معجزة الإسراء والمعراج ورد الشبهات

معجزة الإسراء والمعراج ورد الشبهات

هل إسراء النبي الكريم صلى الله عليه وآله وسلم يُعَدُّ من المعجزات؟ وهل وقع بالروح والبدن معًا أو بالروح فقط؟ وهل المعراج من عقائد المسلمين القطعية؟

الإسراء هو: السير ليلًا بسيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم من المسجد الحرام بمكة إلى بيت المقدس بالشام.

والمِعْراجُ هو: عروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم من بيت المقدس الذي هو المسجد الأقصى إلى السماوات، إلى سدرة المنتهى، إلى مستوى سمع فيه صريف الأقلام.

فالإسراء والمعراج رحلتان قدسيتان من المعجزات الكبرى للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وهي من الحجج الدالة على صدق النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والتي يجب الاعتقاد بوقوعها.

ورحلة الإسراء والمعراج رحلة إلهية ومعجزة نبوية لا تقاس بمقاييس البشر المخلوقين وقوانينهم المحدودة بالزمان والمكان، بل تقاس على قدرة من أراد لها أن تكون وهو الخالق جل جلاله، فإذا اعتقدنا أن الله قادر مختار لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء؛ سهل علينا الإيمان بأنه لا يمتنع عليه أن يخلق ما شاء على أي كيفية.

والإسراء والمعراج قد ثبتا بالقرآن وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقد حدَّث بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسة وأربعون صحابيًا، فاستفاض استفاضة لا مطمع بعدها لمنكر أو متأول، وقد تواتر ذلك تواترًا عظيمًا؛ حتى لم يعد لمنكر مطمع ولا لمتأول مغمز.

وقد ذهب جمهور العلماء سلفًا وخلفًا على أن الإسراء والمعراج كانا في ليلة واحدة وأن الإسراء حدث بالروح والجسد معًا.

التفاصيل ....

المحتويات

 

تفضيل النبي الكريم عليه السلام برحلة الإسراء والمعراج

يَهِلُّ علينا شهر رجب من كل عام فيتذاكر المسلمون في شتى بقاع الأرض معجزة كبرى من معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهي "رحلة الإسراء والمعراج" التي كانت اختصاصًا وتكريمًا وتسلية من الله جل جلاله لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم، وبيانًا لشرفه ومكانته عند ربه، وقد أذن الله جل جلاله لهذه الرحلة أن تكون حتى يُطلع حبيبه صلى الله عليه وآله وسلم على الآيات الكبرى؛ كما ورد في قوله تعالى: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الإسراء: 1].

بيان مفهوم الإسراء

الإسراء في اللغة: من سرى وأسرى لغتان، جاء بهما القرآن الكريم؛ قال تعالى: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ﴾ [الإسراء: 1]، وقال: ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ﴾ [الفجر: 4]. [فنزل القرآن العزيز باللغتين. وقال أبو عبيد عن أصحابه: سريت بالليل وأسريت، فجاء باللغتين] اهـ. انظر: "لسان العرب" لابن منظور (14/ 382، ط. دار صادر)، والسُّرَى، كالهُدَى: سَيْرُ عامَّةِ اللَّيْلِ، و﴿أَسْرَى بِعَبْدِهِ﴾: تأكيدٌ، أو معناهُ: سَيَّرَهُ. انظر: "لسان العرب" لابن منظور (14/ 382، ط. دار صادر)، و"القاموس المحيط" للفيروزآبادي (1/ 1294، ط. مؤسسة الرسالة).

والمقصودُ: هو الإسراء بسيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم من المسجد الحرام بمكة إلى بيت المقدس بالشام.

وقوع رحلة الإسراء ليلًا

لما كان الإسراء لا يكون إلا بالليل فهم العلماء من قوله تعالى: ﴿لَيْلًا﴾ أنها تفيد التأكيد أو التبعيض؛ فيقول الإمام الرازي في "تفسيره" (20/ 292، ط. دار إحياء التراث العربي): [أراد بقوله: ﴿لَيْلًا﴾ بلفظ التنكير تقليل مدة الإسراء وأنه أسرى به في بعض الليل من مكة إلى الشام مسيرة أربعين ليلة، وذلك أنَّ التنكير فيه قد دلَّ على معنى البعضية] اهـ.

وقال الطاهر بن عاشور في "التحرير والتنوير" (15/ 11، ط. الدار التونسية للنشر): [وإذ قد كان السُّرَى خاصًّا بسير الليل كان قوله: ﴿لَيْلًا﴾ إشارة إلى أن السير به إلى المسجد الأقصى كان في جزء ليلة، وإلا لم يكن ذكره إلا تأكيدًا، على أنَّ الإفادة كما يقولون خيرٌ من الإعادة. وفي ذلك إيماءٌ إلى أنه إسراءٌ خارقٌ للعادة؛ لقطع المسافة التي بين مبدأ السير ونهايته في بعض ليلة، وأيضًا ليتوسل بذكر الليل إلى تنكيره المفيد للتعظيم] اهـ.

بيان مفهوم المعراج

أما المِعْراجُ والمِعْرَجُ: السُّلَّمُ والمَصْعَدُ، من عرج عُروجًا ومَعْرَجًا: ارتقى، وفي التنزيل: ﴿تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ﴾ [المعارج: 4]؛ أي: تصعد. انظر: "لسان العرب" لابن منظور (2/ 321-322)، "القاموس المحيط" للفيروزآبادي (1/ 198).

والمقصود: هو عروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم من بيت المقدس الذي هو المسجد الأقصى إلى السماوات، إلى سدرة المنتهى، إلى مستوى سمع فيه صريف الأقلام.

