حكم من يدعي إجماع أهل السنة على تكفير الإمام محيي الدين بن العربي

حكم من يدعي إجماع أهل السنة على تكفير الإمام محيي الدين بن العربي

ما حكم من يدعي إجماع أهل السنة على تكفير الإمام محيي الدين بن عربي صاحب "الفتوحات"، وينكر على من وصفه بأنه الشيخ الأكبر، قدَّس الله سرَّه الأنور.

المحتويات 

 

وجوب الحذر من الحكم على إنسان بالكفر

يجب على المسلم أن يحذر من المجازفة في التكفير؛ حتى لا يقع تحت طائلة الوعيد المذكور في أقوال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «لَايَرْمِي رَجُلٌ رَجُلًا بِالفُسُوقِ وَلَا يَرْمِيهِ بِالكُفْرِ إِلَّا ارْتَدَّتْ عَلَيْهِ إِنْ لَمْ يَكُنْ صَاحِبُهُ كَذَلِكَ» رواه الإمام البخاريُّ من حديث أبي ذر رضي الله عنه، وقوله عليه الصلاة والسلام: «إِذَا كَفَّرَ الرَّجُلُ أَخَاهُ فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا» رواه الإمام مسلم من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.

ويجب على طلبة العلم أن ينأوا بأنفسهم عن مناهج التكفير وتيارات التبديع والتفسيق والتضليل التي انتشرت بين المتعالمين في هذا الزمان، وأن يلتزموا بحسن الأدب مع الأكابر من علماء الأمة وصالحيها؛ فإن لحوم العلماء مسمومة، وعادة الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة، ومن أطلق لسانه فيهم بالثلب ابتلاه الله قبل موته بموت القلب، والوقيعة في أولياء الرحمن من علامات الخذلان، وفاعل ذلك متعرض لحرب الملك الديان؛ كما جاء في الحديث القدسي: «مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالحَرْبِ» رواه الإمام البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ومن المعلوم أن إحسان الظنِّ بالمسلمين واجبٌ، فكيف بأولياء الله الصالحين؛ ولما حكى الإمام النووي رحمه الله تعالى في كتابه "بستان العارفين" (1/ 73) عن الشيخ أبي الخير التيناتي (ت: 343هـ) حكاية ظاهرها الإنكار قال: [قلت: قد يتوهم من يتشبه بالفقهاء ولا فقه عنده أنه ينكر على أبي الخير هذا، وهذه جهالة وغباوة ممن يتوهم ذلك، وجسارة منه على إرسال الظنون في أفعال أولياء الرحمن؛ فليحذر العاقل التوخي لشيء من ذلك، بل حقُّه إذا لم يفهم حِكَمَهُم المستفادة، ولطائفهم المستجادة أن يتفهمها ممن يعرفها، وكل شيء رأيته من هذا النوع مما يتوهم من لا تحقيق عنده أنه مخالف ليس مخالفًا؛ بل يجب تأويل أقوال أولياء الله تعالى] اهـ.

الرد على دعوى إجماع أهل السنة على تكفير الإمام محيي الدين بن العربي

الحاصل: أن الإمام أبا بكر محيي الدين محمد بن علي بن محمد بن أحمد بن عبد الله الحاتمي الطائي الأندلسي الظاهري، والمعروف بالإمام محيي الدين بن عربي، والملقب عند السادة الصوفية وغيرهم بلقب الشيخ الأكبر وسلطان العارفين وخاتم الأولياء، المولود يوم الإثنين السابع عشر من رمضان سنة 560هـ بمرسية بالأندلس، والمتوفى بدمشق سنة 638هـ، هو أحد الأئمة الأعلام والورثة المحمديين الذين جمع الله لهم بين سمو شرف العلم وعلو درجة الولاية، وهو من كبار أهل الله تعالى، وكان فقيهًا على مذهب الإمام داود الظاهري، وعقيدته هي عقيدة الأشاعرة أهل السنة والجماعة، وقد ذكرها في أول الفتوحات المكية وكتب عليها:
ليس في هذه العقيدة شيء *** يقتضيه التكذيب والبهتان
لا ولا الذي خالف العقل *** والنقل الذي قد أتى به القرآن
وعليها للأشعري مدار *** ولها في مقاله إمكان
إلا أنه قد وَقَعَ في عِرْضِهِ بعضُ من ينتسب للعلم، في حياته وبعد وفاته، فكان يخاطبهم في حياته بقوله: "والله الموعد"، ثم قيَّض الله له بعد وفاته في كلِّ عصرٍ من أهل العلم من ينافح عنه ضد من يقع فيه رضي الله عنه؛ مصداقًا لقوله تعالى: ﴿إِنَّ ٱللهَ يُدَٰفِعُ عَنِ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ﴾ [الحج: 38]، فكان ممن تحركت همَّتُه لذلك العلامة مجد الدين الفيروزآبادي صاحب "القاموس المحيط" (ت: 817هـ)؛ فألَّف كتابًا يرد فيه على ابن الخياط ما اتهم به الشيخ ابن العربي في عقيدته وسمَّاه: "الاغتباط بمعالجة ابن الخياط"، وانبرى للدفاع عنه أيضًا الحافظ السيوطي رحمه الله تعالى (ت: 911هـ)؛ فألَّف رسالتَه: "تنبيه الغبي في تبرئة ابن عربي"، وذكر فيها نصوص العلماء في الثَّناء على الإمام محيي الدين بن عربي، ومما ذكره في ذلك قول شيخ الإسلام شرف الدين المناوي (ت: 871هـ): [والمتصدي لتكفير ابن عربي لم يخف من سوء الحساب وأن يقال له: هل ثبت عندك أنه كافر؟ فإن قال: كتبه تدل على كفره، أفأمن أن يقال له: هل ثبت عندك بالطريق المقبول في نقل الأخبار أنه قال هذه الكلمة بعينها، وأنه قصد بها معناها المتعارف؟
والأول: لا سبيل إليه؛ لعدم سندٍ يعتمد عليه في مثل ذلك، ولا عبرة بالاستفاضة؛ لأنه على تقدير ثبوت أصل الكتاب عنه فلا بد من ثبوت كل كلمة كلمة؛ لاحتمال أن يُدَسَّ في الكتاب ما ليس من كلامه من عدوٍ أو ملحدٍ] اهـ.

