ما مدى صحة ما جاء عن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: حدثني عمر رضي الله عنه؛ أنَّه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «إذا فتح الله عليكم مصر بعدي فاتخذوا فيها جندًا كثيفًا؛ فذلك الجند خير أجناد الأرض». فقال له أبو بكر: ولم ذلك يا رسول الله؟ قال: «لأنهم في رباط إلى يوم القيامة».
صحة حديث «جند مصر خير أجناد الأرض»
هذا الحديث صحيح المعاني عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولا مطعن على مضامينه بوجهٍ من الوجوه، وقد وردت بأكثر ألفاظه خطبةُ عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه، وهي خطبة ثابتة مقبولة صحيحة بشواهدها، رواها أهل مصر وقبلوها، ولم يتسلط عليها بالإنكار أو التضعيف أحد يُنسَب إلى العلم في قديم الدهر أو حديثه، ولا عبرة بمن يردُّها أو يطعن فيها عن هوًى أو جهل.
التفاصيل ....مدار هذا الحديث على أن جند مصر هم خير أجناد الأرض؛ لأنهم في رباط إلى يوم القيامة، ويجمع هذه المعاني: ما ذكره سيدُنا عمرو بن العاص رضي الله عنه، وما أورده من أحاديث مرفوعة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في خُطبته الشهيرة التي خطب بها أهلَ مصر المحروسة على أعواد منبر مسجده العتيق بفسطاط مصر القديمة، وكان ذلك في أواخر فصل الشتاء، بعد أيام قليلة من (حميم النصارى) وهو خميس العهد عند المسيحيين؛ حيث كان يحض الناس في أواخر شهر مارس أو أوائل شهر أبريل على الخروج للربيع، وكان يخطب بذلك في كل سنة. وقد سمعها منه المصريون وحفظوها، وتداولوها جيلًا بعد جيلٍ، ودونوها في كتبهم ومصنفاتهم، وصدَّروا بها فضائل بلدهم، وذكروا رواتَها في تواريخِ المصريين ورجالِهم كابرًا عن كابرٍ، وأطبقوا على قبولها والاحتجاج بها في فضائل أهل مصر وجندها عبر القرون؛ لا ينكر ذلك منهم مُنكِرٌ، ولا يتسلط على القدح فيها أحدٌ يُنسَبُ إلى علمٍ بحديثٍ أو فقهٍ، بل عدُّوها من مآثر خُطَب سيدنا عمرو رضي الله عنه ونفيس حديثه، ولم يطعن فيها طاعن في قديم الدهر أو حديثه.
وقد أسند عمرو بن العاص رضي الله عنه، في هذه الخطبة، الحديثَ المرفوع في وصية النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأهل مصر خيرًا، عن عُمَر بن الخطاب رضي الله عنه: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، يقول: «إِنَّ اللهَ سَيَفْتَحُ عَلَيْكُمْ بَعْدِي مِصْرَ، فَاسْتَوْصُوا بِقِبْطِهَا خَيْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مِنْهُمْ صِهْرًا وَذِمَّةً».
وقد روى هذه الخطبةَ قاضي مصر الإمامُ الحافظ عبد الله بن لهيعة، ورواها عنه الإمامان الحافظان: أبو نُعيم إسحاق بن الفرات التُّجِيبيُّ، وأبو زكريا يحيى بن عبد الله بن بُكَير المخزومي.