الإسراء والمعراج من المعجزات الكبرى للنبي عليه السلام

الإسراء والمعراج رحلتان قدسيتان الأولى: من المسجد الحرام بمكة إلى المسجد الأقصى بالقدس، والثانية: من المسجد الأقصى عروجًا إلى سدرة المنتهى.

والإسراء والمعراج من المعجزات الكبرى للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، والمعجزة: أمرٌ خارقٌ للعادة مقرون بالتحدي الذي هو دعوى الرسالة أو النبوة مع عدم المعارضة، فهي الحجة الدالة على صدق النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

والمعجزة: في دلالتها على صدق النبي قائمة مقام قول الله سبحانه فيما لو أسمعنا كلامه: «صَدَقَ عَبْدِي فِيمَا يُبَلِّغُ عَنِّي».

والمعجزات ليست من المستحيلات العقلية بل هي من قبيل خرق العادة؛ يقول الدكتور محمد محمد أبو شهبة في كتابه "الإسراء والمعراج" (ص: 13): [إن مخالفة السنن الكونية المعروفة مما لم يقم دليل استحالته -وإن كانت مخالفة للعادة- داخلة في نطاق الممكنات العقلية، وإذا كان الله سبحانه ربط الأسباب بالمسببات، وأوجد الكائنات بناموس قد يصل علمنا إلى معرفته، فليس من المحال عليه سبحانه أن يضع نواميس خاصة بخوارق العادات يعرفها هو سبحانه غير أننا لا نعرفها ولكننا نرى أثرها على يد من اختصه الله بفضل منه ورحمة] اهـ.

فرحلة الإسراء والمعراج رحلة إلهية ومعجزة نبوية لا تقاس بمقاييس البشر المخلوقين وقوانينهم المحدودة بالزمان والمكان، بل تقاس على قدرة من أراد لها أن تكون وهو الخالق جل جلاله، فإذا اعتقدنا أن الله قادرٌ مختارٌ لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء؛ سهل علينا الإيمان بأنه لا يمتنع عليه أن يخلق ما شاء على أي كيفية.

المختار في وقت وقوع معجزة الإسراء والمعراج

قد وقعت رحلة الإسراء والمعراج -على المشهور من أقوال العلماء- في شهر رجبٍ، فقد اختلفت الأقوال في تحديد زمن هذه الرحلة، ولكن تعيينه بالسابع والعشرين من شهر رجب: حكاه كثيرٌ من الأئمة واختاره جماعةٌ من المحققين، وهو ما جرى عليه عمل المسلمين قديمًا وحديثًا؛ قال العلَّامة الزُّرقاني في "شرح المواهب اللدنية" (2/ 71، ط. دار الكتب العلمية) عند قول صاحب "المواهب": [وقيل: كان ليلة السابع والعشرين من رجب) وعليه عمل الناس، قال بعضهم: وهو الأقوى؛ فإنَّ المسألة إذا كان فيها خلاف للسلف، ولم يقم دليل على الترجيح، واقترن العمل بأحد القولين أو الأقوال، وتُلُقِّيَ بالقبول: فإن ذلك مما يُغَلِّبُ على الظنِّ كونَه راجحًا؛ ولذا اختاره الحافظ عبد الغني بن عبد الواحد بن علي بن سرور المقدسي الحنبلي الإمام أوحد زمانه في الحديث والحفظ، الزاهد العابد] اهـ.

الأدلة على إثبات حدوث رحلة الإسراء والمعراج

الإسراء والمعراج قد ثبتا بالقرآن وحديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ فقد حدَّث بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خمسة وأربعون صحابيًا، فاستفاض استفاضة لا مطمع بعدها لمنكر أو متأول، وقد تواتر ذلك تواترًا عظيمًا؛ قال ابن إسحاق: [كان من الحديث فيما بلغني عن مسراه صلى الله عليه وآله وسلم، عن عبد الله بن مسعـود، وأبي سعيد الخدري، وعائشة زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ومعاوية بن أبي سفيان، والحسن بن أبي الحسن (البصري)، وابن شهاب الزهري، وقتادة وغيرهم من أهل العلم، وأم هانئ بنت أبي طالب، ما اجتمع في هذا الحديث، كل يحدث عنه بعض ما ذكر من أمره حين أسري به صلى الله عليه وآله وسلم، وكان في مسراه، وما ذكر عنه بلاء وتمحيص، وأمر من أمر الله -عز وجل- في قدرته وسلطانه، فيه عبرة لأولي الألباب، وهدى ورحمة وثبات لمن آمن وصدق، وكان من أمر الله سبحانه وتعالى على يقين، فأسرى به سبحانه وتعالى كيف شاء؛ ليريه من آياته ما أراد، حتى عاين ما عاين من أمره وسلطانه العظيم، وقدرته التي يصنع بها ما يريد] اهـ. "السيرة النبوية" لابن هشام (1/ 396-397، ط. مصطفى الحلبي).

الدليل من القرآن على إثبات حدوث رحلة الإسراء والمعراج

أما دليل الثبوت من القرآن: فقوله تعالى: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الإسراء: 1].

وقوله جل جلاله: ﴿وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى ۝ مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى ۝ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى ۝ إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ۝ عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ۝ ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى ۝ وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى ۝ ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى ۝ فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى ۝ فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى ۝ مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى ۝ أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى ۝ وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى ۝ عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى ۝ عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى ۝ إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى ۝ مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى ۝ لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى﴾ [النجم: 1-18].

