نجاة أبوي النبي صلى الله عليه وسلم

نجاة أبوي النبي صلى الله عليه وسلم

ما هو معتقد أهل السنة والجماعة في مصير أبوي النبي صلى الله عليه وآله وسلم؟

القول بنجاة أبوَي النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو القول الحق الذي استقرت عليه كلمة المذاهب الإسلامية المتبوعة، وهو قول المحققين من علماء المسلمين سلفًا وخلفًا، وهو الذي انعقدت عليه كلمة علماء الأزهر الشريف عبر العصور، وعليه الفتوى بدار الإفتاء المصرية، كما حققه فضيلة مفتي الديار المصرية الأسبق العلامة الشيخ محمد بخيت المطيعي، والتي ذكر فيها أن مَن زعم أن أبوَي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم ليسا مِن أهل الإيمان: [قد أخطأ خطأً بيِّنًا يأثم ويدخل به فيمن آذى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولكن لا يُحكَم عليه بالكفر؛ لأن المسألة ليست من ضروريات الدِّين التي يجب على المكلَّف تفصيلها. هذا هو الحق الذي تقتضيه النصوص وعليه المحققون من العلماء] اهـ.
وقد سلك علماء الأمة في إثبات هذا القول عدة طرق؛ أهمها:
أن موتهما كان قبل البعثة، ومَن مات ولم تبلغه الدعوة كان ناجيًا؛ لقوله تعالى: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾ [الإسراء: 15].
وأنهما كانا على الحَنِيفِيَّةِ السمحة؛ كما قال تعالى: ﴿وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ﴾ [الشعراء: 219] فوجب ألَّا يكون أحدٌ مِن أجداده صلى الله عليه وآله وسلم مشركًا.
وأن الله تعالى أحياهما لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم فآمَنَا به، واحتجوا لذلك بأحاديث ترتقي بمجموعها إلى الحسن.
أما حديث: «إن أبي وأباك في النار» فقد حكم عليه جماعة من النقاد بالشذوذ، أو أن الراوي رواه بالمعنى فخلط فيه، والصواب رواية: «إذا مررت بقبر كافر فبشره بالنار».
فلْيتقِ اللهَ أولئك الأدعياء ولْيخشَوا لَعْنَة وإيذاءَ حبيبه صلى الله عليه وآله وسلم المستوجب لِلَعْنِ فاعله، ولْيعلموا أنه لا ينبغي ذكر هذه المسألة إلا مع مزيد مِن الأدب مع مقام حضرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

التفاصيل ....

