مبلغ التأمين المدفوع مقدما في الإيجار والآثار المترتبة عليه

مبلغ التأمين المدفوع مقدما في الإيجار والآثار المترتبة عليه

 ما حكم ما يدفعه المستأجِر من مَالٍ زائدٍ على القيمة الإيجاريَّة للمؤجِّر؛ لبيان الملاءة المالية، وضمان المتلفات التي قد يتسبب فيها المستأجر أثناء مدة تأجير العين، وقد يتم سداد قسط مُتأخِّر من الإيجار منها، وهل يجوز للمُؤجِّر أخذ هذا المال الزائد؟ وهل له أن يتصرف فيه كما يشاء؟

يجوز لـمُؤجِّر العين أن يأخذ من المستأجر مالًا زائدًا عن الأجرة بقيمة شهرين من الإيجار -كما هو مُقرَّرٌ في القانون-؛ فإذا تَرَاضيا على الزيادة جاز، ويتَملك الـمُؤجِّر هذا المال، ويحق له التصرف فيه، ثم يَرُدُّه إلى المستأجر عند انتهاء العقد، ويكون هذا المال لضمان سداد ما يتلف من العين الـمُؤجَّرة، أو لاستيفاء ما على المستأجر من مُتأخِّرات الأجرة. 

التفاصيل ....

