الطعن في عدالة الصحابة بمن حولهم من المنافقين

الطعن في عدالة الصحابة بمن حولهم من المنافقين

إذا كان المنافقون ممن حول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لم يكونوا معلومين جميعًا للصحابة فضلًا عمن بعدهم، فما أدرانا أن كل من روى الأحاديث من طبقة الصحابة لم يكن من هؤلاء المنافقين؟

هناك شبهة قديمة تثيرها بعض الطوائف؛ لظنها أنها تخدم ما تصبو إليه، وهي الطعن في عدالة الصحابة؛ كي تكون السنة المنقولة إلينا عن طريقهم محل شك وريبة؛ ليرسموا خريطة جديدة بحسب أهوائهم لا يقبل سواها، وقد تلقف هذه الشبهة بعض الناس ممن ليس لهم علاقة بالعلم أصلًا، وإنما هي كلمات ينقلونها مما وقع لهم في بعض الكتب.

وهذه المسألة قد تكلم عليها العلماء كافة قديمًا وحديثًا على اختلاف مشاربهم، تحت عنوان: (عدالة الصحابة)، وإن كانت عند المحدِّثين لها مزيد عناية؛ لتعلقها الواضح بتخصصهم.

ولا ريب أن الأصل في الصحابة رضي الله عنهم العدالة، فهم نقلة الوحي كله: القرآن والسنة، فالذين نقلوا السنة هم الذين نقلوا القرآن، فلا يجوز الطعن في أحدهم، وإن كان المسلم مأمورًا بحمل أفعال الناس على أفضل المحامل، فالصحابة رضي الله عنهم أولى بذلك؛ لعلو مرتبتهم واختصاصهم بشرف الصحبة.

والدليل على عدالة الصحابة أن الله تعالى قد عدَّلهم وزكَّاهم، وكذلك رسوله صلى الله عليه وآله وسلم؛ قال الله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ [البقرة: 14]، والوسط هو العدل، ووجه الدلالة: أن أول الأمة داخلة في الخطاب يقينًا، ولا يخرج منهم أحد إلا بدليل صريح.
قال الإمام ابن الصلاح في "علوم الحديث" (ص: 295، ط. دار الفكر): [وقال الله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ﴾، وَهَذَا خِطَابٌ مَعَ الْمَوْجُودِينَ حِينَئِذٍ. وَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ﴾ الْآيَةَ. وَفِي نُصُوصِ السُّنَّةِ الشَّاهِدَةِ بِذَلِكَ كَثْرَةٌ؛ مِنْهَا حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ الْمُتَّفَقُ عَلَى صِحَّتِهِ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم قَالَ: «لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا، مَا أَدْرَكَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ». ثُمَّ إِنَّ الْأُمَّةَ مُجْمِعَةٌ عَلَى تَعْدِيلِ جَمِيعِ الصَّحَابَةِ، وَمَنْ لَابَسَ الْفِتَنَ مِنْهُمُ فَكَذَلِكَ بِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ يُعْتَدُّ بِهِمْ فِي الْإِجْمَاعِ؛ إِحْسَانًا لِلظَّنِّ بِهِمْ، وَنَظَرًا إِلَى مَا تَمَهَّدَ لَهُمْ مِنَ الْمَآثِرِ، وَكَأَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَتَاحَ الْإِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ؛ لِكَوْنِهِمْ نَقَلَةَ الشَّرِيعَةِ. وَاللهُ أَعْلَمُ] اهـ.

وقال الله تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ [آل عمران: 110]، وجه الدلالة أن المخاطب بهذه الآية أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهذه الخيرية تستدعي تزكيتهم في أفعالهم، ولو نقلت الأحاديث النبوية من خلال غير الأمناء ما كانت الخيرية لأول الأمة، ولضلت الأجيال من بعد الجيل الأول؛ لاتباعهم ما نقل إليهم من ضلال، فلم تكن آخر الأمة أيضًا موصوفًا بالخيرية، وهذا ينافي الآية الكريمة.

قال الإمام البغوي في "تفسير" (2/ 289، ط. دار طيبة): [وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ الَّذِينَ هَاجَرُوا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم إِلَى الْمَدِينَةِ، وَقَالَ جُوَيْبِرٌ عَنِ الضَّحَّاكِ: هُمْ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وآله وسلم خَاصَّةً الرُّوَاةُ وَالدُّعَاةُ الَّذِينَ أَمَرَ اللهُ الْمُسْلِمِينَ بِطَاعَتِهِمْ] اهـ.

