن مسعود، بل من فهم الراوي عنه، ولفظها: فلما قبض قلنا: السلام –يعني: على النبي-، فقوله: "قلنا: السلام" يحتمل أنه أراد به: استمررنا به على ما كنا عليه في حياته، ويحتمل أنه أراد: أعرضنا عن الخطاب، وإذا احتمل اللفظ لم يبقَ فيه دلالة] اهـ.
وحينئذٍ فلا يصح إطلاق نسبة ذلك إلى ابن مسعود رضي الله عنه مع وجود الاحتمال.
والحاصل من مجموع الأحاديث والآثار في الباب: أنه قد تواترت الأخبار والآثار عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة والتابعين في التشهد متفقةً على عبارة: «السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ»، ولا يعارض ذلك ما رُوِي عن ابن عمر وعائشة رضي الله عنهما موقوفًا من السلام على النبي صلى الله عليه وآله وسلم في التشهد بغير لفظ الخطاب؛ فإنه قد صح عنهما موقوفًا أيضًا السلامُ فيه بلفظ الخطاب، وهو موافق لما صح عنهما من المرفوع، وما وافق المرفوعَ أولى مما خالفه، والموقوف إذا خالف المرفوع فإنه لا يقوى على معارضته، ولا تخصيصه، ولا نسخه؛ لما هو مقرر في الأصول: "أن الراويَ إذا رأى خلافَ ما روى فالعبرة بما روى لا بما رأى"؛ قال العلامة الشوكاني في "إرشاد الفحول" (ص: 78): [لأنا متعبدون بما بلغ إلينا من الخبر، ولم نُتَعَبَّدْ بما فهمه الراوي] اهـ.
ويصرح بنحو هذا المسلك الإمامُ الطحاوي في الاختلاف الذي رُوِيَ عن ابن عمر رضي الله عنهما في ألفاظ التشهد، فذهب الطحاوي إلى أن الرواية المشهورة المحفوظة أولى من الموقوفة التي زيدت فيها ألفاظ؛ فقال رحمه الله (1/ 264): [وهذا أولى؛ لأنه حكاه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعن أبي بكر رضي الله عنه وعلَّمه مجاهدًا، فمحال أن يكون ابنُ عمر رضي الله عنهما يدع ما أخذه من النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى ما أخذه عن غيره..، ثم قال (1/ 265) مرجحًا رواية ابن مسعود رضي الله عنه المشهورة والتي فيها «السلام عليك أيها النبي»: وكان ما قد أُجمِعَ عليه من ذلك أولى أن يُتَشَهَّدَ به دون الذي اختُلِف فيه] اهـ.
وهذا المسلك ينبغي تعميمه على آثار الباب وما وقع فيه مِن خلاف بين المرفوع والموقوف، أو بين المحفوظ وغير المحفوظ، فيقال: ما حُفِظَ عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أولى مِن غيره، ومُحالٌ أن ندعه إلى ما أُخِذَ عن غيره، وما أُجمِعَ عليه مِن ذلك أولى أن يُتَشَهَّدَ به دون الذي اختُلِفَ فيه.
والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم –كما ذكر الإمام الترمذي- من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومَن بعدهم من التابعين. وهو قول سفيان الثوري، وابن المبارك، وأحمد، وإسحق، وهو قول أئمة المذاهب الأربعة المتبعة.
