لمن تكون ولاية دفن المرأة

لمن تكون ولاية دفن المرأة

نحيط فضيلتكم علمًا بأننا نسكن في سوهاج، وقد تزوجت خالتي وسكنت في القاهرة مع زوجها لمدة ثلاثين عامًا، ولم تنجب منه إلا بنات، فليس لها ولد، ثم توفيت، ولم تكن قد أوصت بأن تدفن في مكان معين، فاختلف أخوها مع زوجها في مكان الدفن، فأخوها يريد أن تدفن في سوهاج بجوار أبيها وأمها، وزوجها يريد أن تدفن في القاهرة حتى تكون قريبة منهم ولا يجد بناتها صعوبة في زيارتها. فلمن تكون الولاية في دفنها وتحديد المكان الذي تدفن فيه؛ زوجها أم أخوها؟

إذا كان الحال كما ورد بالسؤال فإن الزوج يُجابُ لدفن زوجته في القاهرة لتكون قريبةً من بناتها فتتيسر زيارتهن لها؛ حيث إن تحديد مكان الدفن يُراعى فيه ما هو الأوْلى والأصلح للمتوفى باختيار المكان الأقرب لذريته أو بمجاورة الصالحين والأخيار، ويكون القائل بهذا هو الأحقَّ بتحديد مكان دفنها؛ سواء كان القائل به الزوج أو الأقارب، وهذا ما تقتضيه أصول العِشْرة بالمعروف.

التفاصيل ....

المحتويات

 

مدى بقاء أو زوال رابطة الزوجية بعد الوفاة

تتفرع الولاية على أمر المرأة بعد موتها على مسألة "هل الزوجية تزول بالموت أم لا؟"؛ فمن اعتبر من الفقهاء زوالها بمجرد موت الزوجة أرجع التصرف في سائر شئونها إلى أهلها وأقاربها دون الزوج، ومن اعتبر بقاء آثار الزوجية بعد الموت قال بوجود ولاية للزوج على الزوجة بعد موتها، فتُقَدَّمُ ولايته في غُسل زوجته المتوفاة ولَحْدِهَا في قبرها على محارمها من الرجال.

على من تكون نفقة تجهيز الزوجة المتوفاة

اتفق جمهور الفقهاء من الحنفيَّة وهو المفتى به، والمالكية في قول، والشافعية في الأصح على أن نفقة تجهيز الزوجة إذا ماتت تجب على زوجها؛ قياسًا على وجوب نفقتها وكسوتها عليه في حال حياتها، ولعدم انقطاع الزوجية بالموت.

قال العلامة ابن عابدين في "حاشيته على الدر المختار" (2/ 206، ط. دار الفكر): [مطلبٌ في كفن الزوجة على الزوج. (قوله: واختلف في الزوج) أي في وجوب كفن زوجته عليه، (قوله: عند الثاني) أي أبي يوسف وأما عند محمد فلا يلزمه لانقطاع الزوجية بالموت، وفي "البحر" عن "المجتبى": أنه لا رواية عن أبي حنيفة، لكن ذكر في "شرح المنية" عن "شرح السراجية" لمصنفها: أن قول أبي حنيفة كقول أبي يوسف. (قوله: وإن تركت مالًا.. إلخ) اعلم أنه اختلفت العبارات في تحرير قول أبي يوسف؛ ففي "الخانية" و"الخلاصة" و"الظهيرية": أنه يلزمه كفنها وإن تركت مالًا، وعليه الفتوى.. ثم اعلم أن الواجب عليه تكفينها وتجهيزها الشرعيان؛ من كفن السنة أو الكفاية، وحنوط، وأجرة غسل وحمل ودفن] اهـ.

وجاء في "الفتاوى الخيرية" للعلامة خير الدين الرملي الحنفي (1/ 14، ط. المطبعة الكبرى الميرية): [سُئِلَ في المرأة إذا ماتت: هل كفنها فيما تركت، أم على زوجها كفنها وتجهيزها؟ أجاب: "كفنها وتجهيزها على الزوج على ما عليه الفتوى، كما أن كسوتها وسكناها حال حياتها عليه". ووجد بخط العلامة شيخ مشايخنا الشهاب الحلبي ما صورته: قال في "السراج الوهاج": والمرأة إذا ماتت ولا مال لها؛ فعند أبي يوسف يجب كفنها على زوجها كما تجب كسوتها عليه في حياتها] اهـ.

