تهنئة غير المسلمين بالأعياد والمناسبات

تهنئة غير المسلمين بالأعياد والمناسبات

لي شقيقة تعيش في أمريكا مع زوجها، وعندهم خمسة من الأولاد كلهم مسلمون ومحافظون على الدين الإسلامي ويعظمون أركانه، ويعيشون عيشة هادئة في مجتمع يتبادلون فيه مع من يتعاملون معهم من مجاملات وتهاني إلى غير ذلك، فما مدى شرعية المجاملات في المناسبات المختلفة، وفي أعياد من يتعاملون معهم في المجتمع الذي يعيشون فيه خصوصًا أنهم من الجيران والزملاء في العمل وجميعهم وجميع الهيئات التي يتعاملون معها يبادلونهم التهنئة في الأعياد والمناسبات الدينية الإسلامية، فضلًا على أنَّ المجتمع والحكومات يعملون على توفير كل الوسائل لممارسة شعائر ديننا بيسرٍ وبقدر عالٍ جدًّا من الاحترام والتقدير، ويعملون على وضع القوانين لمنح الإجازات في أعيادنا الإسلامية؟

لا مانع شرعًا من ذلك؛ فالإسلام دينٌ كلُّه سلامٌ ورحمةٌ وبرٌّ وصلة، يأمر أتباعه بالإحسان إلى الناس جميعًا، ولا ينهاهم عن بر غير المسلمين، ووصلهم، وإهدائهم، وقبول الهدية منهم، وما إلى ذلك من أشكال البر بهم، بل يأمر بهذا كله ما لم يظهر الآخرُ العداء، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم القدوةَ الحسنةَ في التطبيق؛ فكان يقبل الهدايا من غير المسلمين كما ثَبَت في صحيح السنة، ومن هنا فهم علماء الإسلام أن قبول هدية غير المسلم ليس فقط مستحبًّا لكونه من باب الإحسان، بل لكونه سُنَّةَ النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وعلى هذا النهج سار الصحابة الكرام والأئمة الأعلام؛ فروي شهود بعضهم أعياد غير المسلمين والأكل من الأطعمة المُعَدَّة للأكل فيها، مستحسنين لها بلا أدنى حرج، ونص الفقهاء على جواز تهنئة غير المسلمين بأعيادهم مع مراعاة أن لا يقترن ذلك بطقوس دينية أو ممارسات تخالف ثوابت الإسلام.

التفاصيل ....

الإسلام دينٌ كلُّه سلامٌ ورحمةٌ وبرٌّ وصلة، وقد أمر أتباعه بالإحسان إلى الناس جميعًا بشتى صوره، فأمَرَنا الله عز وجل أن نقول الحسنى لكل الناس دون تفريق؛ لعموم قول الله تعالى: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ [البقرة: 83]، وأمرنا الله بالإحسان دائمًا؛ قال تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ﴾ [النحل: 90]، كما أن الله لم ينهَنا عن بر غير المسلمين، ووصلهم، وإهدائهم، وقبول الهدية منهم، وما إلى ذلك من أشكال البر بهم؛ قال تعالى: ﴿لاَ يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوَهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ﴾ [الممتحنة: 8]، فالوصل، والإهداء، والعيادة، والتهنئة لغير المسلم، كلُّ ذلك يدخل في باب الإحسان، ويُعَد ضمنَ مظاهره.
وقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقبل الهدايا من غير المسلمين؛ فقد ثَبَت في صحيح السنة بما يفيد التواتر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قَبِلَ هدية غير المسلمين، ومن ذلك قبوله لهدية المقوقس عظيم القبط، وأخرج الترمذي في "سننه"، وأحمد في "المسند" عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: "أَهْدَى كِسْرَى لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فَقَبِلَ مِنْهُ، وَأهْدَى لَهُ قَيْصَرُ فَقَبِلَ، وَأَهْدَتْ لَهُ الْمُلُوكُ فَقَبِلَ مِنْهَا".
وقد فهم علماء الإسلام من هذه الأحاديث أن قبول هدية غير المسلم ليست فقط مستحبة لأنها من باب الإحسان؛ وإنما لأنها سُنَّةُ النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ يقول العلامة السرخسي في "شرح السير الكبير" (1/ 96) بعد ذكر إهداء النبي صلى الله عليه وآله وسلم المشركينَ شيئًا: [والإهداء إلى الغير من مكارم الأخلاق؛ وقال صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاق»، فعرفنا أن ذلك حسنٌ في حق المسلمين والمشركين جميعًا] اهـ.
