التسامح الديني قبل الهجرة النبوية وبعدها

التسامح الديني قبل الهجرة النبوية وبعدها

ما هو ردُّكم على من يقول: إنَّ الإسلام كان يدعو للتسامح والتعايش الديني قبل الهجرة، أمَّا بعد الهجرة فتحوَّل لفاشية لا تقبل التعايش؟

ما يثار من شبهات تزعم أن المرحلة المدنية لم تكن على قدر التسامح الذي كانت عليه المرحلة المكية إنما هي ناجمةٌ عن غيابٍ عن وقائع السيرة النبوية، وجهلٍ بأحداثها، أو تعصبٍ مقيتٍ تعامَى أصحابُه عن الحقائق التاريخية التي لا يسع منصفًا إنكارُها؛ فلقد حرص النبي صلى الله عليه وآله وسلم منذ اللحظات الأولى له في المدينة على نشر السماحة والتعاون بين ساكنيها، ويتضح هذا جليًّا في المعاهدة التي عقدها النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع اليهود، كما كان صلى الله عليه وآله وسلم حَسَنَ المعاشرةِ والتعاملِ مع أهل الكتاب؛ يعطيهم العطايا، ويهدي إليهم، ويعود مرضاهم، ويتفقد محتاجيهم، ويقوم لجنائزهم، ويحضر ولائمهم، وكان يقترض منهم؛ حتى توفي صلى الله عليه وآله وسلم ودرعه مرهونةٌ عند يهودي في المدينة.
ولم يقتصر تسامح النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد الهجرة على أهل الكتاب، بل تعداهم إلى المشركين أيضًا، مع أنهم كثيرًا ما تآمروا عليه صلى الله عليه وآله وسلم وأرادوا قتله؛ حتى أخرجوه من بلده مكة المكرمة وهي أحبُّ بلاد الله إليه، ثم حاربوه بعدَ ذلك في بدرٍ وأحدٍ والخندقِ، وقتلوا آل بيته وأصحابه رضي الله عنهم، وصدُّوه عن البيت الحرام، ومع ذلك كلِّه فقد كان النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم يعاملهم بالحسنى، ويأبى الدعاء عليهم، وقابلهم في مكة بالعفو العام ليعلم الجميع بأن التسامح مبدأ إسلامي لا يتغيير.

التفاصيل ....

دعا الإسلام إلى التسامح والتعايش الديني مع جميع الناس بمختلف أجناسهم وأعراقهم وألوانهم، وانتماءاتهم وطوائفهم وأديانهم؛ حيثُ كانت الغاية الأساس من التنوع البشري والتعدد الإنساني هو التعارُف لا التناكر، والتكامل لا التصارع؛ كما قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾ [الحجرات: 13]، وأخبر سبحانه وتعالى أنه لو شاء لخلق عباده على ملة واحدة وسَنَنٍ واحد، ولكن جرت سنته في الخلق على التنوع والاختلاف، واقتضت حكمته استمرار ذلك حتى يرث الأرض ومن عليها؛ كما قال سبحانه: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ۝ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾ [هود: 118-119]، وقال جل شأنه: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ [يونس: 99].
كما أخبر سبحانه أن هذا الاختلاف في الأديان يستوجب التعاون بين بني الإنسان، ويتطلب التنافس في حسن المعاملة وفعل الخير، وأن يُظهر أهل كل دين جمال ما عندهم من القِيَم والأخلاق التي تدعو إليها الأديان، وأن الله هو الذي سيفصل يوم القيامة بين الجميع في أمر اختلافهم؛ فقال تعالى: ﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾ [البقرة: 148]، وقال سبحانه: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ [المائدة: 48].
وكانت سيرةُ المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم أعطرَ سيرة عرفَتْها البشريةُ في تعاليم التسامح والنُّبْل والعفو؛ فقد منحه الله سبحانه وتعالى مِن كمالات القِيَم ومحاسن الشِّيَم ما لم يمنحه غيره من العالمين قبله ولا بعده، وجعله مثالًا للكمال البشري؛ في التعايش، والتسامح، والرحمة، واللين، واللطف، والعطف؛ قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: 107]، وقال سبحانه: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ [القلم: 4]، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: «أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّمَا أَنَا رَحْمَةٌ مُهْدَاةٌ» رواه الحاكم في "المستدرك".
وكانت رحمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم عامةً شاملةً للعالمين جميعًا؛ لا تختص بعرق دون عرق، ولا بلون على لون، ولا بدين عن دين، بل كانت رحمة لكل البشر، وكان يأمر الناس بذلك، ويجعل دخول الجنة موقوفًا على ذلك:
فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا رَحِيمٌ»، قلنا: كلُّنا رحيمٌ يا رسول الله، قال: «لَيْسَتِ الرَّحْمَةُ أَنْ يَرْحَمَ أَحَدُكُمْ خَاصَّتَهُ؛ حَتَّى يَرْحَمَ الْعَامَّةَ، وَيَتَوَجَّعَ لِلْعَامَّةِ» رواه عَبدُ بنُ حُمَيد في "مسنده".
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَضَعُ اللهُ رَحْمَتَهُ إِلَّا عَلَى رَحِيمٍ»، قلنا: يا رسول الله، فكلُّنا رحيمٌ، قال: «لَيْسَ الَّذِي يَرْحَمُ نَفْسَهُ خَاصَّةً، وَلَكِنِ الَّذِي يَرْحَمُ النَّاسَ عَامَّةً» رواه البيهقي في "شعب الإيمان".
ولم تكن هذه الرحمةُ مجردَ تعاليم نظرية، أو تطلعاتٍ فلسفيةً؛ بل كانت -كسائر خصاله وأخلاقه صلى الله عليه وآله وسلم- منهجَ حياةٍ يدعو إلى السلام والتسامح، وسيرةً سلوكية حيةً ترسِّخ منظومة القيم، وواقعًا تطبيقيًّا يجسِّد مظاهر التعايش الديني.
ففي العهد المكي: كان المسلمون في تسامحهم يجمعون بين الصبر على أذى المشركين، ومشاركة نصارى أهل الكتاب فرحهم بالانتصار على الوثنيين من الفرس المجوس، رغم اختلاف الدين.
فأما مع المشركين فكان المسلمون مأمورين بالعفو والتسامح معهم ومنهيين عن قتالهم، فلمَّا بُنِيَت الدولة في المدينة وهوجم المسلمون من قِبَل المشركين قاتلوهم دفاعًا عن دينهم ودولتهم:
فأخرج النسائي في "سننه"، والطبري وابن أبي حاتم في "التفسير"، والحاكم في "المستدرك" -ومن طريقه البيهقي في "السنن الكبرى"-، والواحدي في "أسباب النزول"، والضياء المقدسي في "الأحاديث المختارة": من طرق عن الحسين بن واقد، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن عبد الرحمن بن عوف، وأصحابًا له أتوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمكة فقالوا: "يا رسول الله، إنا كنا في عز ونحن مشركون، فلما آمنَّا صرنا أذلة!" فقال: «إِنِّي أُمِرْتُ بِالْعَفْوِ، فَلَا تُقَاتِلُوا»، فلمَّا حوَّلَنا الله إلى المدينة أمرَنا بالقتال فكفُّوا، فأنزل الله عز وجلَّ: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ [النساء: 77].
ولفظ ابن أبي حاتم والحاكم والبيهقي والواحدي والضياء: «فَلَا تُقَاتِلُوا الْقَوْمَ».
قال الحاكم: "هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه"، ووافقه الحافظ الذهبي.
وأخرج الطبري وابن المنذر في "التفسير" من طريقين عن سعيد، عن قتادة: قوله: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾، فقرأ حتى بلغ: ﴿إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ﴾، قال: "كان أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهو يومئذٍ بمكة قبل الهجرة، تسرَّعوا إلى القتال، فقالوا لنبي الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ذَرْنا نتَّخذ مَعَاول فنقاتل بها المشركين بمكة" فنهاهم نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك، قال: «لَمْ أُؤمَرْ بِذَلِكَ». فلما كانت الهجرة، وأُمر بالقتال، كره القوم ذلك، فصنعوا فيه ما تسمعون، فقال الله تبارك وتعالى: ﴿قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلا﴾. وزاد ابن المنذر: "ذُكر لنا أن عَبْد الرَّحْمَنِ بْن عوف كَانَ فيمن قَالَ ذَلِكَ".
وقال مقاتل بن سليمان [ت150هـ] في "تفسيره" (1/ 389-390، ط. دار إحياء التراث): [﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ﴾ عن القتال. نزلت فِي عَبْد الرَّحْمَن بن عَوْف، وسعد بن أَبِي وَقَّاص رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا، وهما من بني زهرة، وقدامة بن مظعون الْجُمَحِيِّ، والمقداد بن الأسود الكِنْديِّ رَضِيَ الله عَنْهُم؛ وذلك أنهم استأذنوا فِي قتال كفار مكة سرًّا؛ مما كانوا يلقون منهم من الأذى، فَقَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وآله وسلم: «مَهْلًا! كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ عَنْ قِتَالِهِمْ، وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ؛ فَإِنِّي لَمْ أُومَرْ بِقِتَالِهِمْ»] اهـ.