وقال الإمام القرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" (4/ 171، ط. دار الكتب المصرية - القاهرة): [وَإِذَا ثَبَتَ بِنَصِّ التَّنْزِيلِ أَنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ خَيْرُ الْأُمَمِ؛ فَقَدْ رَوَى الْأَئِمَّةُ مِنْ حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم أَنَّهُ قَالَ: «خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ» الْحَدِيثَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَوَّلَ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَفْضَلُ مِمَّنْ بَعْدَهُمْ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ مُعْظَمُ الْعُلَمَاءِ، وَإِنَّ مَنْ صَحِبَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وآله وسلم وَرَآهُ وَلَوْ مَرَّةً فِي عُمْرِهِ أَفْضَلُ مِمَّنْ يَأْتِي بَعْدَهُ، وَإِنَّ فَضِيلَةَ الصُّحْبَةِ لَا يَعْدِلُهَا عَمَلٌ] اهـ.

ولما كانت السنة مفصلة وموضحة للكتاب؛ كما هو مبين في أصول الفقه وعلوم القرآن وغير ذلك، كان التوقف فيها توقفًا عن العمل بالكتاب الكريم، ولذا كان لا بد أن يكون هناك حماية للسنة، خاصة أن هذه الرسالة هي الرسالة الخاتمة، فلا ينتظر نبيٌّ يأتي مجددًا.

ولذا كان من سنة الله الكونية فضح من يكذب في أحاديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم محافظة على الوحي الثاني؛ جاء في "الشذا الفياح من علوم ابن الصلاح" (1/ 226، ط. مكتبة الرشد): [قال سفيان: ما ستر الله أحدًا يكذب الحديث، وعن عبد الرحمن بن مهدي: لو أن رجلًا هَمَّ أن يكذب في الحديث لأسقطه الله، وعن ابن المبارك: لو همَّ رجل في البحر أن يكذب الحديث لأصبح والناس يقولون: فلان كذاب، فقيل له: فهذه الأحاديث المصنوعة؟ فقال: تعيش لها الجهابذة ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر:9] اهـ.

والاستشهاد بالآية يدل على فهم عميق من ابن المبارك لها، وذهاب منه إلى ما قلنا، وصرح بهذا الفهم أيضًا من علَّق على قوله؛ قال ملا علي القاري: وَكَأَنَّهُ من جملَة حفظ لفظ الذِّكر: حفظُ مَعْنَاهُ. انظر: "شرح نخبة الفكر" (ص: 446، ط. دار الأرقم - لبنان).

وقال ابن الوزير في "الروض الباسم" (1/ 32-33، ط. دار المعرفة): [وهذا يقتضي أن شريعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا تزال محفوظة، وسنته لا تبرح محروسة] اهـ.

قال إمام الحرمين في "البرهان" (1/ 242، ط. دار الكتب العلمية): [ولعل السبب الذي أتاح الله الإجماع لأجله أن الصحابة هم نقلة الشريعة، ولو ثبت توقف في رواياتهم لانحصرت الشريعة على عصر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولما استرسلت على سائر الأعصار] اهـ.

كما أن القول بأن المنافقين كانوا غير معلومين ألبتة غير صحيح، فقد كان بعضهم معلومًا، وبعضهم متهمًا اتهامًا لا يكاد ينجو منه ويعرفه من حوله، فمما ورد في معرفة بعض المنافقين ما ورد عن جَابِر بْن عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما قال: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم فِي غَزَاةٍ، فَكَسَعَ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ: يَا لَلْأَنْصَارِ، وَقَالَ الْمُهَاجِرِيُّ: يَا لَلْمُهَاجِرِينَ! فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: «مَا بَالُ دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ؟» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، كَسَعَ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ: «دَعُوهَا، فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ»، فَسَمِعَهَا عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيٍّ فَقَالَ: قَدْ فَعَلُوهَا، وَاللهِ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ. قَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: دَعْنِي أَضْرِبُ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ، فَقَالَ: «دَعْهُ، لَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ» رواه البخاري ومسلم.