وقد روي عن ابن مسعود والسيدة عائشة رضي الله عنهما أن المرئي هو جبريل عليه السلام رآه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مرتين على هيئته وخلقته التي خلقه الله عليها، الأولى وهو نازل من غار حراء، والثانية ليلة المعراج؛ قال ابن كثير في "تفسيره" (7/ 444، ط. دار طيبة): [عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم ير جبريل في صورته إلا مرتين، أما واحدة فإنه سأله أن يراه في صورته فسد الأفق. وأما الثانية فإنه كان معه حيث صعد، فذلك قوله: ﴿وهو بالأفق الأعلى﴾] اهـ.

يقول الشيخ عبد الله المراغي في كتابه "أفضل منهاج في إثبات الإسراء والمعراج" (ص: 45، ط. مطبعة السنة المحمدية): [استدل القائلون بأن المعراج ثابت بالقرآن الكريم، بآيات النجم معيدين بعض ضمائرها إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم حال عروجه...كما استدلوا أيضًا بهذه الآية من سورة الانشقاق ﴿لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ﴾ [الانشقاق: 19]. وهي أيضًا مكية، وجاءت أفعالها بصيغة المضارعة، مبدوءة بلام القسم، فهي تفيد البشرى بالمعراج قبل حصوله. ولكنها بشرى من الله الذي لا يخلف وعده، ولا تبديل لكلماته، فمدلولها واقع لا محالة، وقرئ ﴿لَتَرْكَبَنَّ﴾ بفتح الباء، أي لتَعْلَونَّ يا محمد سماء بعد سماء.

ومن القائلين بهذا ابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهما، والطبق يجمع على طِباق، وقد خلق الله السماوات سبعًا طباقًا، بعضها فوق بعض، وركوبها الصعود عليها، والعروج فيها] اهـ.

الدليل من السنة النبوية على إثبات حدوث رحلة الإسراء والمعراج

المعراج ثابت أيضًا بالأحاديث الصحيحة التي رواها الثقات وتواترت وتلقتها الأمة بالقبول وقد نص غير واحد من العلماء على تواترها. انظر: "نظم المتناثر" للكتاني (ص: 209، ط. دار الكتب السلفية).

وقد حفظت كتب الحديث والسيرة النبوية الكثير من دقائق هاتين الرحلتين، بل قد استوعبت استيعابًا تامًا ما جرى فيهما، فلم تترك شاردة أو واردة.

فمن هذه الأحاديث الشريفة: ما رواه البخاري ومسلم في "الصحيحين" من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "كان أبو ذر يُحَدِّثُ أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «فُرِجَ عَنْ سَقْفِ بَيْتِي وَأَنَا بِمَكَّةَ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ عليه السلام، فَفَرَجَ صَدْرِي، ثُمَّ غَسَلَهُ بِمَاءِ زَمْزَمَ، ثُمَّ جَاءَ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مُمْتَلِئٍ حِكْمَةً وَإِيمَانًا، فَأَفْرَغَهُ فِي صَدْرِي، ثُمَّ أَطْبَقَهُ، ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي، فَعَرَجَ بي إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَلَمَّا جِئْتُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، قَالَ جِبْرِيلُ: لِخَازِنِ السَّمَاءِ افْتَحْ، قَالَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ هَذَا جِبْرِيلُ، قَالَ هَلْ مَعَكَ أَحَدٌ؟ قَالَ: نَعَمْ مَعِي مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وآله وسلم...إلى آخر الحديث».

قال الدارقطني: [يشبه أن تكون الأقاويل كلها صحاحًا؛ لأن رواتها ثقات. قال: ويشبه أن يكون أنس سمعه من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ واستثبته من أبي ذر ومالك بن صعصعة. وقال أبو حاتم الرازي: أرجو أن يكون قول الزهري وقتادة عن أنس صحيحين. وقال مرة: "قول الزهري أصح، قال: ولا أعدل به أحدًا] اهـ. انظر "فتح الباري" لابن رجب (2/ 311-312، ط. مكتبة الغرباء الأثرية).

وما رواه مسلم في "صحيحه" من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أُتِيتُ بِالْبُرَاقِ، وَهُوَ دَابَّةٌ أَبْيَضُ طَوِيلٌ فَوْقَ الْحِمَار،ِ وَدُونَ الْبَغْلِ، يَضَعُ حَافِرَهُ عِنْدَ مُنْتَهَى طَرْفِهِ. قال: فَرَكِبْتُهُ حَتَّى أَتَيْتُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، قال: فَرَبَطْتُهُ بِالْحَلْقَةِ الَّتِى يَرْبِطُ بِهِ الأَنْبِيَاءُ. قَالَ: ثُمَّ دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَصَلَّيْتُ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ خَرَجْتُ فَجَاءَنِى جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ بِإِنَاءٍ مِنْ خَمْرٍ وَإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ فَاخْتَرْتُ اللَّبَنَ، فَقَالَ جِبْرِيلُ صلى الله عليه وسلم: اخْتَرْتَ الْفِطْرَةَ، ثُمَّ عَرَجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ، فَقِيلَ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: جِبْرِيلُ. قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ. قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ. فَفُتِحَ لَنَا، فَإِذَا أَنَا بِآدَمَ فَرَحَّبَ بِى وَدَعَا لِى بِخَيْرٍ، ثُمَّ عَرَجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ. فَقِيلَ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: جِبْرِيلُ. قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ. قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ فَفُتِحَ لَنَا... إلى آخر الحديث الشريف». فهذا طرفًا من الأحاديث التي أخرجها الشيخان في "صحيحيهما".

الإسراء والمعراج وقع بالجسد والروح يقظة لا منامًا

قد ذهب جمهور العلماء سلفًا وخلفًا على أن الإسراء والمعراج كانا في ليلة واحدة وأن الإسراء حدث بالروح والجسد؛ لأن القرآن صرَّح به؛ لقوله تعالى: ﴿بِعَبْدِهِ﴾ والعبد لا يطلق إلا على الروح والجسد، وكذا قوله تعالى: ﴿لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا﴾، فالبصر من آلات الذات لا الروح.