وأما مع النصارى من أهل الكتاب: فرغم اختلاف الدين كان المسلمون يتمنَّوْن غلبة نصارى الروم؛ لأنهم أصحاب كتاب سماوي، على الفرس؛ لأنهم مجوسٌ أهل أوثان، فلمَّا انهزم الفرس أمام الروم ودخل هرقل بيت المقدس فرح المسلمون أشد الفرح؛ كما جاء في أحاديث ابن عباس، وابن مسعود، ونِيَارِ بن مُكْرَمٍ، وغيرهم، رضي الله عنهم، في التفاسير والمسانيد والسنن، وكان الله تعالى قد وعد بذلك النصر قبل حصوله، ووجَّه المسلمين إليه ومهَّد لهم الفرحَ به، وأضاف النصر إلى نفسه؛ تعظيمًا لشأنه وتنويهًا بذكره واستحسانًا لحصوله؛ حتى إنه وصفهم في فرحهم بالإيمان، وقدَّره متزامنًا مع الفتح المبين للمسلمين؛ فقد جاء عقب صلح الحديبية، فقال جل شأنه وتبارك اسمه: ﴿الم ۝ غُلِبَتِ الرُّومُ ۝ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ ۝ فِي بِضْعِ سِنِينَ لله الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ ۝ بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ۝ وَعْدَ اللهِ لَا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الروم: 1-6]، وفرَحُ المؤمنين هنا هو فرحٌ ديني مشروع؛ لأن الله تعالى أناطه بوصف الإيمان، وتعليق الحكم بالمشتق مُؤْذِنٌ بعِلِّيَّة ما منه الاشتقاقُ، وإنما فرحوا لفرح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد أخبر الله تعالى بفرحهم في معرض التمدح والامتنان، والامتنانُ مستلزمٌ للمشروعية؛ لأنه لا يُمتَنُّ بممنوع، فكان نزول القرآن معبرًا عن فرح المسلمين بنصر الله للروم على الفرس، وإعلام الروم بأن المسلمين فَرِحُون باندحار المجوسية؛ لأنها من الوثنية، وبانتصار المسيحية، لأنها من الأديان السماوية.
وكما كانت سيرةُ الحبيب المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم في عهد الاستضعاف قبل الهجرة مليئةً بمظاهر التسامح، فقد ظلَّت كذلك وكثرت تجلياتُها وزادت ممارساتُها وتوطدت معالمُها في عهد القوة وبناء الدولة الإسلامية بعد الهجرة النبوية الشريفة، وذلك منذ اللحظة الأولى التي وضع النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم فيها قدمَه الطاهرة على أرض المدينة المُنورة.
فكان "السلام" هو المِفتاح الذي ارتضاه النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم لدخول هذا الوطن الجديد، والشعار الذي سَار على دربه المسلمون في التعامل مع من يعيشون معهم في المدينة من غير المسلمين، ليصبح بعد ذلك قانونًا مدنيًّا عامًّا يشتمل على جميع معاني السَّلام والأمان، وتتجلَّى مظاهرُه في شتَّى نواحي الحياة؛ تحيةً بين الناس وأمانًا من الاعتداء:
فعن عبد الله بن سلام رضي الله عنه أنه قال: لمَّا قَدِم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة انجَفَلَ النَّاسُ قِبَلَه، وقيل: قدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فجئت في الناس لأنظر، فلمَّا تبينت وجهه عرفت أنَّ وجهه ليس بوجه كذَّاب، فكان أوَّل شيء سمعته يتكلم به أن قال: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَفْشُوا السَّلَامَ، وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ، وَصَلُّوا بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ، تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلَامٍ» رواه ابن أبي شية في "المصنف"، وأحمد في "المسند"، والدارمي، والترمذي وصححه، وابن ماجه، في "سننهم"، والطبراني في "الأوسط" و"الكبير"، والحاكم في "المستدرك"، والبيهقي في "شعب الإيمان" و"دلائل النبوة".
فلم يكن خطابُه صلى الله عليه وآله وسلم موجهًا للمسلمين فقط، وإنَّما شَمِل كلَّ النَّاس في المدينة مسلمين وغير مسلمين، أهل الكتاب وغيرهم؛ بدليل أن راوي هذا الحديث هو سيدنا عبد الله بن سلام رضي الله عنه، وكان وقتَها كبيرَ أحبارِ اليهود وعالمَهم الأول.
وأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعموم إفشاء السلام في أحاديث كثيرة، وهذا يشمل المسلم وغير المسلم؛ فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: أن رجلًا سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أي الإسلام خيرٌ؟ قال: «تُطْعِمُ الطَّعَامَ، وَتَقْرَأُ السَّلَامَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ، وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ» متفق عليه.
قال الإمام بدر الدين العيني الحنفي في "عمدة القاري" (1/ 139، ط. دار إحياء التراث العربي): [وقال الخطابي: جعل صلى الله عليه وآله وسلم خيرَ الأقوال في البر والإكرام "إفشاء السلام" الذي يعم ولا يخص من عرف ومن لم يعرف، حتى يكون خالصًا لله تعالى، بريئًا من حظِّ النفس والتصنع، لأنَّه شعارُ الإسلام، فحقُّ كلِّ مسلمٍ فيه شائعٌ] اهـ.
وقال العلَّامة مُلَّا عليّ القاري الحنفي في "مرقاة المفاتيح" (4/ 1341، ط. دار الفكر): [«أفشوا السلام» أي: أظهروه وأكثروه على من تعرفونه ومن لا تعرفونه] اهـ.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّ السَّلَامَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللهِ تَعَالَى، وَضَعَهُ اللهُ فِي الْأَرْضِ، فَأَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ» أخرجه الإمام البخاري في "الأدب المفرد".
بل جاء أمر النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم صريحًا في السنة الشريفة بالسلام على غير المسلمين؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إِنَّ السَّلَامَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللهِ تَعَالَى وَضَعَهُ فِي الْأَرْضِ؛ تَحِيَّةً لِأَهْلِ دِينِنَا، وَأَمَانًا لِأَهْلِ ذِمَّتِنَا» رواه الطبراني في "المعجم الصغير"، ورواه ابن بشران في "الأمالي" بلفظ: «إِنَّ السَّلَامَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَضَعَهُ فِي أَرْضِهِ؛ تَحِيَّةً لِأَهْلِ مِلَّتِهِ، وَأَمَانًا لِأَهْلِ ذِمَّتِهِ».
وهكذا فهم الصحابة رضي الله عنهم عن النبي معنى إفشاء السلام؛ فعن محمد بن زياد الألهاني، عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه: أنه كان يسلم على كل مَن لقيه، قال: فما علمتُ أحدًا سبقه بالسلام إلا يهوديًّا مرة اختبأ له خلف أسطوانة، فخرج فسلم عليه، فقال له أبو أمامة رضي الله عنه: ويحك يا يهودي، ما حملك على ما صنعتَ؟ قال: رأيتُك رجلًا تكثر السلام، فعلمت أنه فضل، فأحببتُ أن آخذ به، فقال أبو أمامة رضي الله عنه: ويحك! إني سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: «إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ جَعَلَ السَّلَامَ تَحِيَّةً لِأُمَّتِنَا وأَمَانًا لِأَهْلِ ذِمَّتِنَا» رواه الطبراني في معجميه "الأوسط" و"الكبير"، والبيهقي في "شعب الإيمان".
وفي رواية عند البيهقي في "الشعب" عن محمد بن زياد، قال: كنتُ آخذ بيد أبي أمامة رضي الله عنه فأنصرف معه إلى بيته، فلا يمر بمسلم ولا نصراني، ولا صغير ولا كبير، إلا قال: "سلام عليكم، سلام عليكم، سلام عليكم"، حتى إذا انتهى إلى باب داره التفتَ إلينا، ثم قال: "يا بني أخي، أَمَرَنا نبيُّنا صلى الله عليه وآله وسلم أن نفشي السلام".
وفي رواية أبي بكر بن أبي شيبة في "المصنف"، والطبراني في "المعجم الكبير" عن محمد بن زياد الألهاني، وشرحبيل بن مسلم، عن أبي أمامة رضي الله عنه: أنه كان لا يمر بمسلم، ولا يهودي، ولا نصراني، إلَّا بدأه بالسلام.
وعن علقمة، قال: أقبلتُ مع عبد الله بن مسعود رضي الله عنه مِن السَّيْلَحِين، فصحبه دهاقين من أهل الحيرة، فلما دخلوا الكوفة أخذوا في طريق غير طريقهم، فالتفتَ إليهم فرآهم قد عدلوا، فأتبعهم السلام، فقلتُ: أتسلم على هؤلاء الكفار؟ فقال: «نعم صحبوني، وللصحبة حق» أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف"، وأبو يوسف في "الآثار"، والخرائطي في "مكارم الأخلاق"، والبيهقي في "الشعب".
وجاء ذلك واضحًا جليًّا في سيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفعله الكريم مع صبره على أذى المنافقين وعفوه؛ فعن أسامة بن زيد رضي الله عنهما: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وآله وسلم مَرَّ فِي مَجْلِسٍ فِيهِ أَخْلاطٌ مِنَ المُسْلِمِينَ وَالمُشْرِكِينَ عَبَدَةِ الأَوْثَانِ وَاليَهُودِ، وَفِيهِمْ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ، وَفِي المَجْلِسِ عَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ رضي الله عنه، فَسَلَّمَ عَلَيْهِمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله وسلم ثُمَّ وَقَفَ، فَنَزَلَ فَدَعَاهُمْ إِلَى اللهِ، وَقَرَأَ عَلَيْهِمُ القُرْآنَ. متفق عليه.