وأجاز الحنفية استضافة أهل الذمة والذهاب إلى ضيافتهم، وصلتهم؛ فقد جاء في "الفتاوى الهندية" (5/ 347، ط. دار الفكر): [ولا بأس بالذهاب إلى ضيافة أهل الذمة، هكذا ذكر محمد رحمه الله تعالى … ولا بأس بضيافة الذمي، وإن لم يكن بينهما إلا معرفة، كذا في "الملتقط" … ولا بأس بأن يصل الرجل المسلم والمشرك قريبًا كان أو بعيدًا محاربًا كان أو ذميًّا] اهـ. فقَرَن المسلم بالمشرك؛ مما يدل على أنه لا فرق بينهما في الصلة.
كما نقل العلامة المرداوي الحنبلي في "الإنصاف" (4/ 234) في عيادة غير المسلم الأقوالَ، وصوَّب القول بالعيادة؛ فقال: [قوله: (وفي تهنئتهم وتعزيتهم وعيادتهم: روايتان) وأطلقهما في الهداية ... وأن قول العلماء: يُعاد، ويعرض عليه الإسلام. قلت: هذا هو الصواب] اهـ.
بل لقد ثبت عن كبار الصحابة رضوان الله عليهم وأئمة المسلمين شهود أعياد غير المسلمين والأكل من الأطعمة التي تُعدُّ خصيصى لتؤكل في أيام الاحتفال بأعيادهم، مستحسنين لها بلا أدنى حرج؛ فقد أخرج الخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد" (15/ 444، ط. دار الغرب الإسلامي) بسنده أن النعمان بن المرزبان، أَبُو ثابت أهدى لعلي بن أبي طالب عليه السلام الفالوذج في يوم النيروز، فقال: "نَوْرِزُونَا كُلَّ يَوْمٍ"، وقيل: كان ذلك في المهرجان، فقال: "مَهْرِجُونَا كل يوم". وذكر هذا الأثرَ جمعٌ من الأئمة والعلماء في كتبهم؛ كالعلامة أبي زكريا السلماسي في "منازل الأئمة الأربعة" (ص: 164، ط. مكتبة الملك فهد الوطنية)، والشيخ جار الله الزمخشري في "ربيع الأبرار ونصوص الأخيار" (1/ 40، ط. مؤسسة الأعلمي، بيروت)، والإمام أبي الفرج بن الجوزي في "صيد الخاطر" (ص 41، ط. دار القلم، دمشق)، والعلامة المؤرخ ابن خلكان الإربلي في "وفيات الأعيان" (5/ 405، ط. دار صادر، بيروت)، والحافظ المزي في "تهذيب الكمال" (29/ 423، ط. مؤسسة الرسالة، بيروت)، والحافظ الذهبي في "سير أعلام النبلاء" (6/ 395، ط. مؤسسة الرسالة)، والإمام بدر الدين العيني في "مغاني الأخيار" (3/ 121، ط. دار الكتب العلمية، بيروت)، والشيخ تقي الدين الغزي في "الطبقات السنية في تراجم الحنفية"، والإمام أبي العون السفاريني الحنبلي في "غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب" (2/ 134، ط. مؤسسة قرطبة، مصر)، والشيخ محمد عبد الحي الكتاني في "التراتيب الإدارية" (2/ 104، ط. دار الأرقم، بيروت).
كما أخرج الإمام أبو بكر الخلَّال البغدادي الحنبلي في "أحكام أهل الملل والردة من الجامع لمسائل الإمام أحمد بن حنبل" (ص: 51، ط. دار الكتب العلمية، بيروت) عن محمد بن علي، قَالَ: حَدَّثَنَا مهنا، قَالَ: سألت أحمد عن شهود هذه الأعياد التي تكون عندنا بالشام، مثل طور تابوت، ودير أيوب، وأشباهه يشهده المسلمون؛ يشهدون الأسواق، ويجلبون فيه البقر والغنم، والدقيق والبر، وغير ذلك، إلا أنه إنما يكون في الأسواق يشترون، ولا يدخلون عليهم ببيعهم؟ قَالَ: "إذا لم يدخلوا عليهم بيعهم وإنما يشهدون السوق، فلا بأس".