القول الحق في أبَوَي النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنهما ناجِيَان ولَيْسَا مِن أهل النار، وهذا هو الذي ارتضاه أهل السنة والجماعة، وقد صَرَّح بذلك المُحَقِّقُون مِن العلماء سَلَفًا وخَلَفًا، وصَنَّف العلماء المُصَنَّفات في بَيَان ذلك، حتى صَنَّف الإمام الحافظ المجتهد السيوطي الشافعي في ذلك سِتَّ رسائل، وهي:
1. «مَسَالِك الحُنَفاء في والِدَي المصطفى».
2. «الدرج المنيفة في الآباء الشريفة».
3. «المقامة السندسية في النسبة المصطفوية».
4. «التعظيم والمنة في أن أبَوَي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الجنة».
5. «نشر العلمين المنيفين في إحياء الأبوين الشريفين».
6. «السبل الجَلِيَّة في الآباء العَلِيَّة».
وقد سَلَك العلماء في إثبات هذا الحُكم والاستدلال عليه عِدَّةَ طُرُقٍ:
أوَّلُها وأهَمُّها: أنهما عليهما السلام مِن أهل الفَترة؛ لأنهما مَاتَا قَبل البعثة، ولا تعذيب قَبلَها، وقد صَرَّح أئمةُ أهل السنة أنَّ مَن مات ولم تَبلُغه الدعوةُ يَموتُ ناجِيًا، ومِمَّن صَرَّح بذلك العلَّامةُ الأَجهُورِي فيما نَقَلَه عنه العلَّامة النفراوي في "الفواكه الدَّوَاني"، وشَرَفُ الدِّين المُناوي فيما نَقَلَه عنه الحافظ السيوطي في "الحاوي"، ونَقَلَ هذا القولَ سِبطُ ابن الجَوزِي عن جماعةٍ مِن العلماء مِنهم جَدُّهُ الحافظ أبو الفَرَج ابن الجَوزِي الحَنبَلِي، وجَزَم بهذا القولِ العلَّامةُ الأُبِّي في "شرحه على صحيح مُسلِم"، ومَالَ إليه الحافظ ابن حجر في بعض كتبه كَمَا نَقَلَ عنه الحافظ السيوطي في "مَسَالِك الحُنَفَا".
واستَدَلُّوا على ذلك بقوله تعالى: ﴿وما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾ [الإسراء: 15]، وقوله تعالى: ﴿ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُن رَبُّكَ مُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ﴾ [الأنعام: 131]، وبآياتٍ وأحاديث أُخرى. ووالِدَا المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم مِن أهل الفَترة؛ لأنهما رضي الله عنهما مَاتَا في أول شبابهما ولم تَبلُغْهُما الدَّعوةُ؛ لِتَأَخُّرِ زَمانِهِما وبُعدِه عن زَمانِ آخِرِ الأنبياء، وهو سيدنا عيسى عليه السلام، ولِإطباقِ الجَهلِ في عَصرهما، فلم يَبلُغ أَحَدًا دعوةُ نبيٍّ مِن أنبياء الله إلَّا النَّفَرَ اليَسِيرَ مِن أحبارِ أهل الكتاب في أقطار الأرض كالشام وغيرها، ولم يُعهَد لهُما التَّقَلُّبُ في الأسفار ولا عَمَّرَا عُمرًا يُمكِن معه البحثُ عن أخبار الأنبياء، وهُما لَيْسَا مِن ذُرِّيَّة عيسى عليه السلام ولا مِن قَومِه، فبَانَ أنهما مِن أهل الفَترة بلا شَكّ.
وعلى القول بأنَّ أهل الفَترة يُمتَحَنُون على الصراط فإن أطاعوا دَخلوا الجنة فقد نص العلماء على أن الوالِدَين الشريفين لو قِيل بامتحانهما فإنهما مِن أهل الطاعة؛ قال الحافظ ابن حَجَر: "إن الظَّن بهما أن يُطيعَا عند الامتحان"، نَقَلَه الحافظ السيوطي عنه.
وقد أَورد الإمام الطَّبَرِيُّ في "تفسيره" (24/ 487، ط. دار الرسالة) عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال في تَفسير قوله تعالى: ﴿ولَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى﴾ [الضحى: 5] قال: [مِن رِضا محمدٍ صلى الله عليه وآله وسلم أن لا يَدخُل أَحَدٌ مِن أهل بيته النارَ] اهـ.
الطريق الثاني الذي سَلَكَه القائلون بنَجَاة أبَوَي النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
أنهما ناجِيَان لأنهما لم يَثبُت عنهما شِركٌ، بل كانا على الحَنِيفِيَّة دِين جَدِّهِما إبراهيم عليه السلام، ولقد ذهب إلى هذا القول جَمعٌ من العلماء منهم الإمام الفَخْرُ الرازِي في كتابه "أسرار التنـزيل".
واستَدَلَّ أهلُ هذا الطريق بقوله تعالى: ﴿الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ* وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ﴾ [الشعراء: 218-219]، أي أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يَتَقَلَّب في أصْلَاب الساجِدِين المؤمنين مِمَّا يَدُلُّ على أنَّ آباءه صلى الله عليه وآله وسلم لم يكونوا مشركِين؛ قال الإمام الرازِي فيما نَقَلَه عنه الحافظ السيوطي في "الحاوي" (2/ 199، ط. دار الكتب العلمية): [ومِمَّا يَدُلُّ على أنَّ آباءَ سيدِنا محمدٍ صلى الله عليه وآله وسلم ما كانوا مُشرِكِين قولُه عليه السلام: «لَم أَزَل أُنقَلُ مِن أَصلَابِ الطَّاهِرِينَ إلى أَرحامِ الطَّاهِرَاتِ»، وقال تعالى: ﴿إنَّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ﴾ [التوبة: 28]، فوَجَب ألَّا يَكُونَ أَحَدٌ مِن أجْدَادِه صلى الله عليه وآله وسلم مُشرِكًا] اهـ.
واستَدَلَّ الحافظ السيوطي لهذا المَسلَك بدليلٍ آخَر مُرَكَّبٍ، مُلَخَّصُه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «أنا خِيارٌ مِن خِيارٍ»، وبهذا الحديث وغيرِه من الأحاديث والآيات الدالَّة على مثل هذا المعنى ثَبَت أنَّ كُلَّ أصلٍ مِن أُصوله صلى الله عليه وآله وسلم مِن آدم عليه السلام إلى أبيه عبد الله خيرُ أهلِ قَرنِه وأَفضَلُهم، وقد وَرَدَت الأحاديث والآيات التي تَدُلُّ على أنَّ كُلَّ عَصرٍ مِن العُصورِ مِن عَهد نوحٍ عليه السلام إلى قِيَام الساعة لا يَخلو مِن أُناسٍ على الفِطرة والتوحيد، وعليه يَجب أن نقول: إن أبَوَي النبي صلى الله عليه وآله وسلم كانا مُؤْمِنَيْنِ وإلَّا وَقَعْنَا في المَحظور، وهذا المَحظور مُتَمَثِّلٌ في أَحَد أَمرَين:
أوَّلُهُما: أنَّه يلزم أن يكون غيرهما مِن المؤمِنين خيرًا منهما إن سلمنا دعوى نسبتهما إلى عدم الإيمان -حاشاهما عليهما السلام-، وهذا مُخالِفٌ لصَرِيح الأدلة التي منها الحديثُ السابقُ ذِكْرُه.
وثانيهما: أنَّ تسليم دعوى عدم إيمانهما يستلزم تَفضيل الكافرين على المؤمنين؛ فوجب عند ذلك القول بإيمانهما.
والطريق الثالث الذي سَلَكَه القائلون بنَجَاتِهِمَا:
أنهما ناجِيَان لأن الله تعالى أحياهما له صلى الله عليه وآله وسلم حتى آمَنا به صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا المَسلَك مال إليه طائفةٌ كثيرةٌ مِن حُفَّاظِ المُحَدِّثين وغيرهم؛ منهم: الإمام الحافظ الخطيب البغدادي، والحافظ ابن شاهين، والإمام ابن المُنَيِّر، والإمام المُحِبُّ الطَّبَري، والإمام القُرطُبِي، والحافظ أبو الفتح بن سيد الناس، والعلامة الصلاح الصفدي، والحافظ ابن ناصر الدين الدمشقي، والحافظ السيوطي.
قال الحافظ ابن ناصر الدين الدمشقي -كما نقله العلامة الصالحي في "سبل الهدى والرشاد" (1/ 259، ط. دار الكتب العلمية)-:

