التعامل بالبيع والشراء مع من يختلط ماله بالحرام

التعامل بالبيع والشراء مع من يختلط ماله بالحرام

هل يجوز لي أن أبيع وأشتري ممن يختلط ماله الحلال بالحرام؟

يجوز شرعًا التعامل مع من اختلط ماله الحلال بالحرام إذا لم يعرف حاله؛ بيعًا وشراءً، وأخذًا وإعطاءً، والإثم في المال المأخوذ من حرام إنما يقع على من اكتسبه، أما مَن انتقل إليه المال بالطرق المشروعة فلا حرمة عليه ولا إثم، لكن إن تعين المال الحرام -سواء لتعلق حق الغير به أو غير ذلك- وتميز عن الحلال، حرُم أخذه؛ لِمَا في ذلك من التعاون على الإثم والعدوان وأكل أموال الناس بالباطل.
هذا، مع التنبيه على أنه لا يشرع للإنسان التكلف في السؤال عن مصدر ما يأخذه أو يتناوله غيره، ولا يجوز له التجسسُ لمعرفة ذلك؛ لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمْ عَلَى أَخِيهِ الْمُسْلِمِ فَأَطْعَمَهُ طَعَامًا، فَلْيَأْكُلْ مِنْ طَعَامِهِ وَلَا يَسْأَلْهُ عَنْهُ، وَإِنْ سَقَاهُ شَرَابًا مِنْ شَرَابِهِ، فَلْيَشْرَبْ مِنْ شَرَابِهِ وَلَا يَسْأَلْهُ عَنْهُ» رواه أحمد وغيره.

التفاصيل ....

المال من نعم الله على الإنسان في حياته الدنيا، وهو في حقيقته ملكٌ لله تعالى أباح الله لعباده التمتع به في الوجوه المشروعة؛ قال تعالى: ﴿وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللهِ الَّذِي آتَاكُمْ﴾ [النور: 33]، وهو عصب الحياة وقوامها؛ فبه تتحقق مصالح العباد، وبه المعاش والارتياش؛ قال تعالى: ﴿وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَامًا﴾ [النساء: 5]، وبواسطته تؤدَّى كثير من فرائض الإسلام؛ كالزكاة والحج والجهاد.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: ﴿قِيَامًا﴾: قوامكم في معايشكم. أخرجه الطبري في "التفسير".
وقال الإمامان الحسن البصري ومجاهد: ﴿قِيَامًا﴾: قيام عيشك. أخرجه عنهما الطبري في "تفسيره".
وقال الإمام الضحاك: ﴿قِيَامًا﴾: عصمة لدينكم، وقيامًا لكم. أخرجه ابن أبي حاتم في "التفسير".
وقال الإمام السدي: ﴿قِيَامًا﴾: المال هو قيام الناس؛ قوام معايشهم. أخرجه الطبري في "التفسير".
وقال مقاتل في "التفسير" (1/ 357، ط. دار إحياء التراث): [﴿قِيَامًا﴾: قوامًا لمعاشكم] اهـ.
وقال الإمام الزجاج في "معاني القرآن وإعرابه" (2/ 14، ط. عالم الكتب): [﴿قِيَامًا﴾: المعنى: التي جعلها الله تقيمكم فتقومون بها قيامًا.. والمعنى: جعلها الله قيمة الأشياءِ؛ فبها يقوم أمْرُكم] اهـ.
وقد فتح الله تعالى لعباده أبواب الحلال في الكسب، ولم يحرم عليهم إلا ما فيه ضررهم وفسادهم؛ فإذا تنكب الإنسان طرق الحلال الكثيرة، واختار لنفسه مع ذلك مسالك الحرام، في كل ماله أو بعضه، فقد استحق الإثم على ذلك.
والمقصود من اختلاط الحرام بالحلال في المال: انضمام بعضه إلى بعض، وهذا يشمل ما يمكن تمييز الحرام فيه عن الحلال، وما لا يمكن تمييزه.
قال العلامة الفيومي في "المصباح المنير" (1/ 177، ط. المكتبة العلمية): [خلطتُ الشيء بغيره خلطًا؛ من باب ضرب: ضممته إليه فاختلط هو، وقد يمكن التمييز بعد ذلك كما في خلط الحيوانات، وقد لا يمكن كخلط المائعات] اهـ.