وعند البيهقي في "دلائل النبوة" (5/ 284، ط. دار الكتب العلمية): عن أبي مسعود رضي الله عنه قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فذكر في خطبته ما شاء الله عز وجل، ثم قال: «أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ مِنْكُمْ مُنَافِقِينَ، فَمَنْ سَمَّيْتُ فَلْيَقُمْ، قُمْ يَا فُلَانُ، قُمْ يَا فُلَانُ»، حَتَّى عَدَّ سِتَّةً وَثَلَاثِينَ، ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ فِيكُمْ -أَوْ إِنَّ مِنْكُمْ- فَسَلُوا اللهَ الْعَافِيَةَ». قال: فمَرَّ عمر برجل متقنع قد كان بينه وبينه معرفة، فقال: ما شأنك؟ فأخبره بما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: بُعدًا لك سائر اليوم.

ومما ورد في مسألة معرفة المتهمين بالنفاق؛ قول الله تعالى: ﴿وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ﴾ [محمد: 30]، ووجه الدلالة أن المنافقين كانت تلوح من كلامهم علامات النفاق التي طالما فاحت من طعنهم في المؤمنين؛ كما ورد في كثير من آيات سورة التوبة، ولذلك لقبت بالفاضحة؛ لأنها فضحت المنافقين، وكما ورد في كلامهم في غزوة أحد والأحزاب وحادثة الإفك، وهذا معلوم متواتر، ولذا ورد في حديث توبة كعب بن مالك رضي الله عنه: "فَكُنْتُ إِذَا خَرَجْتُ فِي النَّاسِ بَعْدَ خُرُوجِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم فَطُفْتُ فِيهِمْ، أَحْزَنَنِي أَنِّي لَا أَرَى إِلَّا رَجُلًا مَغْمُوصًا عَلَيْهِ النِّفَاقُ، أَوْ رَجُلًا مِمَّنْ عَذَرَ اللهُ مِنَ الضُّعَفَاء" أخرجه البخاري ومسلم. وقوله: مغموصًا: أي محتقرًا مطعونًا في دينه أو متهمًا بنفاق.

فإذا كان الأمر كذلك، فكيف يظن أن أمثال هؤلاء المنافقين يتصدون لذكر أحاديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

كما أن المكثرين بالرواية من الصحابة مشهورون بالاستقامة في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبعد وفاته، وما رواه الأقلون غير المشهورين فلم يأتوا بما يخالف رواية الأكثر فضلًا عن القرآن.
ويبين ذلك أن ما يطلق عليه في علم المصطلح بنقد المتن كان موجودًا في عهد الصحابة، فقد ردَّ بعضهم على بعض، ولو كان من الأكابر، فلو أن المنافق أتى بما يخالف لردوا عليه من باب أولى.

ومثال ذلك: ما ذكره عَامِر بْن سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رضي الله عنه أَنَّهُ كَانَ قَاعِدًا عِنْدَ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، إِذْ طَلَعَ خَبَّابٌ صَاحِبُ الْمَقْصُورَةِ، فَقَالَ يَا عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ: أَلَا تَسْمَعُ مَا يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم يَقُولُ: «مَنْ خَرَجَ مَعَ جَنَازَةٍ مِنْ بَيْتِهَا، وَصَلَّى عَلَيْهَا، ثُمَّ تَبِعَهَا حَتَّى تُدْفَنَ، كَانَ لَهُ قِيرَاطَانِ مِنْ أَجْرٍ، كُلُّ قِيرَاطٍ مِثْلُ أُحُدٍ، وَمَنْ صَلَّى عَلَيْهَا، ثُمَّ رَجَعَ، كَانَ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلُ أُحُدٍ»، فَأَرْسَلَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما خَبَّابًا إِلَى عَائِشَةَ رضي الله عنها يَسْأَلُهَا عَنْ قَوْلِ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِ فَيُخْبِرُهُ مَا قَالَتْ، وَأَخَذَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنه قَبْضَةً مِنْ حَصَى الْمَسْجِدِ يُقَلِّبُهَا فِي يَدِهِ، حَتَّى رَجَعَ إِلَيْهِ الرَّسُولُ، فَقَالَ: قَالَتْ عَائِشَة رضي الله عنها: صَدَقَ أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، فَضَرَبَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما بِالْحَصَى الَّذِي كَانَ فِي يَدِهِ الْأَرْضَ، ثُمَّ قَالَ: لَقَدْ فَرَّطْنَا فِي قَرَارِيطَ كَثِيرَةٍ. أخرجه البخاري ومسلم واللفظ له.

