حديث المغيبة وحكم الاختلاط

حديث المغيبة وحكم الاختلاط

ما حكم الاختلاط؟ وما ضوابطه؟ وهل يدل حديث «لا يدخلن رجل بعد يومي هذا على مُغِـيبَةٍ إلا ومعه رجلٌ أو رجلان» على جواز الاختلاط؟ وهل يجوز خلو المرأة الواحدة مع أكثر من رجل أجنبي؟ أو خلو الرجل الواحد مع أكثر من امرأة؟

الاختلاط بين الرجال والنساء له ضوابط؛ إذا روعيت كان جائزًا شرعًا:

فأول هذه الضوابط: عدم خلوة الرجل بالمرأة الأجنبية عنه وحدهما في مكان يأمنان فيه من اطلاع الناس عليهما.

وثانيها: احتشام المرأة وسترها عورتها، وعورتها جميع جسدها ما عدا الوجه والكفين، وأجاز السادة الحنفية كشف القدمين.

وثالثها: غض البصر عن إمعان النظر بشهوة؛ سواء من قِبَل الرجل أو المرأة.

ورابعها: عدم العبث بملامسة الأبدان كما يحدث في بعض المناسبات.

أما حديث المُغِيبَةِ المذكور فيدلّ على جواز خلوة الرجل بالمرأة إذا كان معهما رجل آخر وكانا صالحين؛ لانتفاء الخلوة المحرمة حينئذ، ويدل أيضًا على جواز الاختلاط المراعى فيه الضوابط السالف بيانها.

وأما خلوّ الرجال بامرأة أجنبية عنهم، وخلوّ النساء مع رجل أجنبي عنهن؛ فليس ذلك بخلوة أصلًا، لكن إذا كان هؤلاء الرجال ليسوا محلّ ثقةٍ فلا يجوز الاختلاط بهم، والعكس كذلك.

التفاصيل ....

الاختلاط مصدر اختلط على وزن افتعل من الفعل الثلاثي خلط، وخَلَطَ الشَّيْء بِالشَّيْءِ يَخْلِطُه خَلْطًا وخَلَّطَه فاخْتَلَطَ: مَزَجَه، واخْتَلَطا، وخالطَ الشيءَ مُخالَطة وخِلاطًا: مازَجَه. انظر: "لسان العرب" لابن منظور (مادة: خ ل ط، 2/ 1229، ط. دار المعارف).

فالاختلاط هو الامتزاج والاجتماع، والاختلاط هو اجتماع الرجال والنساء غير المحارم في مكان واحد.

والاختلاط بين الرجال والنساء جائزٌ بضوابط، فإذا أخل بهذه الضوابط فيحرم، وأول هذه الضوبط عدم خلوة الرجل بالمرأة، والخلوة المحرمة هي خلوة الرجل بامرأة أجنبية عنه في مكان يأمنان فيه من اطلاع الناس عليهما، كبيت مغلق الأبواب والنوافذ؛ لما رواه أحمد في "مسنده" عن عامر بن ربيعة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ؛ فَإِنَّ ثَالِثَهُمَا الشَّيْطَانُ»، وروى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ»، فَقَامَ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، امْرَأَتِي خَرَجَتْ حَاجَّةً، وَاكْتُتِبْتُ فِي غَزْوَةِ كَذَا وَكَذَا، قَالَ: «ارْجِعْ فَحُجَّ مَعَ امْرَأَتِكَ».

قال العلامة الكاساني الحنفي في "بدائع الصنائع" (5/ 125، ط. المكتبة العلمية) في الكلام عن حكم الخلوة: [فإن كان في البيت امرأة أجنبية أو ذات رحم محرم لا يحلّ للرجل أن يخلو بها؛ لأن فيه خوف الفتنة والوقوع في الحرام، وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «لا يخلون رجلٌ بامرأة؛ فإنّ ثالثهما الشيطان»] اهـ.

وقال العلامة ابن قدامة "المغني" (7/ 96، ط. مكتبة القاهرة): [ولا يجوز له الخلوة بها؛ لأنها مُحَرَّمة، ولأنَّه لا يؤمن مع الخلوة مواقعة المحظور؛ فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ؛ فَإِنَّ ثَالِثَهُمَا الشَّيْطَانُ»] اهـ.

وقال العلامة البهوتي في "شرح منتهى الإرادات" (3/ 7، ط. دار الفكر): [ويحرم خلوةُ غيرِ محرمٍ مطلقًا؛ أَي بشهوة ودونها] اهـ.

وأما خلو الرجال بامرأة أجنبية عنهم، وخلو النساء مع رجل، فإنها لا يصدق عليها اسم الخلوة، ولكن إن كان هؤلاء الرجال ليسوا محلّ ثقة فلا يجوز الاختلاط بهم، والعكس كذلك.