ولم يترك النبي صلى الله عليه وآله وسلم السلام على أهل الكتاب إلا عندما نكث يهود بني قريظة العهد، فكان امتناعه عن السلام عليهم لأن السلام تأمينٌ وإعطاء للعهد، وهم قد نكثوه، فكان ترك السلام نبذًا لعهدهم وإعلامًا لهم بالحرب؛ فعن أبي بَصْرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّا غَادُونَ عَلَى يَهُودَ؛ فَلَا تَبْدَءُوهُمْ بِالسَّلَامِ، فَإِذَا سَلَّمُوا عَلَيْكُمْ فَقُولُوا: وَعَلَيْكُمْ» رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"، والإمام أحمد في "المسند"، ورواه الإمام أحمد أيضًا من حديث أبي عبد الرحمن الجُهَني رضي الله عنه.
وبنى النبي صلى الله عليه وآله وسلم المجتمع المدني بناءً جديدًا، وأعاد صياغته بطريقة تقضي على الشتات والفُرقة وتُسرع في الجمع والوحدة؛ فكان إقرارُ مبدأ التعايش بين مختلف القبائل والفصائل والديانات والطوائف في الدولة الإسلامية الأُولى هو أحد أهم أهداف النبي صلى الله عليه وآله وسلم عقب هجرته إلى المدينة؛ ليضمَن تنظيم العلاقات بين المسلمين من جهة، وبينهم وبين غيرهم من أصحاب الديانات والانتماءات الأخرى من جهة أخرى، في إطارٍ من التسامح الديني والحرية العقائدية في ممارسة الشعائر والطقوس الدينية؛ حيث تميز أهل المدينة وقتَها بالتنوع العرقي والقبلي والديني؛ فكان فيهم المسلمون، واليهود، والعرب المشركون، والمنافقون، وكان غالب المسلمين يتألفون من المهاجرين والأنصار، وكانت الأنصار من قبيلتين متنافستين: الأوس والخزرج.
ولتحقيق ذلك وضع النبي صلى الله عليه وآله وسلم "الدستور الإسلامي"، وأسَّس من خلاله مفهوم "المواطنة" الذي يقوم على المساواة في الحقوق والواجبات، دون النظر إلى أي انتماء ديني أو عرقي أو مذهبي أو أي اعتبار آخر، وأقام به منظومة التعايش والتسامح بين الانتماءات القبلية والعرقية والدينية، وسُمِّي "بصحيفة المدينة"، أقرَّ فيها الناس على أديانهم، وأنشأ بين المواطنين عقدًا اجتماعيًّا قوامه: التناصر، والتكافل، والمساواة، وحرية الاعتقاد، والتعايش السلمي، وغير ذلك.
ولم يكن هذا المفهوم جليًّا في أي حضارة أو دولة حينئذٍ، ولم يكن العالم يعي معنى كلمة الوطن بالتزاماته وواجباته.
وقد ذكر ابن إسحاق في "السيرة" هذا الكتاب بغير إسناد، ورواه أبو عبيد في كتاب "الأموال" بسند جيد عن الزُّهري، كما يقول الإمام الصالحي في "سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد" (3/ 382، ط. دار الكتب العلمية)، ومما جاء فيه: [هَذَا الْكِتَابُ مِنْ مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ رَسُولِ اللَّهِ، بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ مِنْ قُرَيْشٍ، وَأَهْلِ يَثْرِبَ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ، فَلَحِقَ بِهِمْ، فَحَلَّ مَعَهُمْ وَجَاهَدَ مَعَهُمْ: أَنَّهُمْ أُمَّةٌ وَاحِدَةٌ دُونَ النَّاسِ وَالْمُهَاجِرُونَ مِنْ قُرَيْشٍ عَلَى رَبَاعَتِهِمْ، يَتَعَاقَلُونَ بَيْنَهُمْ مَعَاقِلَهُمُ الْأُولَى ... وَأَنَّ الْيَهُودَ يُنْفِقُونَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ مَا دَامُوا مُحَارِبِينَ، وَأَنَّ يَهُودَ بَنِي عَوْفٍ وَمَوَالِيَهُمْ وَأَنْفُسَهُمْ أُمَّةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، لِلْيَهُودِ دِينُهُمْ، وَلِلْمُؤْمِنِينَ دِينُهُمْ، إِلَّا مَنْ ظَلَمَ وَأَثِمَ، فَإِنَّهُ لَا يُوتِغُ إِلَّا نَفْسَهُ وَأَهْلَ بَيْتِهِ ... وَأَنَّ بَيْنَهُمُ النَّصْرُ عَلَى مَنْ حَارَبَ أَهْلَ هَذِهِ الصَّحِيفَةِ، وَأَنَّ بَيْنَهُمُ النَّصِيحَةَ وَالنَّصْرَ لِلْمَظْلُومِ، وَأَنَّ الْمَدِينَةَ جَوْفُهَا حَرَمٌ لِأَهْلِ هَذِهِ الصَّحِيفَةِ ... وَأَنَّ بَيْنَهُمُ النَّصْرُ عَلَى مَنْ دَهَمَ يَثْرِبَ، وَأَنَّهُمْ إِذَا دَعَوْا الْيَهُودَ إِلَى صُلْحِ حَلِيفٍ لَهُمْ فَإِنَّهُمْ يُصَالِحُونَهُ، وَإِنْ دَعَوْنَا إِلَى مِثْلِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَهُمْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، إِلَّا مَنْ حَارَبَ الدِّينَ، وَعَلَى كُلِّ أُنَاسٍ حِصَّتُهُمْ مِنَ النَّفَقَةِ ... وَأَنَّ الْبِرَّ دُونَ الْإِثْمِ فَلَا يَكْسِبْ كَاسِبٌ إِلَّا عَلَى نَفْسِهِ، وَأَنَّ اللَّهَ عَلَى أَصْدَقِ مَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ وَأَبَرِّهِ، لَا يَحُولُ الْكِتَابُ دُونَ ظَالِمٍ وَلَا آثَمٍ، وَأَنَّهُ مَنْ خَرَجَ آمنٌ وَمَنْ قَعَدَ آمنٌ إِلَّا مَنْ ظَلَمَ وَأَثِمَ، وَإِنَّ أَوْلَاهُمْ بِهَذِهِ الصَّحِيفَةِ الْبَرُّ الْمُحْسِنُ] اهـ.
وقد اشتمل هذا الدستور على سبعة بنود رئيسية:
الأول: مسئولية الجميع في الدفاع عن الدولة وحدودها ضد الأعداء؛ حيث تقول عن أطراف الوثيقة: "عليهم النصر والعون والنصح والتناصح والبر من دون الإثم".
الثاني: إقرار مبدأ التكافل والتعاون بين الجيران والعصبات؛ بحيث لا يبقى في المدينة محتاج أو ذو ضائقة أو كرب إلا كان له من يقوم بشأنه؛ حيث جاء فيه ذكرُ أن كل طائفة وقبيلة وناحية "على رِبَاعَتِهم؛ يتعاقلون مَعَاقِلَهم الأُولى، وكل طائفة منهم تَفْدي عانِيَها بالمعروف والقسط بين المؤمنين".
الثالث: إقرار مبدأ العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص، وتمثل ذلك في توافق الحقوق والواجبات وتناسقها، وضمان المساواة التامة لمواطني المدينة في المشاركة الفاعلة في مجالات الحياة المختلفة، تحقيقًا لمبدأ "المواطنة الكاملة" لكل ساكني المدينة؛ حيث قال: "وأنَّ يهود الأوس مواليهم وأنفسهم على مثل ما لأهل هذه الصحيفة مع البر المحض من أهل هذه الصحيفة"، وأيضًا: "وإن يهودَ بني عوفٍ أمة مع المؤمنين"، ثم جاء فيه تعدادهم طائفة طائفة، وأن ليهود بني كذا مثل ما ليهود بني كذا ... وهكذا.
الرابع: ضمان حرية الاعتقاد والتعبد؛ إذ تضمنت حقوق الأفراد جميعًا في ممارسة الشعائر الدينية الخاصة، وحقوقهم في الأمن والحرية وصون أنفسهم وأموالهم وأعراضهم ودور عبادتهم؛ حيث جاء فيها: "لليهود دينهم وللمسلمين دينهم، مواليهم وأنفسهم، إلا من ظلم وأثم فإنه لا يوتغ -أي يهلك- إلا نفسه وأهل بيته".
الخامس: الأمن الاجتماعي والتعايش السلمي بين جميع مواطني دولة المدينة؛ حيث قال: "أنه من خرج آمن، ومن قعد آمن بالمدينة، إلا من ظلم وأثم، وأن الله جار لمن بر واتقى"، كما حفظ حق الجار في الأمن والحفاظ عليه كالمحافظة على النفس؛ حيث قال: "وأن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم".
السادس: إقرار مبدأ المسئولية الفردية، وتبدأ هذه المسئولية من الإعلان عن النظام، وأخذ الموافقة عليه، وهو ما أكدته الوثيقة بقولها: "أنه لا يكسب كاسب إلا على نفسه، وأن الله على أصدق ما في هذه الصحيفة وأبره، وأنه لا يأثم امرؤ بحليفه وأن النصر للمظلوم".