فأخرجها مستوفاةً من طريق إسحاقَ بن الفرات عن ابن لهيعة: الإمامُ الحافظ أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم [ت257هـ] في "فتوح مصر والمغرب" (ص: 166-167، ط. مكتبة الثقافة الدينية) فقال: [حدثنا سعيد بن ميسرة، عن إسحاق بن الفرات، عن ابن لهيعة، عن الأسود بن مالك الحميرى، عن بحير بن ذاخر المعافري، قال: رحت أنا ووالدي إلى صلاة الجمعة تهجيرًا، وذلك آخر الشتاء، أظنه بعد حميم النَّصارى بأيام يسيرة، فأطلنا الركوع إذْ أقبل رجال بأيديهم السياط، يزجرون الناس، فذعرت، فقلت: يا أبت، من هؤلاء؟ قال: يا بنيَّ هؤلاء الشُّرَطُ. فأقام المؤذّنون الصلاة، فقام عمرو بن العاص رضي الله عنه على المنبر، فرأيت رجلًا ربعة قصد القامة وافر الهامة، أدعج أبلج، عليه ثياب مَوْشِيَّةٌ كأنَّ به العِقْيَان تأتلق عليه حلَّة وعمامة وجبَّة، فحمد الله وأثنى عليه حمدًا موجزًا وصلَّى على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ووعظ الناس، وأمرهم ونهاهم، فسمعته يحضُّ على الزكاة، وصلة الأرحام، ويأمر بالاقتصاد، وينهى عن الفضول وكثرة العيال. وقال في ذلك: يا معشر الناس، إيَّاي وخلالًا أربعًا، فإنها تدعو إلى النصب بعد الراحة، وإلى الضيق بعد السعة، وإلى المذلَّة بعد العزَّة؛ إيَّايَ وكثرةَ العيال، وإخفاضَ الحال، وتضييعَ المال، والقيلَ بعد القال، في غير درك ولا نوال، ثم إنه لا بدَّ من فراغ يئول إليه المرء في توديع جسمه، والتدبير لشأنه، وتخليته بين نفسه وبين شهواتها، ومن صار إلى ذلك فليأخذ بالقصد والنصيب الأقل، ولا يضيع المرء في فراغه نصيب العلم من نفسه فيحور من الخير عاطلًا، وعن حلال الله وحرامه غافلًا.
يا معشر الناس، إنه قد تدلت الجوزاء، وذَكَت الشِّعْرَى، وأقلعت السَّماء، وارتفع الوباء، وقلَّ الندى، وطاب المرعى، ووضعت الحوامل، ودرَّجت السخائل، وعلى الراعي بحسن رعيَّته حسن النظر، فحيَّ لكم على بركة الله إلى ريفكم؛ فنالوا من خيره ولبنه، وخرافه وصيده، وأربعوا خيلكم وأسمنوها وصونوها وأكرموها، فإنَّها جُنَّتكم من عدوكم، وبها مغانمكم وأثقالكم، واستوصوا بمن جاورتموه من القبط خيرًا، وإيَّاي والمشمومات والمعسولات، فإنهنَّ يفسدن الدِّين ويقصِّرن الهمم.
حدثني عمر أمير المؤمنين رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يقول: «إِنَّ اللهَ سَيَفْتَحُ عَلَيْكُمْ بَعْدِي مِصْرَ، فَاسْتَوْصُوا بِقِبْطِهَا خَيْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مِنْهُمْ صِهْرًا وَذِمَّةً»، فعفُّوا أيديكم وفروجكم، وغضُّوا أبصاركم، ولا أعلمنَّ ما أتى رجل قد أسمن جسمه، وأهزل فرسه، واعلموا أني معترض الخيل كاعتراض الرجال، فمن أهزل فرسه من غير علَّة حططتُّ من فريضته قدر ذلك، واعلموا أنكم في رباط إلى يوم القيامة، لكثرة الأعداء حوالكم وتشوُّق قلوبهم إليكم وإلى داركم، معدن الزرع والمال والخير الواسع والبركة النامية.
وحدثني عمر أمير المؤمنين رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يقول: «إِذَا فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ مِصْرَ، فَاتَّخِذُوا فِيهَا جُنْدًا كَثِيفًا؛ فَذَلِكَ الْجُنْدُ خَيْرُ أَجْنَادِ الْأَرْضِ» فقال له أبو بكر: ولم يا رسول الله؟ قال: «لِأَنَّهُمْ وَأَزْوَاجَهُمْ فِي رِبَاطٍ إِلَى يَوْمٍ الْقِيَامَةِ».
فاحمدوا الله معشر الناس على ما أولاكم، فتمتَّعوا في ريفكم ما طاب لكم؛ فإذا يبس العود، وسخن العمود، وكثر الذباب، وحمض اللبن، وصوَّح البقل، وانقطع الورد من الشجر، فحيَّ على فسطاطكم، على بركة الله، ولا يقدَمَنَّ أحد منكم ذو عيال على عياله إلا ومعه تحفة لعياله على ما أطاق من سعته أو عسرته، أقول قولي هذا وأستحفظ الله عليكم.
قال: فحفظت ذلك عنه، فقال والدي بعد انصرافنا إلى المنزل لمَّا حكيتُ له خطبته: إنه يا بنيَّ يحدو الناس إذا انصرفوا إليه على الرباط، كما حداهم على الريف والدَّعة] اهـ.
