متى تنتهي كفالة اليتيم؛ فنحيط سيادتكم علمًا أننا مؤسسة إغاثية دولية خيرية غير حكومية، تعمل في مجال الإغاثة والتنمية، وتهدف إلى تخفيف معاناة الشعوب الأكثر فقرًا في العالم، وتتمتع مؤسستنا بالعضوية الاستشارية بالمجلس الاقتصادي والاجتماعي للأمم المتحدة، ومن المنظمات الموقعة على اتفاقيات الصليب الأحمر والهلال الأحمر الدولييْن في السلوك المهني في العمل الإغاثي، وتعمل مؤسستنا في مجال التنمية الاقتصادية والاجتماعية المستدامة من خلال العمل مع المجتمعات المحلية بغضِّ النظر عن الأصول العرقية أو الديانة أو الجنس. وتعمل مؤسستنا في مصر منذ عام 2001 تحت مظلة المجلس الإسلامي العالمي للدعوة والإغاثة تحت رئاسة فضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر. وتكفل مؤسستنا حوالي 26 ألف يتيم في أكثر من بلد. وقد لاحظنا من الممارسة والخبرة العملية أن الالتزام بكفالة اليتيم حتى سن 18 عامًا فقط -كما هو الظاهر من بعض الفتاوى- يؤدِّي إلى ضياع اليتيم بعد هذه السن؛ خاصة وأن هذه السن هي سن المراهقة، بل قد يؤدي وقف الكفالات إلى حرمانهم من إكمال دراستهم أو إنهاء إلحاقهم بالجامعات المختلفة.
والسؤال: هل هناك إلزام شرعي بأن يتم قطع النفقة التي تدفع للأيتام عند سن الثامنة عشرة، أو أن الشريعة الإسلامية السمحاء تسمح بالإنفاق على هؤلاء الأيتام حتى يصل اليتيم أو اليتيمة إلى درجة الاعتماد على النفس سواء الالتحاق بأحد الوظائف أو الزواج بالنسبة لليتيمات؟
قصدت الشريعةُ بكفالة اليتيم رعايتَه في جميع شؤون حياته ومعيشته مأكلًا ومشربًا وملبسًا ومسكنًا وتأديبًا وتعليمًا وتثقيفًا وزواجًا، وغير ذلك من ضروريات الحياة وحاجياتها، كما يصنع الوالدان بولدهما سواءً بسواءٍ، حتى يصل إلى مرحلة الاستقلال التامة نفسيًّا واجتماعيًّا وماليًّا، بحيث يكون قادرًا على بناء أسرته قائمًا بشؤونه مُنفِقًا على نفسه وعلى من يعول.
وتحديد المرحلة أو السن التي يتم فيها استقلالُ اليتيم بنفسه رعايةً وكفايةً واكتسابًا بحيث تنتهي كفالته عندها، هو أمرٌ يخضع لحالته وقدراته الذاتية واستعداده النفسي، كما يخضع للعرف والنظام المجتمعي وطبيعة العصر الذي يحيا فيه.
لذلك: فالصرف على اليتيم ومن في حكمه -كمجهول الأبوين- لا ينبغي أن ينقطع بمجرد بلوغه الحلُم، أو بلوغه سنًّا أكبر مع كونه ما زال محتاجًا إلى من ينفق عليه ويقف بجانبه، بل يستمر الصرف عليه إلى أن يصل إلى بَرِّ الأمان ويعتمد على نفسه؛ كأن يلتحق بإحدى الوظائف، أو يحوز من المشاريع ما يُدِرُّ دخلًا منتظمًا يكفيه ومَن يعوله. وكذلك اليتيمة أو من في حكمها -كمجهولة الأبوين- يظل الإنفاق عليها مستمرًّا حتى تتزوج بما يشمل توفير جهازها ومستلزمات زواجها.
المحتويات
اليتيم في اللغة: فَعِيلٌ من اليُتْمِ، وهو في الأصل: الانفراد؛ حيث صار منفردًا بعد وفاة أبيه، ويطلق أيضًا على الغفلة والضعف، ومن هذا المعنى سُمِّيَ اليتيم بذلك؛ لفقدانه أباه حين احتياجه إليه، كأنه أُغفِلَ فضاع، قال الأصمعي: اليتيم من النَّاس: الَّذِي قد مَاتَ أَبوهُ، وَمن الْبَهَائِم: الَّذِي قد مَاتَت أمه اهـ بتصرف من كتاب "جمهرة اللغة" لابن دُرَيْد (1/ 411، ط. دار العلم للملايين)، وجاء في "المخصص" لابن سيده (4/ 207): [قال الطوسي: اليَتَم: الغَفْلة، ومنه اليتيم، كأنه أُغْفِل فضاعَ، والإجماع أن اليتيم الفرد، ويتم إذا انفرد، ومنه الدرة اليتيمة] اهـ.