 


حبا اللهُ النبـــيَّ مزيد فضلٍ ... على فضــــــلٍ وكان به رؤوفا
فأحيـــــــا أمّــــــــه وكذا أبـــــــــاه ... لإيمـــــانٍ به فضــــــلًا لطـــــــيفا
فسلّم فالقديـــــــم بذا قديرٌ ... وإن كان الحديث به ضعيفا

 

واحتَجُّوا لمَسْلَكِهِم بأحاديث ضعيفة، ولكنها تَرْقَى إلى الحُسْنِ بمَجموع طُرُقِها.
وقد رَدَّ أصحابُ هذا المَسلَك على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد نُهِيَ عن الاستغفار لهما بأن الإحياء مُتَأَخِّرٌ عن النَّهي، فكان حُكمُه ناسِخًا لحُكم النَّهي.
قال الإمام القُرطُبِي فيما نَقَلَه عنه الحافظ السيوطي في "الحاوي" (2/ 218): [لا تَعارُضَ بين حديثِ الإحياء وحديثِ النَّهيِ عن الاستِغفار؛ فإنَّ إحياءَهُما مُتَأَخِّرٌ عن النَّهيِ عن الاستِغفار لهما؛ بدَليل حديث عائشة أنَّ ذلك كان في حجة الوَداع؛ ولذلك جَعلَه ابنُ شاهين ناسِخًا لِمَا ذُكِرَ مِن الأخبار] اهـ.
وقال الحافظ السيوطي في "التعظيم والمنة في أن أبوي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الجنة" (ص: 3، ط. دار جوامع الكلم): [الحديث الوارد في أن الله أحياها له (يعني: أمَّه عليها السلام) ليس بموضوع؛ كما ادَّعاه جماعة من الحفّاظ، بل هو من قسم الضعيف الذي يُتسَامَح بروايته في الفضائل، خصوصًا في مثل هذا الموطن] اهـ.
الطريق الرابع في الاحتجاج للقول بنجاة أبوي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم:
أن من خصائص المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم التي وردت في سنته الشريفة: أن النار لا تدخل جوفًا دخله شيء من فضلات النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فكذلك مَن حمل النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم نطفة (وهو أبوه) وجنينًا (وهي أمُّه) من باب أَوْلَى.
قال العلامة الشهاب الخفاجي في كتابه "طراز المجالس" (ص: 468-469، ط. المطبعة الوهبية 1284هـ): [لمّا قرأتُ ما قاله علماء الحديث في الخصائص النبوية: أن فضلاته إذا دخلت جوفًا لم تَلِجْه النارُ، قال من كان عندنا حاضرًا: إذا لم تلج النارُ جوفًا فيه قطرة من فضلاته, فكيف تُعذَّبُ أرحامٌ حملَتْه؟! فأعجبني كلامه ونظمْتُه في قولي:


لِوَالِــــدَيْ طــــــــــــه مَقـــامٌ عَــــــــــــلَا ... في جَنَّةِ الخُــــــــــلْدِ ودارِ الثَّــــــــــــوَابْ
فقَطْـــــــــرةٌ من فَضَـــــــــــــــــلاتٍ لـه ... في الجَوْفِ تُنْجِي مِن ألِيمِ العقابْ
فكيف أرْحـــــــامٌ له قد غَـــــدَتْ ... حامِـلةً، تُصْلَى بنارِ العذابْ!] اهـ.

 

وقد شطَّرَ هذه الأبياتَ غيرُ واحد من العلماء كما في "سلك الدرر" (4/ 119، ط. البشائر).
الطريق الخامس وهو خاص بإثبات إيمان أم النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
ودليله: ما أخرجه الحافظ أبو نعيم في "دلائل النبوة" من طريق الزهري، عن أم سماعة أسماء بنت أبي رهم، عن أمها قالت: شهدتُ آمنةَ أمَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في علتها التي ماتت فيها، ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم غلامٌ يَفَعٌ له خمس سنين عند رأسها، فنظَرَتْ إلى وجهه ثم قالت:


باركَ فيـــك اللهُ من غُــــلامِ ... يا ابنَ الذي مِن حَوْمةِ الحِمامِ
نجا بعونِ الملكِ المِنْعامِ ... فُودِي غداةَ الضربِ بالسّــــهامِ
بمائة من إبــــــــلٍ سَـــــــــــوَامِ ... إن صح ما أبصرتُ في المنام
فأنت مبعوثٌ إلى الأنــــــامِ ... من عند ذي الجلال والإكرامِ
تُبعَثُ في الحِلِّ وفي الحرام ... تُبعثُ بالتّخفيف والإســـلام
دين أبيك البَــــــــــرِّ إبراهـــــــــام ... فاللهَ أَنهـــــــــاك عن الأصنام أن لا تواليها مع الأقوام