وجاء في "الفتاوى الفقهية" للعلامة شيخ الشافعية ابن حجر الهيتمي (4/ 234، ط. دار الفكر): [وسُئِل رحمه الله تعالى ورضي عنه: هل يحل اللعب بالقسيِّ الصغار التي لا تنفع ولا تقتل صيدًا، بل أُعِدَّتْ لِلَعِبِ الكفار، وأكل الموز الكثير المطبوخ بالسكر، وإلباس الصبيان الثياب الملونة بالصفرة؛ تبعًا لاعتناء الكفرة بهذه في بعض أعيادهم وإعطاء الأثواب والمصروف لهم فيه إذا كان بينه وبينهم تعلق من كون أحدهما أجيرًا للآخر مِن قبيل تعظيم النيروز ونحوه؛ فإن الكفرة صغيرهم وكبيرهم وضيعهم ورفيعهم حتى ملوكهم يعتنون بهذه القسي الصغار واللعب بها وبأكل الموز الكثير المطبوخ بالسكر اعتناءً كثيرًا، وكذا بإلباس الصبيان الثياب المصفرة وإعطاء الأثواب والمصروف لمن يتعلق بهم، وليس لهم في ذلك اليوم عبادة صنم ولا غيره، وذلك إذا كان القمر في سعد الذابح في برج الأسد، وجماعة من المسلمين إذا رأوا أفعالهم يفعلون مثلهم. فهل يكفر أو يأثم المسلم إذا عمل مثل عملهم من غير اعتقاد تعظيم عيدهم ولا اقتداء بهم أو لا؟
فأجاب نفع الله تبارك وتعالى بعلومه المسلمين بقوله: لا كفر بفعل شيء من ذلك، فقد صرَّح أصحابنا بأنه لو شد الزنار على وسطه، أو وضع على رأسه قلنسوة المجوس، لم يكفر بمجرد ذلك اهـ. فعدم كفره بما في السؤال أَوْلَى، وهو ظاهر، بل فعل شيء مما ذُكِر فيه لا يحرم إذا قصد به التشبه بالكفار لا من حيث الكفر، وإلا كان كفرًا قطعًا، فالحاصل أنه إن فعل ذلك بقصد التشبه بهم في شعار الكفر كفر قطعًا، أو في شعار العيد مع قطع النظر عن الكفر لم يكفر ولكنه يأثم، وإن لم يقصد التشبه بهم أصلاً ورأسًا فلا شيء عليه] اهـ.
وقد نص الفقهاء على جواز تهنئة غير المسلمين بأعيادهم؛ ما دام هذا من قبيل الخلق الحسن المأمور به شرعًا من غير أن يقترن بنية تعظيم الكفر والرضى به؛ فقد سُئل الشيخ عليش في "فتح العلي المالك" (2/ 349) عن تهنئة غير المسلمين: هل تعد من قبيل الردة؟ فقال: [لا يرتد الرجل بقوله لنصراني: أحياك الله لكل عام؛ حيث لم يقصد به تعظيم الكفر ولا رضي به] اهـ. فلم يرَ بها بأسًا، فضلًا عن كونه لم يعدَّها من قبيل الردة.
كما نقَل الشيخ الحطاب المالكي في "مواهب الجليل في شرح مختصر خليل" (6/ 289، ط. دار الفكر) عن الشيخ الإمام العز بن عبد السلام الشافعي أنه سُئل عن مسلمٍ قال لذميٍّ في عيد من أعيادهم: عيد مبارك عليك. هل يكفر أم لا؟ فأجاب: [إن قاله المسلم للذمي على قصد تعظيم دينهم وعيدهم فإنه يكفر، وإن لم يقصد ذلك وإنما جرى ذلك على لسانه فلا يكفر لما قاله من غير قصد] اهـ.
وإن مِن أوجب الواجبات على المسلمين في هذا العصر أن يظهروا هذا الجمال الذي في الإسلام، ليكونوا خير حملة لهذا الدين بأخلاقهم وتعاملاتهم.