وقال العلامة أبو محمد النفزي المالكي في "النوادر والزيادات" (1/ 564، ط. دار الغرب الإسلامي): [قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: قال ابن سحنون: ويقضى على الرجل بتكفين زوجته؛ مَلِيَّةً كانت أو فقيرة؛ كالنفقة، ورواه عن مالك. وذكر العتبي عن ابن الماجشون مثله، وأن روايته عن مالك إنما ذلك عليه في فقرها.
قال غير ابن حبيب: وكذلك تكفين من تلزمه نفقته؛ من والديه وولده وعبيده. وقال أصبغ: لا يلزمه في أحدٍ ممن ذكرنا إلا في عبيده. قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: والأول أصوب؛ كما لا نقطع حقه بموته مِن ماله في كفن نفسه، وكذلك في كفنِ مَن ذكرنا؛ يلزمه إذا ماتوا] اهـ.

وقال الإمام النووي الشافعي في "روضة الطالبين" (2/ 111، ط. المكتب الإسلامي): [ويجب على الزوج كفنها ومؤنة تجهيزها على الأصح] اهـ.

وألحَق المحققون من فقهاء الحنفيَّة بالنفقة الواجبة على الزوج تجاه زوجته المتوفاة لتجهيزها: ما تحتاجه مِن حين موتها حتى تُوارَى في قبرها؛ من حنوط، وأجرة غسلها وحملها إلى المسجد لصلاة الجنازة عليها وإلى مكان قبرها أيضًا، وحفر القبر وإعداده، وهو اعتبارٌ لتَغَيُّر واقع الناس، فقد كان يُفعل احتسابًا لله تعالى في العصور السابقة.

جاء في "الفتاوى الخيرية" (1/ 14): [وفي مختارات النوازل: كفن المرأة وتجهيزها على زوجها هو المختار؛ لأنه لو لم يكن عليه لوجب عليها، وهو أولى بالوجوب، وفي "الكافي": "وكفنها عليه ولو تركت مالًا؛ فتلخص أن أصل الخلاف في الكفن؛ لأن ما عداه كان يُفعل حِسبةً فلم يقع فيه الخلاف، وأن التجهيز أُلحِق به وكأنه لَمَّا صار لا يحتسب" اهـ] اهـ.

ثم قال: [وبه عُلِمَ: أن ما عدا الكفن من حنوط وأجرة غُسل وحمل ودفن وغير ذلك من أجرة حفر قبر وسد على الوجه المسنون؛ فكله على الزوج على قول أبي يوسف؛ لأنه مُلحق بالتجهيز، لكونه لا يفعل حِسبةً، والله أعلم] اهـ.

لمن تكون ولاية تحديد مكان دفن الزوجة

يدخل في ذلك من باب أولى: شمول ولاية الزوج لتوفير مكان قبر زوجته وتحديده وتقديم ذلك على ولاية الأهل والأقارب؛ تحقيقًا لمصلحتها من قُرب المسافة بينها وبين أولادها، وإعمالًا لما اشترطه الفقهاء في مكان الدفن: أن يتحقق فيه ما هو أصلح للميت؛ كدفنه في المكان الأقرب لأبنائه، أو في موضعٍ تُرجَى بركتُه، أو مجاورة صاحب قبرٍ من أولياء الله تعالى الصالحين.

قال شيخ الإسلام زكريا الأنصاري الشافعي في "أسنى المطالب في شرح روض الطالب" (1/ 324، ط. دار الكتاب الإسلامي): [فلو تنازعوا في مقبرتين ولم يكن الميت أوصى بشيء.. فيجب أن يُنظر إلى ما هو الأصلحُ للميت فيُجاب الداعي إليه؛ كما لو كانت إحداهما أقرب أو أصلح أو مجاورة الأخيار، والأخرى بالضد، بل لو اتفقوا على خلاف الأصلح ينبغي للحاكم الاعتراض عليهم فيه؛ نظرًا للميت، ويؤيده ما مرَّ فيما لو اتفقوا على تكفينه في ثوب واحد] اهـ.

وقال الخطيب الشربيني الشافعي في "مغني المحتاج" (2/ 52، ط. دار الكتب العلمية): [يجبُ أن يُنظر إلى ما هو أصلحُ للميت فيجابُ الداعي إليه؛ كما لو كانت إحداهما أقرب أو أصلح أو مجاورة الأخيار، والأخرى بالضد من ذلك، بل لو اتفقوا على خلاف الأصلح منعهم الحاكم من ذلك؛ لأجل الميت] اهـ.

وهو ما جرت عليه الفتوى في دار الإفتاء المصرية؛ قال فضيلة مفتي الديار المصرية الأسبق العلامة بكر الصدفي رحمه الله تعالى في فتوى رقم 48 لسنة 1912م: [ينبغي إذا تنازع أقارب الميت في محل دفنه أن يكون مَن له حق الأولوية في اختيار محل الدفن عند استواء المسافات هو أقواهم قرابةً للمتوفى؛ فيقدم الأخ على العم مثلًا، وأما إذا كانت المسافات مختلفة فيُراعى في ذلك جهة قرب المسافة. هذا ما ظهر لي أخذًا من كلام العلماء في كتبهم] اهـ.