 

ثم قالت: "كل حيٍّ ميتٌ، وكلُّ جديدٍ بالٍ، وكل كبير يفنى، وأنا ميتة وذكري باق، وقد تركتُ خيرًا، وولدتُ طهرا". ثم ماتت، فكنا نسمع نَوْحَ الجنِّ عليها، فحفظنا من ذلك:

 


نبكي الفتاةَ البَرَّةَ الأمينةْ ... ذاتَ الجمـــــــالِ العَفَّةَ الرزينةْ
زوجـــةَ عبـــد الله والقرينةْ ... أمَّ نبـيِّ الله ذي السَّـــــــــــــكينةْ
وصاحب المنبر بالمدينةْ ... صارت لدى حفـــــرتها رهينةْ
لو فُودِيَتْ لفُودِيَتْ ثمينةْ ... وللمنـــــــــــــــــايا شفـــــــــرةٌ سَنِينةْ
لا تبق ظعَّــــانًا ولا ظَعِــينةْ ... إلا أتَــــــتْ وقطــــــعَتْ وَتِــــــــينَهْ
أما حللتِ أيها الحزينةْ ... عن الذي ذو العرش يُعْلِي دينهْ
فكلُّــــــــــنا والــــهةٌ حزيـــــنةْ ... تبكيك للعطـــــــلة أو للزينـــــــــةْ وللضعيفات وللمسكينةْ.

 