والأصل في تكسب المال هو الحِلّ، إلا أن يكون ثمنًا لمحرَّم؛ كالخمر والمخدرات، أو مكتسبًا على صفة محرمة؛ كالسرقة والغصب؛ لتعلق حق الغير به.
فإذا تميز الحرام في المال عن الحلال؛ بحيث يمكن الاحتراز عن الحرام: كان ذلك واجبًا، وحرُم على الإنسان أخذُه حتى لا يشارك صاحبَه في إثمه وتَبِعتِه.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «مَنِ اشْتَرَى سَرِقَةً وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهَا سَرِقَةٌ، فَقَدْ شَرِكَ فِي عَارِهَا وَإِثْمِهَا» رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه"، وإسحاق بن راهويه في "مسنده"، والحاكم في "المستدرك" وقال: صحيح ولم يخرجاه، والبيهقي في "السنن الكبرى".
قال الحافظ ابن رجب الحنبلي في "جامع العلوم والحكم" (1/ 210، ط. دار السلام): [ومتى علم أنَّ عينَ الشيء حرامٌ، أُخِذَ بوجه محرم، فإنَّه يحرم تناولُه، وقد حَكى الإجماعَ على ذلك ابنُ عبد البرِّ وغيرُه] اهـ.
أمّا إذا اختلط حرام المال بحلاله، ولم يمكن التمييزُ بينهما: فالذي عليه جماهير الفقهاء من المذاهب الأربعة المتبوعة وغيرها: أنه يجوز التعامل مع صاحبه؛ استصحابًا لأصل الحل؛ فإن الحلَّ هو الأصل، والحرمة طارئة، وما لم يُتَيَقَّن الطارئُ فالأصل بقاءُ ما كان على ما كان.
ومن العلماء مَن كره ذلك تورعًا، ومنهم من قصر الكراهة على ما إذا عُلِم أن أغلب المال حرام، ومنهم من حرَّم التعامل معه إذا كان غالب ماله حرامًا، ومنهم من حرَّمه مطلقًا؛ بدعوى أن اختلاط الحرام بالحلال في المال يستوجب شيوعه في جميعه؛ فيكون للحرمة نصيب في كل أجزائه، وهذا القول ردَّه المحققون من أهل العلم، ونصوا على كونه غلوًّا وتشددًا وشذوذًا.
والصواب الذي عليه الفتوى والعمل: جواز التعامل مع صاحب المال المختلط حلاله بحرامه، وقبول دعوته وهديته، وغير ذلك من صور التعامل المختلفة، وأن كراهة من كره ذلك من السلف إنما هي كراهة تنزيهية على جهة الورع لا على سبيل التحريم، وهذا هو الموافق لأدلة الشرع الشريف وأصوله وقواعده، وهو الذي جرى عليه عمل الصحابة والسلف الصالح رضي الله عنهم.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمْ عَلَى أَخِيهِ الْمُسْلِمِ، فَأَطْعَمَهُ طَعَامًا، فَلْيَأْكُلْ مِنْ طَعَامِهِ، وَلَا يَسْأَلْهُ عَنْهُ، وَإِنْ سَقَاهُ شَرَابًا مِنْ شَرَابِهِ، فَلْيَشْرَبْ مِنْ شَرَابِهِ، وَلَا يَسْأَلْهُ عَنْهُ» أخرجه الإمام أحمد وابن الجعد وأبو يعلى في "مسانيدهم"، والطحاوي في "شرح معاني الآثار"، والطبراني في "المعجم الأوسط"، والحاكم في "المستدرك" وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
قال العلامة القاري الحنفي في "مرقاة المفاتيح" (5/ 2111، ط. دار الفكر): [«وَلَا يَسْأَل»؛ أي: من أين هذا الطعام؟ ليتبين أنه حلال أم حرام] اهـ.
وقد استفاضت بذلك الآثار عن السلف الصالح:
فمن ذلك: ما أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" عن ذر بن عبد الله، عن سيدنا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: جاء إليه رجل فقال: إن لي جارًا يأكل الربا وإنه لا يزال يدعوني؟ فقال: "مَهْنؤُه لك، وإثمُه عليه"، قال سفيان: فإن عرفته بعينه فلا تصبه.