أما في الاصطلاح: فهو مَن مات أبوه وهو لم يبلغ الحلم.
كفالة اليتيم هي رعايتُه وتعهده بما يصلحه في نفسه وماله.
قال الحافظ ابن الجوزي الحنبلي في "شرح مشكل الصحيحين" (2/ 282، ط. دار الوطن): [معناها: القيام بأمره وتربيته] اهـ.
وقال الإمام النووي في "رياض الصالحين" (ص: 116، ط. مؤسسة الرسالة): [كافل اليتيم: القائمُ بأموره] اهـ، قال شارحه العلامة ابن علان الصديقي الشافعي في "دليل الفالحين" (3/ 81، ط. دار المعرفة): [ديِنًا ودنيا، وذلك بالنفقة والكسوة، والتربية والتأديب، وغير ذلك] اهـ.
وقد وسع الفقهاء معناها حتى جعلوها شاملةً لكلِّ مصلحةٍ لليتيم صغُرَتْ أم كبرت؛ قال العلامة الزرقاني في "شرح الموطأ" (4/ 534، ط. مكتبة الثقافة الدينية): [مِن جملة كفالة اليتيم إصلاح شعره، وتسريحه، ودهنه] اهـ.
والكفالة على نوعين: مالية، وأدبية، وهي بنوعيها من أنواع التبرُّع، وهو: بَذْل الْمُكَلَّفِ مَالًا أَوْ مَنْفَعَةً لِغَيْرِهِ فِي الْحَالِ أَوِ الْمَآلِ بِلا عِوَضٍ، بِقَصْدِ الْبِرِّ وَالْمَعْرُوفِ غَالِبًا، وفي الكفالة المتعارف عليها بين مؤسسات المجتمع المدني -والتي تقوم بها دُور الأيتام عمومًا- يبذل الكافلُ للمكفول المالَ والمنفعةَ معًا، فهي متحققةٌ شرعًا ويترتب عليها الثواب بحصول أحد نوعيها أو كليهما المالي منها، والأدبيّ.
قال الإمام النووي في "شرح مسلم" (18/ 113، ط. دار إحياء التراث العربي): [وهذه الفضيلة تحصل لمن كفله من مال نفسه أو من مال اليتيم بولايةٍ شرعية] اهـ.
كفالة اليتيم من أجَلِّ الأعمال وأعظمِها ثوابًا عند الله تعالى ورسولِه صلى الله عليه وآله وسلم حيث ورد القرآن برعايته والقيام له بمصالحه والتحذير من إذايته وإهماله في أكثرَ من عشرين موضعًا، وأخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن القائم بكفالة اليتيم في المقام الأسمى والمحل الأرفع الذي هو غاية كل مسلم محبٍّ لله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم وهو: رفقة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الجنة، فأخرج الإمام البخاري في صحيحه عن سهل بن سعد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «أَنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ فِي الْجَنَّةِ هَكَذَا» وَقَالَ بِإِصْبَعَيْهِ السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى.
وأخرج مسلمٌ في "صحيحه" عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «كَافِلُ الْيَتِيمِ له أو لِغَيْرِهِ أنا وهو كَهَاتَيْنِ في الْجَنَّةِ» وأشار بإصبعيه السبَّابَة والوُسْطَى.
قد رتَّب الشرع الشريف هذا الأجر العظيم على كفالة اليتيم لأنّ في الكفالة جبرًا لضعف اليتيم وقيامًا مقامَ عائله الذي فقده، وإنما ينجبر الضعف باستغناء اليتيم عن غيره وقدرته على القيام بنفسه، وهذا يقتضي أن الكفالة لا تتوقف بمجرد بلوغ اليتيم، بل تستمر حتى استغنائه عن الناس وبلوغه الحدَّ الذي يكون فيه قادرًا على الاستقلال بشؤونه والاكتساب بنفسه، فالكفالة باقيةٌ ما بقيت الحاجة إليها، وأجرها مُستَمِرٌّ ما دام مُقتَضِيها باقيًا.