قال الحافظ السيوطي بعد إيراد هذا الأثر في "التعظيم والمنة" (ص: 26): [هذا القول مِن أم النبي صلى الله عليه وآله وسلم صريح في أنها موحدة؛ إذ ذكرَتْ دين إبراهيم، وبَعْثَ ابنِها صلى الله عليه وآله وسلم بالإسلام، من عند ذي الجلال والإكرام، ونهيَه عن عبادة الأصنام وموالاتها مع الأقوام، وهل التوحيد شيء غير هذا؟ التوحيد: الاعترافُ بالله وإلهيته وأنه لا شريك له والبراءة من عبادة الأصنام ونحوها. وهذا القدر كافٍ في التبري من الكفر وصفة ثبوت التوحيد في الجاهلية قبل البعثة..
ولا يُظن بكل من كان في الجاهلية أنه كان كافرا؛ فقد كان جماعة تحنفوا وتركوا ما كان عليه أهل الشرك وتمسكوا بدين إبراهيم صلى الله عليه وسلم وهو التوحيد؛ كزيد بن عمرو بن نفيل، وقس بن ساعدة، وورقة بن نوفل، فكلهم محكوم بإيمانه في الحديث ومشهود له بالجنة، فلا بدع أن تكون أم النبي صلى الله عليه وآله وسلم منهم، كيف وأكثر من تحنف إنما كان سبب تحنفه ما سمعه من أهل الكتاب والكُهّان قُرْبَ زمنه صلى الله عليه وآله وسلم؛ مِن أنه قَرُبَ بعثُ نبي من الحرم صفته كذا، وأم النبي صلى الله عليه وآله وسلم سمعت من ذلك أكثر مما سمعه غيرها، وشاهدت في حمله وولادته من الآيات الباهرة ما يحمل على التحنف ضرورةً، ورأت النور الذي خرج منها وأضاءت له قصور الشام حتى رأتها كما ترى أمهات النبيين صلى الله عليهم أجمعين، وقالت لحليمة حين جاءت به وقد شُقَّ صدره وهي مذعورة: أخشيتِ عليه الشيطان؟ كلا والله، ما للشيطان عليه سبيل، وإنه لكائنٌ لابني هذا شأن. في كلمات أخرى من هذا النمط، وقَدِمَتْ به المدينةَ عام وفاتها وسمعت كلام اليهود فيه وشهادتَهم له بالنبوة ورجعت إلى مكة فماتت في الطريق. فهذا كله مما يؤيد أنها تحنفت في حياتها رضي الله تبارك وتعالى عنها، وجعل الجنة منقلَبَها ومثواها] اهـ.
فهذه مَسَالِك العلماء الذين قالوا بنَجَاة والِدَي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، وهي مَسَالِك قويةٌ مُؤيَّدَةٌ بالدليل والبُرهان، وعليها جَماهير علماء الأُمة.
وأمّا المخالفون للجمهور ممّن لم تقوَ عندهم هذه المسالك: فقد حرموا ذكرهما عليهما السلام بالكفر، وقالوا -كما ذكر الحافظ السيوطي في "مسالك الحنفا" المضمن في "الحاوي للفتاوي" (2/ 279، ط. دار الفكر)-: [لا يجوز لأحد أن يذكر ذلك، قال السهيلي في "الروض الأنف" بعد إيراده حديث مسلم: "وليس لنا نحن أن نقول ذلك في أبويه صلى الله عليه وآله وسلم؛ لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «لَا تُؤْذُوا الْأَحْيَاءَ بِسَبِّ الْأَمْوَاتِ»، وقال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُم اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا﴾ [الأحزاب: 57] اهـ.
وقد صرَّح بعض السلف بالإنكار الشديد على من ادَّعى على والدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم الكفر: فأخرج الحافظ ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (45/ 222، ط. دار الفكر) من طريق نوفل بن الفرات -وكان عاملًا لعمر بن عبد العزيز- قال: [كان رجل من كتاب الشام مأمونًا عندهم استعمل رجلًا على كورة الشام، وكان أبوه يزن بالمنانية، فبلغ ذلك عمر بن عبد العزيز فقال: ما حملك على أن تستعمل رجلًا على كورة من كور المسلمين كان أبوه يزن بالمنانية؟ قال: أصلح الله أمير المؤمنين، وما علي! كان أبو النبي مشركا، فقال عمر: آه، ثم سكت، ثم رفع رأسه فقال: أأقطع لسانه؟ أأقطع يده ورجله؟ أأضرب عنقه؟ ثم قال: لا تلي لي شيئًا ما بقيت] اهـ.
وإنما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يذكر والديه عليهما السلام ببره لهما؛ فروى ابن البختري في "جزئه"، وأبو الشيخ، والبيهقي في "شعب الإيمان"، وابن الجوزي في "البر والصلة" واللفظ له -بسند فيه ضعفٌ- عن طلق بن علي رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «لَوْ أَدْرَكْتُ وَالِدَيَّ أَوْ أَحَدَهُمَا وَقَدِ افْتَتَحْتُ صَلَاةَ الْعِشَاءِ فَقَرَأْتُ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ فَدَعَتْنِي أُمِّي تَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ! لَقُلْتُ: لَبَّيْكِ».
