ما حكم قول: (ربنا افتكره) عمن توفاه الله؛ حيث انتشر في الآونة الأخيرة قول المصريين: "ربنا افتكره" كنايةً عمن توفاه الله، والله تعالى يقول: ﴿لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى﴾، ويقول: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا﴾. فما حكم الشرع في قول ذلك؟
حكم قول: (ربنا افتكره) عمن توفاه الله
المحتويات
- شمولية الشريعة الإسلامية ومراعاتُها لأحوال الناس وأعرافهم
- حكم قول: "ربنا افتكره" عمن توفاه الله
- الخلاصة
شمولية الشريعة الإسلامية ومراعاتُها لأحوال الناس وأعرافهم
من شمولية الشريعة الإسلامية وسَعَتِها مراعاتُها أحوال الناس وأعرافهم؛ فكما جاءت بأحكام ثابتة دائمة لا تتغير، جاءت بأحكام قابلة للتغير والتبدُّل حسب أعراف الناس وعاداتهم، وجعلت العرف مما يُرْجَعُ إليه عند بيان أحكام المكلفين؛ فقال تعالى: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾ [199: الأعراف]، وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «مَا رَأَى الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا، فَهُوَ عِنْدَ اللهِ حَسَنٌ، وَمَا رَأَوْا سَيِّئًا فَهُوَ عِنْدَ اللهِ سَيِّئٌ» أخرجه الإمام أحمد في "المسند"، والطبراني في "المعجم الأوسط" وصححه الحاكم في "المستدرك".
ومن أعراف الناس بعضُ عباراتهم التي لا يقصدون بها حقيقتها اللفظية، إنما يقصدون بها ما تعارفوا عليه فيما بينهم من معنًى دون حاجة إلى قرينة تدل عليه؛ فيُعتبَر في ذلك بأعرافهم لا بالأصل اللغوي لأقوالهم.
قال العلامة السرخسي في "المبسوط" (4/ 152، ط. دار المعرفة): [التعيين بالعُرف كالتعيين بالنص] اهـ.
وقال العلامة القرافي في "الفروق" (3/ 107، ط. عالم الكتب): [المنقول العرفي: هو الذي يُفهَم عند الإطلاق بغير قرينةٍ صارفةٍ له عن الحقيقة] اهـ.
حكم قول: "ربنا افتكره" عمن توفاه الله
قد تعارف الناس في مصر على استخدام ألفاظٍ قد يُغَايِرُ مدلولُها العرفيُّ حقيقتَها اللغوية، حتى صارَ لا يتبادر إلى الذهن عند سماعها إلا ذلك المدلول العرفي، ومن ذلك استخدامهم لفظ "ربنا افتكره" للتعبير عن موت إنسان.
والحكم الشرعي في التلفظ بهذه الجملة للتعبير عن وفاة إنسانٍ يأتي في النقاط التالية:
أولًا: أن العرف القوليّ مُعْتَبرٌ في الشريعة وأحكامها، حتى اتفق الفقهاء على أن أعراف الناس في أقوالهم هي مما يُخَصَّص به عمومياتُ النصّ، وأنها تُقَدَّم على الحقائق اللفظية عند التعارض بينها؛ قال الإمام القرافي في "الفروق" (1/ 171-172): [الفرق.. بين قاعدة "العرف القولي يُقْضَى به على الألفاظ ويخصِّصُها"، وبين قاعدة "العرف الفعلي لا يقضى به على الألفاظ ولا يخصِّصُها": وذلك أن العرف القولي: أن تكون عادة أهل العرف يستعملون اللفظ في معنًى معينٍ ولم يَكُن ذلك لُغَةً.. ومن هذا الباب: قتل زيدٌ عمرًا؛ هو في اللغة موضوعٌ لإذهاب الحياة، ثم هو اليوم في إقليم مصر موضوعٌ للضرب خاصةً؛ فيقولون: قتله الأمير بالمقارع قتلًا جيدًا، ولا يريدون إلا ضَرْبَهُ، فهو من باب المنقولات العرفية، والأوضاعُ العرفية هي الطارئة على اللغة] اهـ.