ومما يدل على أن الرحلة كاملة كانت بالروح والجسد معًا: أنها لو كانت بالروح فقط لما كان لتكذيب قريش بها معنى؛ وقد قالوا: "كنا نضرب أكباد الإبل إلى بيت المقدس، شهرًا ذهابًا وشهرًا إيابًا، ومحمد يزعم أنه أسرى به الليلة وأصبح فينا"، ولو كان ذلك رؤيا منام لم يستبعدوه ولم يكن لردهم عليه معنى؛ لأن الإنسان قد يرى في منامه ما هو أشد من ذلك ولا يكذبه أحد.

قال الإمام القرطبي في "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" (1/ 384-385، ط. دار ابن كثير، ودار الكلم الطيب): [الذي عليه معظم السلف والخلف أنه أسري بجسده، وحقيقته في اليقظة إلى آخر ما انطوى عليه الإسراء، وعليه: يدل ظاهر الكتاب وصحيح الأخبار، ومبادرة قريش لإنكار ذلك وتكذيبه. ولو كان منامًا، لما أنكروه، ولما افتتن به من افتتن؛ إذ كثيرًا ما يرى في المنام أمور عجيبة وأحوال هائلة، فلا يستبعد ذلك في النوم، وإنما يستبعد في اليقظة] اهـ.

فالظاهر من سياق النصوص أنه كان يقظة، ولا يعدل عن الظاهر إلا بدليل؛ ولأنه لو كان منامًا ما كان فيه عجب ولا غرابة، ولا كان فيه مجال للتكذيب به، ولا افتتن به أناس من ضعفاء الإيمان، فارتدوا على أعقابهم كافرين.

الرد على من زعم بأن رحلة الإسراء والمعراج رؤيا منامية

أما ما يستند إليه القائلون بأنها رؤيا منامية من قول الله تعالى: ﴿وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ﴾ [الإسراء: 61]، وأن "الرؤيا" تكون للمنامية، بينما "الرؤية" للبصرية: فمردود بأن ذلك غير لازم في لسان العرب.

يقول المتنبي:

مَضى الليلُ والفضلُ الذي لكَ لا يمضي...ورؤياكَ أحلى في العَيونِ من الغُمض

وبما رواه البخاري في "صحيحه" عن ابن عباس في تفسير الآية -وهو من أئمة اللسان العربي وحجة فيه- قال: "هي رؤية عين أريها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به".

وزاد سعيد بن منصور في روايته قوله: "وليس رؤيا منام" أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير"، فكلام ابن عباس حجة لغوية قاطعة، ثم هو مظنة حجة نقلية؛ إذ كان ابن عباس من أعلم الناس بأحواله صلى الله عليه وآله وسلم وشؤونه، على أن بعض المفسرين صرف الآية عن حادثة الإسراء إلى ما في سورة الفتح من قوله تعالى: ﴿لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا﴾ [الفتح: 27].

بيان صحة ما نسب إلى السيدة عائشة رضي الله عنها في تلك الرحلة

أما ما أخرجه ابن إسحاق عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "ما فقدت جسدَ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في تلك الليلة". انظر: "الدر المنثور"، للسيوطي (5/ 227، ط. دار الفكر، بيروت) فهو أثر باطل لا يثبت؛ يقول الإمام جمال الدين القرطبي في كتابه "الأجوبة عن المسائل المستغربة من كتاب البخاري" (ص: 157، ط. وقف السلام الخيري): [وقد قال بعضهم عنها: "ما فَقَدتُّ جسدَ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في تلك الليلة"، وهذا من الكذب الواضح؛ لأنّ عائشة لم تكن وقت الإسراء معه، وإنّما ضمّها بعد ذلك بسنين كثيرة بالمدينة، ولو كانت رؤيا ما كان في ذلك شيء يقدح في الديانة ولا في الشريعة؛ لأنّ رؤيا الأنبياء عليهم السلام وحي صحيح] اهـ.

الدليل من القرآن على إثبات اليقظة للنبي عليه السلام في حادثة المعراج

أما حادثة المعراج: فالدليل القرآني على كونها كانت بالروح والجسد معًا قوله تعالى: ﴿مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى﴾ [النجم: 11]، وقوله: ﴿مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى﴾ [النجم: 17].

ويقول الإمام الطحاوي: [والمعراج حق وقد أسري بالنبي عليه السلام وعرج بشخصه في اليقظة إلى السماء ثم إلى حيث شاء الله تعالى من العلا، وأكرمه الله بما شاء، وأوحى إليه بما أوحى، ما كذب الفؤاد ما رأى، فصلى الله عليه في الآخرة والأولى] اهـ. "العقيدة الطحاوية بشرح البابرتي" (ص: 79، ط. وزارة الأوقاف الكويتية).

ملخص ما وقع من أحداث في ليلة الإسراء والمعراج

أما أحداث الرحلة فتتلخص في أنه صلى الله عليه وآله وسلم سار ليلًا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ىراكبًا البراق، وهو دابة يضع قدمه عند منتهى بصره، وقد كان معه صلى الله عليه وآله وسلم سيدنا جبريل عليه السلام، أو كان معهما ميكائيل عليهم السلام، فأخذ سمت الطريق إلى المدينة، ثم إلى مدين، ثم إلى طور سيناء؛ حيث كلم الله موسى عليه السلام، ثم إلى بيت لحم؛ حيث ولد عيسى عليه السلام، ثم انتهى إلى بيت المقدس، وقد جاء في روايات ضعيفة أنه نزل في كل موضع من هذه المواضع وصلى بإرشاد جبريل عليه السلام. وقد أطلعه الله تعالى أثناء ذلك المسير على أعاجيب شتى من الحكم والحقائق التي ينتهي إليها ما يجري في عالم الظاهر من شؤون الخلق وأحوال العباد.