وأما ما جاء في نصوص الفقهاء من النهي عن ذلك فهي أقوالٌ لها سياقاتها التاريخية وظروفها الاجتماعية المتعلقة بها؛ حيث مرت الدولة الإسلامية منذ نشأتها بأحوال السلم والحرب، وتعرضت للهجمات الضارية والحملات الصليبية التي اتخذت طابعًا دينيًّا يغذيه جماعة من المنتسبين للكنيسة آنذاك، فاتَّسم كثير من النصارى بالعداء الدينيِّ الواضح للمسلمين بحكم انتمائهم إلى الكنيسة، فكان الأمر بيننا وبينهم دينيًّا اعتقاديًّا واضحًا، ولذلك انصرف اهتمام المسلمين آنذاك إلى الفتح الإسلامي لنشر الدين الإسلامي وتوطيد أركانه، وتثبيته في الأرض، وكان يُخشى إن صُرِف إلى النصارى آنذاك نوعُ حفاوةٍ بهم وبما يخصهم أن تَقْوى شوكتهم، ويأخذَهم الغرور فيظنوا أن البَدء بإظهار البر من المسلمين من قبيل الضعف، والتبجيل والتعظيم منهم لغيرهم، وأنهم مهزومون ذليلون لغيرهم في وقتٍ كان غيرُهم فيه لا يُخفي عنهم عداوته، فيفرضوا عند ذلك قوتهم على المسلمين، ويساعد هذا في انحسار الدين والحدِّ من انتشاره في الأرض، ولا سيما أن أعياد النصارى كانت مرتبطة في الأذهان ارتباطًا وثيقًا باعتقاداتهم الدينية وبتمجيدهم للكفر؛ لكثرة الحروب المبنية على اختلاف العقيدة بيننا وبينهم آنذاك، مما دعا فقهاء المسلمين إلى تبني الأقوال التي تساعد على استقرار الدولة الإسلامية والنظام العام من جهة، ورد العدوان على عقائد المسلمين ومساجدهم من جهة أخرى. ولا يخفى أن تغير الواقع يقتضي تغير الفتوى المبنية عليه؛ إذ الفتوى تتغير بتغير العوامل الأربعة (الزمان والمكان والأشخاص والأحوال).
وهذا المعنى لم يعد قائمًا في عصر المواطَنة الحاضر؛ لشدة المخالطة بيننا وبينهم والتي يفرضها واقعنا المعاصر، فتهنئتهم وتبادل الفرحة معهم في أذهان العامة الآن هي من قبيل السلام والتحية وحسن الجوار، وهي مظهرٌ من مظاهر البر والرحمة والتعامل بالرقيِّ الإنساني الذي كان يفعله سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع من جاوره أو تعامل معه منهم.
فالإسلام لم يأمر أبدًا بالانسلال من بعض طوائف المجتمع وعدائها وبغضها، بل أمر ببذل البِرِّ والإحسان إلى الجميع، وهناك فرق كبير بين أن يبغض المسلم الكفر كما أمره الله؛ بحيث يُفَضِّل أن يُلقَى في النار على أن يترك الإسلام، وبين أن يكره الناس ويكره جيرانه وبعض أفراد مجتمعه ويعاديهم لأنهم كفار؛ فهذا المعنى الفاسد من الكراهية المقيتة لا علاقة له بالإسلام ولا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا بحضارة الإسلام التي نشرت السلام في ربوع الدنيا، فالإسلام لم يأمرنا بكراهية الخلق، بل أمرنا ببرهم لأنهم خلق الله، ولأن الإنسان بنيان الرب ملعونٌ من هدمه؛ لأن الله خلقه بيده ونفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته، فاحترام الإنسان من حيث هو صفةٌ ملائكية، ولذلك أمرنا الله تعالى بحب الناس، وصلة الأرحام، وحسن المعاملة، ودماثة الخلق، والكلام الجميل، والابتسامة الودود، والعشرة الطيبة، وبهذا انتشر الإسلام شرقًا وغربًا، وغزا قلوب الناس بالحب قبل أن يغزو بلدانهم.
ولذلك فإنا نقول للمسلم المقيم في بلاد غير المسلمين: تصرف بعفويتك وطبيعتك؛ فالإسلام يحب الأريحية والطبيعة الحسنة التي تُشعِر بها من حولك بالسعادة والتفاؤل والأمل والبر، وتعامل مع مجتمعك بكل خُلُقٍ جميل، وشارك أصدقاءك وجيرانك في فرحتهم واحتفالاتهم ما دام أنه ليس فيها طقوسٌ دينية ولا ممارساتٌ تخالف الإسلام، فشارِك أفراد مجتمعك، ولا عليك ممن يريد أن يفسد ما بينك وبين مجتمعك وبين الناس باسم الإسلام، فالإسلام بريء من ذلك كله.
وبناءً على ذلك: فيجوز شرعًا للمسلم أن يهنئ غير المسلمين بالأعياد والمناسبات التي يحتفلون بها، وهذا من باب المشاركة الاجتماعية لهم.
والله سبحانه وتعالى أعلم.

اقرأ أيضا