وقال أيضًا (1/ 173): [إذا ظهر لك أن العرفَ كما يَنقل أهلُهُ اللفظَ المفرَد، فينقلون أيضًا اللفظَ المُرَكَّب، فمثل هذا النقل العرفي يُقَدَّم على موضوع اللغة؛ لأنه ناسخٌ لِلُّغة، والناسخ يُقَدَّم على المنسوخ، فهذا هو معنى قولنا: إن الحقائق العرفية مقدمةٌ على الحقائق اللغوية] اهـ.
وقال في "نفائس الأصول في شرح المحصول" (9/ 3990، ط. مكتبة نزار مصطفى): [والنقل مُقدَّم على أصل اللغة في حمل اللفظ عليه؛ لأنه ناسخ، والناسخ مُقدَّمٌ على المنسوخ] اهـ.
وقال العلامة ابن أمير الحاج في "التقرير والتحبير" (1/ 282، ط. دار الكتب العلمية): [(أما) تخصيص العامّ (بالعرف القولي) وهو أن يتعارف قومٌ إطلاقَ لفظٍ لمعنًى بحيث لا يتبادر عند سماعه إلا ذاك المعنى (فاتفاق)] اهـ.
ونص الفقهاء على أن الضابط الذي يُعرَف به نَقْلُ اللفظ من معناه اللغوي إلى ما تعارف عليه الناسُ من معنًى هو: أن يتبادر المنقول إليه إلى الذهن دون حاجةٍ إلى قرينةٍ لذلك، وهذا متحققٌ في قول كثير من الناس في مصر، عند سؤالهم عن شخصٍ قد توفاه الله تعالى ولم يعلم السائل بوفاته: "ربنا افتكره"؛ حيث يتبادر إلى ذهن السامع على الفور دون حاجةٍ إلى قرينةٍ أو توضيحٍ أن المسئول عنه قد توفي وانتقل إلى رحمة الله تعالى؛ حتى أصبح التعبير بهذا اللفظ عندهم لا يدل في معناه أصلًا إلا على هذا المعنى؛ فلا يتبادر إلى ذهن أيٍّ من المصريين أبدًا أن المرادَ من هذه العبارة نسبةُ سَبْقِ النسيان إلى الله تعالى -حاشاه سبحانه وتقدَّس شانُهُ- على ما يدل عليه ظاهرها اللغوي.
قال الإمام القرافي في "الفروق" (1/ 175): [وضابط النقل: أن يصير المنقولُ إليه هو المتبادر الأول من غير قرينة، وغيرُه هو المفتقِرُ إلى القرينة؛ فهذا هو مُدرَكُ القولين، فاتفق أشهب وابن القاسم على أن النقلَ العرفي مقدمٌ على اللغة إذا وجد] اهـ.
وإنَّ مِن اعتبار الشرع الشريف للصبغة المجتمعية والعرف السائد في الألفاظ والأقوال وتقديمِهِ لها على الحقائق اللغوية في بعض الأوقات: نَهْيَهُ عن استخدام اللفظ في معناه الحقيقي الحسن، إذا تعورف استخدامُهُ في معنًى قبيح؛ رعاية لما يتبادر إلى ذهن السامع عند سماعه؛ يدل على ذلك: نَهْيُهُ سبحانه وتعالى عن قول المؤمنين للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: "راعنا"، وهو لفظٌ مشتقٌّ في أصله اللغوي من "المراعاة" وهي معنًى حسن، غير أنه شاع استخدامُهُ حينذاك بمعنى الاستهزاء والذم في المجتمع الذي كثر فيه المستهزؤون من يهود ذلك الوقت؛ فنهى اللهُ المؤمنين عنه، وأرشدهم إلى غيره مما لا يشاع استخدامه في مجتمعهم بمعنًى سيِّئ؛ فقال تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا﴾ [البقرة: 104].
قال الإمام الطبري في "جامع البيان" (2/ 466، ط. مؤسسة الرسالة): [روي عن قتادة: أنها كانت كلمةً صحيحةً مفهومةً من كلام العرب، وافَقَتْ كلمةً من كلام اليهود بغير اللسان العربي، هي عند اليهود سَبٌّ، وهي عند العرب: أَرْعِنِي سَمْعَكَ وَفَرِّغْهُ لِتَفْهَمَ عَنِّي. فعَلِمَ اللهُ جَلَّ ثناؤه معنى اليهود في قِيلِهِم ذلك للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأن معناها منهم خلافُ معناها في كلام العرب؛ فنهى اللهُ عزَّ وَجَلَّ المؤمنين عن قِيلِهَا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، لئلا يجترئ من كان معناه في ذلك غيرَ معنى المؤمنين فيه، أن يخاطِب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم به] اهـ.