قرر الشرع الشريف العقود وأجاز التعامل بها؛ لحاجة الناس لتبادُل المنافع والمصالح بينهم، قال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيما أخرجه ابن حِبان: «دَعُوا النَّاسَ يَرْزُقُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا» أي: ينفع بعضهم بعضًا.
وقال العلامة الكاساني الحنفي في "البدائع" (4/ 174، ط. دار الكتب العلمية): [لأن الله تعالى إنما شرع العقود لحوائج العباد] اهـ.
ومن أكثر العقود التي تظهر إجازة الشرع لها لحاجة الناس إليها عقد الإجارة، قال الإمام السرخسي الحنفي في "المبسوط" (16/ 20، ط. دار المعرفة): [وحجتنا في ذلك أن جواز عقد الإجارة لحاجة الناس] اهـ.
وقال العلامة الكاساني الحنفي في "البدائع" (4/ 174، ط. دار الكتب العلمية): [إنما شرع العقود لحوائج العباد، وحاجتُهم إلى الإجارة ماسَّة؛ لأن كل واحد لا يكون له دار مملوكة يسكنها، أو أرض مملوكة يزرعها، أو دابة مملوكة يركبها، وقد لا يمكنه تملكها بالشراء لعدم الثمن، ولا بالهبة والإعارة؛ لأن نفس كل واحد لا تسمح بذلك فيحتاج إلى الإجارة؛ فَجُوِّزَتْ بخلاف القياس لحاجة الناس كالسَّلَم ونحوه. تحقيقُه أن الشَّرعَ شَرعَ لكل حاجةٍ عقدًا يختص بها، فشرع لتمليك العين بعوض عقدًا وهو البيع، وشرع لتمليكها بغير عوض عقدًا وهو الهبة، وشرع لتمليك المنفعة بغير عوض عقدًا وهو الإعارة، فلو لم يشرع الإجارة مع امتساس الحاجة إليها لم يجد العبد لدفع هذه الحاجة سبيلًا وهذا خلاف موضوع الشرع] اهـ.
وما زالت حاجة الناس إلى عقد الإجارة تزدادُ مع تغيُّر المجتمعات وتطور أحوال الناس، وهو ما يتسبب في إضافة بعض الأوصاف إلى العقود؛ لتحقيق المصالح، وخاصة في عقد الإجارة باعتباره من أكثر العقود احتياجًا إليه.
وبالتحليل الفقهي لهذه المعاملة المسؤول عنها نجدها تتكون من:
أ) مُستأجِر يطلب تأجير عينٍ من مُؤجِّر.
ب) مالٌ يدفعه المستأجِر للمؤجِّر وهو ينقسم إلى قسمين:
الأول: الأجرة؛ وهي مُقَسَّمة على أقساط ونجوم.
الثاني: مال زائد على هذه الأجرة يدفعه المستأجر ليأخذ منه الـمُؤجِّر ما تحتاجه العين من إصلاح لما تلف مدَّةَ الإجارة، وهذا المال بقسميه مقابل الانتفاع بالعين الـمُؤجَّرة.
ج) ألفاظٌ يُعبَّر بها عن إرادتي المستأجِر والـمُؤجِّر، وهي تشتمل على عبارتين:
إحداهما: تدل على إرادة تأجير العين.
والثانية: تختص بالمال الزائد حيث تدلُّ على أن المراد من دفع هذا المال هو ضمانة الملاءة للتأجير، وأن يكون تحت حساب ضمان المتلفات في العين، إضافةً لجبر العجز في سداد الأجرة إن وقع، وكذا سداد الفواتير المستحقة، كالكهرباء والمياه وغيرها.
فهذه المعاملة اجتمعت فيها علاقتان تعاقديتان: الأولى: الإجارة، والثانية: هي ما يسميها المتعاملون بهذه المعاملة بـ(التأمين الإيجاري).
وعند تكييف معاملةٍ ما اجتمعت فيها علاقتان تعاقديتان لا بد من النظر لعدة اعتبارات عند تكييفها بأنها بسيطة أو مركَّبة، ومن أهمها:
1- زمن إنشاء العقدين.
2- ارتباط العقدين وتحقيق المصالح.
3- الاستغناء بأحدهما عن الآخر من عدمه.
وإذا نظرنا إلى الصورة المسؤول عنها نجد أن زمن الاتفاق على العلاقتين التعاقديتين يتم عليهما معًا، فلا يصح القول بأن العلاقة التعاقدية التي أُطلق عليها (التأمين) هي بمثابة عقد منفصل عن عقد الإجارة؛ لأن هذا العقد ينشأ في نفس الزمن الذي ينشأ فيه عقد الإجارة وبدون تراخٍ بينهما، فهما ينشآن معًا.
والصورة المسؤول عنها يتضح فيها بجلاءٍ الارتباط بين العلاقتين التعاقديتين، وهذا هو معنى التركيب؛ فالعقد الـمُرَكَّب: هو مجموع العقود المالية المتعددة التي يشتمل عليها العقد على سبيل الجمع أو التقابل، بحيث تعتبر جميع الحقوق والالتزامات المترتبة عليها بمثابة آثار العقد الواحد، ودليل التركيب في هذا العقد عدة أمور:
1- أَنَّ دفع التأمين لضمان المتلفات يعتبر جزءًا من الاتفاق فَيُنصُّ عليه في عقد التأجير باعتباره بندًا أصيلًا في التعاقد.
2- أن قيمة التأمين تكون منسوبة للقيمة الإيجارية في عقد الإجارة.
3- أنه جرى العرف إما القبول بالتأمين أو ترك عملية التأجير.
ومن جهة الاستغناء بإحدى العلاقتين التعاقديتين عن الأخرى نجد أن العلاقتين في هذه المعاملة لا يمكن الاستغناء بإحداهما عن الأخرى؛ حيث إنَّ العلاقة الأولى (الإجارة) أصبحت وحدها في عرف الإيجار المعاصر لا تكفي لرفع التنازع بين أطراف عقد الإجارة في ضمان المتلفات وسداد المستحقات، وكذلك دفع مال التأمين لا يستغني عن عقد الإجارة لأنه تابع له.
واجتماع مضمون عقدين في معاملة واحدة جائز؛ قال الإمام الكاساني الحنفي في "بدائع الصنائع" (6/ 246، ط. دار العاصمة): [فيه معنى عقدين جائزين.. وما اشتمل على معنى عقدين جائزين كان جائزًا] اهـ.
وهذا الاجتماع بين المعنيين صيَّر هذه المعاملة مستقلةً عن كلا العقدين اللذَيْن اشتملت على معنيَيْهما.