وقال: أخبرني عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ، قَالَ: تُوُفِّيَتِ ابْنَةٌ لِعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رضي الله عنه بِمَكَّةَ، قَالَ: فَجِئْنَا لِنَشْهَدَهَا، قَالَ: فَحَضَرَهَا ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ  رضي الله عنهم، قَالَ: وَإِنِّي لَجَالِسٌ بَيْنَهُمَا، قَالَ: جَلَسْتُ إِلَى أَحَدِهِمَا، ثُمَّ جَاءَ الْآخَرُ فَجَلَسَ إِلَى جَنْبِي، فَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما لِعَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ وَهُوَ مُوَاجِهُهُ: أَلَا تَنْهَى عَنِ الْبُكَاءِ؛ فَإِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم قَالَ: «إِنَّ الْمَيِّتَ لَيُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ»، فَقَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: قَدْ كَانَ عُمَرُ يَقُولُ بَعْضَ ذَلِكَ، ثُمَّ حَدَّثَ فَقَالَ: صَدَرْتُ مَعَ عُمَرَ رضي الله عنه مِنْ مَكَّةَ حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالْبَيْدَاءِ، إِذَا هُوَ بِرَكْبٍ تَحْتَ ظِلِّ شَجَرَةٍ، فَقَالَ: اذْهَبْ فَانْظُرْ مَنْ هَؤُلَاءِ الرَّكْبُ؟ فَنَظَرْتُ، فَإِذَا هُوَ صُهَيْبٌ، قَالَ: فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: ادْعُهُ لِي، قَالَ: فَرَجَعْتُ إِلَى صُهَيْبٍ، فَقُلْتُ: ارْتَحِلْ فَالْحَقْ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَلَمَّا أَنْ أُصِيبَ عُمَرُ رضي الله عنه، دَخَلَ صُهَيْبٌ رضي الله عنه يَبْكِي، يَقُولُ: وَا أَخَاهْ، وَا صَاحِبَاهْ! فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: يَا صُهَيْبُ، أَتَبْكِي عَلَيَّ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبَعْضِ بُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ»، فَقَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: فَلَمَّا مَاتَ عُمَرُ رضي الله عنه ذَكَرْتُ ذَلِكَ لِعَائِشَةَ رضي الله عنها، فَقَالَتْ: يَرْحَمُ اللهُ عُمَرَ، لَا وَاللهِ، مَا حَدَّثَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم إِنَّ اللهَ يُعَذِّبُ الْمُؤْمِنَ بِبُكَاءِ أَحَدٍ، وَلَكِنْ قَالَ: «إِنَّ اللهَ يَزِيدُ الْكَافِرَ عَذَابًا بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ»، قَالَ: وَقَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: حَسْبُكُمُ الْقُرْآنُ: ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ [الأنعام: 164]، قَالَ: وَقَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا عِنْدَ ذَلِكَ: وَاللهُ ﴿أَضْحَكَ وَأَبْكَى﴾ [النجم: 43]، قَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: فَوَاللهِ، مَا قَالَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما مِنْ شَيْءٍ. أخرجه البخاري ومسلم.

وقد أطال العلماء في بيان هذه المسألة، وممن أجاد وأطال فيها الخطيب البغدادي؛ حيث عقد لها بابًا، قال فيه:
(بَابُ مَا جَاءَ فِي تَعْدِيلِ اللهِ وَرَسُولِهِ لِلصَّحَابَةِ)، وَأَنَّهُ لَا يُحْتَاجُ لِلسُّؤَالِ عَنْهُمْ، وَإِنَّمَا يَجِبُ ذَلِكَ فِيمَنْ دُونَهُمْ، كُلُّ حَدِيثٍ اتَّصَلَ إِسْنَادُهُ بَيْنَ مَنْ رَوَاهُ وَبَيْنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم لَمْ يَلْزَمِ الْعَمَلُ بِهِ إِلَّا بَعْدَ ثُبُوتِ عَدَالَةِ رِجَالِهِ، وَيَجِبُ النَّظَرُ فِي أَحْوَالِهِمْ، سِوَى الصَّحَابِيِّ الَّذِي رَفَعَهُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم؛ لِأَنَّ عَدَالَةَ الصَّحَابَةِ ثَابِتَةٌ مَعْلُومَةٌ بِتَعْدِيلِ اللهِ لَهُمْ وَإِخْبَارِهِ عَنْ طَهَارَتِهِمْ، وَاخْتِيَارِهِ لَهُمْ فِي نَصِّ الْقُرْآنِ؛ فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ [آل عمران: 110]، وَقَوْلُهُ: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ [البقرة: 143]، وَهَذَا اللَّفْظُ وَإِنْ كَانَ عَامًّا فَالْمُرَادُ بِهِ الْخَاصُّ، وَقِيلَ: وَهُوَ وَارِدٌ فِي الصَّحَابَةِ دُونَ غَيْرِهِمْ، وَقَوْلُهُ: ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا﴾ [الفتح: 18]، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ﴾ [التوبة: 100]، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ ۞ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ ۞ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ﴾ [الواقعة: 10-12]، وَقَوْلُهُ ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الأنفال: 64]، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ۞ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قِبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [الحشر: 8-9]، فِي آيَاتٍ يَكْثُرُ إِيرَادُهَا وَيَطُولُ تَعْدَادُهَا.

وَوَصَفَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم الصَّحَابَةَ مِثْلَ ذَلِكَ، وَأَطْنَبَ فِي تَعْظِيمِهِمْ، وَأَحْسَنَ الثَّنَاءَ عَلَيْهِمْ، فَمِنَ الْأَخْبَارِ الْمُسْتَفِيضَةِ عَنْهُ فِي هَذَا الْمَعْنَى...

ثم ذكر أحاديث كثيرة؛ منها:

عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وآله وسلم قَالَ: «خَيْرُ أُمَّتِي قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَجِيءُ قَوْمٌ تَسْبِقُ أَيْمَانُهُمْ شَهَادَتَهُمْ، وَيَشْهَدُونَ قَبْلَ أَنْ يُسْتَشْهَدُوا»، وذكره من حديث أبي هريرة وعمران بن حصين.

وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنهم أجمعين، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: «لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا أَدْرَكَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ».

ثم قال: وَالْأَخْبَارُ فِي هَذَا الْمَعْنَى تَتَّسِعُ، وَكُلُّهَا مُطَابِقَةٌ لِمَا وَرَدَ فِي نَصِّ الْقُرْآنِ، وَجَمِيعُ ذَلِكَ يَقْتَضِي طَهَارَةَ الصَّحَابَةِ، وَالْقَطْعَ عَلَى تَعْدِيلِهِمْ وَنَزَاهَتِهِمْ، فَلَا يَحْتَاجُ أَحَدٌ مِنْهُمْ -مَعَ تَعْدِيلِ اللهِ تَعَالَى لَهُمُ الْمُطَّلِعِ عَلَى بَوَاطِنِهِمْ- إِلَى تَعْدِيلِ أَحَدٍ مِنَ الْخَلْقِ لَهُمْ، فَهُمْ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ إِلَّا أَنْ يَثْبُتَ عَلَى أَحَدِهِمْ ارْتِكَابُ مَا لَا يَحْتَمِلُ إِلَّا قَصْدَ الْمَعْصِيَةِ، وَالْخُرُوج مِنْ بَابِ التَّأْوِيلِ، فَيُحْكَمُ بِسُقُوطِ عَدَالَتِهِ، وَقَدْ بَرَّأَهُمُ اللهُ تَعَالَى مِنْ ذَلِكَ، وَرَفَعَ أَقْدَارَهُمْ عَنْهُ، عَلَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَرِدْ مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَرَسُولِهِ فِيهِمْ شَيْءٌ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ لَأَوْجَبَتِ الْحَالُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا -مِنَ الْهِجْرَةِ وَالْجِهَادِ وَالنُّصْرَةِ، وَبَذْلِ الْمُهَجِ وَالْأَمْوَالِ، وَقَتْلِ الْآبَاءِ وَالْأَوْلَادِ، وَالْمُنَاصَحَةِ فِي الدِّينِ، وَقُوَّةِ الْإِيمَانِ وَالْيَقِينِ- الْقَطْعَ عَلَى عَدَالَتِهِمْ وَالِاعْتِقَادَ لِنَزَاهَتِهِمْ، وَأَنَّهُمْ أَفْضَلُ مِنْ جَمِيعِ الْمُعَدَّلِينَ وَالْمُزَكَّيْنَ الَّذِينَ يَجِيئونَ مِنْ بَعْدِهِمْ أَبَدَ الْآبِدِينَ. هَذَا مَذْهَبُ كَافَّةِ الْعُلَمَاءِ وَمَنْ يُعْتَدُّ بِقَوْلِهِ مِنَ الْفُقَهَاءِ، وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ إِلَى أَنَّ حَالَ الصَّحَابَةِ كَانَتْ مَرْضِيَّةً إِلَى وَقْتِ الْحُرُوبِ الَّتِي ظَهَرَتْ بَيْنَهُمْ، وَسَفْكِ بَعْضِهِمْ دِمَاءَ بَعْضٍ، فَصَارَ أَهْلُ تِلْكَ الْحُرُوبِ سَاقِطِي الْعَدَالَةِ، وَلَمَّا اخْتَلَطُوا بِأَهْلِ النَّزَاهَةِ وَجَبَ الْبَحْثُ عَنْ أُمُورِ الرُّوَاةِ مِنْهُمْ، وَلَيْسَ فِي