وقال الإمام البغوي في "معالم التنزيل في تفسير القرآن" (1 /132، ط. طيبة): [وذلك أن المسلمين كانوا يقولون: "راعنا يا رسول الله"، من المراعاة، أي: أَرْعِنَا سمعك، أي: فَرِّغ سمعك لكلامنا، يقال: أَرْعَى إلى الشيء، وَرَعَاهُ، وَرَاعَاهُ، أي: أَصْغَى إليه واسْتَمَعَهُ، وكانت هذه اللفظة شيئًا قبيحًا بلغة اليهود، وقيل: كان معناها عندهم: اسمع لا سمعت.
وقيل: هي من الرُّعونة؛ إذا أرادوا أن يُحَمِّقُوا إنسانًا قالوا له: "راعنا" بمعنى يا أحمق! فلما سمع اليهود هذه اللفظة من المسلمين قالوا فيما بينهم: كنا نَسُبُّ محمدًا سرًّا، فأعلِنوا به الآن، فكانوا يأتونه ويقولون: راعنا يا محمد، ويضحكون فيما بينهم، فسمعها سعد بن معاذ رضي الله عنه، ففطن لها، وكان يعرف لغتهم، فقال لليهود: لئن سمعتُها من أحدكم يقولها لرسول صلى الله عليه وآله وسلم لأضربن عنقه، فقالوا: أولستم تقولونها؟ فأنزل الله تعالى: ﴿لَا تَقُولُوا رَاعِنَا﴾] اهـ.
ثانيًا: أنّ الشرع الشريف كما أقرّ الناس على ما تعارفوا عليه من أقوال، رفع عنهم المؤاخذة في كل ما لم تتعمده قلوبهم مِن ألفاظ أو أفعال يَحتَمِلُ ظاهرُها غيرَ ما قَصَدُوا؛ فقال تعالى: ﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾ [البقرة: 225].
وتواردت النصوص من المذاهب الفقهية على أن العبرة في مثل ذلك بالمقاصد والمعاني لا بالألفاظ والمباني، وأنَّه إذا تردَّد كلام الناس بين الصحة وغيرها؛ فإنه يُحمَل على المعنى الصحيح منه، فإذا تَبَيَّن القصد والنية وَجَبَ صرف المعنى إليهما؛ لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ» متفق عليه من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ قال الإمام مسلم: "يدخل في الغزو وغيره من الأعمال"، ومعروف أن الكلامَ عملُ اللسان.
قال العلامة السرخسي الحنفي في "المبسوط" (19 /178): [الصحة مقصود كلّ متكلم؛ فمهما أمكن حمل كلامه على وجه صحيحٍ يجب حمله عليه] اهـ.
وقال أيضًا (17/ 197): [مطلق كلام العاقل محمولٌ على الصحة ما أمكن؛ لأن عقله ودينه يدعو به إلى التكلم بما هو صحيح] اهـ.
وقال الإمام القرافي المالكي في "الذخيرة" (7/ 25، دار الغرب الإسلامي): [والألفاظ تحمل على العوائد] اهـ.
وقال الإمام الجويني الشافعي في "نهاية المطلب" (336، ط. دار المنهاج): [التواتر من أحكام العادات، ولا مجال لتفصيلات الظنون فيها؛ فليتخذ الناظرُ العادةَ محكمة] اهـ.
وقال الإمام ابن قدامة الحنبلي في "المغني" (8/ 371، ط. مكتبة القاهرة): [ما ورد به الشرع مطلقًا -أي: من النصوص والأقوال- إنما يحمل على العرف والعادة، فإذا أريد به ما يخالف العادة وجب بيانه وإيضاحه؛ لِئَلَّا يكون تلبيسًا في الشريعة وإيهامهم أن حكم الله خلاف ما هو حكمه على الحقيقة] اهـ.
