حكم تنظيم عمليات جمع الدم وتخزينه

حكم تنظيم عمليات جمع الدم وتخزينه

طلبت لجنة الاقتراحات والشكاوى بمجلس الشعب الإفادة بشأن تنظيم عمليات جمع وتخزين وتوزيع ونقل الدم ومركباته.

لا مانع شرعًا من الترخيص في ذلك إذا توفرت الشروط والضوابط التي تنظم عمليات جمع وتخزين وتوزيع ونقل الدم، والتي تُبعد هذه العملية عن أي ضرر أو تلاعب، وتنأى بها أن تتحول إلى تجارة أو استغلال، بل تكون من باب إحياء النفس والإيثار المأمور بهما شرعًا.

التفاصيل ....

المحتويات

 

من مظاهر تكريم الله سبحانه وتعالى للإنسان

لا جدال في أن الله سبحانه وتعالى كرم الإنسان وفضله على كثير من خلقه، ونهى عن ابتذال ذاته ونفسه والتعدي على حرماته، وكان من مقاصد الشريعة الإسلامية حفظ النفس لتكريم الله للإنسان: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾ [الأسراء: 70].
ومن مظاهر هذا التكريم: خلق الله الإنسان في أحسن صورة وأجملها، واعتبار ذلك نعمة من الله على الإنسان يجب أن يشكره عليها؛ لقوله تعالى: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾ [التين: 4]، وكذلك من مظاهر تكريم الله للإنسان أنه اعتبر جسده أمانة ائتمنه عليها فلا يجوز لأحد أن يتصرف فيه بما يسوؤه أو يرديه حتى ولو كان هذا التصرف صادرًا من صاحب هذا الجسم نفسه، ولذا حرمت الأديان السماوية والقوانين الوضعية إتلاف البدن وإزهاق الروح عن طريق الانتحار أو ما يؤدي إليه؛ دليل ذلك قوله تعالى: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا﴾ [النساء: 29].
كما أن من مظاهر تكريم الله للإنسان: أنه أمره بالاهتمام بإصلاح جسده ظاهرًا وباطنًا، وأمره باستعمال كل وسائل العلاج التي تؤدي إلى شفائه من مرضه؛ فقد أخرج البخاري في "الصحيح" عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَا أَنْزَلَ اللهُ دَاءً إِلَّا أَنْزَلَ لَهُ شِفَاءً»، وعن أسامة بن شريك قال: سُئل النبي صلى الله عليه وآله وسلم: يَا رَسُولَ اللهِ، نَتَدَاوَى؟ قَالَ: «نَعَمْ، تَدَاوَوْا، فَإِنَّ اللهَ لَمْ يَضَعْ دَاءً إِلَّا وَضَعَ لَهُ دَوَاءً، غَيْرَ دَاءٍ وَاحِدٍ: الْهَرَمُ» رواه أبو داود في "سننه"، والترمذي في "سننه" وصححه، وفي رواية أخرى: «إِلَّا السَّام»، أي: الموت.
ويؤخذ من هذه النصوص: أن شريعة الإسلام قد كرمت الإنسان تكريمًا عظيمًا وأمرت بالمحافظة عليه من كل ما يهلكه أو يسوؤه، ونهت عن قتله أو إنزال الأذى به، كما أنه لا يجوز له أن يتصرف في جسده تصرفًا يؤدي إلى إهلاكه أو إتلافه أو ضرره؛ لأن كل إنسان وإن كان صاحب إرادة -بالنسبة لجسده- إلا أن هذه الإرادة مقيدة بالحدود التي شرعها الله تعالى، وفي النطاق المستفاد من قوله عز وجل: ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ [البقرة: 195]، وقوله تعالى: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا﴾ [النساء: 29].

