مبدأ التعايش في الإسلام

مبدأ التعايش في الإسلام

هل الأمر بإخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب يتنافى مع مبدأ "التَّعايش"؟ 

الأمر بإخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب له سياقاته التاريخية وملابساته الخاصة التي لا تتنافى مع مبدأ التعايش السلمي الذي قرره الإسلام وشهد به واقع المسلمين عبر التاريخ، وهو مختص بمنع استيطان غير المسلمين في الحجاز دون سائر الأماكن وعدم تمكينهم من الإقامة الدائمة بها؛ لأنه متوجه على من حارب منهم ونقض العهود والمواثيق. 

التفاصيل ....

اقتضت المشيئة الإلهية أن يكون الإسلام خاتم رسالات الله عز وجل لأهل الأرض؛ ومن ثمَّ وجب أن تعُم هذه الرسالة الخاتمة كافَّة البشر، وبهذا الاعتبار أصبح الإسلام دينًا عالميًّا، وصار الناس جميعًا أمَّةً لدعوته، مُخاطبين بهديه وشريعته، وإلى هذا المعنى يشير البيانُ القرآنيُّ الحكيم في قول الله تعالى: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا﴾ [الأعراف: 158]، وقوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا﴾ [سبأ: 28].
ومما يدلُّ دلالةً قاطعةً على وجود مبدأ التعايش السلمي في الإسلام؛ أنه لم ينكر الأديان السماوية التي سبقته، بل أوجب على أتباعه الإيمان بجميع كتبهم ورسلهم، وعدم التفرقة بينهم؛ مصداقًا لقول الله عز وجل: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ﴾ [البقرة: 285]، كما أن تنوع الشرائع الدينية من مقتضى المشيئة الإلهيَّة التي لا تتبدل ولا تتحول؛ تصديقًا لقول الله تعالى: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ [المائدة: 48]، ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ۞ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾ [هود: 118-119].
إنَّ المقاصد العليا للإسلام التي تتمثل في عبادة الله عز وجل، وتزكية النفس، وعمارة الأرض، هي بمثابة الأساس الإيماني، لدعوة دائمة للتَّعايش السلمي مع غير المسلمين؛ وفي هذا المعنى يقول العلامة الأستاذ الدكتور علي جمعة عضو هيئة كبار العلماء ومفتي الجمهورية السابق في كتابه "النماذج الأربعة من هدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم في التعايش مع الآخر" (ص: 6، ط. دار الفاروق): [إن الإسلام دعانا إلى التعايش السلمي مع الآخرين حتى يؤدي بدوره إلى تبادل المصالح والأفكار والمنافع وتقوية العلاقات مع الآخر، وقد كان الأمر على هذا منذ فجر الإسلام بين المسلمين وغيرهم؛ حيث جعل الإسلام علاقة المسلمين بغيرهم قائمة على أُسس إيمانية مبنية على قيمة السلام، وبعيدة عن صفة العنف والطغيان] اهـ.
وإذا نظرنا إلى مفهوم التعايش من منظور الإسلام فيما يتعلق باليهود والنصارى على وجه الخصوص، نجده ينطلق من قاعدة عقائدية وجذور إيمانية، كما نلاحظ أن الإسلام يولي عناية خاصة للتعايش مع اليهود والنصارى عن سائر البشر؛ لكونهم أهل إيمان بالله عز وجل، وعلى هذا الأساس فإنَّ الإسلام بمفهومه الحضاري يستوعب كلَّ إنسانٍ ليتعايش معه، وقد طبق الصحابة رضي الله عنهم ذلك في البلاد التي قَدِموا إليها، واستطاعوا غرس هذا المفهوم بوضوح.
ولعل من أبرز صور البرِّ بأهل الكتاب ما أوجبه الله تعالى على المسلمين ورغَّبهم فيه؛ قال تعالى: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ [الممتحنة: 8]، وكذلك قوله عز وجل: ﴿الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ [المائدة: 5]، فإن الأحكام الواردة في هاتين الآيتين الكريمتين، والتي تتعلق ببر أهل الكتاب، يظل العمل بمقتضاها ساريًا عبر العصور والأزمان؛ فمن المقرر أن "العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب".
وليس هناك أبلغ وأوفى بالقصد من أن الإسلام أحلَّ للمسلمين طعام أهل الكتاب، كما أحلَّ لهم الزواج من نسائهم؛ وهل هناك أسمى وأرقى صورة للتعايش السلمي والتواؤم الحميم، من أن يكون لأولاد المسلم أمهات وأخوال وخالات وأجداد من اليهود والنصارى؟!