وأخرجها مستوفاةً أيضًا: حافظُ عصره الإمامُ أبو الحسن علي بن عمر الدارقطني [ت385هـ] في "المؤتلف والمختلف" (2/ 1003-1004، ط. دار الغرب الإسلامي).
وأخرجها مختصرةً: الإمام الحافظ أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة الطحاوي الأزدي الحنفي [ت321هـ] في "شرح مشكل الآثار" (8/ 228، ط. مؤسسة الرسالة).
وأخرجها مستوفاةً من طريق يحيى بن بُكَير عن ابن لهيعة: الإمامُ المؤرخ أبو محمد الحسن بن إبراهيم بن زولاق الليثي الفقيه [ت387هـ] في "فضائل مصر وأخبارها" (ص: 83، ط. مكتبة الخانجي).
وأخرجها الإمام الحافظ المؤرخ أبو سعيد عبد الرحمن بن أحمد بن يونس بن عبد الأعلى الصَّدَفي [ت347هـ] في "تاريخ مصر"؛ حيث عزا إليه العلامة المقريزي في "إمتاع الأسماع" (14/ 185، ط. دار الكتب العلمية) تخريج الحديث المرفوع في فضل جندها، وعزا إليه الحافظ السخاوي في "المقاصد الحسنة" (ص: 610، ط. دار الكتاب العربي) تخريج الحديث المرفوع في الوصية النبوية بأهلها.
وأخرجها مختصرةً: الإمام الحافظُ أبو القاسم بن عساكر في "تاريخ دمشق" (46/ 161).
ومدار إسناد هذه الخطبة على الإمام الكبير؛ قاضي مصر وعالمها، ومحدثها وفقيهها، العلامة أبي عبد الرحمن عبد الله بن لَهِيعة بن عقبة الحضرمي [ت174هـ]، وكان من أوعية العلم وبحوره، وهو مقدَّمُ أهل مصر في الحديث والفقه والفتوى مع الإمام الليث بن سعد [ت175هـ] رحمهما الله تعالى، وكانا في الحديث كفرسَيْ رِهانٍ، بل إن ابن لهيعة فاق الليث في كثرة من أدركهم من التابعين؛ فقد كان طَلَّابًا للحديث جمَّاعةً له، وهو صاحبُ حديث المصريين وأعلمُ الناس به، وقد وثَّقه أهل مصر وهم أدرى الناس به، وكان كبار المحدِّثين يتمنَّوْنَ الأخذَ عنه، وروَى عنه جماعةٌ من كبار الأئمة؛ كالإمام الأوزاعي، وسفيان الثوري، وأمير المؤمنين في الحديث شعبة بن الحجاج، وإمام دار الهجرة مالك بن أنس رضي الله عنه، والليث بن سعد، وعبد الله بن المبارك، وعمرو بن الحارث، وراوي "الموطأ" يحيى بن يحيى النيسابوري وغيرهم، ومنهم من لم يكن يروي إلا عن ثقة؛ كشعبة ومالك رحمهما الله تعالى، وروى عنه إمام أهل السنة الإمام أحمد بن حنبل بواسطةٍ، وروى له الشيخان البخاري ومسلم في "صحيحيهما" مقرونًا بغيره، ووثَّقه كثير من المحدِّثين، وضعَّفه بعضهم.
والذي عليه التحقيق: أن رواياته مقبولة وأن حديثه حسنٌ أو صحيحٌ، وأن الضعف في بعض رواياته إنما أتى مِن جهة مَن روى عنه لا مِن قِبَله هو، ولو ادُّعِيَ أن بعض المحدثين أطلق القول بتضعيفه فهذا معارَضٌ بتوثيق كبار الأئمة له وروايتهم عنه: فكان ابن لهيعة مشتغلًا بحديث المصريين وكل من ورد على مصر؛ حتى كان يقول: كانت لي خريطة أضع فيها القراطيس والدواة والحبر، وأدور على القبائل والمساجد؛ أسأل رجلًا رجلًا: ممن سمعتَ؟ ومَن لَقِيتَ؟ اهـ. أسنده المنتجالي في "تاريخه" عن قتيبة بن سعيد عن ابن لهيعة، ونقله الحافظ مغلطاي في "إكمال تهذيب الكمال" (8/ 148، ط. الفاروق الحديثة).