حكم تنظيم عمليات جمع الدم وتخزينه وضوابط ذلك

الإنسان مطالب بالمحافظة على بدنه وجميع أعضائه؛ فلا يعرض نفسه لما يؤذيه بأي حال من الأحوال.
ولكن ما هو الحكم الشرعي إذا لم ينقذ الإنسان من هلاك محقق إلا بأخذ جزء من أجزاء غيره، ولم توجد وسيلة أخرى لمنع هذه الهلاك إلا بذلك، وقال أهل الخبرة الطبية العدول إن ذلك يحقق النفع المؤكد للآخذ، ولا يؤدي إلى ضرر بالمأخوذ منه، ولا يؤثر على صحته وحياته وعمله؟
والجواب: أنه لا مانع شرعًا من الترخيص في ذلك إن خلا من الضرر، ويعد ذلك من باب الإذن الشرعي الذي فيه إحياء للنفس التي أمر الله بإحيائها، وهو من باب التضحية والإيثار وهو ما أمر به القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [الحشر: 9]، وقياسه وجوب إنقاذ الغرقى والحرقى والهدمى مع احتمال الهلاك عند الإنقاذ ويدخل في باب الإيثار المأمور به في القرآن الكريم.
وفي واقعة السؤال: فإن جمع الدم ومركباته -وهو جزء من الإنسان ونسيج من أنسجته- وتخزينه وتوزيعه ونقله لا مانع منه شرعًا، ويعد ذلك من باب أولى؛ لأن الدم عضو متجدد ودائم التجدد والتغير، وذلك بالضوابط والشروط الآتية:
1- الضرورة القصوى للجمع بمعنى أن يكون المجتمع في حاجة ماسة إلى جمع كميات من الدم لاستخدامها عند الضرورة كإنقاذ حياة إنسان من هلاك محقق أو إشرافه على الهلاك بسبب الحوادث والكوارث والعمليات الجراحية التي تتطلب ذلك من غير بديل يغني عنه.
2- أن يكون جمع الدم محققًا لمصلحة مؤكدة للإنسان من الوجهة الطبية ويمنع عنه ضررًا مؤكدًا يحل به.
3- ألا يؤدي جمع الدم إلى الإضرار بمن يجمع منه الدم ضررًا محققا به كليًّا أو جزئيًّا، أو يمنعه من مزاولة عمله الذي يباشره في الحياة ماديًّا أو معنويًّا، أو يؤثر عليه سلبًا في الحال أو المآل بطرق مؤكدة من الناحية الطبية.
4- أن يكون جمع الدم على سبيل التبرع وبدون مقابل مادي أو معنوي مطلقًا بالمباشرة أو بالواسطة، ويحرُم اقتضاء مقابل للدم؛ لأن بيع الآدمي الحر أو أي جزء منه باطل شرعًا؛ لكرامته بنص القرآن الكريم، ولأنه لا يجوز أخذ العوض عليه؛ لكونه هبة بثواب غير مشروع فتكون في حكم البيع.
5- أن يتحقق بالطرق الطبية خلو المتبرع بالدم من الأمراض الضارة بصحة الإنسان؛ لأنه لا يجوز شرعًا دفع الضرر بالضرر.
6- أن يكون التبرع بالدم من إنسان كامل الأهلية وتوفر رضاؤه التام بذلك.
7- أن يكون جمع الدم عن طريق الجهات الحكومية المسؤولة، وفي الأماكن التي تحددها الدولة لهذا الغرض ليكون ذلك بعيدًا عن عملية المتاجرة والكسب المادي في أهم أجزاء الإنسان. هذا بالنسبة لجمع الدم.
أما عن عملية التخزين فلا بد أن يكون المكان الذي يخزن فيه الدم نظيفًا خاليًا من الملوثات والميكروبات الضارة بصحة الإنسان، وأن يكون بالطرق والوسائل العلمية الصحيحة التي تجعل الدم صالحًا لنقله إلى من يحتاج إليه دون إضرار بالمنقول إليه، ويوزع على من يحتاج إليه بضوابط تقدم الأشد حاجة على غيره دون تفرقة بين غني وفقير، فإن تساوت حالاتهم يُقدَّم الأشد حاجة ليدفع عنه الهلاك المحقق عن غيره، فإن تساوت حالاتهم يقرع بينهم إذا كانت الكمية لا تفي بما يطلبه الجميع. هذا، ونود الإشارة إلى أنه لا مانع شرعًا من أن يشرع ولي الأمر من القوانين واللوائح ما ينظم عملية جمع وتخزين وتوزيع ونقل الدم ومركباته ما دام ذلك يحقق مصلحة ظاهرة لأفراد المجتمع. ومما ذكر يعلم الجواب عن السؤال.

والله سبحانه وتعالى أعلم.

اقرأ أيضا