أما ما يظنُّه البعض من أن الإسلام لا يقر بمبدأ التعايش مع الآخر، مستندين -في ظنهم هذا- إلى نصوص وردت في السنة المطهرة فهموها على غير مقاصدها، فهو ظنٌّ لا أساس له من الصحَّة؛ ومن هذه النصوص التي أشاروا إليها ما أخرجه الإمام مسلم في "صحيحه" عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «لَأُخْرِجَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ»، وما أخرجه البزار في مسنده عن عمر رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «أَخْرِجُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ».
إنَّ الفهم الذي يظنُّ أن الأمر بإخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب أمر يتنافى مع مبدأ التعايش السلمي لهو فهم ينزع النصوص من سياقاتها وسباقاتها؛ لأنه يجب أن تفهم النصوص في ضوء السباق واللحاق، وهذا الأمر بالإخراج قد ورد في ظروفٍ مخصوصة ووفق ضوابط محددة، فهمها واستوعبها العلماء المحققون، الذين وقفوا على معنى شريعة الإسلام وروح نصوصها؛ حيث ذهبوا إلى أن الأحاديث الشريفة وإن ورد فيها الأمر بإخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب، إلا أنَّ المراد به بعض الجزيرة لا كلها، وهو الحجاز خاصةً؛ واستدلوا على ذلك بجملة من الأدلة، والتي منها:
إخراج أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه ليهود خيبر وفَدَك، وعدم إخراجه أهل تَيماء وهي من جزيرة العرب؛ قال العلامة الإمام النووي في "المنهاج" (10/ 212-213، ط. دار إحياء التراث العربي) عند شرحه لحديث إجلاء أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه لليهود من خيبر إلى تيماء وأريحاء: [وفي هذا دليلٌ على أنَّ مراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بإخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب إخراجهم من بعضها وهو الحجاز خاصة؛ لأنَّ تيماء من جزيرة العرب، لكنها ليست من الحجاز والله أعلم] اهـ.
وقال أيضًا في المرجع السابق (11/ 93-94): [ولكن الشافعيَّ خصَّ هذا الحكم ببعض جزيرة العرب وهو الحجاز، وهو عنده: مكة والمدينة واليمامة وأعمالها، دون اليمن وغيره، مما هو من جزيرة العرب؛ بدليلٍ آخر مشهور في كتبه وكتب أصحابه] اهـ.
وما ذكره الإمام الشوكاني في "نيل الأوطار" (8/ 74-75، ط. دار الحديث): [قال المهدي في "الغيث" ناقلًا عن "الشفاء" للأمير الحسين: "إنما قلنا بجواز تقريرهم في غير الحجاز؛ لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم لما قال: «أخرجوهم من جزيرة العرب» ثم قال: «أخرجوهم من الحجاز»، عرفنا أنَّ مقصودَه بجزيرة العرب الحجاز فقط"] اهـ.
وما أشار إليه العلَّامةُ ابن قدامة المقدسي في "المُغني" (9/ 357، ط. مكتبة القاهرة): [قال أحمد: (جزيرة العرب المدينة وما والاها)؛ يعني: أن الممنوع... المدينة وما والاها، وهو مكة واليمامة، وخَيْبَر والْيَنْبُع وفَدَك وَمَخَالِيفها، وما والاها. وهذا قول الشافعي؛ لأنهم لم يُجْلَوْا من تَيْمَاءَ، ولا من اليمن... فكأن جزيرة العرب في تلك الأحاديث أُريد بها الحجاز، وإنما سُمي حجازًا لأنه حجز بين تِهامة ونَجْد، ولا يُمنعون أيضًا من أطراف الحجاز، كتَيْمَاء وفَدَك ونحوهما؛ لأنَّ عمر لم يمنعهم من ذلك] اهـ.
وعلى هذا الأساس يتبين أنَّ الأمرَ بالإخراج وإن جاء عامًّا، إلا أنَّ المراد به جهة مخصوصة، ومقصدًا محددًا؛ ومن ثمَّ جاءت آراء الفقهاء فيما يتعلَّق بهذا الأمر على السَّعة مما يعكس تسامح الإسلام، وتأكيده على مبدأ التعايش، وقد أشار إلى ذلك العلامة ابن حجر في "فتح الباري" (6/ 171، ط. دار المعرفة) بقوله: [الذي يُمنع من سُكْنَاه منها الحجاز خاصة، وهو: مكة، والمدينة، واليمامة، وما والاها، لا فيما سوى ذلك، مما يُطلق عليه اسم جزيرة العرب؛ لاتفاق الجميع على أن اليمن لا يُمنعون منها، مع أنها من جملة جزيرة العرب، هذا مذهب الجمهور، وعن الحنفية يجوز مطلقًا إلا المسجد، وعن مالك يجوز دخولهم الحرم للتجارة] اهـ.
والجدير بالملاحظة في هذا المقام أنَّ الأمر بالإخراج لم يأتِ عامًّا مطلقًا، فحتى إخراج سيدنا عمر لبعضهم كانت له أسبابه والتي سيأتي ذكرها.