وكذلك فعل الشيخ عبد الوهاب الشعراني؛ حيث أفرد في كتابه "اليواقيت والجواهر" مبحثًا خاصًّا ينفي فيه عن الإمام ابن العربي ما ألصقه به خصومه من دعوى الحلول والاتحاد؛ مستشهدًا على براءته بكلامه هو في "الفتوحات" وغيرها.
كما نافح عنه كثير ممن ترجم له؛ كالعلامة الشيخ محمد عبد الرؤوف المناوي (ت: 1031هـ) الذي يقول فيه: [والذي أعتقده ولا يصح غيره: أن الإمام ابن عربي ولي صالح، وعالم ناصح، وإنما فَوَّقَ إليه سهام الملامة من لم يفهم كلامه، على أنه دُسَّت في كتبه مقالات قدره يجل عنها] اهـ.

وترجمه الشيخ ابن العماد الحنبلي (ت: 1089هـ) في "شذرات الذهب" ترجمة ضافية؛ مبينًا المنهج الصحيح الذي ينبغي سلوكه في الأدب مع أولياء الله تعالى بحمل ما ينسب إليهم من عبارات موهمة على محامل حسنة؛ حيث يقول: [وقع له في تضاعيف كتبه كلمات كثيرة أشكلت ظواهرها، وكانت سببًا لإعراض كثيرين ممن لم يحسنوا الظنَّ به، ولم يقولوا كما قال غيرهم من الجهابذة المحققين والعلماء العاملين والأئمة الوارثين: "إن ما أوهمته تلك الظواهر ليس هو المراد، وإنما المراد أمور اصطلح عليها متأخرو أهل الطريق؛ غيرة عليها حتى لا يدعيها الكذابون، فاصطلحوا على الكناية عنها بتلك الألفاظ الموهمة خلاف المراد غير مبالين بذلك"؛ لأنه لا يمكن التعبير عنها بغيرها] اهـ.

وقد أثنى على الشيخ الأكبر جماعة من أعيان العلماء وكبار المجتهدين ونعتوه بغزارة العلم وعلو درجة الولاية؛ منهم: الإمام مجد الدين الفيروزآبادي صاحب "القاموس المحيط"، والأئمة سراج الدين المخزومي، وكمال الدين ابن الزملكاني، وقطب الدين الحموي، وصلاح الدين الصفدي، وشهاب الدين عمر السهروردي، وقطب الدين الشيرازي، ومؤيد الدين الخجندي، والإمام النووي، والإمام فخر الدين الرازي، واليافعي، وبدر الدين بن جماعة، وسراج الدين البلقيني، وتقي الدين السبكي، والحافظ السيوطي، وابن كمال باشا، وغيرهم كثير.

وقد كان الإمام المجتهد شيخ الإسلام العز بن عبد السلام رحمه الله تعالى (ت 660هـ) ينكر على الشيخ ابن عربي في أول أمره، فلما عرف مقامه شهد له ورجع عن إنكاره، وقرر أن الإمام محيي الدين قطب زمانه.

الخلاصة

بالجملة؛ فإن الدعوى المسوقة في السؤال دعوى ملقاة على عواهنها؛ لا زِمام لها ولا خِطام، بل المحققون المنصفون من أهل السنة متفقون على جلالة الإمام محيي الدين بن عربي رضي الله عنه في سائر العلوم وعلو كعبه في الولاية، وما أنكر عليه من أنكر إلا لدقَّةِ كلامه لا غير؛ فأنكروا على من يطالع كتبه من غير أن يسلك طريق القوم خوفًا عليه من أن يعتقد شيئًا لا يقصده الشيخ رحمه الله تعالى.

فعلى المسلم أن لا يعرض نفسه لغضب الله تعالى بالوقيعة في أوليائه الصالحين؛ وليحذر امرؤ لنفسه، وكل امرئ حسيب نفسه.

والله سبحانه وتعالى أعلم.

اقرأ أيضا