فأما الأحاديث التي استَدَلَّ بها بعضُهم ليُرَوِّجوا لرأيٍ تَفوحُ مِنه رائحةُ البُعدِ عن حُبِّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم والإقلالِ مِن قَدْرِه الشريف المُنِيف مع أن الله سبحانه وتعالى قال له: ﴿وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى﴾ [الضحى: 5]، فهذه الأحاديث إمَّا أَسَاؤوا فهمها، أو لم تَكُن لهُم دِرَايَةٌ بالعلوم المُساعِدَة لاستنباط الأحكام؛ مثل عِلم الحديث وأصول الفقه، فجاء كَلَامُهم على هذه الأحاديث مُجانِبًا للصَّواب وخَطِيرًا في جَنَابِ حَبِيبِ رَبِّ الأَرْبَابِ سيدِنا محمدٍ صلى الله عليه وآله وسلم: فلَفْظُ «أبي وأبوك في النار» الوارِدُ في حديث أنسٍ رضي الله عنه عند مُسلمٍ لم يَتَّفِق الرُّوَاةُ على لَفظِه، وإنَّمَا ذَكَرَ هذا اللفظَ حَمَّادُ بن سَلَمَة عن ثابِتٍ عن أنس، وقد خالَفَه مَعمَرٌ عن ثابت فلَم يَذْكُر «إنَّ أبي وأباك في النارِ»، ولكن قال له: «إذا مَرَرْتَ بقَبرِ كافِرٍ فبَشِّره بالنارِ». ومعمرٌ راوي هذه الرواية أَثْبَتُ عند أهل الحديث مِن حَمَّاد؛ فإن حَمَّادًا تُكُلِّم في حِفظِه، ووَقَع له أحاديث مَنَاكِير ذَكَروا أنَّ رَبِيبَه دَسَّها في كُتُبِه وكان حَمَّاد لا يَحفَظ، فحَدَّث بها فَوَهِم، ومِن ثَمَّ لم يُخَرِّج له البخاري شيئًا، ولا أَخرَجَ له مُسلِمٌ في الأصول إلَّا مِن رِوَايته عن ثابت، فلا شَكَّ أن رِوَايةَ مَعمَرٍ أَثْبَتُ مِن رِوَاية حَمَّاد، والذي نَراه أنَّ حَمَّادًا كأنه رَوَى هو أو أَحَدُ الرُّوَاةِ عنه الحديثَ بالمَعنى، فوَقَع هذا الخَطَأُ مِنه أو مِن أَحَدِ الرُّوَاة عنه.
هذا كلام أهل الحديث في هذه الرواية مِن جِهَة إسنادها، أما مِن جِهَة الدِّرَايَة فإن هذا الحديث باللَّفظ الأوَّل لو ثَبَتَ لوَجَبَ أن يُفهَم فهمًا صحيحًا، وهو الفهم الذي يَجعل الحديثَ لا يَتعارض مع الآيات والأحاديث السابقة الدالَّة على نَجَاة أبَوَي النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فما المانِع أن يَكونَ المَقصودُ في قوله: «أبي» عَمَّه الذي مات على الكُفر؛ لأن القرآن جاء باستعمال لَفظ الأب في حَق العَمِّ؛ قال تعالى: ﴿قَالُوا نَعبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ﴾ [البقرة: 133]، فأَطْلَقَ على "إسماعيل" لَفظَ الأب وهو عَمُّ يعقوب، وكانت مِن عادَة العَرَب أن تَجعلَ العَمَّ أبًا، فتُنَادِي ابنَ الأخ بالابن؛ حتى قال مُشرِكُو قُريشٍ لأبي طالب: "قل لابنك يَرجِع عن شَتم آلهتنا" يقصدون النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وقد أجاب بَعضُ العلماء كالعلَّامة ابن عابدين وغيره بأن هذه الأحاديثَ مَنسُوخةٌ؛ لأن حديث الإحياء تَأَخَّرَ عن هذا الحديث فيَكون ناسِخًا له، وقد نَقَل الحافظُ السيوطي هذا القولَ عن جماعةٍ مِن العلماء في "مَسَالِك الحُنَفَا"، وعليه فلا يَصِحُّ الاحتِجَاج بها.
وقد صنف في إثبات نجاة والدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم ونجاتهما جماعات كثيرة من العلماء المحققين؛ كالإمام الحافظ السيوطي كما سبق، ومن المصنفات في ذلك أيضًا:
- الانتصار لوالدي النبي المختار (صلي الله عليه وآله وسلم).
- حديقة الصفا في والدي المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم)؛ كلاهما للإمام السيد المحدث العلامة محمد مرتضي الزبيدي.
- تحقيق آمال الراجين في أن والدي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم من الناجين، للعلامة ابن الجزار.
- ذخائر العابدين في نجاة والدي المكرم سيد المرسلين (صلى الله عليه وآله وسلم) للعلامة الأسبيري.
- مرشد الهدى في نجاة أبوي المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم) للعلامة وحدي الرومي.
- مطلع النيرين في إثبات نجاة أبوي سيد الكونين (صلى الله عليه وآله وسلم) للعلامة المنيني.
- هدايا الكرام في تنزيه آباء النبي عليه الصلاة والسلام، للعلامة البديعي.
- بلوغ المآرب في نجاة أبوي المصطفى وعمه أبي طالب، للعلامة الأزهري اللاذقي.
- تأديب المتمردين في حق الأبوين، للعلامة عبد الأحد بن مصطفى الكتاهي السيواسي.
- الرد على من اقتحم القدح في الأبوين الكريمين للعلامة البخشي.
- سِدَاد الدِّين وسَدَادُ الدَّيْن في إثبات النجاة والدرجات للوالدين، للعلامة البرزنجي.
- قرة العين في إيمان الأبوين، للعلامة الدوايخي.
- القول المختار فيما يتعلق بأبوي النبي المختار (صلى الله عليه وآله وسلم) للعلامة الديربي.
- الجواهر المضية في حق أبوي خير البرية (صلى الله عليه وآله وسلم) للعلامة التمرتاشي.
- سبيل السلام في حكم آباء سيد الأنام (صلى الله عليه وآله وسلم) لمحمد بن عمر البالي.
- إنباء الأصفياء في حق آباء المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم) للرومي الأماسي.
- تحفة الصفا فيما يتعلق بأبوي المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم) للعلامة الغنيمي.
- رسالة في أبوي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) للعلامة الفناري.
- السيف المسلول في القطع بنجاة أبوي الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) للعلامة أحمد الشهرزوري.
- خلاصة الوفا في طهارة أصول المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم) من الشرك والجفا، للعلامة محمد بن يحيى بن الطالب.
- مباهج السنة في كون أبوي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في الجنة للعلامة ابن طولون.
- سعادة الدارين بنجاة الأبوين، للعلامة السيد محمد علي بن حسين المالكي.
- القول المسدد في نجاة والدي سيدنا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) للعلامة محمد بن عبد الرحمن الأهدل.