السابع: التعاهد على نصرة المظلوم ونبذ الفتن والبعد عن التصارع الطائفي، وأنَّه لا مجال لمحاربة طائفةٍ، أو إكْراه مُستضعَفٍ؛ حيث تقول الوثيقة: "وإن المؤمنين المتقين على من بغى منهم، أو ابتغى دَسِيعةَ -أي: عظيمة- ظلمٍ، أو إثمٍ، أو عدوانٍ، أو فسادٍ بين المؤمنين، وإن أيديهم عليه جميعًا".
وعلى السماحة والتعايش واحترام الآخر تأسَّس المجتمعُ الإسلامي الأول؛ حيثُ أمر الشرع بإظهار البر والرحمة والعدل والإحسان في التعامل مع أهل الكتاب المخالفين في العقيدة؛ فقال تعالى: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ [الممتحنة: 8]، فعاش اليهود في كنف الإسلام، يحترم المسلمون عاداتهم وأعرافهم.
وترك المسلمون أهل المدينة على أديانهم ولم يُجبِروهم على الدخول في الإسلام قهرًا، وسمحوا لهم بممارسة طقوس أديانهم في دور عبادتهم، وضمن الإسلام لهم من أجل ذلك سلامة دور العبادة، وحرم الاعتداء عليها بكافة أشكاله. بل إن القرآن الكريم جعل تغلُّب المسلمين وجهادهم لرفع الطغيان ودفع العدوان في حال تمكين الله تعالى لهم في الأرض سببًا في حفظ دور العبادة –سواء أكانت للمسلمين أم لغيرهم- من الهدم وضمانًا لأمنها وسلامة أصحابها، وذلك في قوله تعالى: ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ۝ الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلله عَاقِبَةُ الأُمُورِ﴾ [الحج: 40-41]، وهذه من أعظم الآيات الدالة على إقرار الإسلام لمبدأ التسامح الديني في مرحلة التمكين والقوة.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: "الصوامع: التي تكون فيها الرهبان، والبِيَع: مساجد اليهود، و"صلوات": كنائس النصارى، والمساجد: مساجد المسلمين" أخرجه عبد بن حميد وابن أبي حاتم في التفسير.
وقال مقاتل بن سليمان في "تفسيره" (2/ 385، ط. دار الكتب العلمية): [كل هؤلاء الملل يذكرون الله كثيرًا في مساجدهم، فدفع الله عز وجل بالمسلمين عنها] اهـ.
وبذلك شهدت السيرة النبوية الشريفة بعد الهجرة إلى المدينة المنورة:
فقد كتب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأسقف بني الحارث بن كعب وأساقفة نجران وكهنتهم ومن تبعهم ورهبانهم: «أنَّ لهم على ما تحت أيديهم من قليل وكثير من بيعهم وصلواتهم ورهبانيتهم، وجوار الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم، ألَّا يُغَيَّرَ أسقف عن أسقفيته، ولا راهب عن رهبانيته، ولا كاهن عن كهانته، ولا يغير حق من حقوقهم، ولا سلطانهم، ولا شيء مما كانوا عليه؛ ما نصحوا وأصلحوا فيما عليهم، غيرَ مُثقَلين بظلم ولا ظالمين» أخرجه أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب "الأموال" (ص: 244، ط. دار الفكر)، وأبو عمر بن شبة النُّمَيْري في "تاريخ المدينة المنورة" (2/ 584-586، ط. دار الفكر)، وابن زنجويه في "الأموال" (2/ 449، ط. مركز فيصل للبحوث)، وابن سعد في "الطبقات الكبرى" (1/ 266، ط. دار صادر)، والحافظ البيهقي في "دلائل النبوة" (5/ 389، ط. دار الكتب العلمية)، وذكره الإمام محمد بن الحسن الشيباني في كتاب "السير" (1/ 266، ط. الدار المتحدة للنشر).
وجرى التوارث من العهد النبوي عبر القرون بترك الكنائس في بلاد المسلمين؛ قال الإمام الزيلعي الحنفي في "تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق" (3/ 280، ط. المطبعة الأميرية): ]جرى التوارث من لدن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى يومنا هذا بترك الكنائس في أمصار المسلمين] اهـ.
بل سمح النبي صلى الله عليه وآله وسلم في عام الوفود لوفد نصارى نجران بممارسة شعائرهم وطقوسهم في مسجده الشريف، مع أن المسجد هو بيت العبادة المختص بالمسلمين؛ فروى ابن إسحاق في "السيرة" -ومن طريقه ابن جرير في "التفسير" واللفظ له، والبيهقي في "دلائل النبوة"- عن محمد بن جعفر بن الزبير: أن وفد نجران قدموا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المدينة، فدخلوا عليه في مسجده حين صلى العصر، عليهم ثياب الحبرات جُبَبٌ وأردية في بلحارث بن كعب، قال: يقول بعض من رآهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يومئذٍ: ما رأينا بعدهم وفدًا مثلهم، وقد حانت صلاتهم، فقاموا يصلون في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، -زاد في "السيرة" و"الدلائل": فأراد الناس منعهم- فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «دَعُوهُم»، فصلَّوْا إلى المشرق. وقد صرح محمد بن إسحاق بالتحديث؛ فانتفت علة التدليس، وأسند محمد بن جعفر الرواية عن بعض مَن رأى وفد نجران مِن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم -كما في رواية ابن جرير المسوق لفظُها- فانتفت علة الإرسال، ولذلك فقد صحح ابن القيم الحنبلي هذا الحديث في كتابه "أحكام أهل الذمة" (1/ 397، ط. رمادي للنشر).
واحترمت الشريعة الإسلامية الكتب السماوية السابقة، رغم ما نَعَتْه على أتباعها من تحريف الكلم عن مواضعه، وتكذيبهم للنبي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، فبعد غزوة خيبر كان في أثناء الغنائم صحائف متعدِّدة من التوراة، فجاءت يهود تطلبها، فأمر النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم بدفعها إليهم، كما ذكره الإمام الدياربكري في "تاريخ الخميس في أحوال أنْفَسِ نَفِيس صلى الله عليه وآله وسلم" (2/ 55، ط. دار صادر)، والشيخ نور الدين الحلبي في السيرة الحلبية "إنسان العيون في سيرة الأمين المأمون" (3/ 62، ط. دار الكتب العلمية). وهذه غاية ما تكون الإنسانية في احترام الشعور الديني للمخالف رغم عداوة يهود خيبر ونقضهم للعهود وخيانتهم للدولة؛ حيث كانوا قد حزبوا الأحزاب، وأثاروا بني قريظة على الغدر والخيانة، واتصلوا بالمنافقين وغطفان وأعراب البادية، ووصلت بهم الخيانة العظمى إلى محاولتهم الآثمة لاغتيال النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
يقول المؤرخ اليهودي إسرائيل ولفنسون، معقبًا على ذلك، في كتابه "تاريخ اليهود في بلاد العرب" (ص: 170، ط. مطبعة الاعتماد): [ويدل هذا على ما كان لهذه الصحائف في نفس الرسول من المكانة العالية؛ مما جعل اليهود يشيرون إلى النبي بالبنان، ويحفظون له هذه اليد؛ حيث لم يتعرض بسوء لصحفهم المقدسة، ويذكرون بإزاء ذلك ما فعله الرومان حين تغلبوا على أوروشليم وفتحوها سنة 70 ب. م. إذ أحرقوا الكتب المقدسة وداسوها بأرجلهم، وما فعله المتعصبون من النصارى في حروب اضطهاد اليهود في الأندلس؛ حيث أحرقوا أيضًا صحف التوراة. هذا هو البون الشاسع بين الفاتحين ممن ذكرناهم وبين رسول الإسلام] اهـ.
وسمحت الشريعة لأهل الكتاب أن يمارسوا طقوسهم ومراسيم عباداتهم وعاداتهم دونما حجر عليهم أو تضييق، وعلى هذه السُّنَّة سار الخلفاء الراشدون، ومن بعدهم من أئمة المسلمين وخلفائهم؛ فقد كتب عمر بن عبد العزيز إلى الحسن البصري رضي الله تعالى عنهما: ما بال الخلفاء الراشدين تركوا أهل الذمة وما هم عليه: من نكاح المحارم، واقتناء الخمور والخنازير؟ فكتب إليه: "إنما بذلوا الجزية ليُتْرَكُوا وما يعتقدون، وإنما أنت متبع ولست بمبتدع، والسلام". ذكره الإمام السرخسي الحنفي في "المبسوط" (5/ 39، ط. دار المعرفة).
وأمر الشرع بالعفو والصفح عن أهل الكتاب وتحمُّل أذاهم رغم ما يعلمه الله تعالى من إضمار بعضهم للحسد وكتمان الحق، ما داموا لم ينقضوا العهد؛ فقال جل شأنه: ﴿وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [البقرة: 109].
ونهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهيًا شديدًا عن التعرُّض بالأذى للمعاهدين من أهل الكتاب؛ حسيًّا كان الأذى أو معنويًّا، وبدَهيٌّ أنه لم يكن هناك عهد مع أهل الكتاب في مكة المكرمة قبل الهجرة، وإنما كان ذلك في المدينة المنورة بعد الهجرة، وأغلظ النبي صلى الله عليه وآله وسلم في العقوبة على كل مَن آذاهم أو حرَّض على إلحاق الأذى بهم، ونهى عن ظلمهم أو تكليفهم فوق طاقتهم؛ حتى عد العلماء ذلك من الكبائر؛ كما صنع الحافظ الذهبي في كتاب "الكبائر" (ص: 14، ط. دار الندوة)، والإمام ابن حجر الهيتمي في كتابه "الزواجر عن اقتراف الكبائر" (2/ 294، ط. دار الفكر): فعن عبدِ اللهِ بنِ عمرٍو رضِي الله عنهما، عن النّبِيِ صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَن قتَلَ مُعاهِدًا لم يرِح رائِحة الجنَّةِ، وإِنَّ رِيحها توجد مِن مسِيرةِ أربعِين عامًا» رواه البخاري في "صحيحه".
وروى أبو داود في "سننه"، وابن زنجويه في "الأموال"، والبيهقي في "السنن الكبرى" عن صَفْوانَ بنِ سُليمٍ، عن عدةٍ (وعند ابن زنجويه والبيهقي: عن ثلاثين) مِنْ أبناءِ أصحابِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم، عن آبائِهِم دِنْيَةً (أي ملاصقي النسب) عَنْ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم قالَ: «ألَا مَن ظلم مُعاهَدًا، أو انتقصه، أو كلَّفه فوق طاقته، أو أخذ منه شيئًا بغير طِيبِ نفسٍ: فأنا حجيجُه –أي: خصمُه- يوم القيامة»، زاد ابن زنجويه والبيهقي: وأشار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأصبعه إلى صدره «ألَا ومَن قتل مُعاهَدًا له ذمة الله وذمة رسوله حرم الله ريح الجنة عليه وإن ريحها ليوجد من مسيرة سبعين خريفا». قال الحافظ العراقي في "شرح التبصرة والتذكرة" (ص: 191): [وهذا إسنادٌ جَيِّدٌ، وإنْ كانَ فيهِ مَنْ لم يُسَمَّ؛ فإنَّهُم عِدَّةٌ مِنْ أبناءِ الصحابَةِ يبلغونَ حَدَّ التواترِ الذي لا يُشتَرطُ فيهِ العدالةُ] اهـ.
وهذه وصية نبوية عامةٌ بأهل الكتاب الذين كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والذين يأتون بعد زمنه.
وكما وصَّى النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم بأهل الكتاب على جهة العموم في كل زمان ومكان، فقد وصَّى بطوائف منهم يأتون بعده على جهة الخصوص؛ كوصيته الثابتة بأقباط مصر؛ فروى ابن عبد الحكم في "فتوح مصر والمغرب"، والدارقطني في "المؤتلف والمختلف" -ومن طريقه النميري في "الإعلام بفضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم والسلام"، وابن عساكر في "تاريخ دمشق"- وابن زولاق في "فضائل مصر وأخبارها" من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إِنَّ اللهَ سَيَفْتَحُ عَلَيْكُمْ بَعْدِي مِصْرَ، فَاسْتَوْصُوا بِقِبْطِهَا خَيْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مِنْهُمْ صِهْرًا وَذِمَّةً».
وروى أبو يعلى في "مسنده" وعنه ابن حبان في "صحيحه"، وابن عبد الحكم في "فتوح مصر" من طُرقٍ: عن أَبي هانئٍ حميد بن هانئٍ الخَوْلاني، أنه سمع أبا عبد الرحمن الحُبُلِيَّ، وعمْرَو بن حُرَيْث، وغيرَهما، يقولون: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إِنَّكُمْ سَتَقْدُمُونَ عَلَى قَوْمٍ، جُعْد رُءُوسُهُمْ، فَاسْتَوْصُوا بِهِمْ خَيْرًا، فَإِنَّهُمْ قُوَّةٌ لَكُمْ، وَبَلاغٌ إِلَى عَدُوِّكُمْ بِإِذْنِ اللهِ» يعني: قبط مصر، قال الحافظ الهيثمي في "مجمع الزوائد" (10/ 64، ط. مكتبة القدسي): [رجاله رجال الصحيح] اهـ.
وأخرج الطبراني في "المعجم الكبير" عن أم المؤمنين أم سلَمة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أوصى عند وفاته، فقال: «اللهَ اللهَ فِي قِبْطِ مِصْرَ، فَإِنَّكُمْ سَتَظْهَرُونَ عَلَيْهِمْ، وَيَكُونُونَ لَكُمْ عُدَّةً وَأَعْوَانًا فِي سَبِيلِ اللهِ». قال الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد (10/ 63): [رجاله رجال الصحيح] اهـ.
وأخرج ابن عبد الحكم في "فتوح مصر والمغرب" عن مسلم بن يسار، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «اسْتَوْصُوا بِالْقِبْطِ خَيْرًا، فَإِنَّكُمْ سَتَجِدُونَهُمْ نِعْمَ الْأَعْوَانُ عَلَى قِتَالِ عَدُوِّكُمْ». وهذا حديثٌ مرسَلٌ حسن؛ أرسله ثقةٌ من القرون المفضلة.
وأخرج ابن عبد الحكم أيضًا في "فتوح مصر" (ص: 22) عن موسى بن أيوب الغافقيِّ، عن رجل من الزَّبد أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مرض، فأغمى عليه ثم أفاق، فقال: «اسْتَوْصُوا بِالْأُدْمِ الْجُعْدِ» ثم أغمى عليه الثانية ثم أفاق، فقال مثل ذلك، قال: ثم أغمى عليه الثالثة فقال مثل ذلك، فقال القوم: لو سألنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الأدم الجعد! فأفاق، فسألوه فقال: «قِبْطُ مِصْرَ؛ فَإِنَّهُمْ أَخْوَالٌ وَأَصْهَارٌ، وَهُمْ أَعْوَانُكُمْ عَلَى عَدُوِّكُمْ، وَأَعْوَانُكُمْ عَلَى دِينِكُمْ». وهذا حديث جيِّد الإسناد.
وأخرج ابن هشام في "السيرة"، والزبير بن بكار في "المنتخب من كتاب أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم" (ص: 60، ط. مؤسسة الرسالة) -ومن طريق ابن هشام رواه ابنُ عبد الحكم في "فتوح مصر والمغرب"- من طريق عبد الله بن وهب، عن ابن لهيعة، عن عمر مولى غُفْرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «اللهَ اللهَ فِي أَهْلِ الذِّمَّةِ، أَهْلِ الْمَدَرَةِ السَّوْدَاءِ، السُّحْمِ الْجِعَادِ؛ فَإِنَّ لَهُمْ نَسَبًا وَصِهْرًا». وهذا حديث حسن.
وروى ابن سعد في "الطبقات الكبرى" -كما في "كنز العمال" للمتقي الهندي (5/ 760، ط. مؤسسة الرسالة)- عن موسى بن جبير، عن شيوخ من أهل المدينة: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب إلى واليه على مصر عمرو بن العاص رضي الله عنه: "واعلم يا عمرو أن الله يراك ويرى عملك فإنه قال تبارك وتعالى في كتابه: ﴿وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا﴾ يريد: أن يقتدى به، وأن معك أهل ذمة وعهد، وقد أوصى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بهم، وأوصى بالقبط فقال: «استَوْصوا بالقِبْطِ خيرًا؛ فإنَّ لهم ذِمَّةً ورَحِمًا»، ورَحِمُهم: أن أمَّ إسماعيل عليه السلام منهم، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: «مَن ظَلَمَ مُعاهَدًا أو كلَّفه فوق طاقته فأنا خصمُه يومَ القيامة»، احذَرْ يا عمرو أن يكون رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم لك خصمًا؛ فإنه مَن خاصَمَه خَصَمَه".
وأمر الله تعالى بإحسان الجدال مع أهل الكتاب في أمور الديانات ونبَّه المؤمنين على إقرار المشترك بينهم وبينهم والعمل عليه والانطلاق منه؛ فقال تعالى: ﴿وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ [العنكبوت: 46].
ونهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن أن اتخاذ مواطن التعايش والتعاملات الحياتية مواضع لفرض العقائد والإكراه عليها؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: بينما يهودي يعرض سلعته، أُعطي بها شيئا كرهه، فقال: لا والذي اصطفى موسى على البشر، فسمعه رجل من الأنصار، فقام فلطم وجهه، وقال: تقول: والذي اصطفى موسى على البشر، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم بين أظهرنا؟ فذهب إليه فقال: أبا القاسم، إن لي ذمةً وعهدًا، فما بال فلان لطم وجهي، فقال: «لِمَ لطمت وجهه؟» فذكره، فغضب النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى رئي في وجهه، ثم قال: «لَا تُفَضِّلُوا بَيْنَ أَنْبِيَاءِ اللهِ؛ فَإِنَّهُ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ، فَيَصْعَقُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ، إِلَّا مَنْ شَاءَ اللهُ، ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ أُخْرَى، فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ بُعِثَ، فَإِذَا مُوسَى آخِذٌ بِالعَرْشِ، فَلاَ أَدْرِي أَحُوسِبَ بِصَعْقَتِهِ يَوْمَ الطُّورِ، أَمْ بُعِثَ قَبْلِي» متفق عليه.