وأخرجه الحافظ البيهقي في "السنن الكبرى" و"شعب الإيمان"، ولفظه: عن الحارث بن سُويد قال: جاء رجل إلى عبد الله -يعني ابن مسعود رضي الله عنه- فقال: إنّ لي جارًا ولا أعلم له شيئًا إلّا خبيثًا أو حرامًا، وإنه يدعوني، فأُحرَجُ أن آتيَه، وأتَحَرَّج أن لا آتِيَه؟ فقال: "ائْتِهِ وَأَجَبْهُ؛ فَإِنَّمَا وِزْرُهُ عَلَيْهِ".
وأخرج عبد الرزاق في "المصنف" عن سيدنا سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: "إِذَا كَانَ لَكَ صَدِيقٌ عَامِلٌ، أَوْ جَارٌ عَامِلٌ، أَوْ ذُو قَرَابَةٍ عَامِلٌ، فَأَهْدَى لَكَ هَدِيَّةَ أَوْ دَعَاكَ إِلَى طَعَامٍ، فَاقْبَلْهُ؛ فَإِنَّ مَهْنَأَهُ لَكَ، وَإِثْمُهُ عَلَيْهِ".
وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة في "مصنفيهما"، والحاكم في "المستدرك" عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "إِذَا دَخَلْتَ عَلَى أَخِيكَ الْمُسْلِمِ فَأَطْعَمَكَ طَعَامًا فَكُلْ وَلَا تَسْأَلْ، فَإِنْ سَقَاكَ شَرَابًا فَاشْرَبْ وَلَا تَسْأَلْ، فَإِنْ رَابَكَ مِنْهُ شَيْءٌ فَشُجَّهُ بِالْمَاءِ".
وأخرج الحافظ البيهقي في "شعب الإيمان" عن ربيع بن عبد الله، سمع رجلًا سأل ابن عمر رضي الله عنهما: إن لي جارًا يأكل الربا، أو قال: خبيث الكسب، وربما دعاني لطعامه أفأجيبُه؟ قال: "نَعَمْ"، قال الإمام البيهقي عقب روايته: [وهذا على الإباحة؛ فإنه لا يدري؛ الذي أطعمه من كسبه الخبيث أم لا؟ وإجابة الدعوة حق] اهـ.
وأخرج الإمام ابن أبي شيبة في "مصنفه" عن علي الأزدي قال: قلت لابن عمر رضي الله عنهما: إنا نسافر فنمر بالرُّعيان والصبي والمرأة، فيطعمونا لحمًا ما ندري ما حبسه؟ فقال: "إِذَا أَطْعَمَكَ الْمُسْلِمُونَ فَكُلْ".
وأخرج أيضًا عن أبي الزبير، عن سيدنا جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: "مَا وَجَدْتُ فِي بَيْتِ الْمُسْلِمِ فَكُلْ".
وأخرج أيضًا عن الإمام زين العابدين علي بن الحسين رضي الله عنهما قال: "إِذَا دَخَلْتَ عَلَى أَخِيكَ الْمُسْلِمِ فَكُلْ مِنْ طَعَامِهِ، وَاشْرَبْ مِنْ شَرَابِهِ".
وأخرج أيضًا عن الإمام الشعبي قال: "إِذَا دَخَلْتَ بَيْتَ الْمُسْلِمِ فَكُلْ مِنْ طَعَامِهِ، وَاشْرَبْ مِنْ شَرَابِهِ".
وأخرج عبد الرزاق في "مصنفه" عن معمر: "أَنَّ عَدِيَّ بْنَ أَرْطَاةَ كَانَ يَبْعَثُ إِلَى الْحَسَنِ كُلَّ يَوْمٍ بِجِفَانٍ مِنْ ثَرِيدٍ، فَيَأْكُلُ مِنْهَا وَيُطْعِمُ أَصْحَابَهُ".
وأخرج أيضًا عن معمر قال: "بَعَثَ عَدِيُّ بْنُ أَرْطَاةَ بِمَالٍ إِلَى الْحَسَنِ، وَالشَّعْبِيِّ، وَمُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، فَقَبِلَ الْحَسَنُ، وَالشَّعْبِيُّ، وَرَدَّ ابْنُ سِيرِينَ"، وكان عديُّ بن أرطأة واليًا على البصرة من قبل عمر بن عبد العزيز.