وبذلك وردت نصوص الشريعة؛ فجعلت أحكام اليُتْم لا تنتهي ببلوغ اليتيم، وأن ما يترتب على وصف اليتم لا يرتفع عنه حتى يبلغ مبلغ الرشد ويصل حدًّا يمكنه فيه الاستقلال بأموره والاكتساب بنفسه دون حاجة إلى غيره: فجاء في القرآن الكريم إطلاق اليُتْمِ على البالغين؛ كما في قوله تعالى: ﴿وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ﴾ [النساء: 6]، وقوله تعالى: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ﴾ [النساء: 3].
قال الإمام أبو بكر الجصاص الحنفي في "أحكام القرآن" (2/ 338، ط. دار إحياء التراث العربي): [وسماهم يتامى لأحد معنَيَيْنِ: إما لقرب عهدهم بالبلوغ، أو لانفرادهم عن آبائهم مع أن العادةَ في أمثالهم ضعفُهم عن التصرفِ لأنفسهم والقيامِ بتدبير أمورهم على الكمال حسب تصرف المتحنكين الذين قد جربوا الأمور واستحكمت آراؤُهم] اهـ.
وقال الإمام الزمخشري في "الكشَّاف" (1/ 463-464، ط. دار الكتاب العربي): [وحقُّ هذا الاسم (اليتيم) أن يقع على الصِّغار والكِبار؛ لبَقاء معنى الانفِراد عن الآباء، إلا أنَّه قد غلب أن يُسَمَّوْا به قبل أن يبلُغوا مبلغ الرِّجال، فإذا استغنَوْا بأنفسهم عن كافِل وقائم عليهم، وانتَصَبوا كُفَاةً يكفلون غيرهم ويقومون عليهم، زال عنهم هذا الاسم] اهـ.
وجاء في حديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم تحديدُ أمد الكفالة: بأنه يمتد إلى حين استغناء اليتيم بنفسه عن كافله، فأخرج ابن المبارك في "الزهد"، وأبو داود الطيالسي والإمام أحمد وأبو يعلى في "مسانيدهم"، والطبراني في "المعجم الكبير" من حديث مالك -أو ابن مالك رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَنْ ضَمَّ يَتِيمًا بَيْنَ أَبَوَيْنِ مُسْلِمَيْنِ إِلَى طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ حَتَّى يَسْتَغْنِيَ عَنْهُ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ ألْبَتَّةَ»، وإسناده حسنٌ كما قال الحافظان: المنذريُّ في "الترغيب والترهيب" (3/ 235، ط. دار الكتب العلمية)، والهيثميُّ في "مجمع الزوائد ومنبع الفوائد" (8/ 161، ط. مكتبة القدسي)، وقال الحافظ البوصيري في "إتحاف الخيرة المهرة" (5/ 475، ط. دار الوطن): [ورواته ثقات] اهـ. ورواه الطبراني في "المعجم الأوسط" من حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه، وكذلك ابن الفاخر الأصبهاني في "موجبات الجنة" وزاد: [فضَمَّ عديٌّ سبعين يتيمًا إلى طعامه وشرابه حتى استغنَوْا عنه] اهـ، ورواه عبد بن حُميد في "المنتخب" والحارث بن أبي أسامة في "مسنده" والخرائطي في "مكارم الأخلاق" من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، ورواه الحافظ أبو طاهر السِّلَفيُّ في "المشيخة البغدادية" من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها.
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في "فتح الباري" (10/ 437، ط. دار المعرفة): [فيُستَفادُ منه أنَّ للكفالة المذكورة أمدًا] اهـ.
وأخرج الإمام أحمد في "مسنده"، وأبو داود في "سننه"، وابنُ أبي الدنيا في "النفقة على العيال"، والطبرانيُّ في "المعجم الكبير"، والخرائطيُّ في "مكارم الأخلاق"، عن عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «أَنَا وَامْرَأَةٌ سَفْعَاءُ الْخَدَّيْنِ كَهَاتَيْنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ -وجمع بين أصبعيه السبابة والوسطى-؛ امْرَأَةٌ آمَتْ مِنْ زَوْجِهَا ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ، حَبَسَتْ نَفْسَهَا عَلَى يَتَامَاهَا حَتَّى بَانُوا أَوْ مَاتُوا»، وأخرجه الخرائطي أيضًا من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
قال الإمام ابن الأثير في "النهاية في غريب الحديث والأثر" (1/ 175، ط. المكتبة العلمية): [يُقال: أبان فلان بنته وبيَّنَها: إذا زوجها، وبانت هي: إذا تزوجت، وكأنه من البين: البُعد، أي بعدت عن بيت أبيها، ومنه الحديث الآخر «حَتَّى بَانُوا أوْ مَاتوا»] اهـ.