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة حسن المعاشرة والتعامل مع أهل الكتاب؛ يعطيهم العطايا، ويهدي إليهم، ويعود مرضاهم، ويتفقد محتاجيهم، ويقوم لجنائزهم، ويحضر ولائمهم، وكان يقترض منهم؛ حتى توفي صلى الله عليه وآله وسلم ودرعه مرهونةٌ عند يهودي في المدينة؛ فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: مرَّ عمر بن الخطَّاب مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم على يهودي وعلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم قميصان فقال اليهودي: يا أبا القاسم اكسني، فخَلع النبي صلى الله عليه وآله وسلم أفضل القميصين فكساه، فقلت: يا رسول الله، لو كسوته الذي هو دون فقال: «لَيْسَ تَدْرِي يَا عُمَرُ أَنَّ دِينَنَا الْحَنَفِيَّةُ السَّمْحَةُ لَا شُحَّ فِيهَا؟! وَكَسَوْتُهُ أَفْضَلَ الْقَمِيصَيْنِ لِيَكُونَ أَرْغَبَ لَهُ فِي الْإِسْلَامِ» أخرجه أبو نعيم في "حلية الأولياء".
وعن أنس رضي الله عنه، أن غلامًا يهوديًّا كان يضع للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وَضوءَه ويناوله نعليه، فمرض، فأتاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم فدخل عليه، وأبوه قاعد عند رأسه، فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «يَا فُلَانُ، قُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ»، فنظر إلى أبيه، فسكت أبوه، فأعاد عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فنظر إلى أبيه، فقال أبوه: أَطِعْ أبا القاسم، فقال الغلام: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، فخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو يقول: «الْحَمْدُ للهِ الَّذِي أَخْرَجَهُ بِي مِنَ النَّارِ» رواه الإمام أحمد في "المسند" واللفظ له، والإمام البخاري في "الصحيح"، وغيرهما.
وعن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: كان سهل بن حنيف، وقيس بن سعد رضي الله عنهما قاعدَيْن بالقادسية، فمروا عليهما بجنازة، فقاما، فقيل لهما: إنها من أهل الأرض؛ أي من أهل الذمة، فقالا: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مرت به جنازة فقام، فقيل له: إنها جنازة يهودي! فقال: «أَلَيْسَتْ نَفْسًا» متفق عليه.
وعن عروة بن الزبير، قال: لما فتح الله عز وجل خيبر على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقتل من قتل منهم، أهدت زينب بنت الحارث اليهودية -وهي بنت أخي مرحب- شاة مصلية، وسمَّته فيها وأكثرت في الكتف، والذراع، حين أُخْبِرَتْ أنها أحب أعضاء الشاة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومعه بشر بن البراء بن معرور أخو بني سلمة رضي الله عنه، قدمت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فتناول الكتف، والذراع فانتهس منها، وتناول بشر عظمًا آخر فانتهس منه، فلما أدغم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أدغم بشر ما في فيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «ارْفَعُوا أَيْدِيَكُمْ؛ فَإِنَّ كَتِفَ الشَّاةِ تُخْبِرُنِي أَنْ قَدْ بُغِيَتْ فِيهَا»، فقال بشر بن البراء رضي الله عنه: والذي أكرمك، لقد وجدت ذلك في أكلتي التي أكلت، فإن منعني أن ألفظها إلا أني كرهت أن أنغص طعامك، فلما أكلتَ ما في فيك لم أرغب بنفسي عن نفسك، ورجوت أن لا يكون أدغمتها، وفيها بغي، فلم يقم بشر من مكانه، حتى عاد لونه كالطيلسان، وماطله وجعه منه، حتى كان ما يتحول إلا ما حول، وبقي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد ثلاث سنين حتى كان وجعه الذي مات فيه. رواه الطبراني في "المعجم الكبير".
وفي رواية أبي داود في "السنن": وأرسل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى اليهودية فدعاها، فقال لها: «أَسَمَمْتِ هَذِهِ الشَّاةَ؟» قالت اليهودية: من أخبرك؟ قال: «أَخْبَرَتْنِي هَذِهِ فِي يَدِي» لِلذِّرَاعِ، قالت: نعم، قال: «فَمَا أَرَدْتِ إِلَى ذَلِك؟» قالت: قلتُ: إن كان نبيًّا فلن يضرَّه، وإن لم يكن نبيًّا استرحنا منه، فعفا عنها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يعاقبها، وتوفي بعض أصحابه الذين أكلوا من الشاة.
وعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها "أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم توفي ودرعه مرهونة عند يهودي بثلاثين صاعًا من شعير". متفق عليه.
ولم يقتصر التسامح الإسلامي بعد الهجرة على أهل الكتاب من اليهود والنصارى وحدهم، بل تعداهم إلى المشركين أيضًا، مع أنهم ليسوا أصحاب كتاب، ومع أن كثيرًا منهم تآمروا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأرادوا قتله؛ حتى أخرجوه من بلده مكة المكرمة وهي أحبُّ بلاد الله إليه، ثم حاربوه بعدَ ذلك في بدرٍ وأحدٍ والخندقِ، وقتلوا آل بيته وأصحابه رضي الله عنهم، وصدُّوه عن البيت الحرام، ومع ذلك كلِّه فقد كان النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم يعاملهم بالحسنى، ويأبى الدعاء عليهم.
فعندما آذى المشركون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في غزوة أحدٍ وكسروا رَبَاعِيَتَه، وشجُّوا وجهه الشريف، وحزن أصحابه رضي الله عنهم وشقَّ عليهم ذلك، فطلبوا منه الدعاء على المشركين، فأبى أن يدعو عليهم، بل دعا لهم بالهداية والغفران؛ فروى البخاري ومسلم في "صحيحيهما" عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: "كأنِّي أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحكي نبيًّا من الأنبياء ضربه قومُه وهو يمسح الدمَ عن وجهه، ويقول: «رَبِّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ»"، وأخرج الإمام مسلم في "صحيحه" عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، ادْعُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، قَالَ: «إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ لَعَّانًا، وَإِنَّمَا بُعِثْتُ رَحْمَةً»، وأخرجه البيهقي في "شعب الإيمان" مرسلًا، ولفظه: لَمَّا كُسِرَتْ رَبَاعِيَةُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم وَشُجَّ فِي جَبْهَتِهِ فَجَعَلَتِ الدِّمَاءُ تَسِيلُ عَلَى وَجْهِهِ قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، ادْعُ اللهَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّ اللهَ تَعَالَى لَمْ يَبْعَثْنِي طَعَّانًا وَلَا لَعَّانًا، وَلَكِنْ بَعَثَنِي دَاعِيَةَ وَرَحْمَةٍ، اللهُمَّ اهْدِ قَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ».
قال الإمام القاضي عياض في "الشفا بتعريف حقوق المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم" (1/ 222، ط. دار الفيحاء): [انظُر ما في هذا القول من جماع الفضل، ودرجات الإحسان، وحسن الخلق، وكرم النفس، وغاية الصبر والحلم؛ إذ لم يقتصر صلى الله عليه وآله وسلم على السكوت عنهم، حتى عفا عنهم، ثم أشفق عليهم ورحمهم، ودعا، وشفع لهم فقال: «اغْفِرْ» أو «اهْدِ»، ثم أظهر سبب الشفقة والرحمة بقوله: «لِقَوْمِي»، ثم اعتذر عنهم بجهلهم، فقال: «فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ»] اهـ.
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يأمر بصلة القريب وإن كان غير مسلم؛ فعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما، قالت: قدمَتْ عليَّ أمي وهي مشركة في عهد قريش إذ عاهدهم، فاستفتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقلت: "يا رسول الله، قدمت علي أمي وهي راغبة، أفأصل أمي؟" قال: «نَعَمْ، صِلِي أُمَّكِ» متفق عليه.
ومن مظاهر التسامح والعفو عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ما صدر منه من عفو عامٍّ عن قريش وأهل مكة جميعًا، بعد أن أصبح أمره نافذًا في رقابهم، وذلك بعد أن ائتمروا به ليقتلوه، وعذّبوه وأصحابه في مكة، وأخرجوه منها، وقاتلوه في بدرٍ وأُحُدٍ، وحاصروه في الخندق، وألَّبُوا عليه العرب، فقال لهم صلى الله عليه وآله وسلم: «يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، مَا ترَوْنَ أَنِّي فَاعِلٌ فِيكُمْ؟» قالوا: خيرًا؛ أخٌ كريمٌ، وابن أخٍ كريمٍ، قال: «اذْهَبُوا فَأَنْتُمْ الطُّلَقَاءُ» أخرجه ابن إسحاق في "السيرة".
قال القاضي عياض في "الشفا" (1/ 228): [والحديث عن حلمه صلى الله عليه وآله وسلم وصبره وعفوه عند المقدرة أكثر من أن تأتي عليه، وحسبُك ما ذكرناه مما في الصحيح والمصنفات الثابتة إلى ما بلغ متواترًا مبلغ اليقين؛ من صبره على مقاساة قريش وأذى الجاهلية، ومصابرة الشدائد الصعبة معهم، إلى أن أظفره الله عليهم وحكَّمه فيهم وهم لا يَشُكُّون في استئصال شأفتهم وإبادة خضرائهم، فما زاد على أن عفا وصفح، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: «مَا تَقُولُونَ أنِّي فَاعِلٌ بِكُمْ؟»، قالوا: خيرًا؛ أخٌ كريمٌ وابن أخٍ كريمٍ، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: «أَقُولُ كَمَا قَالَ أَخِي يُوسُفُ: ﴿لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ﴾ الآية.. اذْهَبُوا فَأَنْتُمْ الطُّلَقَاءُ»] اهـ.