ومقتضى ذلك تكييف هذه المعاملة على أنها عقد جديد تركَّبَ من معنيي عقدين: العقد الأول: الإجارة، والعقد الثاني: دفع مال تحت حساب ضمان المتلفات في العين، ولضمانة الملاءة للتأجير، إضافةً لجبر العجز في سداد الأجرة إن وقع، فأشبه بهذا المعنى الدَّيْن الذي تتم مقاصَّة ثمن المتلفات التي تقع في العين أو الأقساط التي تستحق مع العجز عن سدادها منه.
وهذا الاجتماع بين عقد الإجارة والدَّيْن، ليس من قبيل القرض الذي جرَّ نفعًا؛ إذ النفع في هذه المعاملة للمستدين لا الدائن.
وهذا العقد الجديد -غير الـمُسَمَّى فِقْهًا- صحيح مشروع للأدلة التالية:
- لأنَّ الأصل في العقود الإباحة، ولأنه لم يقم دَليلٌ على تحريم هذا العقد.
- ولما رواه أبو داود في سننه أن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ».
- ولما أخرجه الشيخان في "صحيحيهما" أن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما كان يسير على جَملٍ له قد أعيا، فأراد أن يسيبه، قال: فلحقني النبي صلى الله عليه وآله وسلم فدعا لي، وضربه فسار سيرًا لم يسر مثله، قال: «بِعْنِيهِ وقِيَّةٍ». قلت: لا. ثم قال: «بِعْنِيهِ». فَبِعْتُهُ بِوقِيَّةٍ واستثنيت عليه حُمْلانَهُ إلى أهلي، وفي لفظ رواية الإمام مسلم: على أن لي ظهره إلى المدينة، وفي لفظٍ آخر أخرجه أبو داود في سننه: واشترطت حُمْلانَهُ إلى أهلي، ووجه الدلالة في الحديث؛ اجتماع عقدين جائزين في عَقدٍ واحدٍ هما: البيع والإعارة.
- ولما أخرجه أبو داود في سننه أن سفينة رضي الله عنه قال: كنت مملوكًا لأم سلمة فقالت: أُعتِقكَ وأشترط عليكَ أن تخدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما عشتَ، فقلتُ: إن لم تشترطي عليَّ ما فارقتُ رسولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم ما عشتُ، فأعتقتني واشترطَتْ عليَّ، ووجه الدلالة في الحديث اجتماع العتق وشرط الخدمة مع عدم نقض الشرط للعتق.
- ولتحقيقه مصلحة المتعاقدين: الـمُؤجِّر الذي يضمن أن لا يضيع عليه المال الذي يستحقه، والمستأجر الذي يستطيع الحصول بهذه الضمانة على منفعة العين.
- ولحفاظه على اتزان التعامل بين الناس في مجال الإيجارات برفع المخاصمة والمنازعة.
وهذه المعاملة ليست عقدين متتاليين؛ فلا نقول مثلًا: إنها عقد إجارة ثم تلاه بعد ذلك عقد الرهن، لما سبق ذكره من هذا الارتباط بين العقدين.
كما أنه لا يعتبر دفع المال الزائد في هذه المعاملة رهنًا؛ فالرهن كما جاء في "حاشية ابن عابدين الحنفي" (6/ 477): [قال في "إيضاح الإصلاح": هو جعل الشيء محبوسًا بحق] اهـ.
وجاء في "أسنى المطالب" (2/ 144، ط. دار الكتاب الإسلامي): [جعل عين مال وثيقةً بدَيْنٍ يُسْتَوفى منها عند تعذر وفائه] اهـ.
وليس في هذه المعاملة دَيْن في ذمة المستأجر؛ لأنَّ وضع المال عند الـمُؤجِّر إنما هو من أجل ضمان سداد ما يُتْلَف من العين الـمُؤجَّرة في مدة الإيجار، أو لاستيفاء ما على المستأجر من متأخرات الأجرة؛ وعلى هذا التكييف فيَثْبُت هذا المبلغ في ذمة الـمُؤجِّر مِلْكًا له لحين انتهاء مدة العقد؛ وله التصرف فيه بكافة التصرفات الناقلة للملكية؛ وهذا يتماشى مع ما ذهب إليه الحنفية –واختاره مجمع الفقه الإسلامي الدولي بقراره رقم (6140) في دورته الخامسة عشرة بمسقط بسلطنة عمان سنة 1425هـ، 2004م-: من أَنَّ النقود لا تتعين بالتعيين، وإنما تقوم أبدالها مقامها. ومعنى هذا: أَنَّ حق المستأجر لا يتعلَّق بذات المال الزائد على القيمة الإيجاريَّة التي دفعها للمُؤجِّر في بداية عقد الإيجار؛ وإنما يَثْبُت مقدار هذا المال في ذمة الـمُؤجِّر ويُوفِّيه للمستأجر بعد انقضاء مدة الإيجار، وتصح المقاصة منه مقابل ما وقع من تلفيات في العين الـمُؤجَّرة، أو استيفاء ما استحقه من أقساط أجرة عجز المستأجر عن سدادها.
أما عن حَدِّ هذا المال الذي يُدفع للتأمين في عقود الإيجار؛ فقد ضبط القانون هذه المسألة بقيمة شهرين من الأجرة؛ وذلك كما جاء في المادة 18 من القانون رقم 52 لسنة 1969م؛ حيث نَصَّت أنَّه: [لا يجوز أن يزيد مقدار التأمين الذي يدفعه المستأجر على ما يعادل أجرة شهرين] اهـ، وتَأكَّد هذا بما جاء في المذكرة الإيضاحية لمشروع القانون 49 لسنة 1977م؛ وهذا من الـمُشَرِّع إنما هو من الشروط الـمُكَمِّلة للعقد، فإذا تَرَاضى أطراف العقد على الزيادة على ذلك فلا مانع.
وبناءً على ذلك: فيجوز لـمُؤجِّر العين أن يأخذ من المستأجر مالًا زائدًا عن الأجرة بقيمة شهرين من الإيجار -كما هو مُقرَّرٌ في القانون-؛ فإذا تَرَاضيا على الزيادة جاز، ويتَملك الـمُؤجِّر هذا المال، ويحق له التصرف فيه ثم يَرُدُّه إلى المستأجر عند انتهاء العقد، ويكون هذا المال لضمان سداد ما يتلف من العين الـمُؤجَّرة، أو لاستيفاء ما على المستأجر من مُتأخِّرات الأجرة.
والله سبحانه وتعالى أعلم. 

اقرأ أيضا