وقال رَوْحُ بن صلاح: لقي ابن لهيعة اثنين وسبعين تابعيًّا، ولقي الليث بن سعد اثني عشر تابعيًّا خرَّجه الحافظ ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (32/ 141).
وقيل لأحمد بن صالح: أيما أحب إليك: حديث ابن لهيعة الذي رواه الثقات، أو حديث يحيى بن أيوب؟ فقال: كان يحيى حافظًا وفي بعض أحاديثه شيء، وحديث ابن لهيعة أصح. فقيل له: فحديث الليث وابن لهيعة؟ فقال: ابن لهيعة رَاوِيةُ المصريين، وأي شيء عند الليث من حديث مصر؟ كان ابن لهيعة من الثقات، إذا لقن شيئًا يحدثه. اهـ. نقلًا عن "إكمال تهذيب الكمال" (8/ 144).
وعن قتيبة بن سعيد قال: حضرتُ موتَ ابنِ لهيعة فسمعت الليثَ يقول: ما خلَّف مثلَه، خرَّجه ابن حبان في "المجروحين" (2/ 12، ط. دار الوعي).
وروى الإمام النسائيُّ، عن الإمام أبي داود، عن الإمام أحمد بن حنبل قال: مَن كان بمصر يشبه ابنَ لهيعة في ضبط الحديث وكثرته وإتقانه! ما كان محدثُ مصرَ إلا ابنَ لَهِيعة. خرَّجه الحافظ ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (32/ 145)، وروى نحوَه أبو عُبيد الآجريُّ في "سؤالاته" عن الإمام أبي داود (2/ 175، ط. مؤسسة الريان)، وزاد: وحدَّث عنه أحمد بحديث كثير. اهـ.
وقال الحافظُ البيهقي -كما في "النفح الشذي" للحافظ العراقي (2/ 853، ط. دار العاصمة)-: [كان مالكٌ يُحَسِّنُ القولَ في ابن لهيعة] اهـ. وكذا قال الإمامُ السهيلي في "الروض الأنف" (2/ 286، ط. دار إحياء التراث العربي).
وقال الإمام البيهقي في "السنن الكبرى" (5/ 559، ط. دار الكتب العلمية): [ويقال: إن مالكًا سمع هذا الحديث من ابن لهيعة، عن عمرو بن شعيب. والحديث عن ابن لهيعة عن عمرو بن شعيب مشهور] اهـ.
والإمام ابن لهيعة قد وثَّقه المصريون وحمِدوا روايته، ودفعوا دعوى اختلاطه، وصرَّحوا بأن الضعف إنما هو ممن روى عنه لا منه؛ كابن وهب، ويحيى بن حسان، والنضر بن عبد الجبار، وعثمان بن صالح، وسعيد بن أبي مريم، وأحمد بن صالح، وهم من كبار محدِّثي مصر وثقاتهم.
وهؤلاء هم أهل بلده، وقد تقرر عند المحدثين والمؤرخين أن أهل بلد الراوي أعلمُ الناس به، قال حماد بن زيد: بلَدِيُّ الرجل أعرف بالرجل، أخرجه الخطيب في "الكفاية" (1/ 275، ط. دار ابن الجوزي).
فأخرج ابن عدي في "الكامل" (5/ 239) عن أبي الطاهر أحمد بن السَّرح قال: سَمعتُ ابن وهب (وهو الإمام عبد الله بن وهب [ت197هـ] تلميذ الإمام مالك) يقول، وسأله رجل عن حديث فحدثه به، فقال له الرجل: من حدثك بهذا يا أبا محمد؟ قال: حدثني به والله الصادق البار عبد الله بن لهيعة، زاد المزي في "تهذيب الكمال" (15/ 495، ط. مؤسسة الرسالة): [قال أبو الطاهر: وما سمعتُه يحلف بمثل هذا قط] اهـ.
وقال أبو الأسود النضر بن عبد الجبار [ت219هـ]: كنا نرى أنه لم يَفُتْهُ من حديث مصرَ كبيرُ شيء، أخرجه ابن عدي في "الكامل" (5/ 237).
وقال ابن معين في "تاريخه" -رواية ابن محرز- (1/ 101، ط. مجمع اللغة العربية): [قال أبو الأسود النضر بن عبد الجبار المصري وكان ثقة: ما اختلط ابن لهيعة قط حتى مات] اهـ.