وأهدى رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى أبي سفيان رضي الله عنه تمرَ عجوةٍ حين كان بمكة حربيًّا، واستهداه أَدَمًا، وبعث بخمسمائة دينار إلى أهل مكة حين قَحَطُوا؛ لتُفَرَّق بين المحتاجين منهم. ذكره الإمام السرخسي في "المبسوط" (10/ 92، ط. دار المعرفة).
ووصل الحال إلى الوفاء بالعهود التي عاهد فيها المشركون بعض المسلمين على السماح لهم بالذهاب للمدينة بشرط ترك القتال مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، على ما فيها من إكراه وتعنت؛ فعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما، قال: "ما منعني أن أشهد بدرًا إلا أني خرجتُ أنا وأبي حُسَيْلٌ، قال: فأخذنا كفار قريش، قالوا: إنكم تريدون محمدًا، فقلنا: ما نريده، ما نريد إلا المدينة، فأخذوا منا عهد الله وميثاقه لننصرفن إلى المدينة، ولا نقاتل معه، فأتينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأخبرناه الخبر"، فقال: «انْصَرِفَا، نَفِي لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ، وَنَسْتَعِينُ اللهَ عَلَيْهِمْ» رواه مسلم في "صحيحه".
وهذا الموقف من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يُعَدُّ من مفاخر الأخلاق ونبيل الشمائل في تاريخ الإنسانية، فلم يسمع المؤرخون في تاريخ الحروب قاطبة موقفًا يناظر هذا الموقف النبيل.
وظهرت في المدينة المنورة سماحةُ النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصبرُه على الجفوة والتكذيب في الدعوة إلى الله تعالى كما كانت في مكة، وذلك رغم قيام الدولة المدنية وتشييد أركانها وظهور سلطانها؛ فروى أبو يعلى في "مسنده" والبيهقي في "دلائل النبوة" من طريق حرب بن سُرَيْجٍ قال: حدثني رجلٌ مِن بلعدوية قال: حدثني جدي رضي الله عنه قال: "انطلقتُ إلى المدينة فنزلتُ عند الوادي، فإذا رجلان بينهما عنزٌ واحدةٌ، وإذا المشتري يقول للبائع: أحسِنْ مبايعتي، فقلتُ في نفسي: هذا الهاشميُّ الذي أضلَّ الناسَ! أهُوَ هُوَ؟ فنظرتُ فإذا رجل حسَنُ الجسم عظيم الجبهة دقيق الأنف دقيق الحاجبين، وإذا مِن ثُغْرَة نَحْرِه إلى سُرَّته مثلُ الخيط الأسودِ شعرٌ أسودُ، وإذا هو بين طِمْرَيْن، فدنا منا فقال: «السَّلَامُ عَلَيْكُمْ» -وفي رواية البيهقي في "دلائل النبوة": فدنا مني فقال: «السَّلَامُ عَلَيْكَ»- فرددنا عليه، فلم ألبث أن دعا المشتري، فقال: يا رسول الله قل له يحسن مبايعتي، فمد يده وقال: «أَمْوَالَكُمْ تَمْلِكُونَ، إِنِّي لِأَرْجُو أَنْ أَلْقَى اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يَطْلُبُنِي أَحَدٌ مِنكُمْ بِشَيْءٍ ظَلَمْتُهُ فِي مَالٍ وَلَا دَمٍ وَلَا عِرْضٍ إِلَّا بِحَقِّهِ، رَحِمَ اللهُ امْرَأً سَهْلَ الْبَيْعِ سَهْلَ الشِّرَاءِ، سَهْلَ الْأَخْذِ سَهْلَ الْعَطَاءِ، سَهْلَ الْقَضَاءِ سَهْلَ الاقْتِضَاء»، ثم مضى، فقلت: والله لأقصن هذا، فإنه حسن القول، فتبعته فقلت: يا محمد، فالتفت إلي بجميعه، فقال: «مَا تَشَاءُ؟»، فقلت: أنت الذي أضللت الناس وأهلكتهم، وصددتهم عما كان يعبد آباؤهم؟ قال: «ذَاكَ اللهُ»، قلت: ما تدعو إليه؟ قال: «أَدْعُو عِبَادَ اللهِ إِلَى اللهِ»، قال: ما تقول؟ قال: «أَتَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنِّي مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ، وتؤمن بِمَا أُنزِلَ عليَّ وَتَكفُرُ بِاللَّاتِ وَالْعُزَّى وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ وتؤتي الزكاة»، قلت: وما الزكاة؟ قال: «يَرُدُّ غَنِيُّنَا عَلَى فَقِيرِنَا»، قلت: نعم الشيء تدعو إليه، قال: فلقد كان وما في الأرض أحد يتنفس أبغض إلي منه، فما برح حتى كان أحب إلي من ولدي ووالدي ومن الناس أجمعين، فقلت: قد عرفتُ، قال: «قَدْ عَرَفْتَ؟» قلت: نعم، قال: «تَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنِّي مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ، وتؤمن بِمَا أُنْزِلَ عَلَيَّ؟» قلت: نعم يا رسول الله، إني أرد ماءً عليه كثير من الناس؛ فادعُهم إلى ما دعوتني إليه؛ فإني أرجو أن يتبعوك، قال: «نَعَمْ فَادْعُهُمْ»، فأسلم أهل ذلك الماء رجالهم ونساؤهم، فمسح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رأسه". قال الحافظ ابن حجر في "الأمالي المطلقة" (ص: 192، ط. المكتب الإسلامي): [ولوائح القوة لائحة على المتن لكثرة شواهده] اهـ.
ومن مظاهر رحمته ومسامحته صلى الله عليه وآله وسلم: أن كل معاركه وغزواته لم تكن اعتداءً، بل كانت لردع العدوان وصد الطغيان، ومما يدل على ذلك: حُسن معاملته للأسرى ورفقه بهم، رغم قتالهم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وإرادتهم قتله صلى الله عليه وآله وسلم وقتلَ مَن معه مِن المسلمين؛ فحافظ بذلك على كرامة الإنسان في الحرب كما حافظ عليها في السِّلم، حتى جعل الإسلامُ إطعامَ الأسير من أقرب القربات، الواقية من الشرور والآفات، وذلك امتثالًا لقول الله تعالى: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا ۝ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا ۝ إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا ۝ فَوَقَاهُمُ اللهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا ﴾ [الإنسان: 8-11].
فلما أطلق النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم ثُمامة بن أثال رضي الله عنه وأسلم وحَسُنَ إسلامُه، ثم خرج معتمرًا، فلما قدم مكة، قالوا: أصبوت يا ثمام؟ فقال: لا، ولكني اتبعت خير الدين، دين محمد، ولا والله لا تصل إليكم حبة من اليمامة حتى يأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم خرج إلى اليمامة، فمنعهم أن يحملوا إلى مكة شيئًا، وأخذ الله قريشًا بالقحط والجوع حتى أكلوا الميتة والكلاب، فقال له أبو سفيان: أنشدك الله والرحم! فكتب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إليه أن يخلي بينهم وبين الميرة، ففعل.
ومن مظاهر تسامح النبي صلى الله عليه وآله وسلم حُسن معاملته للمنافقين الذين كانوا يعيشون معه في المدينة مع ما يُشكِّلونه من خطر على المجتمع والدولة، وقد تكررت مواقف الغدر والخيانة من هؤلاء المنافقين وحاولوا إشعال نيران الفتن بين المسلمين وغيرهم من أهل المدينة، بل حاول بعضهم قتله صلى الله عليه وآله وسلم في تبوك، ومع ذلك فقد قابل صلى الله عليه وآله وسلم ذلك كله بسماحةٍ وعفوٍ ولين، وأمر المُسلمين بإحسان صحبتهم وعدم التعدي عليهم، حتى كفَّن رأسَ المنافقين عبدَ الله بنَ أبيٍّ ابن سلول في قميصه؛ جبرًا لخاطر ولده عبد الله بن عبد الله بن أبي رضي الله عنه؛ فعن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: لما تُوفي عبدُ الله بنُ أبيٍّ ابنُ سَلُولَ جاء ابنه عبدُ الله بنُ عبدِ الله رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فسأله أن يعطيه قميصه يُكفِّن فيه أباه، فأعطاه، ثم سأله أن يصلي عليه، فقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليصلي عليه، فقام عمر رضي الله عنه فأخذ بثوب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: يا رسول الله أتصلي عليه وقد نهاك الله أن تصلي عليه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّمَا خَيَّرَنِي اللهُ فَقَالَ: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ، إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً وَسَأَزِيدُ عَلَى سَبْعِينَ»، قال: إنه منافق، فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأنزل الله عز وجل: ﴿وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ﴾ [التوبة: 84] متفق عليه.