وأما الحديث الذي رواه مسلم: أن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه حدث: أن نفرًا من بني هاشم دخلوا على أسماء بنت عميس، فدخل أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وهي تحته يومئذ، فرآهم، فكره ذلك فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقال: لم أر إلا خيرًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّ اللهَ قَدْ بَرَّأَهَا مِنْ ذَلِكَ»، ثم قام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على المنبر فقال: «لَا يَدْخُلَنَّ رَجُلٌ بَعْدَ يَوْمِي هَذَا عَلَى مُغِيبَةٍ إِلَّا وَمَعَهُ رَجُلٌ أَوِ اثْنَانِ»، فإنه يدل على جواز الخلوة بالمرأة إذا كان معه رجلٌ آخر وكانا صالحين؛ لانتفاء الخلوة المحرمة حينئذٍ، ويدل أيضًا على جواز الاختلاط المقيد بقيود الشريعة الآتية بيانها:

قال أبو العباس القرطبي المالكي في "المفهم لما أشكل من تلخيص مسلم" (5/ 503، ط. دار ابن كثير، ودار الكلم الطيب): [وقوله: "أن نفرًا من بني هاشم دخلوا على أسماء بنت عميس"، كان هذا الدخول في غيبة أبي بكر رضي الله عنه، لكنه كان في الحضر لا في السفر، وكان على وجه ما يعرف من أهل الخير والصلاح، مع ما كانوا عليه قبل الإسلام مما تقتضيه مكارم الأخلاق من نفي التهمة والريب، غير أنَّ أبا بكر رضي الله عنه أنكر ذلك بمقتضى الغيرة الجبلِّية والدينية، ولما ذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال أبو بكر عن ما يعلمه من حال الداخلين والمدخول لها: "لم أر إلا خيرًا"، يعني: على الفريقين، فإنه علم أعيان الجميع؛ لأنهم كانوا من مسلمي بني هاشم، ثم خص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أسماء بالشهادة لها فقال: «إن الله قد برَّأهَا مِن ذَلِك»، أي: مما وقع في نفس أبي بكر، فكان ذلك فضيلة عظيمة من أعظم فضائلها، ومنقبة من أشرف مناقبها، ومع ذلك فلم يكتف بذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى جمع الناس، وصعد المنبر، فنهاهم عن ذلك، وعلمهم ما يجوز منه فقال: «لَا يدخلنَّ رجلٌ على مغيبة إلا ومَعَه رجلٌ أو اثنَانِ»؛ سدًّا لذريعة الخلوة، ودفعًا لما يؤدي إلى التهمة] اهـ بتصرف.
وقال الإمام النووي في "شرح صحيح مسلم" (14/ 155، ط. المطبعة المصرية بالأزهر): [ثم إن ظاهر هذا الحديث جواز خلوة الرجلين أو الثلاثة بالأجنبية، والمشهور عند أصحابنا تحريمه، فيتأول الحديث على جماعةٍ يبعد وقوع المواطأة منهم على الفاحشة لصلاحهم أو مروءتهم أو غير ذلك، وقد أشار القاضي إلى نحو هذا التأويل] اهـ.

وقال العلامة العدوي في "حاشيته" على قول أبي الحسن في "شرح الرسالة" (2/ 458، ط. دار الفكر): قال أبو الحسن: «ولا يخلو رجلٌ بامرأة» شابة «ليست بذي محرمٍ منه»؛ لنهيه عليه الصلاة والسلام عن ذلك قائلًا: «فإن الشيطان ثالثهما»، ثم قال العلامة العدوي: [قوله: «ولا يخلو رجل بامرأة» قال التتائي: والنهي للتحريم ويستوجبان العقوبة.. ثم قال: واحترز بقوله: «رجل وامرأة» من المرأتين؛ فإن خلوتهما جائزة، ومن الرجلين؛ فإن خلوتهما أيضًا جائزة، إلا أن يكون فيهما شاب فيمنع؛ لأن معهما شيطانين، ومع المرأة شيطان واحد، وإنما قيدنا قوله: «رجل» بقولنا شاب؛ فإن خلوة الشيخ الهرم بالمرأة شابةً كانت أو متجالةً جائزة. وقيدنا قوله: «بامرأة» بقولنا شابة؛ احترازا من خلوة الرجل ولو كان شابًّا بالمتجالة فإنها جائزة] اهـ.

وجواز الاختلاط لكون المفسدة أبعد من الرجلين؛ لأنه يستحيي منه غالبًا، ويؤكد على هذا المعنى ابن رشد المالكي؛ قال العلامة العدوي في "حاشيته" على شرح أبي الحسن في "الرسالة" (2/ 458): [(قوله: «فإن الشيطان ثالثهما») قال ابن رشد: معنى كونه ثالثهما: أنه تحدثه نفسه بها، وتقوي شهوته، وإن كان مع غيره راقبه وخشي أن يطلع عليه] اهـ.
ومما يؤكد هذا المعنى حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "جَاءَتِ امْرَأَةٌ مِنَ الأَنْصَارِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ، فَخَلَا بِهَا" متفق عليه، فالخلوة هنا بمعنى انفراد رجلٍ بامرأةٍ في وجود الناس بحيث لا تحتجب أشخاصهما عنهم، بل بحيث لا يسمعون كلامهما، فهذا اختلاطٌ مباح.