وكان صلى الله عليه وآله وسلم يسأل جبريل عليه السلام عن مغازيها فيجيبه عنها، ولما انتهى به السير إلى بيت المقدس دخله، فجمع الله له حفلًا عظيمًا من عالم القدس من الأنبياء والمرسلين والملائكة، وأقيمت الصلاة فصلى بهم إمامًا، وفي قول أن صلاته بهم كانت بعد رجوعه من السماء.

أما ما يخص المعراج: فيتلخص في أنه صلى الله عليه وآله وسلم قد صعد إلى السماوات السبع واخترقها واحدة فواحدة، حتى بلغ السابعة، وفي كل واحدة يلتقي واحدًا أو اثنين من أعلام الأنبياء، فلقي في الأولي سيدنا آدم عليه السلام، وفي الثانية سيدنا يحىي وعيسى عليهما السلام، وفي الثالثة سيدنا يوسف عليه السلام، وفي الرابعة سيدنا إدريس عليه السلام، وفي الخامسة سيدنا هارون عليه السلام، وفي السادسة سيدنا موسى عليه السلام، وفي السابعة سيدنا إبراهيم عليه السلام؛، حتى انتهى إلى سدرة المنتهى، ثم إلى ما فوقها إلى مستوى سمع فيه صريف الأقلام تجري في ألواح الملائكة بمقادير الخلائق التي وُكِّلُوا بإنفاذها من شئون الخلائق يَسْتَمْلُونَها من وحي الله تعالى، أو يستنسخونها من اللوح المحفوظ الذي هو نسخة العالم، وبرنامج الوجود الذي قدره الله سبحانه وتعالى. ثم كلمه الله في فريضة الصلاة، وكانت في أول الأمر خمسين، فأشار عليه موسى عليه السلام بمراجعة ربه وسؤاله التخفيف، فما زال يتردد بينهما ويحط الله عنه منها حتى بلغت خمسًا، فأمضى أمر ربه ورضي وسلم.

الرد على ما أثير حول رحلة الإسراء والمعراج من شبهات

حادثة الإسراء والمعراج لعظمتها وغرابتها وكونها من عجائب الآيات كانت فتنة واختبارًا لإيمان العباد، فمنهم من ثبت وصدَّق وآمن، ومنهم من أنكر وعاند.

ومما أورد على هذه المعجزة من شبهات المشككين:

الرد على شبهة الاكتفاء بالقرآن وترك السنة

ادعاؤهم الاكتفاء بالقرآن وحده آية دالة على صدق النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأننا في غنية عن النظر في غيره من الآيات، ولا سيما والكثير منها لم يثبت إلا بالطرق الآحادية التي لا تفيد القطع.

فنقول: أما ما يتعلق بالأخبار وتواترها من عدمه فليس كل مسألة من مسائل العلم والمعرفة متواترة وإلا لما سلم لنا من المعارف إلا القليل، بل إننا لو طبقنا هذه القاعدة على علم من العلوم التي مدارها على النقل؛ كالتاريخ والأخبار والآداب لما سلم لنا منها إلا أقل القليل.

وما بذله المسلمون في شأن توثيق الأخبار بالسند لم يوجد عن غيرهم من الأمم، فشروط صحة الرواية -من اتصال الإسناد، ونقل العدول الضابطين عن مثلهم إلى آخر السند، والحفظ، واليقظة، وعدم الغفلة، ونفي الشذوذ، ونفي العلة- ضمانات كافية؛ لترجح الصدق والصواب ترجيحًا قويًّا على الكذب والخطأ، وترجح الحفظ والضبط على جانب الغفلة والسهو.

ثم إن كان استبعاد هؤلاء المنكرين من جهة تحكيم العقل فقد فاتتهم الحكمة، إذ إن عبادة العقل هي الإيمان بالغيب، والغيب قد يكون مشتملًا على أمور كثيرة مخالفة للعادة لكنها داخل دائرة الإمكان العقلي، فالعقل لا يتسلط على الغيبيات بإنكارها عند أهل الإيمان؛ قال تعالى: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ۝ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ۝وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ۝ أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [البقرة: 2-5].

الرد على دعوى أن القرآن لم يذكر المعراج كما ذكر الإسراء

من الشبهات أيضًا: دعواهم أن القرآن لم يذكر حادثة المعراج كما ذكر رحلة الإسراء في فاتحة السورة.

فنقول: إن الإسراء عنوان على هذه الحادثة من بدايتها إلى نهايتها، والمعراج تتمة لها، غاية الأمر أن في الآية إجمالًا فصلته الأحاديث النبوية.

ومتى ذكرت إحدى الرحلتين منفردة دلت على الأخرى؛ لارتباطهما وشهرة ذكرهما معًا؛ يقول الإمام البيجوري في "حاشيته على جوهرة التوحيد" (ص: 233، ط. دار السلام) عند شرحه لقول الناظم: "واجزم بمعراج النبي كما رووا": [وكان على الناظم التعرض للإسراء أيضًا، لكن استغنى عن ذكره بذكر المعراج؛ لشهرة إطلاق أحد الاسمين -أعنى الإسراء والمعراج- على ما يعم مدلوليهما، وهو سَيْرُه صلى الله عليه وآله وسلم ليلًا إلى أمكنة مخصوصة على وجهٍ خارق للعادة، فهذا أمر كلي يشمل مدلوليهما] اهـ.