كما أن الأمر بالإخراج فيما يتعلق باليهود لم يكن يشملهم جميعًا، بل كان يخص طائفة منهم جرَّاء ما اقترفوه من إثم وعدوان؛ ويدل على ذلك ما أورده العلامة ابن بطال في "شرح صحيح البخاري" (5/ 341-342، ط. مكتبة الرشد): [أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم امْتُحِن مع بني النضير حين أرادوا الغدر به، وأن يلقوا عليه حجرًا، فأمره الله تعالى بإجلائهم وإخراجهم، وترك سائر اليهود. وكان لا يتقدم في شيء إلا بوحي الله] اهـ.
ويدل عليه أيضًا ما أخرجه الإمام البخاري في "صحيحه"، أنَّ السيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها قَالَتْ: "تُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآله وسَلَّمَ وَدِرْعُهُ مَرْهُونَةٌ عِنْدَ يَهُودِيٍّ، بِثَلاثِينَ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ"، ولقد تحدث الحافظ ابن حجر العسقلاني عن هذا الرهن وعن هذا اليهودي، فقال في "فتح الباري" (5/ 140، ط. دار المعرفة): [ولقد رهن النبي صلى الله عليه وآله وسلم درعًا له بالمدينة عند يهودي وأخذ منه شعيرًا لأهله وهذا اليهودي هو أبو الشحم، رجل من بني ظفر، بطنٌ من الأوس، وكان حليفا لهم] اهـ.
وقال العلامة سراج الدين ابن الملقِّن في "التوضيح لشرح الجامع الصحيح" (16/ 114، ط. دار النوادر): [وكان هذا اليهودي الذي رهنه من أهل المدينة، وممن لا يخشى منه غائلة ولا مكيدة للإسلام، ولم يكن حربيًّا] اهـ.
وهذا يؤكد بما لا يدع مجالا للشَّك، أن الأمر بالإخراج لا يشمل مثل هذا اليهودي، الذي كان مقيمًا آنذاك بالمدينة المنورة ما دام مسالمًا، كما يدل على وجود التعايش مع أهل الكتاب، وثبوت المتاجرة والمعاملة معهم.
أما عن يهود خيبر وأسباب إجلاء سيدنا عمر لهم: فبالنظر إلى السباق واللحاق، نجد أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد قال لهم: «أُقركم ما أَقركم الله» ولم يوح إليه في أمرهم شيءٌ، وقبل أن يلتحق بالرفيق الأعلى، أُوحي إليه فأوصى بإخراجهم من الحجاز، ومع ذلك لم يسارع الخليفة أبو بكر رضي الله تعالى عنه في إخراجهم، وجاء من بعده الخليفة عمر رضي الله تعالى عنه، فتركهم في خيبر ولم يخرجهم إلى أن بَغوا وخَانوا وغَدروا؛ وقد تكلَّم العلامة ابن بطال عن صنيع الفاروق رضي الله تعالى عنه معهم؛ فقال في "شرح صحيح البخاري" (5/ 341-342، ط. مكتبة الرشد): [فلما كان في خلافة عمر وعَدَوا على ابنه وفَدَعُوه؛ أي: شدخوه، فحص عن قول النبي فيهم، فأُخبر أن نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم أوصى عند موته بإخراجهم من جزيرة العرب فقال: "من كان عنده عهد من رسول الله فليأت به، وإلا فإني مجليكم". فأجلاهم. قال المهلِّب: "وإنما أمر بإخراجهم -والله أعلم- خوف التدليس منهم، وأنهم متى ناوؤوا عدوًّا قويًا صاروا معه، كما فعلوا بالنبي يوم الأحزاب] اهـ.
وعلى هذا فقد فهم الصحابة رضي الله تعالى عنهم أن مراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم من إخراج اليهود والنصارى من الحجاز متوقف على نقضهم للعهود وصدور الغدر منهم، وليس عدم تواجدهم البتة فيه كتجار ومعاهدين ومستأمنين وأُجَرَاء، وإلا لَمَا تركهم الخلفاء الراشدون وأبقوهم طوال تلك المدة على تُخُومِ المدينة المنورة أُجَرَاء في خيبر، ولَمَا ترك الفاروق عمر رضي الله تعالى عنه يهود خيبر في خيبر، ونصارى نجران في نجران، ومجوس هَجَر في هَجَر، ولم يُخرج منهم إلا يهود خيبر لَمَّا نقضوا العهد وتعدَّوا على ابنه عبد الله، فزحزحهم إلى تيماء، أما نصارى نجران فقد أجلاهم الفاروق لما أخلفوا شرط الصلح الذي صالحهم عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم حين شرط عليهم عدم التعامل بالربا، وأبقى يهود اليمن فهم متعايشون فيها إلى الآن، كما أبقى مجوس الأحساء المشركين الذين تعايشوا مع المسلمين ثم أسلموا بعد ذلك. وسمح أيضًا للرَّقيق من المشركين أن يسكنوا المدينة حتى إنه رضي الله تعالى عنه استشهد على يد مجوسي منهم، ومع ذلك لم يأمر بإخراجهم، ولم يخرجهم مَنْ أتى بعده من الخلفاء رضي الله تعالى عنهم.