وفي "تاريخ يحيى بن معين" (ص: 97، ط. دار المأمون) أنه سُئِل عن ابن لهيعة؛ فقيل له: [فهذا الذي يحكي الناسُ أنه احترقت كتبه؟ قال: ليس لهذا أصلٌ؛ سألت عنها بمصر] اهـ. وأخرج ابن عساكر (32/ 147) [عن أبي أمية، عن أبيه، قال: قال أبو زكريا: أنكر أهل مصر احتراق كتب ابن لهيعة، والسماع منه واحد القديم والحديث زاد الدورقي: إلى آخره] اهـ.
وقال الإمام ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (7/ 516، ط. دار صادر): [وأما أهل مصر فيذكرون أنه لم يختلط، ولم يزل أول أمره وآخره واحدًا] اهـ.
وأخرج ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (32/ 144) [عن خالد بن خِداش قال: قال لي ابن وهب، ورآني لا أكتب حديث ابن لهيعة: إني لست كغيري في ابن لهيعة فاكتبها] اهـ.
ومما يدل على صحة رواية ابن لهيعة وأن الضعف إنما هو من جهة الرواة عنه: ما أخرجه ابن عساكر (32/ 147) عن إبراهيم بن الجنيد قال: قال لي يحيى بن معين: قال لي أهل مصر: ما احترق لابن لهيعة كتاب قط، وما زال ابن وهب يكتب عنه حتى مات. اهـ.
وهذا يدل على استواء أمره طيلة حياته وأن المعوَّل في قبول روايته على صحة الرواية عنه؛ فإنه لا نزاع بين المحدِّثين في قبول رواية عبد الله بن وهب عن ابن لهيعة، وابن وهب لم يزل يكتب عن ابن لهيعة حتى مات، ولم يَرِدْ أنه ترك الرواية عنه في وقت من الأوقات، وهذا ما قرره الحافظ ابن عدي في "الكامل" (5/ 253)؛ حيث قال فيه: [حديثه حسن؛ كأنه يسْتَبان عمَّن روى عنه، وهو ممن يُكتب حديثُه] اهـ.
والتحقيق الذي عليه جماهير المحدِّثين ومحققوهم قديمًا وحديثًا: أن حديثه صحيح أو حسن إذا لم يكن الراوي عنه ضعيفًا. ولقد صحح جماعات من كبار المحدِّثين قديمًا وحديثًا أحاديث ابن لهيعة، وحسَّنوها؛ منهم: الإمام مالك رضي الله عنه، وتلميذه عبد الله بن وهب، وبَلَدِيُّوه المصريون، والإمام أحمد رضي الله عنه، والإمام الترمذي في "سننه"، والحافظ الدارقطني في "العلل"، و"السنن"، والحافظ أبو سعد الخركوشي في "شرف المصطفى"، وحسَّن له الحافظ الذهبي في "السير" من رواية غير العبادلة عنه، واحتج بحديثه في "التنقيح"، وقوَّى له الحافظ ابن كثير في "البداية والنهاية" أحاديث من غير طريق العبادلة عنه، وحسَّن حديثَه الحافظُ الهيثمي في "مجمع الزوائد" ونقل الاحتجاجَ به وتحسين حديثه عن جماعة من العلماء، والحافظ العيني في "عمدة القاري"، والحافظ السيوطي في "حسن المحاضرة"، والعلامة ابن حجر الهيتمي في "تحفة المحتاج"، وغيرهم كثير.
قال إمام أهل الحديث في عصره الحافظ أبو الحجاج المزي [ت742هـ]: [ابن لهيعة من الأئمة الحفاظ.. وإنما تكلم فيه من تكلم بسبب الرواة عنه؛ فمنهم من هو عدلٌ؛ كابن المبارك ونحوه، ومنهم من هو غير عدل، فإن كان الذي روى عنه عدل فهو جيدٌ، وإلا كان غير عدل فالبلاء ممن أخذه عنه] اهـ. نقلًا عن "النكت على مقدمة ابن الصلاح" للإمام الزركشي (3/ 600).