- نخبة الأفكار في تنجية والدي المختار (صلى الله عليه وآله وسلم) للعلامة محمد بن سيد إسماعيل الحسني.
- إيجاز الكلام في والدي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) للعلامة محمد بن محمد التبريزي.
- إرشاد الغبي إلى إسلام آباء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لأحد علماء الهند -كما في "إيضاح المكنون في الذيل على كشف الظنون" (3/ 61، ط. دار إحياء التراث العربي)-.
وأما الرسالة التي تُنسَب للشيخ ملا علي القاري الحنفي في القدح في إسلام والدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقد استهجنها العلماء، ولو صحت نسبتُها إليه فقد رجع عن ذلك، وحقق القول بنجاتيهما عليها السلام، ونسب ذلك إلى جماهير علماء الأمة وثقاتها وأجلتها فقال في "شرح الشفا للقاضي عياض" (1/ 601، ط. 1319هـ): [والأصح إسلامهما على ما اتفق عليه الأجلة من الأئمة، كما بينه السيوطي في رسائله الثلاث المؤلفة] اهـ. وقال فيه أيضًا (1/648): [وأما ما ذكروه من إحيائه عليه الصلاة والسلام أبويه فالأصح أنه وقع، على ما عليه الجمهور الثقات، كما قال السيوطي في رسائله الثلاث المؤلفات] اهـ.
والقولُ بنَجَاة والِدَي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم هو ما عليه الأزهر الشريف وعلماؤه عبر العصور مع اختلاف توجهاتهم ومذاهبهم ومشاربهم، وهو ما عليه دار الإفتاء المصرية:
قال شيخُ الإسلام البُرهانُ إبراهيمُ الباجوري في "شَرح جَوهرة التوحيد" (1/ 83-84): [إذا عَلِمْتَ أنَّ أهل الفَترة ناجُون على الراجِح عَلِمْتَ أنَّ أبَوَيه صلى الله عليه وآله وسلم ناجِيَان لكَونِهِما مِن أهل الفَترة، بل جميعُ آبائه صلى الله عليه وآله وسلم وأُمَّهَاتِه ناجُون ومَحكُومٌ بإيمانهم، لم يَدخُلْهُم كُفرٌ، ولا رِجسٌ، ولا عَيبٌ، ولا شيءٌ مِمَّا كان عليه الجاهليةُ بأدِلَّةٍ نَقلِيَّةٍ؛ كقوله تعالى: ﴿وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ﴾، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «لم أَزَل أَنْتَقِلُ مِن الأَصلاب الطاهِرَات إلى الأرحام الزاكِيَات»، وغير ذلك من الأحاديث البالغة مَبلَغ التَّوَاتُر] اهـ.
وقال العلامة الشيخ محمود خطَّاب السبكي المالكي في "المنهل العذب المورود شرح سنن الإمام أبي داود" (9/ 93، ط. مؤسسة التاريخ العربي): [ولعله لم يُؤْذَن له صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم في الاستغفار لأنه فرع المؤاخذة على الذنب، ومن لم تبلغه الدعوة لا يُؤاخَذ على ذنبه فلا حاجة إلى الاستغفار لها، ولأن عدم الإذن بالاستغفار لا يستلزم أن تكون كافرة؛ لجواز أن يكون الله تعالى منعه صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم من الاستغفار لها لمعنًى آخر؛ كما كان صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم ممنوعًا في أول الإسلام من الصلاة على من عليه دَيْنٌ لم يترك وفاءً، ومن الاستغفار له، مع أنه من المسلمين، وعلل ذلك بأن استغفاره صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم مجاب على الفور؛ فمن استغفر له وصل ثواب دعائه إلى منزله في الجنة وانتفع به فورًا، والمدين محبوس عن مقامه الكريم حتى يُقضَى دينه، فقول مَن قال إن عدم الإذن في الاستغفار لكفرها، والاستغفار للكافر لا يجوز: غير سديد] اهـ.
وقال العلامة فخر علماء مصر الشيخُ شهاب الدين أحمد الحلواني الخليجي الشافعي في كتابه "مواكب ربيع في مولد الشفيع" (ص: 356، ط. دار جوامع الكلم): [وبالجملة فالقول بكفر أبويه صلى الله عليه وآله وسلم زلة غافل نعوذ بالله من ذلك، فمن تفوه به فقد تعرض للكفر بإيذائه صلى الله عليه وآله وسلم، فقد جاء أن عكرمة بن أبي جهل اشتكى إليه صلى الله عليه وآله وسلم أن الناس يسبون أباه؛ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: «لَا تُؤْذُوا الْأَحْيَاءَ بِسَبِّ الْأَمْوَاتِ» رواه الطبراني، ولا شك أنه صلى الله عليه وآله وسلم حيٌّ في قبره تُعرَضُ عليه أعمالُنا، وإذا رُوعِيَ عكرمةُ رضي الله عنه في أبيه بالنهي عما يتأذى به مِن سبِّه فسيد الخلق صلى الله عليه وآله وسلم أولى وأوجب، كيف وقد جاء أن سُبَيْعَةَ -وكأنها المعروفة بدُرَّةَ- بنت أبي لهب جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالت: إن الناس يصيحون بي؛ يقولون: إني ابنة حطب النار! فقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو مغضَبٌ شديد الغضب، فقال: «مَا بَالُ أَقْوَامٍ يُؤْذُونَنِي فِي نَسَبِي وَذَوِي رَحِمِي؛ أَلَا وَمَنْ آذَى نَسَبِي وَذَوِي رَحِمِي فَقَدْ آذَانِي، وَمَنْ آذَانِي فَقَدْ آذَى الله عَزَّ وَجَلَّ»] اهـ.
