هل يجوز شرعًا للأب أن يمنع أبناءه من رؤية جدهم لأمهم، وكذلك يمنعهم من رؤية أهل الأم؟ هل يجوز للأب أن يمتنع عن تجهيز ابنته والإنفاق عليها في تعليمها عند امتناعها عن تنفيذ أمره بعد زيارة جدها لأمها أو أهل أمها؟ هل يجوز للأب أن يمنع ابنته من الميراث إذا برت أهل أمها؟
حكم منع الأولاد من صلة رحم أمهم
لا يجوز شرعًا للأب أن يمنع أبناءه من جدهم لأمهم، أو من رؤية أهلهم، ولا يجوز له عند امتناعهم عن تنفيذ هذه الأوامر الصادرة لهم منه أن يوقف أو يضيق نفقته عليهم، أو أن يمتنع عن تجهيز بنته التي لا تطيعه فيما حرم الله تعالى من قطع الأرحام، ولا يجوز له أن يمنع هذه الابنة من ميراثه جرّاء ذلك، ولكن نوصي هذه الابنة وأمثالها بألَّا تقابل ذلك من أبيها بالجفاء وسوء الأخلاق؛ فلا تقابل الإساءة بالإساءة، وإن كان لا طاعة للأب في معصية الله تعالى إلا أنه لا يزال الأب أبًا له حقوقه الشرعية على أولاده، ولا يزال الأولاد أولادًا عليهم واجبات شرعية تجاه آبائهم وأمهاتهم أحياءً وأمواتًا؛ لا تسلبها ولا تنقصها سوء تصرفات الوالدين، ولا حتى خروجهم عن الدين والعياذ بالله تعالى.
التفاصيل ....المحتويات
بيان فضل صلة الأرحام
أمرنا الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم بوصل الأرحام، ونُهِينا في القرآن والسنة عن قطعها؛ فقال تعالى: ﴿وَاعْبُدُوا اللهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى﴾ [النساء: 36]، وقال سبحانه: ﴿وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ﴾ [النساء: 1]، أي: اتقوا الأرحام أن تقطعوها، وقال عز من قائل: ﴿وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ﴾ [الرعد: 21-22]، وقال تبارك وتقدس متوعدًا قاطعي الأرحام: ﴿وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ﴾ [الرعد: 25]، وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما رواه أنس بن مالك رضي الله عنه: «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ وَيُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ» متفق عليه، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: «إِنَّ اللهَ خَلَقَ الْخَلْقَ حَتَّى إِذَا فَرَغَ مِنْهُمْ قَامَتِ الرَّحِمُ فَقَالَتْ: هَذَا مَقَامُ الْعَائِذِ مِنَ الْقَطِيعَةِ، قَالَ: نَعَمْ، أَمَا تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ؟ قَالَتْ: بَلَى، قَالَ: فَذَاكَ لَكِ»، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: «اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: ﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيۡتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرۡءَانَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾» متفق عليه، وفي رواية البخاري: فقال الله تعالى: «مَنْ وَصَلَكِ وَصَلْتُهُ، وَمَنْ قَطَعَكِ قَطَعْتُهُ».
فليس معنى تولية الشريعة الآباء والأمهات على أولادهم أن يأمروهم بالمنكر وينهوهم عن المعروف تحت دعوى طاعة الوالدين، فإنما الطاعة في المعروف، والولاية على الأولاد شرعية فلتكن تحت مظلة الشرع محكومة به، وإذا أحب الأب والأم أن يبرهما أولادهم فليبرا هما آباءهما وأمهاتهما، وليُعَلِّما أولادهما صلة الأرحام، وإلا فكما قيل: "كَمَا تَدِينُ تُدَانُ".
