التفويض والتأويل لصفات الله الحسنى

التفويض والتأويل لصفات الله الحسنى

قرأت كل ما وقع في يدى من كتب العقيدة والتوحيد، وتوصلت إلى أن أهل الرأي متهمون بالتأويل، والاتجاه السلفي متهم بالتشبيه، فما مدى صحة ذلك بالنسبة للرأي المعتدل؟ وهل التأويل هو الأصح أم ماذا؟ وأين الحق في ذلك؟ أرجو التوضيح.

يقول الحق تبارك وتعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [آل عمران: 7]. وهذه الآية الكريمة تدل على أن القرآن الكريم اشتمل على آيات محكمات وأُخَر متشابهات، ومن المتشابه في القرآن الكريم تلك الآيات التي يُوهم ظاهرها أن الله عز وجل مُشْبِه بخلقه -تعالى الله عن ذلك- وقد افترق العلماء في هذه الآيات إلى فريقين:
الفريق الأول: فريق السلف، وهو الذي نزَّه الله تعالى عن ظاهر معاني هذه الآيات، وأمَرَّ هذه النصوص كما جاءت دون التعرض لمعانيها، وذلك هو عين كلام الإمام مالك حين سُئل عن الاستواء، فقال كما ذكر عنه الحافظ ابن عبد البر في "التمهيد لما في الموطإ من المعاني والأسانيد" (7/ 151، ط. وزارة الأوقاف المغربية): [وأخبرنا محمد بن عبد الملك قال: حدثنا عبد الله بن يونس قال: حدثنا بقي بن مخلد قال: حدثنا بكار بن عبد الله القرشي قال: حدثنا مهدي بن جعفر عن مالك بن أنس أنه سأله عن قول الله عز وجل: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ [طه: 5] كيف استوى؟ قال: فأطرق مالك، ثم قال: استواؤه مجهول، والفعل منه غير معقول، والمسألة عن هذا بدعة، قال بقيٌّ: وحدثنا أيوب بن صلاح المخزومي بالرملة قال: كنَّا عند مالك إذ جاءه عراقي فقال له: يا أبا عبد الله، مسألة أريد أن أسألك عنها، فطأطأ مالك رأسه فقال له: يا أبا عبد الله، ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ كيف استوى؟ قال: سألت عن غير مجهول، وتكلمت في غير معقول، إنك امرؤ سوء، أخرجوه، فأخذوا بضبعيه فأخرجوه] اهـ.
وعليه: فيتلخص مذهب السلف في إقرار هذه الآيات وإمرارها، مع تنزيه الله عز وجل عن ظاهرها.
وأما الفريق الثاني وهو فريق الخلف، وهؤلاء حاولوا أن يُعملوا أفكارهم في معاني هذه الآيات، مع تنزيه الله عز وجل عن أن يشبه خلقه، فاتخذوا من مجازات اللغة طريقًا لفهم معاني هذه النصوص، ففسروا اليد بالقدرة، والاستواء بالاستيلاء، وذكروا الأدلة التي تؤيد كلامهم من اللغة والشرع، ولكنهم مع ذلك لم يقطعوا بأن ما قالوه هو عين مراد الله في الآية، وإنما هي محاولة لفهم هذه الآيات بما لا يتعارض مع نصوص الشرع الأخرى، وقد أداهم لهذا الاتجاه الدفاع عن العقيدة أمام هجمات المجسمة والفلاسفة، وردًّا على شبههم التي أثاروها من تجسيم الباري سبحانه وتعالى ووصفه بالأوصاف التي توهم تشبيهه بالخلق.
وبالمذهبين جميعًا أخذ السادة الأشاعرة الذين هم أهل السنة والجماعة؛ قال الإمام اللقاني رحمه الله تعالى في "جوهرة التوحيد":
[وكل نص أوهم التشبيها .. أوِّله أو فوِّض ورُم تنزيها] اهـ.
والاتجاه الذي يزعم السلفية ويرفض التأويل جملةً وتفصيلًا، ويزعم إثبات هذه الصفات على الحقيقة اللغوية، قد أغلق على نفسه الفكر، وعارض جمهور العلماء على مرِّ العصور والدهور، وقاده فكره إلى ما قد يلزم منه تشبيه الله بخلقه والتجسيم، كما يترتب على ذلك أيضًا إدخال العوام في مسائل العقيدة الخلافية التي لا طاقة لهم على فهمها وحسمها، وهو في حقيقة الأمر لا هو اقتنع بما اقتنع به السلف من إقرار هذه الآيات وإمرارها مع تنزيه الله تعالى عن ظاهرها، ولا هو قال ما قال به الخلف في التأويل، ولكنه ركن إلى ما ارتآه صوابًا؛ مخالفًا بذلك جمهور الأمة ومكفرًا لهم، أعاذنا الله تعالى من ذلك.
وعلى المسلم غير المتخصص أن يؤمن بما ورد في القرآن، وأن لا يتعرض لمعاني هذه النصوص الموهمة للتشبيه، ومن أشكل عليه شيء من ذلك، وقرأ فيه تأويلًا لا يتعارض فيه مع التنزيه ومذهب أهل السنة والجماعة فلا بأس بذلك.
والله سبحانه وتعالى أعلم.

اقرأ أيضا