وخطبة عمرو بن العاص رضي الله عنه: يرويها الإمامُ عبد الله بن لهيعة، عن الأسود بن مالك الحِمْيَرِي، عن بَحِير بن ذاخر المَعَافِري، عن عمرو بن العاص رضي الله عنه. فأمَّا بَحِيرُ بنُ ذَاخِر: فهو التابعي الثقة الجليل أبو علي بَحِيرُ بنُ ذَاخِرِ بنِ عامِر المَعَافِرِيُّ الناشِريُّ المصريُّ، وهو من تابعي أهل مصر؛ كما يقول الإمام أبو حاتم الرازي في "الجرح والتعديل" (2/ 411)، وهو صاحب عمرو بن العاص رضي الله عنه؛ كما يصفه الحافظ ابن حجر في "تبصير المنتبه" (1/ 60، ط. المكتبة العلمية)، ومجالستُه لعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما ثابتةٌ في "فتوح مصر والمغرب" لابن عبد الحكم (ص: 166)، وسماعه منه ثابتٌ في كتاب "الطهور" لأبي عبيد القاسم بن سلام (ص: 300، ط. مكتبة الصحابة). وهو يروي عن جماعة من الصحابة؛ منهم: عمرو بن العاص وابنه عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، ومَسْلَمَةُ بنُ مُخَلَّدِ بنِ الصامتِ الأنصاريُّ الخزرجيُّ رضي الله عنه -وكان سيَّافًا له-، وعُقبةُ بن نافع القرشي رضي الله عنه -وفي صحبته خلاف-، ويروي أيضًا عن عبد العزيز بن مروان بن الحكم؛ كما في "تاريخ ابن يونس" (1/ 58، ط. دار الكتب العلمية)، وكان مِن حَرَسِ عبد العزيز بن مروان؛ كما في ترجمة بَحِيرٍ مِن "التاريخ الكبير" للإمام البخاري (2/ 138، ط. دائرة المعارف العثمانية).
وهذا يقتضي أن روايةَ عالمِ مصر وإمامِها وقاضيها وفقيهِها ومُحدِّثِها؛ عبدِ الله بن لهيعة، عن الأسود بن مالك الحميري، مما يرفع وصف الجهالة أو حكمَها عنه؛ فإن ابن لهيعة هو محدِّثُ مصر، الذي لا يشبهه أحد بها في ضبط الحديث وإتقانه؛ كما يقول الإمام أحمد بن حنبل، ورَاوِيَةُ المصريين؛ كما يقول أحمد بن صالح، وصاحب حديث أهل بلده؛ كما يقول علي بن المديني، والذي عنده الأصول؛ كما يقول سفيان الثوري، والذي ما خلَّف مثلَه؛ كما يقول الليث بن سعد، والصادق البار؛ كما أقسم بذلك عبد الله بن وهب. ومن كان بهذه المثابة فغير مُستَنكَرٍ في حقه ولا بمُسْتَكثَرٍ عليه أن ينفرد في فضائل أهل بلده بما لا يرويه غيره. كما أن الأسود بن مالك من أهل القرون المفضلة؛ فإنه من طبقة أتباع التابعين، والظن الحسن يسبق إليهم فهم أولى الناس به، ومظنة التوثيق فيهم غالبة، بل هي الأصل فيهم؛ لِمَا أخرجه البخاري ومسلم في "صحيحيهما" عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَجِيءُ مِنْ بَعْدِهِمْ قَوْمٌ تَسْبِقُ شَهَادَتُهُمْ أَيْمَانَهُمْ، وَأَيْمَانُهُمْ شَهَادَتَهُمْ».
وقد نص العلماء على أن المجهول من أهل القرون المفضلة جهالة مطلقةً يُستأنَس بروايته ويُستضاءُ بها، فكيف وقد ارتفعت الجهالة عن الأسود برواية ابن لهيعة عنه وقبول العلماء لروايته! قال الحافظ ابن كثير في "الباعث الحثيث" (ص: 97، ط. دار الكتب العلمية): [فأما المُبهَم الذي لم يُسَمَّ، أو مَن سُمِّيَ ولا تُعرَف عينُه: فهذا ممن لا يَقبَلُ روايتَه أحدٌ علمناه. ولكنه إذا كان في عصر التابعين والقرون المشهود لهم بالخير: فإنه يُستَأْنَس بروايته، ويُستَضاءُ بها في مواطن. وقد وقع في مسند الإمام أحمد وغيره من هذا القبيل كثيرٌ. والله أعلم] اهـ.