وعقب الإمام ابن حجر على هذا الحديث في "فتح الباري" (9/ 333، ط. دار المعرفة) بقوله: [قوله: (باب ما يجوز أن يخلو الرجل بالمرأة عند الناس) أي لا يخلو بها بحيث تحتجب أشخاصهما عنهم، بل بحيث لا يسمعون كلامهما إذا كان بما يخافت به؛ كالشيء الذي تستحي المرأة من ذكره بين الناس] اهـ.

وقال الإمام النووي في "المجموع شرح المهذب" (7/ 86، ط. دار الفكر): [والمشهور جواز خلوة رجلٍ بنسوةٍ لا محرم له فيهن؛ لعدم المفسدة غالبًا؛ لأن النساء يستحين من بعضهن بعضًا في ذلك] اهـ.

وفي "حاشية الجمل على شرح المنهج" للعجيلي (4/ 466، ط. دار الفكر): [يجوز خلوة رجلٍ بامرأتين ثقتين يحتشمهما، وهو المعتمد] اهـ.

وذكر ابن عابدين: أن الخلوة المحرمة بالأجنبية تنتفي بالحائل، وبوجود محرمٍ للرجل معهما، أو امرأةٍ ثقةٍ قادرة، ويظهر لي أن مرادهم بالمرأة الثقة أن تكون عجوزًا لا يجامع مثلها، مع كونها قادرةً على الدفع عنها، وعن المطلقة. فليتأمل. انظر: "رد المحتار على الدر المختار" (5/ 236، ط. إحياء التراث).

وثاني هذه الضوابط: احتشام المرأة وسترها عورتها، وعورتها جميع جسدها ما عدا الوجه والكفين؛ قال تعالى عن النساء: ﴿وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ﴾ [النور: 31]، وقال تعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ﴾ [الأحزاب: 53]، وروى أبو داود عن عائشة رضي الله عنها: أن أسماء بنت أبي بكر دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليها ثياب رقاق، فأعرض عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال لها: «يَا أَسْمَاءُ، إِنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا بَلَغَتِ الْمَحِيضَ لَمْ تَصْلُحْ أَنْ يُرَى مِنْهَا إِلَّا هَذَا وَهَذَا» وأشار إلى وجهه وكفيه.

قال الإمام الدردير في "الشرح الصغير" ومعه "حاشية الصاوي" (1/ 289، ط. دار المعارف): [(وَ) عَوْرَةُ الْحُرَّةِ (مَعَ رَجُلٍ أَجْنَبِيٍّ): مِنْهَا، أَيْ لَيْسَ بِمَحْرَمٍ لَهَا جَمِيعُ الْبَدَنِ (غَيْرُ الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ): وَأَمَّا هُمَا فَلَيْسَا بِعَوْرَةٍ، وَإِنْ وَجَبَ عَلَيْهَا سَتْرُهُمَا لِخَوْفِ فِتْنَةٍ] اهـ.

وقال الإمام الشيرازي في "المهذب" مع "المجموع" (3/ 167، ط. دار الفكر): [وعورة المرأة جميع بدنها إلا الوجه والكفين؛ لقوله تعالى: ﴿وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا﴾ [النور: 31]، قال ابن عباس رضي الله عنهما: "وجهها وكفيها". ولأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى المرأة الحرام عن لبس القفازين والنقاب. ولأن الحاجة تدعو إلى إبراز الوجه للبيع والشِّراء، وإلى إبراز الكف للأخذ والعطاء؛ فلم يجعل ذلك عورة] اهـ بتصرف.

وثالثها: عدم جواز نظر الرجل بشهوة إلى المرأة، والمرأة إلى الرجل كذلك؛ قال تعالى: ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ﴾ [النور: 30]، وقال تعالى: ﴿وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ﴾ [النور: 31].

قال الإمام السرخسي في "المبسوط" (10/ 152، ط. دار المعرفة): [يباح النظر إلى موضع الزينة الظَّاهِرَةِ مِنْهُنَّ دون الباطنة؛ لقوله تعالى: ﴿وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا﴾ [النور:31] اهـ.

قال الإمام الدردير في "الشرح الكبير" مع "حاشية الدسوقي" (1/ 214): [وغير العورة إنما يحرم له النظر بلذة] اهـ.
ورابعها: عدم العبث بملامسة الأبدان كما يحدث في بعض المناسبات؛ روى الطبراني والبيهقي عن معقل بن يسار قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَأَنْ يُطْعَنَ فِي رَأْسِ أَحَدِكُمْ بِمِخْيَطٍ مِنْ حَدِيدٍ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَمَسَّ امْرَأَةً لَا تَحِلُّ لَهُ».

وعليه: فإن روعيت الضوابط للاختلاط جاز، وإلا فإنه يحرم، وحديث المغيبة يدل على جواز الاختلاط المقيد بقيود الشريعة، ويجوز خلوُّ رجالٍ مأمونين بامرأةٍ، وخلوُّ رجلٍ بنساء؛ لعدم المفسدة غالبًا، بشرط أمن الفتنة.

والله سبحانه وتعالى أعلم.

اقرأ أيضا