وقال العلامة القاري في "مرقاة المفاتيح" (8/ 3119، ط. دار الفكر): [أي: إلى أن كبروا وحصلت لهم الإبانة، أو وصلوا إلى مرتبة كمالهم، فإن البين من الأضداد بمعنى الفصل والوصل، وقال شارح: أي حتى فضلوا، وزادوا قوة وعقلا واستقلوا بأمرهم من البون، وهو الفضل والمزية] اهـ.
وقال الشيخ صديق حسن خان القنوجي في "حسن الأسوة بما ثبت من الله ورسوله في النسوة" (ص: 268، ط. مؤسسة الرسالة): [ومعنى بانوا: انفصلوا واستغنوا] اهـ.
وأخرج أبو الشيخ في الثواب والأصبهاني في "الترغيب والترهيب" والديلمي في "مسند الفردوس" من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «ثلاثةٌ فِي ظِلِّ العَرْشِ يَوْمَ القِيامَةِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهِ: واصِلُ الرَّحِمِ؛ يِزِيدُ الله فِي رِزْقِهِ ويَمُدُّ فِي أجَلِهِ، وامْرَأةٌ ماتَ زَوْجَها وَتَرَكَ عَلَيْها أيْتامًا صِغارًا فَقَالَتْ: لَا أتَزَوَّجُ، أُقِيمُ على أيْتامِي حَتَّى يَمُوتُوا أوْ يُغْنِيَهُمُ الله، وَعَبْدٌ صَنَعَ طَعامًا فأَضَافَ ضَيْفَهُ وأحْسَنَ نَفَقَتَهُ، فَدَعا عَلَيْهِ اليَتِيمَ والمِسْكِينَ فأَطَعَمَهُمْ لِوَجْهِ الله عزَّ وَجَلَّ» وفي سنده ضعف، ويشهد له مَا قبلَه. وبذلك صرَّح حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، فروى الإمام مسلم في "صحيحه" وغيرُه؛ أنَّ نَجْدَةَ الحَرُورِيَّ كتب إلى ابن عباس رضي الله عنهما يسأله، فكان فيما أجابه: وكتبْتَ تسألُني: متى ينقضي يُتْمُ اليتيم؟ فلعمري، إنَّ الرجلَ لَتَنْبُتُ لحيتُه وإنه لَضَعيفُ الأخذِ لنفسه، ضعيفُ العَطاء منها، فإذا أخذ لنفسه مِن صالح ما يأخذ الناس فقد ذهب عنه اليُتْمُ.
قال الإمام الجصَّاص الحنفي في "أحكام القرآن" (2/ 338): [فأخبر ابن عباس رضي الله عنهما أن اسم اليتيم قد يلزمه بعد البلوغ إذا لم يستحكم رأيُه ولم يُؤنَس منه رشدُه، فجعل بقاء ضعف الرأي موجبًا لبقاء اسم اليتيم عليه] اهـ.
وقال القاضي عياض المالكي في "إكمال المعلم بفوائد مسلم" (6/ 207، ط. دار الوفاء): [ذهب مالك وأصحابُه وكافة العلماء إلى أن يُتْمَ اليتيم لا يخرجه مجرد البلوغ ولا علو السن حتى يُؤنَسَ منه الرشد وضبطه المال، وهو قول الشافعي وأبي يوسف ومحمد بن الحسن وأحمد وإسحاق، وقال أبو حنيفة: إذا بلغ خمسًا وعشرين سنة دُفِعَ إليه مالُه وإن كان غير ضابط له] اهـ.
وقال الإمام النووي الشافعي في "شرح مسلم" (12/ 191): [وفي هذا دليلٌ للشافعي ومالك وجماهير العلماء أنَّ حكم اليُتْم لا ينقَطِع بمجرَّد البلوغ، ولا بعلوِّ السن، بل لا بُدَّ أن يظهر منه الرشد في دينه وماله، وقال أبو حنيفة: إذا بلغ خمسًا وعشرين سنة زال عنه وصار رشيدًا يتصرَّف في ماله] اهـ.