أَهْلِ الدِّينِ وَالْمُتَحَقِّقِينَ بِالْعِلْمِ مَنْ يُصْرَفُ إِلَيْهِمْ جُرْمًا لَا يَحْتَمِلُ نَوْعًا مِنَ التَّأْوِيلِ وَضَرْبًا مِنَ الِاجْتِهَادِ، فَهُمْ بِمَثَابَةِ الْمُخَالِفِينَ مِنَ الْفُقَهَاءِ الْمُجْتَهِدِينَ فِي تَأْوِيلِ الْأَحْكَامِ، لِإِشْكَالِ الْأَمْرِ وَالْتِبَاسِهِ، وَيَجِبُ أَنْ يَكُونُوا عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ مِنْ حَالِ الْعَدَالَةِ وَالرِّضَا، إِذْ لَمْ يَثْبُتْ مَا يُزِيلُ ذَلِكَ عَنْهُمْ، أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى الْهَمَذَانِيُّ، ثنا صَالِحُ بْنُ أَحْمَدَ الْحَافِظُ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ أَحْمَدَ بْنَ عُبَيْدٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَحْمَدَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ سُلَيْمَانَ التُّسْتَرِيَّ، يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا زُرْعَةَ، يَقُولُ: إِذَا رَأَيْتَ الرَّجُلَ يَنْتَقِصُ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم فَاعْلَمْ أَنَّهُ زِنْدِيقٌ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الرَّسُولَ صلى الله عليه وآله وسلم عِنْدَنَا حَقٌّ، وَالْقُرْآنَ حَقٌّ، وَإِنَّمَا أَدَّى إِلَيْنَا هَذَا الْقُرْآنَ وَالسُّنَنَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم وَإِنَّمَا يُرِيدُونَ أَنْ يُجَرِّحُوا شُهُودَنَا؛ لِيُبْطِلُوا الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ، وَالْجَرْحُ بِهِمْ أَوْلَى وَهُمْ زَنَادِقَةٌ. انظر: "الكفاية في علم الرواية" (ص: 46، ط. المكتبة العلمية - المدينة المنورة).

وقال الإمام ابن الصلاح في "علوم الحديث" (ص: 295، ط. دار الفكر): [ثُمَّ إِنَّ الْأُمَّةَ مُجْمِعَةٌ عَلَى تَعْدِيلِ جَمِيعِ الصَّحَابَةِ، وَمَنْ لَابَسَ الْفِتَنَ مِنْهُمُ؛ فَكَذَلِكَ بِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ يُعْتَدُّ بِهِمْ فِي الْإِجْمَاعِ، إِحْسَانًا لِلظَّنِّ بِهِمْ، وَنَظَرًا إِلَى مَا تَمَهَّدَ لَهُمْ مِنَ الْمَآثِرِ، وَكَأَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَتَاحَ الْإِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ لِكَوْنِهِمْ نَقَلَةَ الشَّرِيعَةِ] اهـ.
وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني في "الإصابة" (1/ 162، ط. دار الكتب العلمية): [اتفق أهل السنَّة على أنَّ الجميع عدول، ولم يخالف في ذلك إلا شذوذ من المبتدعة] اهـ.

وإن كان الطائفة المشار إليها دائمًا ما يطعنون في الصحابة بما نشب بينهم من قتال، فالجواب: أن الاقتتال ليس دائمًا مُفسقًا فضلًا عن كونه مخرجًا من الملة؛ قال الله تعالى: ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ۞ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ [الحجرات: 9-10]، فوصف الله جل وعلا الطائفتين بالإيمان، وحضَّنَا على قتال الباغية منهما.