وهذا هو الصحيح في فقه آثار الباب والخلاف فيها، ومن ثم دارت مآخذ الفقهاء -وعلى رأسهم الأئمة الأربعة وأصحابهم- على التخير بين صيغ التشهد الثابتة المرفوعة؛ فاختار المالكية تشهد عمر رضي الله عنه، واختار الشافعية تشهد ابن عباس رضي الله عنهما، واختار الحنفية والحنابلة تشهد ابن مسعود رضي الله عنه المشهور الذي فيه «السلام عليك أيها النبي»، مما يعني أن الجماهير الغفيرة من علماء الأمة هجروا تلك الرواية الموقوفة ولم يعملوا بها، فمع اختلاف صيغ التشهد المروية عن الصحابة فإنه قد اتفقت عامتها على عبارة «السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ»، وأخذ أصحاب المذاهب المتبعة كل منهم بصيغة منها مع اتفاقهم على هذه العبارة، فهي موضع اتفاق من المذاهب الأربعة ومن عداهم:
قال الإمام الكاساني الحنفي في "بدائع الصنائع" (1/ 211، ط. دار الكتب العلمية): [قد اختلف الصحابة رضي الله عنهم في كيفيته؛ وأصحابنا أخذوا بتشهد عبد الله بن مسعود رضي الله عنه... والشافعي أخذ بتشهد عبد الله بن عباس رضي الله عنهما... ومالك أخذ بتشهد عمر رضي الله عنه... ومن الناس من اختار تشهد أبي موسى الأشعري رضي الله عنه] اهـ بتصرف.
وقال الإمام الباجي من أئمة المالكية في "المنتقى" (1/ 167، ط. دار الكتاب الإسلامي): [وهذا تشهد عمر رضي الله عنه، وهو الذي اختاره مالك، وأما أبو حنيفة فاختار تشهد عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، واختار الشافعي تشهد عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، والدليل على صحة ما ذهب إليه مالك: أن تشهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه يجري مجرى الخبر المتواتر؛ لأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عَلَّمَه للناس على المنبر بحضرة جماعة الصحابة وأئمة المسلمين، ولم ينكره عليه أحد ولا خالفه فيه] اهـ.
وقال الإمام النووي الشافعي في "المجموع" (3/ 437-438) بعد أن ساق ألفاظ أحاديث ابن مسعود وابن عباس وعائشة وأبي موسى وعمر بن الخطاب رضي الله عنهم جميعًا، وفي روايات الجميع «السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ»: [هذه الأحاديث الواردة في التشهد، وكلها صحيحة، وأشدها صحة باتفاق المحدثين حديث ابن مسعود رضي الله عنه، ثم حديث ابن عباس رضي الله عنهما. قال الشافعي والأصحاب: وبأيها تشهد أجزأه، لكن تشهد ابن عباس أفضل... وقد أجمع العلماء على جواز كل واحد منها] اهـ.
وقد وافق الحنابلةُ الحنفيةَ في الأخذ بتشهد ابن مسعود رضي الله عنه بصيغة «السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ»؛ فقال الشيخ الإمام موفق الدين بن قدامة في "المغني" (1/ 608، ط. دار الفكر): [(ويتشهد، فيقول: التحيات لله والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. وهو التشهد الذي علَّمه النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعبد الله بن مسعود رضي الله عنه)، هذا التشهد هو المختار عند إمامنا، رحمه الله، وعليه أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومَن بعدهم مِن التابعين، قاله الترمذي، وبه يقول الثوري، وإسحاق، وأبو ثور، وأصحاب الرأي، وكثير من أهل المشرق] اهـ.
ومنه يُعلَم أن مَن أخذ بتشهد عبد الله بن مسعود رضي الله عنه -وهم السادة الحنفية والسادة الحنابلة ونقله الإمام ابن قدامة عن أكثر أهل العلم- إنما أخذ من الروايتين عن ابن مسعود رضي الله عنه تلك المشهورة المتفقة مع الروايات الأخرى عن الصحابة في عبارة «السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ»، دون الأخرى المخالفة لها.
ومن جهة أخرى فإن الحديث الثابت المتواتر بصيغة «السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ» كان مخاطَبًا به مَن كان بحضرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصلى خلفه، ومن غاب عن حضرته وصلى بعيدًا عنه، ولو كان ضمير الخطاب يُقصَر استعمالُه على حال مواجهة المخاطَب، لكان الغائب البعيد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حال حياته مطالَبًا أيضًا باستعمال ضمير الغيبة وترك استعمال ضمير الخطاب، ولكان المصلي بين يدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ»، والمصلي بعيدًا عنه يقول: "السلام على النبي"، وهذا ما لم يَنقُله ولا ادعاه أحد من أهل العلم، بل حمل أهل العلم والفقه الحديثَ على العموم في جميع الأحوال؛ لا فرق بين حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم الدنيوية وحياته البرزخية، ولا بين الحضور بين يديه أو الغَيبة عنه. وتخصيص هذا العموم وقصره على حال الحياة الدنيوية دون البرزخية هو من باب التخصيص بلا مخصِّص، وهو باطل.