وهذا هو المعمول به حتى اليوم؛ فإن غير المسلمين يسكنون أي مكان شاؤوا من جزيرة العرب إلا الحجاز فليس لهم إلا أطرافه إذا دعت الحاجة لذلك، ويكون دخولهم فيه ليس على سبيل الإقامة الدائمة كما سبق تفصيله.
ولكي نقف على مفهوم الأحاديث الشريفة التي ورد فيها الأمر بإخراج اليهود من الحجاز لا بد أن نقرأها في واقعها وسياقها التاريخي، ونتعرف على الظروف والملابسات التي شَكَّلتها وأحاطت بها، فعندما شرُفَت المدينة واستنارت بمجيء النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كانت تضم جماعات من الناس ينتمون إلى أديان وأعراق مختلفة، وعن وصف حالة المدينة آنذاك قال العلامة الأستاذ الدكتور علي جمعة في "النماذج الأربعة" (ص: 26، ط. دار الفاروق): [حينما هاجر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة وتكونت أول دولة إسلامية، وجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المدينة تضم عقائد مختلفة وقبائل شتى، فالعقائد كانت الإسلام واليهودية والشرك، ثم ما لبث أن ظهر النفاق، ثم انضم بعد ذلك إلى الدولة الإسلامية جماعات من النصارى، والقبائل كانت الأوس والخزرج، وانقسم أيضا المسلمون إلى قسمين كبيرين: المهاجرين، والأنصار] اهـ.
من هذا المنطلق، وفي ظل هذا التنوع العقائدي والعِرقي كتب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وثيقة المدينة، التي تُعد أول دستورٍ لتنظيم التعايش السلمي بين المسلمين وغيرهم، وعن المزايا والحقوق والحماية التي نالها اليهود وتمتعوا بها في هذه الوثيقة قال العلامة الأستاذ الدكتور علي جمعة في المرجع السابق (ص: 37): [كان اليهود أبرز هذه الفئات؛ ولذا فقد ذكرهم الرسول صلى الله عليه وآله وسلَّم في أكثر من بند في هذه الوثيقة، حيث أكد في الوثيقة أن اليهود من مواطني الدولة الإسلامية، وعنصر من عناصرها؛ فقال في الصحيفة: «وإنه من تبعنا من يهود، فإن له النصر والأسوة غير مظلومين، ولا متناصر عليهم»، كذلك قال: «وإن يهود بني عوفٍ أمةٌ مع المؤمنين»] اهـ.
فبماذا قابل اليهود هذا البر وهذه المزايا وتلك الحقوق، في ظل هذا التعايش السلمي منقطع النظير؟ تساعدنا في محاولة الإجابة عن هذا السؤال الشواهد التاريخية القاطعة التي ساقها لنا العلامة الأستاذ الدكتور علي جمعة؛ حيث قال في المرجع السابق (ص51-53): [سعت جماعات اليهود على تأليب القبائل العربية والأحزاب من المشركين على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحثهم على مهاجمة المدينة وقتل المسلمين، وقد قام حيي بن أخطب وغيره من كبار اليهود بدور كبير في هذا الشأن، قام شعراء اليهود يصرحون بعدائهم للمسلمين وحزنهم لهزيمة المشركين في بدر، وعبَّروا في قصائدهم عن حقدهم على المسلمين وولائهم للمشركين، أما بنو قينقاع فقد أظهروا نقضهم للعهد وعرضوا بالحرب، وناوشوا المسلمين بالفعل، ولما انهزموا أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يجلوا عن المدينة، وأما بنو النضير فقد بدؤوا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بالغدر، فامتنعوا عن تنفيذ بنود المعاهدة التي صدقوا عليها، وقد تآمروا على قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم غيلة، واجتمعوا على طرح الصخرة عليه] اهـ.
وبناءً على ذلك: فإن الأمر بإخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب له سياقاته التاريخية وملابساته الخاصة التي لا تتنافى مع مبدأ التعايش السلمي الذي قرره الإسلام وشهد به واقع المسلمين عبر التاريخ، وهو مختص بمنع استيطان غير المسلمين في الحجاز دون سائر الأماكن وعدم تمكينهم من الإقامة الدائمة بها؛ لأنه متوجه على من حارب منهم ونقض العهود والمواثيق.
والله سبحانه وتعالى أعلم. 

اقرأ أيضا