وأخرج أيضًا عن منصور قال: "قلتُ لإبراهيم -يعني النخعي-: عَرِيفٌ لَنَا يَهْبِطُ وَيُصِيبُ مِنَ الظُّلْمِ فَيَدْعُونِي، فَلَا أُجِيبُهُ، قَال: الشَّيْطَانُ عَرَضَ بِهَذَا لِيُوقِعَ عَدَاوَةً، وَقَدْ كَانَ الْعُمَّالُ يَهْبِطُونَ وَيُصِيبُونَ، ثُمَّ يَدْعُونَ فَيُجَابُونَ".
وأخرج أيضًا عن منصور قال: "قلتُ لإبراهيم -يعني النخعي-: نَزَلْتُ بِعَامِلٍ، فَنَزَلَنِي وَأَجَازَنِي قَالَ: اقْبَلْ، قُلْتُ: فَصَاحِبُ رِبًا قَالَ: اقْبَلْ مَا لَمْ تَأْمُرْهُ أَوْ تُعِنْهُ".
وأخرج أيضًا عن معمر قال: "سُئل الحسن: أيؤكل طعام الصيارفة؟ فقال: قَدْ أَخَّرَكُمُ اللهُ عَنِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، إِنَّهُمْ يَأْكُلُونَ الرِّبَا، وَأَحَلَّ لَكُمْ طَعَامَهُمْ".
قال الحافظ ابن رجب الحنبلي في "جامع العلوم والحكم" (1/ 209-210): [وقال الزُّهريُّ ومكحول: لا بأس أنْ يؤكل منه ما لم يعرف أنَّه حرامٌ بعينه، فإنْ لم يُعلم في ماله حرام بعينه، ولكنه علم أنَّ فيه شبهةً، فلا بأس بالأكل منه، نصَّ عليه أحمد في رواية حنبل.
وذهب الإمام إسحاق بنُ راهويه إلى ما رُوي عن ابن مسعود وسلمانَ رضي الله عنهما وغيرِهما منَ الرُّخصة، وإلى ما رُوي عَنِ الحسنِ وابنِ سيرين في إباحةِ الأخذ مما يقضي من الرِّبا والقمار، نقله عنه ابنُ منصور..
ورخَّص قومٌ من السَّلف في الأكل ممن يعلم في ماله حرام ما لم يعلم أنّه من الحرام بعينه، كما تقدَّم عن مكحولٍ والزُّهريِّ. وروي مثلُه عن الفُضيل بن عياض.
وروي في ذلك آثارٌ عن السَّلف: فصحَّ عن ابن مسعود رضي الله عنه أنَّه سُئِلَ عمَّن له جارٌ يأكلُ الرِّبا علانيةً -ولا يتحرَّجُ من مالٍ خبيثٍ يأخُذُه- يدعوه إلى طعامه، قال: "أجيبوهُ، فإنَّما المَهْنأُ لكم والوِزْرُ عليه". وفي رواية أنَّه قال: لا أعلمُ له شيئًا إلّا خبيثًا أو حرامًا، فقال: "أجيبوه، وقد صحح الإمام أحمد هذا عن ابن مسعود رضي الله عنه..
ورُوِي عن سلمان رضي الله عنه مثلُ قولِ ابنِ مسعود الأول، وعن سعيد بن جبير، والحسن البصري، ومُورِّق العِجلي، وإبراهيم النَّخعي، وابنِ سيرين وغيرهم.
والآثار بذلك موجودة في كتاب "الأدب" لحُمَيد بن زَنجويه، وبعضها في كتاب "الجامع" للخلال، وفي "مُصنَّفَيْ" عبد الرزاق وابن أبي شيبة، وغيرهم..
وقد رُوي عن ابن سيرين في الرجل يُقضَى مِن الربا، قال: لا بأس به، وعن الرجل يُقضَى من القمار قال: لا بأس به، خرَّجه الخلال بإسناد صحيح] اهـ.
وبذلك جاءت نصوص الفقهاء من مختلف المذاهب المتبوعة:
فمن الحنفية: قال العلامة الطهطاوي الحنفي في "حاشيته على مراقي الفلاح" (ص: 35، ط. دار الكتب العلمية): [معاملة من أكثر ماله حرام لا تحرم مبايعته حيث لم يتحقق حرمة ما أخذه منه، ولكن يُكرَه؛ خوفًا من الوقوع في الحرام] اهـ.