وفتوى الراوي وعمله بخلاف مَرْوِيِّه لا يُخَصِّصُ العمومَ، على ما سبق تقريره.
هذا هو تحرير المسألة من جهة الرواية، وبيان ما صح منها وما لم يصح، وما حفظ منها وما لم يحفظ، وما جرى عليه العمل وما هُجِرَ من القول في المسألة.
أما من جهة المعنى وحكمة استعمال ضمير الخطاب؛ ففي "فتح الباري" في شرح الحديث (797) و"شرح العيني" أيضًا (9/ 367): [فإن قيل: ما الحكمة في العدول عن الغيبة إلى الخطاب في قوله: «عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ» مع أن لفظ الغيبة هو الذي يقتضيه السياق، كأن يقول: (السلام على النبي) فينتقل من تحية الله إلى تحية النبي، ثم إلى تحية النفس، ثم إلى الصالحين؟ أجاب الطيبي بما محصله: نحن نتبع لفظ الرسول بعينه الذي كان عَلَّمَه الصحابة، ويحتمل أن يقال على طريق أهل العرفان: إن المصلين لما استفتحوا باب الملكوت بالتحيات أُذِنَ لهم بالدخول في حريم الحي الذي لا يموت، فقرت أعينُهم بالمناجاة، فنُبِّهُوا على أن ذلك بواسطة نبي الرحمة وبركة متابعته، فالتفتوا فإذا الحبيب في حرم الحبيب حاضر، فأقبلوا عليه قائلين: "السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته] اهـ.
وما زال القرآن الكريم يتلى بين أظهرنا وفيه مخاطبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ونداؤه بضمير الخطاب: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ المُؤْمِنِينَ﴾ [الأنفال: 64]، ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا﴾ [الأحزاب: 45]، ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الكُفْرِ﴾ [المائدة: 41]، ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ﴾ [المائدة: 67]، إلى غير ذلك من الآيات الكريمة، فهل سيغير مَن ادَّعى خطأ المسلمين: سلفًا وخلفًا، صحابتهم وتابعيهم، فقهائهم ومحدِّثيهم؛ في قولهم: "السلام عليك أيها النبي"- هذه الآياتِ الكريمة، ويتحول بالضمير فيها –كما يريده في تشهد الصلاة- من الخطاب إلى الغَيبة، سبحانك هذا بهتان عظيم!
وكما تَعَبَّدنَا اللهُ تعالى بقرآن يتلى إلى يوم القيامة، وفيه نداء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومخاطبته بضمير المخاطب، ولم ينسخ ذلك بانتقاله إلى الرفيق الأعلى؛ فقد تعبدنا أيضًا بندائه ومخاطبته بضمير المخاطب في التشهد الذي كان يعلمه صلى الله عليه وآله وسلم للناس كما يعلمهم السورة من القرآن، ولم يقيده صلى الله عليه وآله وسلم بحال حياته الدنيوية، ولا علَّمهم أنه إذا مات يقولون بخلاف ذلك.
فلو كان الحكم حال حياته الدنيوية يختلف عنه بعد وفاته لبينه لهم صلى الله عليه وآله وسلم.
وقد شنع الإمام أبو محمد بن حزم على مَن زعم أن نبوة الأنبياء والرسل ليست مستمرة بعد انتقالهم إلى الرفيق الأعلى، واستدل على ذلك بالإجماع على السلام على النبي صلى الله عليه وآله وسلم بصيغة الخطاب؛ فقال في "الفِصَل في المِلَل والأهواء والنِّحَل" (1/ 76، ط. مكتبة الخانجي): [وإنما كان يجب أن يُكَلَّفوا أن يقولوا: إنَّ محمدًا كان رسول الله، وكذلك قوله تعالى: ﴿وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ﴾ [النساء: 164]، وكذلك قوله تعالى: ﴿يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ﴾ [المائدة: 109]، وقوله تعالى: ﴿وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ﴾ [الزمر: 69]؛ فسماهم الله رسلًا وقد ماتوا، وسماهم نبيين ورسلًا وهم في القيامة. وكذلك ما أجمع الناس عليه وجاء به النص من قول كل مُصَلٍّ فرضًا أو نافلةً: "السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته"؛ فلو لم يكن روحه عليه السلام موجودًا قائمًا لكان السلامُ على العدم هدرًا] اهـ.