وقال الشيخ ابن القيم الحنبلي في "إعلام الموقعين" (3/ 105، ط. دار الجيل): [إنّ الله تعالى وضع الألفاظَ بين عباده تعريفًا ودلالةً على ما في نفوسهم، فإذا أراد أحدهم من الآخر شيئًا عرَّفه بمراده وما في نفسه بلفظه، ورتَّب على تلك الإرادات والمقاصد أحكامها بواسطة الألفاظ، ولم يرتِّب تلك الأحكام على مجرد ما في النفوس من غير دلالةِ فعلٍ أو قول، ولا على مجرد ألفاظٍ مع العلم بأن المتكلم بها لم يُرِد معانيها ولم يُحِط بها علمًا؛ بل تجاوز للأمة عما حدثت به أنفسها ما لم تعمل به أو تكلم به، وتجاوز لها عمَّا تكلَّمت به مخطئةً أو ناسيةً أو مكرهةً أو غير عالمة به، إذا لم تكن مريدة لمعنى ما تكلمت به أو قاصدة اليه، فإذا اجتمع القصد والدلالة القولية أو الفعلية ترتب الحكم؛ هذه قاعدة الشريعة وهي من مقتضيات عدل الله وحكمته ورحمته] اهـ.
ثالثًا: تقرَّر في قواعد الشرع أنه "لا عبرة بالظنِّ البَيِّنِ خَطَؤُهُ"؛ قال العلامة الزركشي في "المنثور في القواعد الفقهية" (2/ 353، ط. وزارة الأوقاف الكويتية): [الظنُّ إذا كان كاذبًا فلا أثر له، ولا عبرة بالظن البَيِّنِ خَطَؤُهُ] اهـ.
والظن في هذا الادعاء -من نسبة النسيان إلى الله تعالى قصدًا من قائل عبارة "ربنا افتكره"- بَيِّنٌ خطؤُهُ بظاهر النصوص من القرآن الكريم والسنة النبوية:
- فأما القرآن الكريم: فقد كثرت الآيات التي إن حُمِلَت على حقيقتها اللغوية، فُهِمَ منها نسبة النقص إلى الله تعالى، حيث جاء لفظ النسيان في كثير من الآيات مضافًا إلى الذات الإلهية، ومع حفظ المسلمين للقرآن الكريم جيلًا عن جيل، لم يتبادر إلى ذهن أيٍّ منهم أن المقصود منه حقيقةُ النسيان في اللغة والتي هي ضعفٌ في الْـمَلَكَةِ العقلية عند استحضار المعاني والأشياء بعد حفظها، بل المتبادر إلى الذهن فورًا هو تَرْكُ الله تعالى بإرادته رحمةَ العاصينَ بسبب سَبْقِ نسيانهم ما أمرهم به سبحانه من قبل؛ وذلك في مثل قول الله تعالى: ﴿فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ﴾ [الأعراف: 51]، وقوله سبحانه: ﴿كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى﴾ [طه: 126]، وقوله عزَّ وجَلَّ: ﴿نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [التوبة: 67].
وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسيره لقوله تعالى: ﴿فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا﴾ أنه قال: "نَتْرُكُهُمْ مِنَ الرَّحْمَةَ، كَمَا تَرَكُوا أَنْ يَعْمَلُوا لِلِقَاءِ يَوْمِهِمْ هَذَا" ذكره الإمام الطبري في "تفسيره" (12/ 476، مؤسسة الرسالة).
وأما السنة النبوية المطهرة: فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «يُؤْتَى بِالعَبْدِ يَوْمَ القِيَامَةِ فَيَقُولُ اللهُ لَهُ: أَلَمْ أَجْعَلْ لَكَ سَمْعًا وَبَصَرًا وَمَالًا وَوَلَدًا، وَسَخَّرْتُ لَكَ الأَنْعَامَ وَالحَرْثَ، وَتَرَكْتُكَ تَرْأَسُ وَتَرْبَعُ؛ فَكُنْتَ تَظُنُّ أَنَّكَ مُلَاقِي يَوْمَكَ هَذَا؟ فَيَقُولُ: لَا، فَيَقُولُ لَهُ: اليَوْمَ أَنْسَاكَ كَمَا نَسِيتَنِي» أخرجه الترمذي في "سننه"، وأبو داود السجستاني في "البعث"، وابن خزيمة في "التوحيد"، وابن حبان في "الصحيح"، والبيهقي في "شعب الإيمان"، قال الإمام الترمذي: [هذا حديث صحيح غريب. ومعنى قوله: «الْيَوْمَ أَنْسَاكَ»: يقول: اليوم أَتْرُكُكَ في العذاب؛ هكذا فسروه] اهـ.