ومن المالكية: قال العلامة ابن رشد المالكي في "البيان والتحصيل" (18/ 194، ط. دار الغرب الإسلامي): [وكذلك على قوله لا يجوز لأحد أن يعامله فيه ولا أن يقبل منه هبة، لأنه إذا عامله فيه فقد عامله في جزء من الحرام؛ لكونه شائعا فيه، وهذا هو مذهب ابن وهب من أصحاب مالك، وهو استحسان على غير قياس، لأن الربا قد ترتب في ذمته وليس متعينًا في عين المال على الإشاعة فيه، فعلى ما يوجبه القياس تجوز معاملته فيه وقبول هبته، وهو مذهب ابن القاسم، وحرم أصبغ معاملته فيه وقبول هبته وهديته، وقال: من فعل ذلك يجب عليه أن يتصدق بجميع ما أخذ، وهو شذوذ من القول على غير قياس] اهـ.
قال الإمام القرطبي المالكي في تفسيره "الجامع لأحكام القرآن" (3/ 366، ط. دار الكتب المصرية): [ذهب بعض الغلاة من أرباب الورع إلى أن المال الحلال إذا خالطه حرام حتى لم يتميز ثم أخرج منه مقدار الحرام المختلط به لم يحل ولم يطب؛ لأنه يمكن أن يكون الذي أخرج هو الحلال والذي بقي هو الحرام. قال ابن العربي: وهذا غلو في الدين، فإن كل ما لم يتميز فالمقصود منه ماليَّتُه لا عينُه] اهـ.
وقال الإمام القرافي المالكي في "الذخيرة" (13/ 317-318، ط. دار الغرب الإسلامي): [النوع الثالث والعشرون: معاملة مكتسب الحرام كمتعاطي الربا والغلول وأثمان الغصوب والخمور ونحو ذلك، وفي "الجواهر": إما أن يكون الغالب على ماله الحرام، أو الحلال، أو جميعه حرام؛ إما بأن لا يكون له مال حلال، أو ترتب في ذمته من الحرام ما يستغرق ما بيده من الحلال:
فإن كان الغالب الحلال: أجاز ابن القاسم معاملته واستقراضه وقبض الدين منه وقبول هديته وهبته وأكل طعامه، وحرَّم جميعَ ذلك ابنُ وهب، وكذلك أصبغ؛ على أصله من أن المال إذا خالطه حرام يبقى حرامًا كلُّه يلزمه التصدق بجميعه، قال أبو الوليد: والقياسُ قولُ ابنِ القاسم، وقولُ ابنِ وهبٍ استحسانٌ، وقولُ أصبغ تشددٌ؛ فإن قاعدة الشرع اعتبار الغالب.
وإن كان الغالب الحرام: امتنعت معاملته وقبول هديته؛ كراهة عند ابن القاسم، وتحريمًا عند أصبغ، إلا أن يبتاع سلعة حلالًا؛ فلا بأس أن يبتاع منه ويقبل هديته إن علم أنه قد بقي في يديه ما يفي بما عليه من التباعات على القول بأن معاملته مكروهة، ويختلف على القول بالتحريم] اهـ.
وقال الإمام الصاوي المالكي في "حاشيته" (3/ 586، ط. دار المعارف): [أفتى بعض المحققين بجواز الشراء من لحم الأغنام المغصوبة إذا باعها الغاصب للجزارين فذبحوها؛ لأنه بذبحها ترتبت القيمة في ذمة الغاصب] اهـ.
ومن الشافعية: قال الإمام الماوردي الشافعي في "الحاوي الكبير" (15/ 54، ط. دار الكتب العلمية): [اختلاط الحلال بالحرام إذا لم يمكن الاحتراز منه يوجب تغليبًا الإباحة على التحريم] اهـ.
وقال الإمام النووي في "المجموع" (9/ 145، ط. دار الفكر): [وأما ما يقوله العوام اختلاط الحلال بالحرام يحرمه فباطل لا أصل له] اهـ.
وقال في "روضة الطالبين" (7/ 337، ط. المكتب الإسلامي): [دعاه من أكثر ماله حرام، كرهت إجابته كما تكره معاملته] اهـ.