وبناءً على ذلك: فالصيغة المتواترة المرفوعة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقولنا في التشهد: «السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ» قد خوطبت بها الأمة كافة، وهي عامة في كل زمان ومكان، وتخصيصها بحال دون أخرى هو تخصيص بلا مخصص ولا دليل، وبناء عليه ترك أكثر أهل العلم -وعلى رأسهم الأئمة الأربعة- العملَ بهذه الرواية الموقوفة، وعملوا جميعًا بالمرفوع المتواتر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم على ما تقدم بيانه وتفصيله. واتفق الجميع على أن صيغة السلام في هذه التشهدات جميعًا هو: «السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ»، وهو ما جرى عليه العمل سلفًا وخلفًا، وينبغي الفتوى به وترك ما عداه من مهجور الأقوال الخارجة عن مقتضيات الصناعة الحديثية والفقهية والأصولية. ومن تلك الأقوال المهجورة ادعاءُ أن عدول الصحابة من لفظ الخطاب إلى لفظ الغيبة إنما هو بتوقيف من النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأنه أمر تعبدي محض لا مجال للرأي والاجتهاد فيه.
وهذا الكلام مجرد دعوى مخالفة للواقع ولا دليل عليها من عقل أو نقل، حيث نسب ذلك إلى الصحابة، وقد عُلِمَ أن عامة الصحابة على خلاف ذلك، وافتراض التوقيف النبوي هو احتمال مخالف للمستقر الثابت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من قوله وفعله وتعليمه للصحابة، ولو كان ثَم توقيف لأظهره الصحابة وعزَوْه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، بينما نجد المستقر عندهم على خلاف ذلك.
وقد كان يَسَعُ هذا المدعي على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلى صحابته والمخطِّئَ لصلاة المسلمين جُزافًا ما وسع عمرَ بن الخطاب رضي الله عنه -والصحابةُ متوافرون بين يديه لا ينكرون عليه- مما كان يعلمه الناس على المنبر من لفظ التشهد، وقد تقدم عن الزهري أنه كان يأخذ به ويقول: "عَلَّمَه الناسَ على المنبر وأصحابُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم متوافرون لا ينكرونه".
ورغم اختلاف صيغ التشهد بين الصحابة رضي الله عنهم فقد اتفقوا على أن السلام عليه صلى الله عليه وآله وسلم يكون بصيغة «السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ»، وهذا موضع تواتر لا يرتاب فيه من له أدنى اشتغال بالحديث الشريف، وعلى ذلك جرى عمل أئمة المذاهب المتبعة وأصحابهم وغيرهم من أئمة المسلمين، ولا يسعنا تركُ المتواتر المجمعِ عليه الجاري العمل به إلى غيره من الآراء التي خرجت عن اجتهاد محض، والاجتهاد قد يخطئ ويصيب كما هو معلوم، ومن عمل بالمتواتر المرفوع المعمول به سلفًا وخلفًا لا يصح أبدًا أن يقال له: إنه أخطأ في صلاته، ولا يصح أن يُعَدَّ ذلك مِن أخطاء المصلين كما قد يتوهمه بعض من لم يمارس الفقه ولا الحديث الشريف تعلقًا برواية موقوفة في مقابلة المرفوع المتواتر، مع ثبوت استمرار العمل بالمرفوع المتواتر من عهد الخلفاء الراشدين ومَن بعدهم إلى يومنا هذا، وتعليم الصحابة إياه للناس على المنابر وفي المجالس من غير نكير.
والله سبحانه وتعالى أعلم.

اقرأ أيضا