ونقله الحافظ السخاوي في "الغاية في شرح الهداية في علم الرواية" (ص: 126، ط. مكتبة أولاد الشيخ)، ثم قال عَقِيبَه: [وكذا قال شمس الأئمة من الحنفية، وقلنا المجهول من القرون الثلاثة عدل بتعديل صاحب الشرع إياه، ما لم يتبين منه ما يزيل عدالته فيكون خبره حجة. وهو محكي عن إمامه أبى حنيفة أنه قبله في عصر التابعين خاصة، لغلبة العدالة عليهم] اهـ.
فإذا أضيف إلى ذلك كون هذه الرواية في الفضائل والأخبار فإنها تكون في محل القبول، ولا وجه لردها؛ فإنه من المقرر أنه يُكتفى في أحاديث الفضائل بأقل شرائط القبول في الرواة ليكون الحديث مقبولًا حسنًا، وذلك باتفاق المحدثين؛ لأنه لا يترتب على الفضائل أحكام، فلا أقلَّ من العمل برواية من روى عنه واحد ولم يثبت فيه جرح ولا ما يُترَك حديثُه لأجله، وتلقى الأئمة روايته بالقبول، بل تكون روايته صحيحة؛ لتلقي الأئمة لها بالقبول، على أن الخلاف في قبول من هو أقل من ذلك ممن لم يروِ الأئمة روايته قد جرى فيه احتياطًا لأحكام الدين وأمور الشريعة، والأمر في الفضائل لا يستوجب هذا الاحتياط؛ لعدم ترتُّب الأحكام الشرعية عليها.
فنقل الحافظ السخاوي في "فتح المغيث" (1/ 350) عن الإمام ابن مهدي قولَه: [إذا روينا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحلال والحرام والأحكام شددنا في الأسانيد وانتقدنا في الرجال وإذا روينا في الفضائل والثواب والعقاب سهلنا في الأسانيد وتسامحنا في الرجال] اهـ. وقولَ الإمام أحمد بن حنبل: [الأحاديث الرقائق يحتمل أن يتساهل فيها حتى يجيء شيء فيه حكم] اهـ.
وقال الحافظ ابن عبد البر في "التمهيد" (6/ 39، ط. وزارة عموم الأوقاف والشئون الإسلامية): [وأحاديث الفضائل لا يحتاج فيها إلى ما يحتج به] اهـ.
وهذا الصنيع من المُحَدِّثين في سياقتهم لخطبة عمرو بن العاص رضي الله عنه وجزمهم بروايتها يبين أنهم لم يتعاملوا مع الأسود بن مالك الحميري تعاملهم مع المجهول الذي تُرَدُّ روايتُه، يقتضي أن تفرد الأسود بن مالك بروايتها لا يطعن في ثبوتها: من المقرر عند المحدِّثين أن الراوي إذا كان قليل الحديث كان من السهل عليه ضبط حديثه وإتقان حفظه، إلا أن الأسود بن مالك لم يكن ذا شهرة تجعله محط رحال المحدثين، فيشتهر بينهم وتنطلق ألسنتهم بمدحه والثناء عليه، أو ذمه والحط منه، لذا بقي هذا الراوي دائراً في فلك خاص به، فليس هو بالحافظ المشهور ولا بالضعيف المردود، فيكفي للحكم بتوثيقه أقلُّ مرجِّح لكونه ثقة، وفي كون هذا الراوي معروفًا بخطبة عمرو بن العاص رضي الله عنه، وروى عنه إمام عالم ثقة، ورواها عنه أهل بلده: ترجيحٌ لقبول الرواية. وهذه الخطبة قد قبلها أهل مصر من المحدثين وأصحاب التواريخ والتراجم، ورووها في كتبهم من غير نكير: فمنهم:
العلامة شمس الدين أبو عبد الله بن الزيات [ت814هـ] في "الكواكب السيارة في ترتيب الزيارة" (ص: 6، ط. المكتبة الأزهرية للتراث)، والعلامة المؤرخ تقي الدين المقريزي [ت845هـ] في "المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار" (1/ 46، ط. دار الكتب العلمية)، والإمام المؤرخ أبو المحاسن جمال الدين بن تغري بردي [ت874هـ] في "النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة" (1/ 29، ط. دار الكتب المصرية)، والإمام الحافظ السيوطي [ت911هـ] في "حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة" (1/ 14، 153، ط. دار إحياء الكتب العربية)، والإمام أبو البركات أحمد بن إياس الحنفي [ت930هـ] في "بدائع الزهور في وقائع الدهور" (1/ 6، ط. دار الباز)، والإمام العارف محمد بن أبي السرور البكري [ت1087هـ] في "الروضة المأنوسة في أخبار مصر المحروسة" (ص: 50، ط. مكتبة الثقافة الدينية)، وغيرهم.