وقال الإمام السيوطي في "الأشباه والنظائر" (ص: 74، ط. دار الكتب العلمية): [قال الشيخ أبو حامد الإسفراييني: الشك على ثلاثة أضرب:.. والثالث: مثل معاملة من أكثر ماله حرام ولم يتحقق أن المأخوذ من ماله عين الحرام فلا تحرم مبايعته؛ لإمكان الحلال وعدم تحقق التحريم، ولكن يكره؛ خوفًا من الوقوع في الحرام] اهـ مختصرًا.
ومن الحنابلة: قال الشيخ ابن تيمية الحنبلي في "مجموع الفتاوى" (32/ 215، ط. مجمع الملك فهد): [إذا عُرِف الحرامُ بعينِه لم يُؤكَلْ حتمًا، وإن لم يُعرَف بعينِه لم يَحرُم الأكلُ، لكن إذا كَثُر الحرامُ كان تركُ الأكلِ وَرَعًا] اهـ.
وقال العلامة ابن مفلح الحنبلي في "الآداب الشرعية" (1/ 442، ط. عالم الكتب): [والرابع: عدم التحريم مطلقًا، قلَّ الحرام أو كثُر، وهو ظاهر ما قطع به وقدمه غير واحد، لكن يكره، وتقوى الكراهة وتضعف بحسب كثرة الحرام وقلته. قدمه الأزجي وغيره، وجزم به في "المغني".. ولأن الأصل الإباحة وكما لو لم يتيقن محرما فإنه لا يحرم بالاحتمال وإن كان تركه أولى] اهـ مختصرًا.
وقال الإمام المرداوي الحنبلي في "الإنصاف" (8/ 322، ط. دار إحياء التراث العربي): [في جواز الأكل مِن مال مَن في مالِه حرامٌ أقوالٌ:.. والقول الرابع: عدم التحريم مطلقًا، قل الحرام أو كثر، لكن يكره وتقوى الكراهة وتضعف بحسب كثرة الحرام وقلته. جزم به في "المغني"، والشرح، وقاله ابن عقيل في "فصوله"، وغيره، وقدمه الأزجي وغيره. قلت: وهو المذهب على ما اصطلحناه في الخطبة..
قال في "الفروع": "وينبني على هذا الخلاف: حكم معاملته، وقبول صدقته وهبته، وإجابة دعوته، ونحو ذلك. وإن لم يعلم أن في المال حرامًا: فالأصل الإباحة، ولا تحريم بالاحتمال، وإن كان تركه أولى للشك، وإن قوي سبب التحريم فظنه يتوجه فيه؛ كآنية أهل الكتاب وطعامهم". انتهى. قلت: الصواب الترك. وأن ذلك ينبني على ما إذا تعارض الأصل والظاهر، وله نظائر كثيرة] اهـ.
وهذا القول هو الذي تؤيده قواعد الشرع وأصوله؛ وذلك لِمَا يأتي:
أولًا: من المقرر شرعًا أنه إنما يقع الإثم على من اجترحه ولا يتجاوزه لغيره؛ وذلك لقوله تعالى: ﴿وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ [الأنعام: 164]، وقوله سبحانه: ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى﴾ [النجم: 39].
وعلى ذلك فالمال المحرم لكسبه حرام على مكتسبه فقط، وأما من أخذه منه بوجه مشروع؛ كالهدية والبيع والشراء ونحوها، فمباح له.
ثانيًا: أن القول بسريان الحرمة لجميع المال بالاختلاط لا وجه له؛ لأن التحريم حكم شرعي تكليفي، والأحكام التكليفية تتعلق بأفعال المكلفين، ولا تتعلق بالذوات والأعيان، فذات المال لا يوصف بحل ولا بحرمة، وإنما الموصوف بذلك فعلُ المكلِّف، وعلى ذلك فإثم الكسب الحرام واقع على من اكتسبه بطريق حرام، ولا يقع على من تناقلت الأموال في يده بالطرق الصحيحة شرعًا؛ لأن المال في نفسه لا يتعلق به حكم تكليفي.