وعلى هذا: إذا انفرد الإسراء بالذكر كما في محكم التنزيل في فواتح سورة الإسراء، أو انفرد المعراج بالذكر كما في بيت الناظم هنا فإنه يدل على الأمرين معًا، فالرحلة المشتملة عليهما معنونة بالإسراء، ومن هذا أيضًا قول الإمام أبي الحسن الأشعري في الإجماع الثاني والأربعين من "رسالته إلى أهل الثغر" (ص: 291، ط. مكتبة العلوم والحكم): [وعلى أن الإيمان بما جاء من خبر الإسراء بالنبي إلى السماوات واجب] اهـ.

حيث عبر بالإسراء وعقبه بقوله إلى السماوات، ولم يكن الإسراء إلى السماء، بل كان المعراج؛ فدل على شمول لفظة الإسراء لكل من الرحلتين الأرضية والسماوية.

وكذا بوب الإمام البخاري في "صحيحه" لحديث المعراج بقوله: "باب كيف فرضت الصلاة في الإسراء"، مع أنها فرضت في المعراج وليس الإسراء، فدل على أن استعمال اللفظ على هذا النحو مشهور عند أهل العلم؛ كما هو الشأن في الإسلام والإيمان.

الرد على دعوى أن سماع النبي عليه السلام صريف الأقلام يعنى أنها مادة وجسم

من الشبهات: ادعاؤهم أن سماع النبي صلى لله عليه وآله وسلم صريف الأقلام يعني أنها مادة وجسم.

والجواب: إن معنى كونه سمع صريف الأقلام: أن الإدراك والحس الروحاني إذا تعلق بالعوالم الروحانية وشؤونها أدرك منها مثل ما يدرك منها في الحس المادي في عالمه.

ومثال ذلك: أن الكلام والتخاطب باللغات لا يُعهَد إلا أنه أصوات هوائية تنبعث من قرع المخارج الحرفية للهواء في الفم، ومنها: الشفة واللسان، في حين أن النائم يتكلم ويجادل في روآه المنامية، ويسمع من يحاوره أو يحادثه، فهو فاعل ومنفعل في هذا التخاطب، أي: إنه يصدر منه خطاب ويسمع خطابًا، وشأنه في ذلك كشأنه في حال اليقظة، لا فرق بينهما، ومع هذا فكلام الرؤيا إنما هو كلام روحاني ما افتقر إلى هواء وما عملت فيه شفة ولا لسان، وإن أدركه النائم على مثل ما يدرك الكلام المادي الذي يخرج من الشفتين واللسان، ولو كان غير ذلك لوجب أن يسمعه اليقظان بجانبه.

الرد على شبهة أن في إثبات المعراج إثبات للجهة قي حق الله تعالى

منها: أن إثبات المعراج إثبات للجهة في حق الله تعالى.

والجواب: أنه قد أجمع علماء المسلمين عبر القرون على أنَّ الله تعالى لا يحويه زمان ولا يحصره مكان، وأنَّ ما ورد من نصوصٍ يُوهِمُ ظاهرها ذلك فهو مؤوَّلٌ باتفاق.

فالعروج إلى الله تعالى إنما هو بالرتبة والمنزلة والمكانة، لا بالمسافة والانتقال؛ لأنَّه تعالى مُنزَّهٌ عن المكان والجهة والنُقلة ودُنوِّ الْمسَافَة؛ قال الإمام الثعلبي في "الكشف والبيان" (25/ 86): [ودُنوّ الله من العبد ودنوّ العبد من الله تعالى بالرتبة، والمنزلة، والمكانة، وإجابة الدعوة، لا بالمسافة؛ لأن المسافة لمن يكون له المكان مشتغلًا به، فيكون بينه وبين المكان الآخر مسافة، وذلك كله من أمارات الأجسام وخواصها، والله عزَّ شأنه يتعالى عن ذلك علوًّا كبيرًا، وإنما هو كقوله تعالى: ﴿فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ﴾ [البقرة: 186]، وقوله: ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ﴾ [الواقعة: 85]؛ يعني: بالعلم والقدرة وإجابة الدعوة] اهـ.

وقال الإمام القرطبي في "تفسيره" (11/ 333): [وقال أبو المعالي: قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «لَا تُفَضِّلُونِي عَلَى يُونُسَ بْنِ مَتَّى» المعنى: فإني لم أكن وأنا في سدرة المنتهى بأقرب إلى الله منه وهو في قعر البحر في بطن الحوت. وهذا يدل على أن الباري سبحانه وتعالى ليس في جهة] اهـ.

ودُنُوُّ الحبيب المصطفى صلى الله عليه وآله وسلَّم من ربه سبحانه وتعالى في رحلة المِعراج واختراقه الحجب وبلوغه أعلى المنازل والدرجات، إنَّما هو دنُوُّ تشريف وكرامة، وليس انتقالًا أو قطع مسافة.

الرد على منكري كون السماء ذات طبقات

من المنكرين: من أنكر كون السماء ذات طبقات، ومثل هذا يكفينا في إجابته قول الحق جل جلاله: ﴿الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ﴾ [الملك: 3].

فالإنسان الذي ليس له إلى الواقع غير الحواس الخمس القاصرة عن إدراك الحقائق كما هي في نفس الأمر، وليس له من سبيل إلى المعرفة إلا بالتجربة والمشاهدة والامتحان، كيف يتسنى له أن يجحد وجود السماوات! ويحكم بنفيها أو إثباتها إلا بما يصله من إخبار الخالق العظيم في آياته عن حقيقة السماوات والأرض، وقد جاء في محكم التنزيل ما يشير إلى أن جُل ما وصل له العلم في هذا الجانب لم يعد كونه جزءًا من السماء الدنيا؛ يقول تعالى: ﴿إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ﴾ [الصافات: 6].