وقال الإمام ابن عرفة في "تفسيره" (2/ 101، ط. دار الكتب العلمية): [النسيان: بمعنى الترك] اهـ.
رابعًا: إنَّ تواردَ نصوص المفسرين على أن تفسير النسيان في حقه تعالى بمعنى "الترك"، يُصحِّح المراد من قول المصريين: "ربنا افتكره"؛ ليكون بمعنى: "رَحِمَهُ"؛ بدلالة قولهم: "افتكار ربنا رحمة"؛ وذلك بمفهوم المخالفة؛ فإذا كان نسيان الله تعالى هو الترك من رحمته، فإن افتكاره سبحانه بِتَوَفِّيهِ عبدَهُ هو عين رحمته، فكانت هذه المقولة من المصريين متضمنةً أيضًا -علاوة على الإخبار بوفاة شخصٍ ما- التعبيرَ عن رجائهم بلوغَ مُتَوَفَّاهُمْ واسِعَ رحمة الله تعالى بعد الموت، ومتضمنةً كذلك التعبير عن أن الوفاة في حد ذاتها، راحةٌ للمؤمن من عناء الدنيا وشقائها، وهذه المعاني وردت بها النصوص الشرعية؛ من نحو قول الله تعالى: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ﴾ [النساء: 175]، وقوله تعالى: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي﴾ [الفجر: 27-30]، وقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «لَيْسَ عَلَى أَهْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْشَةٌ فِي قُبُورِهِمْ، وَلَا مَنْشَرِهِمْ، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى أَهْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَهُمْ يَنْفُضُونَ التُّرَابَ عَنْ رُءُوسِهِمْ، وَيَقُولُونَ: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ﴾ [فاطر: 34]» أخرجه الطبراني في "المعجم الأوسط" و" الدعاء" من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، والبيهقي في "السنن الكبرى"، وأبو تمام في "فوائده" من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «إِذَا حُضِرَ الْمُؤْمِنُ أَتَتْهُ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ بِحَرِيرَةٍ بَيْضَاءَ، فَيَقُولُونَ: اخْرُجِي رَاضِيَةً مَرْضِيًّا عَنْكِ إِلَى رَوْحِ اللهِ، وَرَيْحَانٍ، وَرَبٍّ غَيْرِ غَضْبَانَ، فَتَخْرُجُ كَأَطْيَبِ رِيحِ مِسْكٍ حَتَّى إِنَّهُ لَيُنَاوِلُهُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا حَتَّى يَأْتُوا بِهِ بَابَ يَعْنِي السَّمَاءِ فَيَقُولُونَ: مَا أَطْيَبَ هَذِهِ الرِّيحَ الَّتِي جَاءَتْكُمْ مِنَ الْأَرْضِ، فَيَأْتُونَ بِهِ أَرْوَاحَ الْمُؤْمِنِينَ، فَلَهُمْ أَشَدُّ فَرَحًا بِهِ مِنْ أَحَدِكُمْ بِغَائِبِهِ يَقْدَمُ عَلَيْهِ فَيَسْأَلُونَهُ: مَا فَعَلَ فُلَانٌ؟ مَا فَعَلَ فُلَانٌ؟ فَيَقُولُونَ: دَعُوهُ فَإِنَّهُ كَانَ فِي غَمِّ الدُّنْيَا» أخرجه البزار في "المسند"، والنسائي في "السنن الكبرى".
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ» أخرجه مسلم في "صحيحه".
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: "إِنَّمَا مَثَلُ الْمُؤْمِنِ حِينَ تَخْرُجُ نَفْسُهُ كَمَثَلِ رَجُلٍ كَانَ فِي سِجْنٍ، فَخَرَجَ مِنْهُ، فَجَعَلَ يَتَقَلَّبُ فِي الْأَرْضِ وَيَتَفَسَّحُ فِيهَا" أخرجه أبو داود في "السنن"، وابن المبارك في "الزهد".
وثبت في الحديث الشريف أن رحمة الله بالخلائق في الدنيا هي جزءٌ واحدٌ من مائة جزءٍ يرحمهم بها في الآخرة؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «جَعَلَ اللهُ الرَّحْمَةَ مِائَةَ جُزْءٍ، فَأَمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ جُزْءًا، وَأَنْزَلَ فِي الأَرْضِ جُزْءًا وَاحِدًا؛ فَمِنْ ذَلِكَ الْجُزْءِ تَتَرَاحَمُ الْخَلَائِقُ، حَتَّى تَرْفَعَ الدَّابَّةُ حَافِرَهَا عَنْ وَلَدِهَا خَشْيَةَ أَنْ تُصِيبَهُ» متفق عليه.