ويشهد لذلك الأصل اللغوي لاسم اليتيم؛ فليس في معناه لغةً ما يُفيدُ حدَّه بالبلوغ، فإن الانفراد والغفلة والضعف كلها معانٍ لا تتوقف على الصغر، وإن كانت تغلب فيه، ولذلك سمى العرب المرأة يتيمة حتى تتزوج، ومنهم مَن أطلق وصف اليتم على النساء من غير تقييد بالزواج.
يقول الإمام الجصاص في "أحكام القرآن" (2/ 338): [واسم اليتيم قد يقع على المنفرد عن أبيه وعلى المرأة المنفردة عن زوجها. قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «تُسْتَأْمَرُ الْيَتِيمَةُ فِي نَفْسِهَا»، وهي لا تستأمر إلا وهي بالغة، وقال الشاعر: إن القبور تنكح الأيامى.. النسوة الأرامل اليتامى إلا أنه معلوم أنه إذا صار شيخًا أو كهلًا لا يُسَمَّى يتيمًا وإن كان ضعيفَ العقل ناقصَ الرأي، فلا بد مِن اعتبار قرب العهد بالصِّغَر، والمرأة الكبيرة المسنة تسمى يتيمة من جهة انفرادها عن زوج، والرجل الكبير المسن لا يُسَمَّى يتيمًا مِن جهة انفراده عن أبيه، وإنما كان كذلك لأن الأب يلي على الصغير ويدبر أمره ويحوطه فيكنفه فسُمِّيَ الصغيرُ يتيمًا لانفراده عن أبيه الذي هذه حاله، فما دام على حال الضعف ونقصان الرأي يُسَمَّى يتيمًا بعد البلوغ، وأما المرأة فإنما سُمِّيَتْ يتيمةً لانفرادها عن الزوج الذي هي في حباله وكنفه، فهي وإن كبرت فهذا الاسم لازم لها؛ لأن وجود الزوج لها في هذه الحال بمنزلة الأب للصغير في أنه هو الذي يلي حفظها وحياتها، فإذا انفردت عمن هذه حالُه معها سُمِّيَتْ يتيمةً كما سُمِّيَ الصغيرُ يتيمًا لانفراده عمن يدبر أمره ويكنفه ويحفظه، ألا ترى إلى قوله تعالى: ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ﴾ [النساء: 34]، كما قال ﴿وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ﴾ [النساء: 127] فجعل الرجل قيِّمًا على امرأته كما جعل ولي اليتيم قيِّمًا عليه] اهـ.
وجاء في "تاج العروس" للعلامة الزبيدي (مادة يتم): [قال أبو سعيد: يقال للمرأة: يتيمة، لا يزول عنها اسم اليتم أبدًا، وأنشدوا: وينكح الأرامل اليتامى..
وقال أبو عبيدة: تُدعَى يتيمةً ما لم تتزوج، فإذا تزوجَتْ زال عنها اسمُ اليُتْم.
وكان الْمُفضَّل يُنشِد:
أفاطمُ إنِّي هالكٌ فتَثَبَّتِي ... ولا تجزعي كلُّ النساء يتيمُ
وفي "التنزيل العزيز": ﴿وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ﴾ [النساء: 2]، أيْ: أعطوهم أموالهم إذا آنستم منهم رشدًا، وسُمُّوا يتامى بعد أن أُونِس منهم الرشد، بالاسم الأول الذي كان لهم قبل إيناسه منهم، وأصل اليتم، بالضم والفتح: الانفراد، وقيل: الغفلة، والأنثى: يتيمة، فإذا بلغا زال عنهما اسمُ اليتم حقيقةً، وقد يطلق عليهما مجازًا بعد البلوغ، كما كانوا يسمون النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو كبير: يتيم أبي طالب؛ لأنه ربَّاه بعد موت أبيه.
وفي الحديث: «تُسْتَأْمَرُ الْيَتِيمَةُ في نَفْسِهَا، فإنْ سَكَتَتْ فَهُوَ إِذْنُهَا». أراد باليتيمة: البكرَ البالغةَ التي مات أبوها قبل بلوغها، فلزمها اسمُ اليتم، فدُعِيَتْ به وهي بالغةٌ مجازًا، وفي حديث الشعبي: أن امرأة جاءت إليه فقالت: إني امرأة يتيمة، فضحك أصحابه، فقال: «النِّسَاءُ كُلُّهُنَّ يَتَامَى»؛ أي: ضعائف] اهـ.