قال الإمام الزركشي في "البحر المحيط" (1/ 161، ط. دار الكتبي): [قال الغزالي: وقولنا: الخمر محرمة تجوز، فإنه جماد لا يتعلق به خطاب، وإنما المحرم تناولها، وقال إلكيا الطبري: الحكم لا يرجع إلى ذات المحكوم ولا إلى صفة ذاتية له إن قلنا: إنها زائدة على الذات، أو صفة عرضية له، وإنما هو تعلق أمر الله بالمخاطب، وهذا التعلق معقول من غير وصف محدث للمتعلق به؛ كالعلم يتعلق بالمعلوم] اهـ.
ثالثًا: أن النقود المتداولة بين الناس لا تتعين بالتعيين؛ حيث إن قيمتها ليست في نفس أعيانها، ولكن في قوتها الشرائية؛ ولذا فلا تتعين حرمتُها في مادتها أو عُمْلَتِها المتداولة بين الناس، وإنما تأتي حرمتها من تعلقها بفعل المكلف إذا كان حرامًا، فالحرام قد ترتب في ذمة فاعله وليس متعينًا في عين المال، ومن المقرر شرعًا أن الحرمة إذا لم تتعين حلت؛ قال الإمام ابن العربي المالكي: [كُلُّ ما لم يتميز فالمقصود منه ماليَّتُه لا عينُه] اهـ نقله الإمام القرطبي في "تفسيره" (3/ 366).
ولأجل ذلك أجاز الفقهاء أخذ ديون أهل الكتاب من الأثمان المحرمة عندنا -كالخمر والخنزير-؛ حيث إنها مال متقوم في حقهم، وذلك مما يبين أن الأموال في ذاتها ليست محلًّا للحرمة.
قال العلامة السرخسي الحنفي في "المبسوط" (24/ 26، ط. دار المعرفة): [وإن كان لرجل دين على رجل، فقضاه من ثمن خمر أو خنزير، لم يحل له أن يأخذه إلا أن يكون الذي عليه الدين كافرا، فلا بأس حينئذ أن يأخذها منه؛ لأنها مال متقوم في حق الكافر، فيجوز بيعه، ويستحق البائع ثمنه، ثم المسلم يأخذ مِلك مديونه بسبب صحيح، وما يأخذه عِوَضٌ عن دينه في حقه لا ثمن الخمر] اهـ.
وقال العلامة ابن عابدين الحنفي في "رد المحتار" (6/ 385): [وجاز أخذ دين على كافر من ثمن خمر؛ لصحة بيعه، بخلاف دين على المسلم؛ لبطلانه] اهـ.
وجاء في "فيض الباري على صحيح البخاري" (3/ 491، ط. دار الكتب العلمية): [قوله: (بلغ عمرَ رضي الله عنه أن فلانًا باع خمرا)، وقصته أن سمرة كان عاشرًا من جانب عمر رضي الله عنه، فمر عليه الذمي بالخمر، فأخذ منه العشر، فبلغ ذلك عمر رضي الله عنه، وقال كما في الحديث. وفيه زيادة ذكرها الحافظ في "الفتح": أن عمر قال: "ولُّوهم بيعها". اهـ. وهذا وإن كان في مسألة العشر، لكنه دل على أن مسلمًا لو وَكَّل ذميا ببيع خمر، طاب له ربحه] اهـ.
رابعًا: أنا لو سلمنا أن المال يتعين بالتعيين، فإن المال المأخوذ ممن اختلط الحلال في ماله بالحرام لا يُدرَى من أي القسمين هو، ولا يُجزَم بكونه من الحرام، والأصل الحلُّ، فيُحمل عليه، بل لو كان غالب المال حرامًا لَمَا حرُم التعامل مع صاحبه؛ لأن الأصل مقدَّم على الغالب عند كثير من الفقهاء؛ ولذلك قال الإمام القرافي في "الذخيرة": [قاعدة الشرع: "اعتبار الغالب"] اهـ.
وقال الإمام المرداوي في "التحبير شرح التحرير" (8/ 3761، ط. مكتبة الرشد): [وقد صحح الشافعية الأخذ بالأصل دائمًا، وقيل: غالبًا، قالوا: لأن الأصل أصدق وأضبط من الغالب الذي يختلف باختلاف الأزمان والأحوال، قالوا: والنقل يعضده؛ فقد حمل النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمامة رضي الله عنها في الصلاة، وكانت بحيث لا تحترز عن نجاسة] اهـ.