الرد على من أنكر ما رآه النبي عليه السلام في رحلة الإسراء والمعراج

ومنها: إنكارهم المشاهدات التي رآها النبي صلى الله عليه وآله وسلم في هذه الرحلة العظيمة بحجة أن الأمة لا تحتاج إلى معرفة هذه المشاهدات لتزداد إيمانًا واستقامة، كما أنهم يتعجبون من رؤيته صلى الله عليه وآله وسلم لأهل الجنة والنار والحال أن القيامة لم تقم بعد.

والجواب عن هذا: أنه لا ينكر عاقل أثر الاطلاع على الغيب في تثبيت الإيمان بالخالق، وأن في هذه المشاهدات حكمًا وفوائد منها: ما ذكره الإمام الرازي في "تفسيره" (20/ 297، ط. دار إحياء التراث العربي): [أن خيرات الجنة عظيمة، وأهوال النار شديدة، فلو أنه عليه الصلاة والسلام ما شاهدهما في الدنيا، ثم شاهدهما في ابتداء يوم القيامة فربما رغب في خيرات الجنة أو خاف من أهوال النار، أما لمَّا شاهدهما في الدنيا في ليلة المعراج فحينئذ لا يعظم وقعهما في قلبه يوم القيامة، فلا يبقى مشغول القلب بهما، وحينئذ يتفرغ للشفاعة.

الثاني: لا يمتنع أن تكون مشاهدته ليلة المعراج للأنبياء والملائكة، صارت سببًا لتكامل مصلحته أو مصلحتهم.

الثالث: أنه لا يبعد أنه إذا صعد الفلك وشاهد أحوال السماوات والكرسي والعرش، صارت مشاهدة أحوال هذا العالم وأهواله حقيرة في عينه، فتحصل له زيادة قوة في القلب باعتبارها يكون في شروعه في الدعوة إلى الله تعالى أكمل وقلة التفاته إلى أعداء الله تعالى أقوى، يبين ذلك أن من عاين قدرة الله تعالى في هذا الباب، لا يكون حاله في قوة النفس وثبات القلب على احتمال المكاره في الجهاد وغيره إلا أضعاف ما يكون عليه حال من لم يعاين.

واعلم أن قوله: ﴿لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا﴾ كالدلالة على أن فائدة ذلك الإسراء مختصة به، وعائدة إليه على سبيل التعيين] اهـ.

أما حصول رؤية النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهذه المشاهدات ولما تقم القيامة بعد فهذا راجع إلى أن القيامة وكل ما له علاقة بالمستقبل وإن خفي علينا إلا أنه في علم الله لا فرق بينه وبين ما قد مضى من أوقات وأحداث فلا تعلق بالزمان والمكان إلا بنا نحن المخلوقات الحادثة الأرضية.

وعلق الإمام نور الدين الحلبي في "إنسان العيون" المعروف بـ"السيرة الحلبية" (1/ 543، ط. دار الكتب العلمية) على أن النبي صلى الله عليه وسلم في رحلة الإسراء رأى حالَ المجاهدين في سبيل الله؛ فقال: [أي: كُشِف له عن حالهم في دار الجزاء بضرب مثاله] اهـ.

فقد يكون الله تعالى قد رفع عنه حجاب الزمان وكشف له ما هو كائن في الجنة والنار وما تعلق بهما من مشاهدات، وعلى كلٍّ فهذا أمر غيبي يجب على المسلم التسليم فيه والإيمان بما أخبر به الصادق الأمين دون خوض وإعمال للعقول فيما لا طاقة لها به.

الرد على شبهة أن مراجعة النبي عليه السلام لربه في عدد الصلوات فيه تبديل للقول

ومنها: أنهم يقولون: إن مراجعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لربه في عدد الصلوات فيه تبديل للقول، كيف وربنا تعالى يقول: ﴿مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ [ق: 29]، كما أن فيه نوع وصاية من نبي الله موسى على رسولنا محمد عليهما الصلاة والسلام.

فنقول: إن رجوع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى موسى عليه السلام وكونه طلب منه صلى الله عليه وآله وسلم أنَّ يسأل ربه التخفيف، ثم خفف العدد إلى خمس صلوات، كل هذا قبل إقرار الفرض، وكل هذا مكتوب عند الله في الأزل.

وكونه تعالى جعلها خمس في العبادة وخمسين في الآجر فهذا إظهار لرحمته بعباده الصالحين، كما أنَّ الرجوع لا ينقص من قدر النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي كان يريد أن يمد زمن الصحبة مع الله بالرجوع إليه كما فعل موسى من قبل في قوله: ﴿قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى﴾ [طه: 18].

وما كان بين النبي محمد وبين موسى عليهما الصلاة والسلام كان من باب التناصح، لا الوصاية؛ يقول الإمام القرطبي في "المفهم" (1/ 392-393): [وأما تخصيص موسى بأمره النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمراجعة الله تعالى في الحط من الصلوات؛ فلعله إنما كان لأن أمة موسى عليه السلام كانت قد كلفت من الصلوات ما لم يكلف غيرها من الأمم، فثقلت عليهم، فخاف موسى على أمة محمد عليهما السلام من مثل ذلك ويشير إلى ذلك قوله: «فإنّي قد بلوتُ بني إسرائيل قبلك»] اهـ.

ويقول الإمام الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (7/ 212، ط. دار المعرفة): [لعلها من جهة أنه ليس في الأنبياء من له أتباع أكثر من موسى عليه السلام، ولا من له كتاب أكبر ولا أجمع للأحكام من هذه الجهة مضاهيًا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، فناسب أن يتمنى أن يكون له مثل ما أنعم به عليه من غير أن يريد زواله عنه، وناسب أن يطلعه على ما وقع له وينصحه فيما يتعلق به] اهـ.