وقال العلامة الحرالي: [اليتم: فقدان الأب حين الحاجة، ولذلك أثبَتَه مُثْبِتٌ في الذَّكَر إلى البلوغ، والأنثى إلى الثيوبة، لبَقاء حاجتها بعد البلوغ] اهـ نقلًا عن "تاج العروس" (مادة يتم).
وقال العلامة أبو البقاء الكفوي في "الكليات" (ص: 978، ط. مؤسسة الرسالة): [كلُّ شيءٍ فرد يَعَزُّ نظيره فهو يتيمٌ، وحقُّ هذا الاسم أن يقع على الصغار والكبار؛ لبقاء الانفراد عن اعتبار الأخذ والإعطاء من الولي بالنظر إلى حال نفسه، إلا أنه غلب أن يُسَمَّى به قبلَ أن يبلغ مبلغ الرجال، فإذا بلغ زال عنه هذا الاسم، وعلى وفق هذا ورد عرف الشرع] اهـ.
ولا يعارض ذلك قولُ النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «لا يُتمَ بَعْدَ احتلامٍ» رَوَاهُ أَبُو داوُدَ؛ فإن نفْيَ اليُتْم فيه بعد الاحتلام يُقصَد به نفيُ أحكام الصِّغَرِ عن اليتيم إذا بلغ؛ فهو مسوق للتفريق بين أحكام الصغار والكبار؛ حيث إن اليتيم إذا بلغ الحُلُمَ جرَتْ عليه أحكام الرجل البالغ المحتلم المكلَّف، فتتوجه إليه التكاليف الشرعية إلزامًا والتزامًا، ولا يكون وصف اليتم حينئذ حائلًا بينه وبين ما قد يترتب عليه من مسؤولية ومؤاخذة، فهو بيانٌ للأحكام الشرعية لا نفيٌ لاسم اليتم عنه.
يقول الإمام الزمخشري في "الكشَّاف" (1/ 463-464): [وأمَّا قوله عليه الصلاة السلام: «لَا يُتْمَ بَعْدَ الْحُلُمِ» فما هو إلا تعليمُ شريعةٍ، لا لغة؛ يعني: أنه إذا احتلم لم تجرِ عليه أحكام الصِّغار] اهـ.
واليتيم يكون أحوجَ ما يكون إلى الكفالة رعايةً وكفايةً وإصلاحًا في المرحلة التي تلي البلوغ؛ إذ هي أكثر مراحل العمر حرجًا، بل إن الواقع يشهد بأن توقف الكفالة في هذه السن قد يكون سببًا في ضياعه وانقلابه على المجتمع الذي تركه دون أن يضع قدمه على الطريق أو تكتمل له عناصر النجاح.
فكفالة اليتيم لا تتوقف ببلوغه، وإن زال عنه وصف اليُتْم عُرْفًا، أو بالتكليف الشرعي الذي يُقصد به خروجُه عن حد الصِّغَر، وإنما تستمر بعد بلوغه إلى وقت حصول رشده، كما في إيتاء الأموال في قوله تعالى: ﴿وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ﴾ [النساء: 6]، وذلك يتحقق بحصول الأهلية الكاملة لليتيم، التي تبيح له أن يباشر كافة التصرفات بنفسه، وتسقط بها وصاية غيره عليه، وتنتهض بها مسؤوليتُه الكاملة عن كل ما يصدر عنه مِن أعمال، ويخرج بها اليتيم عن وصف القاصر.
فتحصل من ذلك: أن الشريعة قصدت بكفالة اليتيم رعايتَه في جميع شؤون حياته ومعيشته مأكلًا ومشربًا وملبسًا ومسكنًا وتأديبًا وتعليمًا وتثقيفًا وزواجًا، وغير ذلك من ضروريات الحياة وحاجياتها، كما يصنع الوالدان بولدهما سواءً بسواءٍ، حتى يصل إلى مرحلة الاستقلال التامة نفسيًّا واجتماعيًّا وماليًّا، بحيث يكون قادرًا على بناء أسرته قائمًا بشؤونه مُنفِقًا على نفسه وعلى من يعول.