بل إن الشريعة الغراء تأمرنا ببر الوالدين وإن كانا مشركَين؛ قال تعالى: ﴿وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا﴾ [لقمان: 15]، وعَنْ أَسْمَاءَ بنت أبي بكر رضي الله عنهما قَالَتْ: قَدِمَتْ أُمِّي وَهْيَ مُشْرِكَةٌ فِي عَهْدِ قُرَيْشٍ وَمُدَّتِهِمْ إِذْ عَاهَدُوا النَّبِيَّ صلى الله عليه وآله وسلم مَعَ أَبِيهَا، فَاسْتَفْتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وآله وسلم فَقُلْتُ: إِنَّ أُمِّي قَدِمَتْ وَهْيَ رَاغِبَةٌ، أَفَأَصِلُهَا؟ قَالَ: «نَعَمْ، صِلِي أُمَّكِ» متفق عليه، فهذا هو الأصل الذي لا يُخرَج عنه، ولكن يمكن تضييق حدوده ومعالمه إذا كانت الصلة يترتب عليها فساد ديني أو دنيوي، كحدوث فتنة في الدِّين أو تشجيع على فساد أو خروج عن الأخلاق، فيمكن حينئذ تضييق دائرة الصلة زمانًا ومكانًا لهذه الأمور الطارئة، ثم تزول هذه التحجيمات بزوال أسبابها ليعود الأمر لأصله، ولا يكون سبب التضييق هو مجرد عدم توافق الأب والأم مع أصهارهما، أو نكاية فيهم لنوع خلاف بينهما وبينهم، فيستخدم كل منهم سلطته الشرعية على أولاده استخدامًا مغلوطًا فاسدًا يمنعه من أمر الله تعالى بصلة الأرحام.
حكم إنفاق الأب على أبنائه الفقراء
نفقة الأب على أولاده القاصرين أو البالغين الفقراء نفقة واجبة بإيجاب الشرع الشريف بحكم مسؤوليته الشرعية عليهم كوالد، وهي واجبات استتبعها اضطلاعه بالزواج الذي يُعَقِّب غالبًا الأولاد، فلا يحق له التهرب من واجباته، ولا التملص من مسؤولياته، ولا المساومة بها -وهي حق واجب عليه- لتنفيذ أوامره والامتناع عن مناهيه الخاصة، سيما وإن كانت مخالِفة للشرع الشريف؛ كأمره لأولاده بقطع الأرحام أو معصية الله تعالى وإلا منع عنهم النفقة أو حرمهم من الميراث، فهذا ظلم مُرَكب، وبغي مضاعف، وتضييع لمن يعول، وصفه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأنه: كفى به إثمًا.
والشريعة الرحيمة حافظت على حقوق الأولاد في حياة آبائهم وأمهاتهم وبعد وفاتهم، ومن مظاهر ذلك رفض الشارع أن يوصي المورث بأكثر من ثلث ماله حفاظًا على حقوق الورثة ليبقي لهم ما يغنيهم، فكيف بمن يمنعهم من الميراث بالكلية؟! وكيف بمن يفعل ذلك عقابًا لعدم طاعة أولاده له في معصية من معاصي الله تعالى يأمرهم بها؟! قال صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ، خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ» متفقٌ عليه من رواية سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه.
الخلاصة
عليه وفي واقعة السؤال: فلا يجوز شرعًا للأب أن يمنع أبناءه من جدهم لأمهم، أو من رؤية أهلهم، ولا يجوز له عند امتناعهم عن تنفيذ هذه الأوامر الصادرة منه لهم أن يوقف أو يضيق نفقته عليهم أو أن يمتنع عن تجهيز بنته التي لا تطيعه فيما حرم الله تعالى من قطع الأرحام، ولا يجوز له أن يمنع هذه الابنة من ميراثه جرّاء ذلك، ولكن نوصي هذه الابنة وأمثالها بألَّا تقابل ذلك من أبيها بالجفاء وسوء الأخلاق، فلا تقابل الإساءة بالإساءة، وإن كان لا طاعة للأب في معصية الله تعالى إلا أنه لا يزال الأب أبا له حقوقه الشرعية على أولاده، ولا يزال الأولاد أولادًا عليهم واجبات شرعية تجاه آبائهم وأمهاتهم أحياءً وأمواتًا، لا تسلبها ولا تنقصها سوء تصرفات الوالدين، ولا حتى خروجهم عن الدين والعياذ بالله تعالى.
والله سبحانه وتعالى أعلم.