بيان معنى فرض الصلوات في رحلة المعراج

أما مسألة فرض الصلاة في هذه الرحلة المباركة: فإن ما فرض في ليلة المعراج هو الصلوات الخمس، أما أصل الصلاة فكان موجودًا من أول البعثة؛ فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى في مبدأ البعثة؛ ففي الحديث: عن عفيف الكندي قال: "كنت امْرَأً تاجرًا، فَقَدِمْتُ الحج، فَأَتَيْتُ العباس بن عبد المطلب لأبتاع منه بعض التجارة، وكان امْرَأً تاجرًا، فوالله إني لعنده بمنى، إذ خرج رجل من خِبَاءٍ قريب منه، فنظر إلى الشمس فلما رآها مالت -يعني قام يصلي- قال: ثم خرجت امرأة من ذلك الـخِبَاء الذي خرج منه ذلك الرجل، فقامت خلفه تصلي، ثم خرج غلام حين راهق الحُلُم من ذلك الـخِبَاء، فقام معه يصلي. قال: فقلت للعباس: من هذا يا عباس؟ قال: هذا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ابن أخي، قال: فقلت: من هذه المرأة؟ قال: هذه امرأته خديجة ابنة خويلد. قال: قلت: من هذا الفتى؟ قال: هذا علي بن أبي طالب ابن عمه. قال: فقلت: فما هذا الذي يصنع؟ قال: يصلي، وهو يزعم أنه نبي، ولم يتبعه على أمره إلا امرأته، وابن عمه هذا الفتى، وهو يزعم أنه سَيُفْتَحُ عليه كنوز كسرى، وقيصر". قال: فكان عفيف وهو ابن عم الأشعث بن قيس يقول وأسلم بعد ذلك، فحسن إسلامه : "لو كان الله رزقني الإسلام يومئذ، فأكون ثالثًا مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه". رواه الإمام أحمد في "مسنده"،، والطبراني في "الكبير".

وقد علق الإمام ابن حجر على هذا الأمر بقوله في "فتح الباري" (7/ 203، ط. دار المعرفة]: [إن فرض الصلاة اختلف فيه؛ فقيل: كان من أول البعثة، وكان ركعتين بالغداة وركعتين بالعشي، وإنما الذي فرض ليلة الإسراء الصلوات الخمس...وقد تقدم في ترجمة خديجة رضي الله عنها في الكلام على حديث عائشة رضي الله عنها في بدء الخلق أن عائشة رضي الله عنها جزمت بأن خديجة رضي الله عنها ماتت قبل أن تفرض الصلاة؛ فالمعتمد أن مراد من قال بعد أن فرضت الصلاة ما فرض قبل الصلوات الخمس إن ثبت ذلك، ومراد عائشة رضي الله عنها بقولها ماتت قبل أن تفرض الصلاة؛ أي: الخمس، فيجمع بين القولين بذلك، ويلزم منه أنها ماتت قبل الإسراء] اهـ.

بيان كيف تمكن النبي عليه السلام من قطع المسافة بين السماء والأرض في ليلة واحدة

من الشبهات: أن امتداد المسافة من الأرض إلى نهاية السماوات مقدار عظيم يخرج تصوره عن العقل، فما هو مقدار السرعة التي بها يتمكن الإنسان من قطع هذه المسافات، والنور الذي هو أسرع الأشياء يقطع هذه المسافة في أكثر من هذه المدة.

والجواب: أن الأمر إذا كان برمته خارقًا للعادة وهو من صنع القوي القادر جل جلاله فلا مجال لقياس عقلي أو أمر تجريبي، وإنما التسليم والإيمان.

كما أنه يمكن تقريب الصورة في إمكانية الوقوع لمن جمد عقله على الماديات بما قاله الإمام المراغي في "تفسيره" (15/ 6، ط. مصطفى الحلبي): [إن الحركة بهذه السرعة ممكنة فى نفسها، فقد جاء في القرآن أن الرياح كانت تسير بسليمان عليه السلام إلى المواضع البعيدة في الأوقات القليلة، فقد قال تعالى في صفة سير سليمان عليه السلام: ﴿غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ﴾ [سبأ: 12]، وجاء فيه أن الذي عنده علم من الكتاب أحضر عرش بلقيس من أقصى اليمن إلى أقصى الشام في مقدار لمح البصر؛ كما قال تعالى: ﴿ قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ﴾ [النمل: 40]، وإذا جاز هذا لدى طائفة من الناس جاز لدى جميعهم] اهـ.

فالذي أسرى بعبده محمد صلى الله عليه وآله وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ثم عرج به إلى ما فوق الطبقات السبع، هو الذي سخر الريح لسليمان عليه السلام ﴿تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ﴾ [ص: 36]، وهو الذي أعطى من عنده علم من الكتاب القدرة على نقل عرش بلقيس من الشام إلى اليمن قبل ارتداد الطرف، وهو الذي أنزل جبريل عليه السلام بالوحي من السماء إلى الأرض في لمح البصر.

الخلاصة

وعليه: فالإسراء والمعراج من المعجزات الكبرى الخارقة للعادة التي وقعت للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، والتي قد ثبتت قطعًا، وليست من المستحيلات العقلية، وقد امتحن الله بها إيمان عباده؛ ليميز الله الخبيث من الطيب، وكانت تسلية لنبيه، ورفعة لقدره ومكانته، والمختار أنها قد وقعت في السابع والعشرين من شهر رجب، وقد وقع الإسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ثم عرج بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم من المسجد الأقصى إلى السماوات العلا، وكان كل ذلك بروحه وجسده جميعًا على الصحيح.

والله سبحانه وتعالى أعلم.

اقرأ أيضا