وهذه الخطبة هي من عيون الخطب المروية عن سيدنا عمرو بن العاص رضي الله عنه وأحسنها وأنفسها؛ وقد وصفها الشيخ محمد رشيد رضا في مجلة "المنار" (المجلد السابع، ص: 52) بأنها خطبة نفيسة لسيدنا عمرو بن العاص رضي الله عنه وأنها من أحسن أقواله، ثم أكد ما يدل عليه مضمونُها من أفضلية جندها وديمومة رباطهم فقال عَقِيبَ إيرادها: [والوصية من النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعمرو رضي الله عنه بالمرابطة في مصر: تدل على أن هذه البلاد لا تُحفَظ مِن اعتداء الأجانب إلا بالقوة الجندية الدائمة؛ فإنها مقصودة من الفاتحين لخيرها وضعف أهلها] اهـ.
ومن الشواهد أيضًا ما أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير" (23/ 265 رقم 561، ط. مكتبة ابن تيمية) عن أم المؤمنين أم سلَمة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أوصى عند وفاته، فقال: «اللهَ اللهَ فِي قِبْطِ مِصْرَ، فَإِنَّكُمْ سَتَظْهَرُونَ عَلَيْهِمْ، وَيَكُونُونَ لَكُمْ عِدَّةً، وَأَعْوَانًا فِي سَبِيلِ اللهِ». قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (10/ 63، ط. مكتبة القدسي): [رجاله رجال الصحيح] اهـ.
وأخرج ابن هشام في "السيرة النبوية" (1/ 6، ط. شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي)، والزبير بن بكار في "المنتخب من كتاب أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم" (ص: 60، ط. مؤسسة الرسالة)، ومن طريق ابن هشام ابنُ عبد الحكم في "فتوح مصر والمغرب" (ص 22، مكتبة الثقافة الدينية) من طريق عبد الله بن وهب، عن ابن لهيعة، عن عمر مولى غُفْرة، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «اللهَ اللهَ فِي أَهْلِ الذِّمَّةِ، أَهْلِ الْمَدَرَةِ السَّوْدَاءِ، السُّحْمِ الْجِعَادِ؛ فَإِنَّ لَهُمْ نَسَبًا وَصِهْرًا»، وهو حديث حسن؛ فإن عمر مولى غُفْرة [المتوفى 145هـ] قال فيه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (5/ 426، ط. دار الكتب العلمية): [كان ثقة كثير الحديث ليس يكاد يسند. وهو يرسل أحاديثه. أو عامتها] اهـ. وأخرج ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" (6/ 119، ط. دار إحياء التراث العربي) عن أحمد بن حنبل: [ليس به بأس ولكن أكثر حديثه مراسيل] اهـ. وقال البخاري في "التاريخ الكبير" (6/ 169، ط. دائرة المعارف العثمانية): [قال عيسى بن يونس: أدرك ابن عباس، رضي الله عنهما] اهـ. وقال العجلي في "معرفة الثقات" (359 رقم 1238، ط. دار الباز): [مدني، ثقة، رجل صالح] اهـ. وقال الحافظ الذهبي في "الكاشف" (2/ 64، ط. دار القبلة للثقافة الإسلامية): [يقال أدرك ابن عباس، سمع أنسًا وابن المسيب] اهـ. روى له أبو داود، والترمذي.
وبناءً على ما سبق: فالحديث المذكور في السؤال صحيح المعاني عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا مطعن على مضامينه بوجه من الوجوه، وقد وردت بأكثر ألفاظه خطبةُ عمرو بن العاص رضي الله عنه، وهي خطبة ثابتة مقبولة صحيحة بشواهدها، رواها أهل مصر وقبلوها، ولم يتسلط عليها بالإنكار أو التضعيف أحد يُنسَب إلى العلم في قديم الدهر أو حديثه، ولا عبرة بمن يردُّها أو يطعن فيها هوًى أو جهلًا.
والله سبحانه وتعالى أعلم.