وقد صَدَرَت بذلك فتوى فضيلةُ مفتي الديار المصرية الأسبق العلامة الشيخ محمد بخيت المُطيعي، والتي قال في آخرها في حُكم مَن زَعَم أن أبَوَي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم لَيْسَا مِن أهل الإيمان: [قد أخطأ خَطَأً بَيِّنًا؛ يَأثَمُ ويَدخُلُ به فِيمَن آذى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولكن لا يُحكَم عليه بالكُفر؛ لأن المَسألةَ لَيْسَت مِن ضَرُورِيَّات الدِّين التي يَجِب على المُكَلَّفِ تَفصيلُها. هذا هو الحق الذي تَقتَضِيه النصوصُ وعليه المُحَقِّقُون مِن العلماء] اهـ. ونَصيحَتُنَا للشباب المُنتَسِبِين للدَّعوة إلى الله أن يَتَّقوا الله في الأُمَّة ولا يُبالِغوا في إطلاق الأحكام قبل الفهم والبحث، وإن ضاقَت بهم مَلَكَاتُهُم العَقلِيَّةُ والعِلْمِيَّةُ فقد وَصَفَ لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الدَّوَاءَ مِن هذا المَرَض فقال: «إنَّما شِفاءُ العِيِّ السُّؤَالُ»، فعليهم سُؤَالُ أهل العِلم بَدَلًا مِن إيقاع أنفُسِهِم في اللَّعن والخروج مِن رحمة الله بالتَّعَدِّي على جَنَاب الحَبِيب صلى الله عليه وآله وسلم، فقد ذَكَرَ الحافظُ السيوطي في "الحاوي" (2/ 219، ط. دار الكتب العلمية) عن الإمام السُّهَيلِي: [أن القاضي أبا بَكر بن العربي أَحَد أئمة المالِكية سُئِل عن رَجُلٍ قال: إنَّ أبا النبي صلى الله عليه وآله وسلم في النار، فأجاب بأنَّ مَن قال ذلك فهو مَلعون؛ لقوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُم اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا﴾ [الأحزاب: 57]، قال: ولا أذًى أعظَمُ مِن أن يُقَالَ عن أبيه إنَّه في النار] اهـ.
وقال العلامة الشيخ محمد أبو زهرة في كتابه الماتع "خاتم النبيين" (1/ 119، ط. دار الفكر العربي): [وخلاصة القول، وهو ما انتهينا إليه بعد مراجعة الأخبار في هذه المسألة: أن أبوي محمد صلى الله تعالى عليه وسلم في فترة، وأنهما كانا قريبين إلى الهدى، وإلى الأخلاق الكريمة التي جاء به شرع ابنهما من بعد، وأنهما كانا على فترة من الرسل، ونعتقد أنه بمراجعة النصوص القرآنية والأحاديث الصحيحة لا يمكن أن يكونا في النار، فأمه المجاهدة الصبور، الحفية بولدها لا تمسها النار؛ لأنه لا دليل على استحقاقها، بل الدليل قام على وجوب الثناء عليها هي وزوجها الذبيح الطاهر.
وما انتهينا إلى هذا بحكم محبتنا لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وإن كنا نرجوها ونتمناها، ولكن بحكم العقل والمنطق والقانون الخلقي المستقيم، والأدلة الشرعية القويمة، ومقاصد الشريعة وغاياتها] اهـ.
فالحذرَ الحذرَ من إطلاق اللسان بغير الأدب مع الوالدين الكريمين لرسول الله صلى الله عليه وعليه وآله وسلم في هذه المسألة، فإن وصفهما عليهما السلام بالكفر انتقاص لهما، وانتقاصهما هو من الأذى البليغ وسوء الأدب مع الجناب الأجل سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم:
قال الإمام القسطلَّاني الشافعي في "المواهب اللَّدُنِّيَّة" (1/ 348): [والحَذَرَ الحَذَرَ مِن ذِكْرِهِمَا بما فيه نَقص، فإنَّ ذلك قد يُؤذِي النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم؛ فإن العُرف جَارٍ بأنه إذا ذُكِرَ أبو الشَّخص بما يُنقِصُه أو وَصْفٍ وُصِفَ به وذلك الوَصْفُ فيه نَقصٌ تَأَذَّى وَلَدُه بِذِكْرِ ذلك له عند المُخَاطَبَة، وقد قال عليه الصلاة والسلام: «لا تُؤذُوا الأحياءَ بِسَبِّ الأموات» رواه الطبراني في الصغير، ولا رَيبَ أنَّ أذَاه عليه السلامُ كُفرٌ يُقتَلُ فاعِلُهُ إن لم يَتُبْ عِندنا] اهـ.
ولَمَّا ذَكَرَ العلَّامة الآلوسي في تفسيره "روح المعاني" (10/ 135، ط. دار الكتب العلمية) -عند قوله تعالى ﴿وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ﴾ [الشعراء: ٢١٩]- أنَّ القولَ بإيمانِ أبَوَيه صلى الله عليه وآله وسلم قَولُ كَثيرٍ مِن أَجِلَّةِ أهل السُّنَّة، قال: [وأنا أَخشَى الكُفرَ على مَن يَقولُ فيهما رضي الله عنهما، على رَغمِ أَنفِ القَارِي وأَضْرَابِه بِضِدِّ ذلك] اهـ.
وقال العلَّامة ابن عابدين في "حاشيته" (3/ 185، ط. دار الفكر) عن هذه المَسألة: [وبالجُملة كَمَا قال بعضُ المُحَقِّقِين: إنه لا يَنبَغِي ذِكْرُ هذه المَسألة إلَّا مَع مَزِيدِ الأَدَب، ولَيْسَت مِن المَسَائل التي يَضُرُّ جَهلُها أو يُسأَلُ عنها في القَبر أو في المَوقِف؛ فحِفظُ اللِّسَان عن التَّكَلُّم فيها إلَّا بِخَيرٍ أَوْلى وأَسلَم] اهـ.
فلْيَتَّق اللهَ أولئك الجهلة الخائضون في هذه المَسائل وأمثالها بِهَوًى وجَهل وسوء أدب مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع افتقادهم لعلوم الآلة وفهم النصوص الشرعية؛ داعين فيها لأقوالٍ شاذة مرذولة لم يقبلها علماء المسلمين ولا أئمتهم عبر القرون، ولْيَخْشَوْا أن تصيبهم لَعنَةُ الله جل جلاله بما يروجونه من الآراءٍ المهملةٍ المستهجَنة المستوجِبةٍ لإيذَاء حبيب الرحمن وسيد الأكوان محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
والله سبحانه وتعالى أعلم.

اقرأ أيضا