كما أن ذلك كان عن اجتهاد، ولذلك امتنعت طائفة منهم عن الانحياز إلى إحدى الطائفتين لَمَّا لم يتبين لهم الحق في هذا الأمر، والعمل بالاجتهاد واجب، وإن كان ليس كل مجتهد مصيبًا.

قال الإمام الزركشي: وَقَالَ إلْكِيَا الطَّبَرِيُّ: وَعَلَيْهِ كَافَّةُ أَصْحَابِنَا. وَأَمَّا مَا وَقَعَ بَيْنَهُمْ مِنْ الْحُرُوبِ وَالْفِتَنِ فَتِلْكَ أُمُورٌ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الِاجْتِهَادِ، وَكُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ، أَوْ الْمُصِيبُ وَاحِدٌ، وَالْمُخْطِئُ مَعْذُورٌ، بَلْ وَمَأْجُورٌ، وَكَمَا قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: تِلْكَ دِمَاءٌ طَهَّرَ اللهُ مِنْهَا سُيُوفَنَا فَلَا نُخَضِّبُ بِهَا أَلْسِنَتَنَا... وَمِنْ الْفَوَائِدِ مَا قَالَهُ الْحَافِظُ جَمَالُ الدِّينِ الْمِزِّيُّ: إنَّهُ لَمْ تُوجَدْ رِوَايَةٌ عَمَّنْ يُلْمَزُ بِالنِّفَاقِ مِنْ الصَّحَابَةِ... وَقَالَ الْإِبْيَارِيُّ: وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِعَدَالَتِهِمْ ثُبُوتَ الْعِصْمَةِ لَهُمْ، وَاسْتِحَالَةُ الْمَعْصِيَةِ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ قَبُولُ رِوَايَاتِهِمْ مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفِ بَحْثٍ عَنْ أَسْبَابِ الْعَدَالَةِ، وَطَلَبِ التَّزْكِيَةِ، إلَّا مَنْ يَثْبُتُ عَلَيْهِ ارْتِكَابُ قَادِحٍ، وَلَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ، وَالْحَمْدُ للهِ، فَنَحْنُ عَلَى اسْتِصْحَابِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم، حَتَّى يَثْبُتَ خِلَافُهُ، وَلَا الْتِفَاتَ إلَى مَا يَذْكُرُهُ أَهْلُ السِّيَرِ، فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ، وَمَا صَحَّ فَلَهُ تَأْوِيلٌ صَحِيحٌ. انظر: "البحر المحيط" في أصول الفقه (6/ 186، ط. دار الكتبي).

وما نبه إليه الأبياري صحيح؛ فإن كثيرًا مما جاء من الأخبار التي وردت في هذا الباب ضعيفة غير صحيحة؛ قال الإمام ابن الصلاح في "علوم الحديث" (ص: 291): [النَّوْعُ التَّاسِعُ وَالثَّلَاثُونَ: مَعْرِفَةُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ. هَذَا عِلْمٌ كَبِيرٌ قَدْ أَلَّفَ النَّاسُ فِيهِ كُتُبًا كَثِيرَةً، وَمِنْ أَحْلَاهَا وَأَكْثَرِهَا فَوَائِدَ كِتَابُ الِاسْتِيعَابِ لِابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ، لَوْلَا مَا شَانَهُ بِهِ مِنْ إِيرَادِهِ كَثِيرًا مِمَّا شَجَرَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ، وَحِكَايَاتِهِ عَنِ الْأَخْبَارِيِّينَ لَا الْمُحَدِّثِينَ، وَغَالِبٌ عَلَى الْأَخْبَارِيِّينَ الْإِكْثَارُ وَالتَّخْلِيطُ فِيمَا يَرْوُونَهُ] اهـ.

ومما سبق: يتبين عدالةُ الصحابة الكرام نقلة القرآن والسنة، وبطلانُ ما أثير حولهم من شبهات تشكك في عدالتهم وإيمانهم، وأن المنافقين في ذلك العهد كانوا معلومين عليهم سِيمَا تميزهم، وحفظ الله تعالى دينه وشريعته وكتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم من كذب الكذابين، وتدليس المدلسين، وطعن الزنادقة ومكرهم؛ كما تبين على مر التاريخ في كتب الرجال والجرح والتعديل.

والله سبحانه تعالى أعلم.

اقرأ أيضا