ولا يَرِدُ على ما ذهبنا إليه ما قرَّره الفقهاء بأحقية الأهل والأقارب في تحديد مكان دفن المرأة ترجيحًا لولايتهم على ولاية زوجها؛ فليس على إطلاقه؛ لأنه مشروطٌ بعدم وجود وصيةٍ من الميت بمكان دفنه، كما أنه مقصورٌ على حالة حدوث النزاع بينهما، وعند استواء المكانين المقْتَرحيْن لدفنها؛ كما حققه العلامة شهاب الدين أبو العباس الأذرعي الشافعي (ت: 783هـ).

قال العلامة الخرشي المالكي في "شرح مختصر خليل" (2/ 237، ط. دار الفكر): [إذا تنازع الزوج مع عصبة الميتة في محل الدفن؛ قال في "الطراز": يُقضَى لأهلها] اهـ.

وقال العلامة الخطيب الشربيني الشافعي في "مغني المحتاج" (2/ 52، ط. دار الكتب العلمية): [وإن تنازعوا في مقبرتين ولم يوصِ الميتُ بشيء؛ قال ابن الأستاذ: إن كان الميت رجلًا أجيب المُقَدَّم في الصلاة والغسل، فإن استووا أقرع، وإن كان امرأةً أُجيب القريبُ دون الزوج، وهذا كما قال الأذرعي: محله عند استواء التربتين] اهـ.

كما أنه يناسب واقعَ الناس اليوم؛ حيث ضَعُفت فيه علاقات القرابة والروابط الاجتماعية بصورةٍ كبيرة؛ ومن ثَمَّ تحرص كل أسرةٍ بتوفير أماكن الدفن الخاصة بها وبأفرادها مع مراعاة قربها من منطقة سكنها حتى تتيسر زيارتها من قِبل أبنائها وأحفادها من حينٍ لآخر.

أهمية زيارة قبر الوالدين

بيَّنت السنة النبوية المطهرة أهميةَ زيارةِ أبناءِ المتوفى له، وأنَّ لها فضلًا ومزيةً على زيارة غيرهم من سائر القرابات، ومن ذلك ما رواه الترمذي في "سننه" عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ زَارَ قَبْرَ أَبَوَيْهِ أَوْ أَحَدِهِمَا فِي كُلِّ جُمُعَةٍ مَرَّةً غَفَرَ اللهُ لَهُ وَكُتِبَ بَرًّا».
وما رواه البيهقي في "شعب الإيمان" عن محمد بن النعمان، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ زَارَ قَبْرَ أَبَوَيْهِ أَوْ أَحَدِهِمَا فِي كُلِّ جُمُعَةٍ غُفِرَ لَهُ وَكُتِبَ بَرًّا».
وما رواه الطبراني عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه: «مَنْ زَارَ قَبْرَ وَالِدَيْهِ أَوْ أَحَدِهِمَا يَوْمَ الجُمُعَةِ فَقَرَأَ عِنْدَهُ ﴿يس﴾ غُفِرَ لَهُ».

الخلاصة

بناءً على ذلك: فتحديدُ مكانِ دفْن المرأة المتوفاة يُراعى فيه ما هو الأولى والأصلح لها باختيار المكان الأقرب لذريتها، أو الأصلح لها كما إذا كان مجاورًا للصالحين والأخيار، ويكون القائلُ بهذا هو الأحقَّ بتحديد مكان دفنها؛ سواء كان القائل به الزوج أو الأقارب، وهذا ما تقتضيه أصولُ العِشْرة بالمعروف وعمومُ نصوص الشرع الشريف، ويُستأنس له بما أخرجه الإمام أحمد في "المسند"، وابن ماجه في "السنن" من قوله صلى الله عليه وآله وسلم لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: «مَا ضَرَّكِ لَوْ مِتِّ قَبْلِي، فَقُمْتُ عَلَيْكِ، فَغَسَّلْتُكِ، وَكَفَّنْتُكِ، وَصَلَّيْتُ عَلَيْكِ، وَدَفَنْتُكِ».

وفي واقعة السؤال: يجابُ الزوج لدفن زوجته في القاهرة، فتكون قريبةً من بناتها؛ لما في ذلك من تحقيق مصلحتها، وتيسير زيارتهن لها.

والله سبحانه وتعالى أعلم.

اقرأ أيضا