قال الإمام ابن الملقن في "التوضيح لشرح الجامع الصحيح" (9/ 522، ط. دار النوادر): [وقد صحَّ أنّ الله تعالى خلق مائة رحمة، فأمسك عنده تسعًا وتسعين، وجعل في عباده رحمةً، فبها يتراحمون ويتعاطفون، وتحنّ الأم على ولدها، فإذا كان يوم القيامة جمع تلك الرحمة إلى التسعة والتسعين فأظل بها الخلق، حَتَّى إن إبليس -رأس الكفر- يطمع لما يرى من رحمة الله عز وجل] اهـ.
الخلاصة
بناءً على ذلك: فقد أقرَّ الشرعُ الشريفُ الناسَ على ما يستعملونه من ألفاظٍ يُعبِّرون بها عن معانٍ عُرفيةٍ، على غِرَارِ ما وضعت له هذه الألفاظ في اللغة العربية، بل يصلُ الأمرُ في مُعتَبَر الشريعة إلى أن الحقائق العرفية للألفاظ ناسخةٌ لحقائقها اللغوية عند التعارض بينها إذا تعارف قومٌ إطلاقَ لفظٍ لمعنًى بحيث لا يُتَبَادَرُ عند سماعه إلا ذاكَ المعنى دون حاجةٍ إلى قرينة تدل عليه.
وفي واقعة السؤال: فإن ما انتشر على ألسنة المصريين من قولهم عند سؤالهم عن شخصٍ قد توفاه الله تعالى ولم يعلم السائل بوفاته: "ربنا افتكره"؛ بحيث يتبادر إلى ذهن السامع على الفور دون حاجةٍ إلى قرينةٍ أو توضيحٍ أن المسئول عنه قد توفي وانتقل إلى رحمة الله تعالى؛ لا حرج فيه شرعًا، ولا يجوز إساءة الظن بحمل معناه على ما يدل عليه ظاهرُهُ اللغوي مِن نِسبة سَبْقِ النسيان إلى الله تعالى -حاشاه سبحانه وتقدَّس شانُهُ-، بل الواجب حملُهُ على المعنى العُرفي الحسن وهو الرحمة؛ وذلك بمفهوم المخالفة للنسيان؛ فإذا كان نسيان الله تعالى هو الترك من رحمته، فإن افتكاره سبحانه بِتَوَفِّيهِ عبدَهُ هو عين رحمته، وكانت هذه المقولة من المصريين متضمنةً أيضًا التعبيرَ عن رجائهم بلوغَ مُتَوَفَّاهُمْ واسِعَ رحمة الله بعد الموت، ومتضمنةً كذلك التعبيرَ عن أن الوفاة في حد ذاتها راحةٌ للمؤمن من عناء الدنيا وشقائها؛ وهذه كلها معانٍ جَلِيَّةٌ وَرَدَت بهـــا النصوص الشرعيَّة، فتأثَّرت بفحواها الشخصية المصرية التي اعتادت تحويل الأوامر الشرعية إلى قِيَمٍ حضارية، وممارسات سلوكية، فمارست العبادات قولًا وفعلًا، وعاشت الدين شرعًا وطبعـًا.
والله سبحانه وتعالى أعلم.
التفاصيل ....ما انتشر على ألسنة المصريين من قولهم: "ربنا افتكره"؛ كنايةً عمن توفاه الله وانتقل إلى رحمته تعالى لا حرج فيه شرعًا؛ لأنه صارَ لا يتبادر إلى الذهن عند سماعها إلا ذلك المعنى دون حاجةٍ إلى توضيحٍ أن المسئول عنه قد توفي وانتقل إلى رحمة الله تعالى، ولا يجوز إساءة الظن بحمل معناه على ما يدل عليه ظاهرُهُ اللغوي مِن نِسبة سَبْقِ النسيان إلى الله تعالى -حاشاه سبحانه وتقدَّس شانُهُ-، بل الواجب حملُهُ على المعنى العُرفي الحسن وهو انتقال مَن توفّاه الله تعالى إلى رحمته.