وتحديد المرحلة أو السن التي يتم فيها استقلالُ اليتيم بنفسه رعايةً وكفايةً واكتسابًا بحيث تنتهي كفالته عندها، هو أمرٌ يخضع لحالته وقدراته الذاتية واستعداده النفسي، كما يخضع للعرف والنظام المجتمعي وطبيعة العصر الذي يحيا فيه، وهذا كما عليه المحققون من الفقهاء في حد العطاء في الزكاة، فيجوز إعطاءُ الإنسان من الزكاة حتى تُخرِجه من حد الحاجة إلى حد الغنى، بل ويُعطى عند جماعةٍ مِن الفقهاء ما يُغنيه عمرَه كلَّه بتقدير العمر الغالب لأمثاله، وهذا يقتضي أن كفالة الأيتام تشمل توفيرَ فُرَصِ العمل لهم، فإن كان استعدادُ اليتيم متوائمًا مع الجانب الحِرفي أُنفِقَ عليه حتى يتقن الحرفة التي يمكنه أن يتمهَّر فيها، ثم أُعطِيَ من الآلات في حرفته ما يكفيه لتمام نفقته، وإن كان صاحب عِلْمٍ أُعطيَ من المال ما يُغنِيه ويُفَرِّغه لهذا العلم من كُتُب وأُجرة تعلُّم ومعلِّم وغيرها، ومن ذلك مِنَح التفرغ التي تُعطَى لِمَن أراد الحصول على مؤهل علمي معين يناسب كفاءته العلمية وقدرته العقلية، أو حتى لمن يحتاج إلى هذا المؤهل العلمي للانسلاك في وظيفة تُدِر عليه دخلًا يكفيه ومَن يعوله؛ حيث اقتضت طبيعة العصر وابتناء الوظائف وفرص العمل فيه على المؤهلات العلمية أن صار المؤهل بالنسبة له كالآلة بالنسبة للحِرفي علاوة على ما يكتسبه في ذلك من علم يفيده ويفيد أمته.
وكذلك اليتيمة تَظَلُّ في الكفالة حتى تتزوَّج، ويُنفَق عليها في توفير جهازها وإحضار مستلزمات زواجها، وكذلك ذوو الاحتياجات الخاصة مِن الأيتام؛ يبقون في الكفالة ما بقيَ احتياجُهم لغيرهم.. وهكذا.
وعلى ذلك: فالصرف على اليتيم ومن في حكمه -كمجهول الأبوين- لا ينبغي أن ينقطع بمجرد بلوغه الحلُم، أو بلوغه سنًّا أكبر مع كونه ما زال محتاجًا إلى من ينفق عليه ويقف بجانبه، بل يستمر الصرف عليه إلى أن يصل إلى بر الأمان ويعتمد على نفسه؛ كأن يلتحق بإحدى الوظائف، أو يحوز من المشاريع ما يُدِرُّ دخلًا منتظمًا يكفيه ومَن يعوله، وكذلك اليتيمة أو من في حكمها -كمجهولة الأبوين- يظل الإنفاق عليها مستمرًّا حتى تتزوج بما يشمل توفير جهازها ومستلزمات زواجها.
والله سبحانه وتعالى أعلم.
ظهرت في الآونة الأخيرة لعبة تسمى "لعبة الحوت الأزرق" أو "Blue Whale"، وهي متاحة على شبكة الإنترنت وتطبيقات الهواتف الذكية، تطلب من المشتركين فيها عددًا من التحديات، وهذه التحديات تنتهي بطلب الانتحار من الشخص المشترك، أو تطلب منه ارتكاب جريمةٍ ما، ويطلب القائمون عليها أن يقوم اللاعب بعمل "مشنقة" في المكان الذي يكون متواجدًا فيه قبل الخوض في تفاصيل اللعبة، وذلك للتأكد من جدية المشترك في تنفيذ المهام التي تُطلَب منه.
والمشاركة في هذه اللعبة تكون عن طريق تسجيل الشخص في التطبيق الْمُعَدِّ لها على الإنترنت أو الأجهزة المحمولة الذكية "Smart Phone"، وبعد أن يقوم الشخص بالتسجيل لخوض التحدي يُطلب منه نقش الرمز "F57" أو رسم "الحوت الأزرق Blue Whale" على الذراع بأداةٍ حادة، ومِن ثَمَّ إرسال صورةٍ للمسؤول للتأكد من أن الشخص قد دخل في اللعبة فعلًا، لتبدأ سلسلةُ المهامّ أو التحديات، والتي تشمل مشاهدةَ أفلام رعبٍ والصعود إلى سطح المنزل أو الجسر حقيقةً بهدف التغلب على الخوف، وقتل حيوانات وتعذيبها وتصويرها ونشر صورها، لتنتهي هذه المهام بطلب الانتحار؛ إما بالقفز من النافذة أو الطعن بسكين، فإن لم يفعل يهدد بقتل أحد أفراد عائلته أو أحد أقرانه، أو نشر معلومات شخصية مهمة عنه. وقد أكدت تقارير رسميةٌ تأثيرَ هذه اللعبة وخطورتها على المشاركين فيها بشكلٍ حقيقيٍّ؛ حيث أقدم بعضهم على الانتحار في بعض الدول الأوربية والعربية.