وبلغ من تسامح النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن نهى المسلمين عن سب الأموات من المشركين بعد وفاتهم إكرامًا لأولادهم وجبرًا لخواطرهم؛ فعن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما قال: "لَمَّا كان يوم فتح مكة هرب عكرمة بن أبي جهل وكانت امرأته أم حكيم بنت الحارث بن هشام امرأةً عاقلةً أسلمت، ثم سألَتْ رسولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم الأمانَ لزوجها فأمرها بردِّه، فخرجت في طلبه وقالت له: جئتُك مِن عند أوصل الناس وأبر الناس وخير الناس، وقد استأمنتُ لك فأمَّنَك، فرجع معها، فلما دنا من مكة، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه: «يَأْتِيَكُمْ عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ مُؤْمِنًا مُهَاجِرًا، فَلَا تَسُبُّوا أَبَاهُ؛ فَإِنَّ سَبَّ الْمَيِّتِ يُؤْذِي الْحَيَّ وَلَا يَبْلُغُ الْمَيِّتَ» فلما بلغ باب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم استبشر ووثب له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قائمًا على رجليه فرحًا بقدومه" أخرجه الواقدي في "المغازي"، ومن طريقه الحاكم في "المستدرك".
ومن أعظم مظاهر السَّلام والتسامح الديني: ما فعله النبي صلى الله عليه وآله وسلم في "صُلْحِ الحديبية"؛ فإنه خرج هو والمسلمون معتمرين مسالمين مخبتين معظِّمين للمقدسات، وأبى أن يقاتل المشركين رغم استفزازهم للمسلمين ومحاولة النيل منهم؛ حيث بَعثوا رجالًا منهم إلى المسلمين، وأمروهم أن يطوفوا بعسكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليصيبوا من أصحابه أحدًا، فروى ابن أبي شيبة في "المصنف"، والإمام أحمد في "المسند"، والإمام مسلم في "صحيحه"، وأبو داود في "سننه"، والترمذي في "جامعه" وصححه، وأبو عوانة في "مستخرجه"، وغيرهم، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "لمَّا كان يوم "الحديبية" هبط على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ثمانون رجلًا مِن أهل مكَّةَ في السِّلاح مِن قِبَلِ جبل التّنعيم عند صلاة الفجر يريدون غِرَّةَ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فدعا النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فأُخِذُوا سلمًا، فعفا عنهم، فنزلت هذه الآية: ﴿وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ﴾".
ووافق النبي صلى الله عليه وآله وسلم على شروط المشركين المتعنتة طلبًا لإقرار مبدأ السلام، وتعظيم المقدسات؛ فجلس للصُلح مع سُهيل بن عمرو الذي وكلته قريش، وصبر على تعنت الكفار؛ في ممارساتهم التعسفية وشروطهم المجحفة التي أملَوْها على المؤمنين، وفي امتناعهم عن كتابة البسملة والإقرار برسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وفي الحيلولة بين المسلمين وبين البيت الحرام ذلك العام، وذلك كله في سبيل تعظيم الأشهر الحرم وتعظيم البيت الحرام والإذن لهم بدخوله، وقد بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَا يَسْأَلُونني خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فِيهَا حُرُمَاتِ اللهِ إِلَّا أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا» أنه إنما صبر على ذلك التعنت كله وعلى تلك الشروط والممارسات لأنه كان يهدف إلى الاتفاق مع المشركين على عدم صد أي إنسان عن البيت إذا أحرم قاصدًا له، كائنًا من كان.
وكل هذه النماذج وغيرها تدل -بما لا يدع مجالًا للشك- أن الإسلام هو دين التسامح والسلام، وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم انتقل من ممارسات التسامح في مكة المكرمة قبل الهجرة النبوية إلى إقراره في شكل مبادئ وقواعد وعلاقات مجتمعية ودولية وعالمية في المدينة المنورة بعد الهجرة الشريفة، وهذا أعظم دليل على أن تسامحه صلى الله عليه وآله وسلم في مكة المكرمة لم يكن ضعفًا ولا عجزًا، وإنما كان منهج حياة وتطبيقًا وامتثالًا لتعاليم الدين القويم الذي أرسله الله تعالى به؛ حيث يقول له سبحانه: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: 107]، وقد وصف النبي صلى الله عليه وآله وسلم الغرض من بعثته الشريفة بقوله: «إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ» أخرجه الإمام أحمد في "المسند"، والبخاري في "الأدب المفرد"، والحاكم في "المستدرك"، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وفي رواية البزار في "المسند": «إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ».
وقد شهد المنصفون من كبار المفكرين من غير المسلمين بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان المثل الأعلى للبشرية كلها في السماحة والسلام، ونبل الأخلاق وسمو الأفعال:
قال غوستاف لوبون في "حضارة العرب": [فالحق أنَّ الأمم لم تعرف فاتحين راحمين متسامحين مثل العرب، ولا دينًا سمحًا مثل دينهم] اهـ.
ويقول توماس أرنولد في كتابه "الدعوة الإسلامية": [لقد عامل المسلمون الظافرون العرب المسيحيين بتسامح عظيم منذ القرن الأول للهجرة، واستمر هذا التسامح في القرون المتعاقبة، ونستطيع أن نحكم بأن القبائل المسيحية التي اعتنقت الإسلام قد اعتنقته عن اختيار وإرادة، وأن العرب المسيحيين الذين يعيشون في وقتنا هذا بين جماعات المسلمين شاهد على هذا التسامح] اهـ.
ويقول مارسيل بوازار في "إنسانية الإسلام": [وكما يظهر التاريخ محمدًا (صلى الله عليه وآله وسلم) قائدًا عظيمًا ملأت قلبه الرأفة، يصوره كذلك رجل دولة صريحًا قوي الشكيمة له سياسته الحكيمة التي تتعامل مع الجميع على قدم المساواة وتعطي كل صاحب حق حقه، ولقد استطاع بدبلوماسيته ونزاهته أن ينتزع الاعتراف بالجماعة الإسلامية عن طريق المعاهدات في الوقت الذي كان النصر العسكري قد بدأ يحالفه. وإذا تذكرنا أخيرًا على الصعيد النفساني هشاشة السلطان الذي كان يتمتع به زعيم من زعماء العرب، والفضائل التي كان أفراد المجتمع يطالبونه بالتَّحلي بها، استطعنا أن نستخلص أنه لا بدّ أن يكون محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي عرف كيف ينتزع رضا أوسع الجماهير به إنسانًا فوق مستوى البشر حقًّا، وأنه لابد أن يكون نبيًّا حقيقيًّا من أنبياء الله!] اهـ.
ويقول لين بول في "رسالة في تاريخ العرب": [إن محمدًا (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يتصف بكثير من الصفات: كاللطف والشجاعة، وكرم الأخلاق، حتى إنَّ الإنسان لا يستطيع أن يحكم عليه دون أن يتأثر بما تطبعه هذه الصفات في نفسه، ودون أن يكون هذا الحكم صادراً عن غير ميل أو هوًى، كيف لا، وقد احتمل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) عداء أهله وعشرته سنوات بصبرٍ وجلدٍ عظيمين، ومع ذلك فقد بلغ من نبله أنَّه لم يكن يسحب يده من يد مصافحه حتى لو كان يصافح طفلًا! وأنه لم يمر بجماعة يومًا من الأيام رجالًا كانوا أم أطفالًا دون أن يسلم عليهم، وعلى شفتيه ابتسامة حلوة، وبنغمة جميلة كانت تكفي وحدها لتسحر سامعيها، وتجذب القلوب إلى صاحبها جذبًا] اهـ.
وبعد: فلم تعرف البشرية في تاريخها الطويل دينًا يدعو إلى السلام والسماحة الدينية كالدين الإسلامي، وقد تجلَّى ذلك في أخلاق النبي صلى الله عليه وآله وسلم في سيرته الشريفة العطرة قبل الهجرة وبعدها، حيث ظهرت ممارسات التسامح والصبر في مرحلة الدعوة في مكة المكرمة قبل الهجرة، لتتحول في مرحلة الدولة في المدينة المنورة إلى منظومة عامة، ودستور مدني، ومبادئ راسخة، وعلاقات أخلاقية، وقواعد حاكمة، على مستوى الأفراد والمجتمعات والدول؛ بدءًا من أول يوم دخل فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة المنورة مفتتحًا ذلك بالسلام والتعاون والمواطنة، وهذا كله يؤكد -بما لا شك فيه- أن نبي الإسلام سيدنا محمدًا صلى الله عليه وآله وسلم كان أعظم مظهر عرفته الإنسانية للتسامح الديني في كل أطوار سيرته الكريمة، وأن التسامح والسلام كان نسيجًا من إنسانيته، وثمرةً من نبوته صلى الله عليه وآله وسلم، وأنَّ المسلمين بنَوْا أعظم حضارة قامت على التسامح والسلام عبر القرون، وقد شهد بذلك المنصفون في كل العصور، وأمَّا ما يثار من شبهات تزعم أن المرحلة المدنية لم تكن على قدر التسامح الذي كانت عليه المرحلة المكية فهي ناجمة عن غياب عن وقائع السيرة النبوية، وجهل بأحداثها، أو تعصبٍ مقيتٍ تعامى أصحابُه عن الحقائق التاريخية التي لا يسع منصفًا إنكارُها.
والله سبحانه وتعالى أعلم.

اقرأ أيضا