خامسًا: أن الشريعة قد أجازت تعامل المسلمين مع غير المسلمين بالبيع والشراء والأخذ والإعطاء؛ إقرارا لمبدأ التعايش والتكافل المجتمعي، وحرصًا على تدعيم الروابط الإنسانية، وذلك مع قيام الاحتمال على اشتمالها على مال قد اكتسب من حرام؛ إما عند المسلمين؛ كالخمر والخنزير، أو عندهم وعند المسلمين؛ كالمسروق الذي لا تعلم عينُه، وهذا يقتضي جواز التعامل مع صاحب المال المختلط؛ مسلمًا كان أو غير مسلم: فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: "اشْتَرَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم مِنْ يَهُودِيٍّ طَعَامًا بِنَسِيئَةٍ، وَرَهَنَهُ دِرْعَهُ" متفق عليه.
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: "أَعْطَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم خَيْبَرَ اليَهُودَ: أَنْ يَعْمَلُوهَا وَيَزْرَعُوهَا، وَلَهُمْ شَطْرُ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا" متفق عليه.
وعن علي بن أبى طالب رضي الله عنه قال: "أَهْدَى كِسْرَى لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم، فَقَبِلَ مِنْهُ، وَأَهْدَى لَهُ قَيْصَرُ فَقَبِلَ مِنْهُ، وَأَهْدَتْ لَهُ الْمُلُوكُ فَقَبِلَ مِنْهَا" رواه أحمد والبزار في "مسنديهما"، والترمذي في "الجامع".
وقد تعامل الصحابة رضي الله عنهم مع غيرهم من غير المسلمين بيعًا وشراءً من غير أن يسألوا عمّا إذا كانت أموالهم قد اكتسبت من حلال أم من حرام.
وبذلك احتج الإمام الحسن البصري فيما أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" عن معمر قال: "سُئل الحسن: أيؤكل طعام الصيارفة؟ فقال: قَدْ أَخَّرَكُمُ اللهُ عَنِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى؛ إِنَّهُمْ يَأْكُلُونَ الرِّبَا، وَأَحَلَّ لَكُمْ طَعَامَهُمْ".
سادسًا: أن قول من قال من الفقهاء بالكراهة محمولٌ على إرادة الإنكار على صاحبه، وردعه عن الكسب الحرام، لا أن المال حرام في ذاته.
ويشهد لذلك ما رواه عبد الرزاق في "مصنفه" عن منصور قال: "قلت لإبراهيم -يعني النخعي-: نزلت بعامل، فَنَزَلَني وأجازني، قال: اقبلْ، قلت: فصاحب ربا قال: اقبلْ ما لم تأمره أو تُعنه".
سابعًا: أن جماعة من الفقهاء المحققين وصفوا القول بالحرمة بالشذوذ والغلو والتشدد ومخالفة القياس كما سبق، كما أن في القول بالتحريم حرجًا ومشقةً على المكلفين، وفيه فتح لباب الوسوسة والخصومة وتبادل التهم بين الناس.
وبناء على ما سبق: فالأصل جواز التعامل مع صاحب المال الذي اختلط في ماله الحرامُ بالحلال بحيث لم يُعرَف حلالُه من حرامه، فيجوز التعامل معه بسائر أنواع المعاملات؛ بيعًا وشراءً، وأخذًا وإعطاءً؛ حيث إن الأموال أعيان، والحرمة لا تتعلق بذواتها، وإنما تتعلق بأفعال المكلفين؛ فإن كان أخذها بطرق مشروعة جاز، وإن كان بطرق غير مشروعة حرُم، والإثم في المال المأخوذ من حرام إنما يقع على من اكتسبه، وليس على مَن انتقل إليه المال بالطرق المشروعة من حرمةٍ ولا إثم.
هذا إذا لم يُعرَف الحرام بعينه، فإن عُرِف الحرام الذي تعينت حرمتُه، أو تعلق حق الغير به، حرُم أخذه؛ لِمَا في ذلك من التعاون على الإثم والعدوان وأكل أموال الناس بالباطل.
هذا، مع التنبيه على أنه لا يشرع للإنسان التكلف في السؤال عن مصدر ما يأخذه أو يتناوله، ولا يجوز له التجسسُ لمعرفة ذلك.
والله سبحانه وتعالى أعلم.

اقرأ أيضا