ومخترع هذه اللعبة هو "فيليب بوديكين"، وقد طرد من عمله وتم القبض عليه، فقال بعد اعترافه بجرائمه: إن هدفه منها تنظيف المجتمع من النفايات البيولوجية، وأن هؤلاء ليس لهم قيمة.
فما حكم الشرع في ممارسة هذه اللعبة والمشاركة فيها؟
في سنة 1953 توفيت امرأة وهي في حالة الوضع، وأنجبت طفلًا يبلغ من العمر الآن ستة شهور، ووالده موجود على قيد الحياة، وجدته لأمه صالحة للحضانة شرعًا، وجدته لأبيه على قيد الحياة وكبيرة في السن عن جدته لأمه. فهل الطفل المذكور يكون في حضانة الجدة للأم؟ أم الجدة لأب؟
ما هي كيفية التعامل مع الأطفال غير الشرعيين؟ فقد سألت سفارة ماليزيا بما نصه: نحيط فضيلتكم علمًا بأن وزارة الشؤون الدينية بماليزيا تود الاستفادة منكم بصدد شؤون الأطفال غير الشرعيين، وترجو مساعدة فضيلتكم في إمدادنا بالآتي:
1- كيفية تسجيل الأطفال غير الشرعيين.
2- منهج دار الإفتاء في كيفية مواجهة الدولة للمسائل التي تتعلق بالأبناء غير الشرعيين.
3-كيفية مواجهة جميع المشاكل التي تتعلق بالأبناء غير الشرعيين؛ مثل المدارس والتربية.
نظارة الداخلية أرسلت للحقانية خطابًا يتضمن أن أحد الأشخاص الذين يعالجون في مستشفى مديرية جرجا استحق عليه مبلغ في نظير أجرة معالجته، وبمطالبته به ظهر عدم قدرته على السداد؛ ولكون والده من ذوي اليسار طُلب منه هذا المبلغ فتوقف في الدفع، ولهذا رغبت الوقوف على ما إذا كان الوالدُ مكلفًا شرعًا أو قانونًا بنفقات علاج ولده أو لا؟ وإذا كان مكلفًا فلغاية أي سن يبلغه الولد؟ وما هي الأحوال التي تقضي بإعفائه منها أو بإلزامه بها؟ فالأمل الإفادة عن الحكم الشرعي في هذا الموضوع.
قال السائل: امرأة من مصر تزوجت في ديار غربة بالحجاز، ثم حملت، ثم مرضت وهي حامل وتعرضت لأخطار شديدة، فقرر الأطباء ضرورة سفرها عاجلًا من تلك الديار؛ لعدم وجود الأطباء الاختصاصيين هناك حيث توجد الاستعدادات من أطباء اختصاصيين ووسائل إسعاف -بمصر مثلًا-؛ وذلك درءًا لما قد يحدث لها من ضرر، وحفظًا لها وإنقاذًا لحياتها وعدم تعرضها إلى التهلكة، فطلبت من زوجها الإذن لها بذلك فأبى وأصر على عدم سفرها، ولكنها للضرورة الحتمية والسبب القهري والعذر الشرعي المشار إليه بعاليه أصرت غير باغية أن تلح وتشبثت بالسفر. ثم سافرت مع محارم من أهلها إلى وطنها مصر؛ لأجل الوضع والعلاج والاستشفاء. فهل يصح لزوجها أو خلافه أن يعتبرها ناشزًا؟ مع العلم بأنها علاوة على ما أبدته من الأسباب المستدعية لسفرها استصدرت أمرًا ساميًا من جلالة مليك البلاد، فتفضل جلالته بالإذن لها بالسفر على أن تعطي تعهدًا بأن تعود بعد الوضع والعلاج، فأعطت هذا التعهد. أفتونا مأجورين.
سأل مديرُ القرعة في رجلٍ ينفق على أخته شقيقته البكر، في حين أن لها أخًا أكبر من والدها، فهل في حالة تجنيد الأخ الشقيق يكلف أخوها من والدها بالإنفاق عليها؟