يحاول بعض الناس إثبات المكان لله تعالى، وأنه في جهة الفوق، ويستدلون على ذلك بمعراج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى السماء، فكيف نرد عليهم؟
الرد على من زعم إثبات الجهة لله تعالى مستدلًا برحلة المعراج
منهج الاستدلال بمعراج النبي صلى الله عليه وآله وسلم على إثبات المكان لله تعالى إنَّما هو في الحقيقة منهجٌ ضالٌّ مُبتدَعٌ، يُخالف به أصحابُهُ إجماعَ علماء المسلمين؛ فالذي عليه جماهير علماء الأمة أنَّ الله تعالى ليس محصورًا في مكان أو جهة، وأنَّ ما ورد من نصوصٍ يُوهِمُ ظاهرها ذلك فهو مؤوَّلٌ باتفاق.
التفاصيل ....أجمع علماء المسلمين عبر القرون -من فقهاء ومتكلمين ومُحدِّثين- على أنَّ الله تعالى لا يحويه زمان ولا يحصره مكان، وأنَّ ما ورد من نصوصٍ يُوهِمُ ظاهرها ذلك فهو مؤوَّلٌ باتفاق؛ كمثل قوله تعالى: ﴿وَرَافِعُكَ إِلَيَّ﴾ [آل عمران: 55]، وقوله تعالى: ﴿بَل رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ﴾ [النساء: 158]، وقوله تعالى: ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ﴾ [فاطر: 10]، وقوله تعالى: ﴿أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء﴾ [الملك: 16]، وقوله سبحانه: ﴿مِنَ اللهِ ذِي الْمَعَارِجِ ۞ تَعْرُجُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْه﴾ [المعارج: 4]، وكقول النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم: «يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ؛ يَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ، مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ، مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ» مُتَّفقٌ عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وقول أمِّ المؤمنين زَيْنَبَ رضي الله عنها: "إِنَّ اللهَ أَنْكَحَنِي فِي السَّمَاءِ"؛ تَفْخَرُ عَلَى نِسَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ. أخرجه البخاري في "الصحيح" من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. وكالحديث المُطوَّل في معراج النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم.
قال القاضي عياض المالكي في "إكمال المُعلم" (2/ 465، ط. دار الوفاء): [لا خلاف بين المسلمين قاطبة؛ محدِّثِهم وفقيههم ومتكلمهم ومقلدهم ونُظَّارِهم: أَنَّ الظواهر الواردة بذكر الله في السماء؛ كقوله: ﴿أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء﴾، أنها ليست على ظاهرها، وأنها متأوَّلةٌ عند جميعهم] اهـ.
وقال العلَّامة الكوثري الحنفي في تحقيقه لكتاب "الأسماء والصفات" للبيهقي (هامش ص: 380، ط. المكتبة الأزهرية): [بل أجمعت الأمة؛ سُنيهم وبدعيهم، على أنَّ الله سبحانه ليس بمتمكنٍ في السماء؛ بل كل ما ورد ممَّا يُوهِمُ ذلك مؤوَّلٌ باتفاق] اهـ.
وقد صنَّف العلماء قديمًا وحديثًا في نفي الجهة عن الله سبحانه تعالى، وخصَّصوا الأبواب والفصول في الردّ على مَنْ يدَّعي ذلك من الجهمية المُجسمة والمشبهة ومَنْ على شاكلتهم ممَّن يتعلَّقون بالظواهر التي دلت الأدلة القطعية على أنها غير مرادة على جهة الحقيقة؛ فخصَّص الإمام البخاري بابًا في "صحيحه" للردّ على الجهمية المجسِّمة المتعلقين بظاهر الآيات والأحاديث، فقال: (باب قول الله تعالى: ﴿تَعْرُجُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْه﴾ [المعارج: 4]، وقوله جل ذكره: ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ﴾ [فاطر: 10]، وقال أبو جمرة، عن ابن عباس رضي الله عنهما: بلغ أبا ذر رضي الله عنه مبعثُ النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال لأخيه: "اعلم لي علم هذا الرجل الذي يزعم أنه يأتيه الخبر من السماء"، وقال مجاهد: "العمل الصالح يرفع الكلم الطيب" يقال: ﴿ذِي الْمَعَارِجِ﴾ [المعارج: 3]: "الملائكة تعرج إلى الله").
قال العلّامة ابن بطَّال في "شرح صحيح البخاري" (10/ 453، ط. مكتبة الرشد): [غرضُه في هذا الباب: ردّ شبهة الجهمية المجسمة في تعلقها بظاهر قوله تعالى: ﴿ذِي الْمَعَارِجِ ۞ تَعْرُجُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ﴾ [المعارج: 3-4]، وقوله: ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ﴾ [فاطر: 10]، وما تضمنته أحاديث الباب من هذا المعنى، وقد تقدَّم الكلام في الردِّ عليهم؛ وهو: أنَّ الدلائل الواضحة قد قامت على أن الباري تعالى ليس بجسمٍ، ولا محتاجًا إلى مكان يحلُّه ويستقرّ فيه؛ لأنه تعالى قد كان ولا مكان، وهو على ما كان ثمّ خلق المكان، فمحال كونه غنيًّا عن المكان قبل خلقه إياه، ثم يحتاج إليه بعد خلقه له، هذا مستحيل، فلا حجة لهم في قوله: ﴿ذِي الْمَعَارِجِ﴾؛ لأنه إنما أضاف المعارج إليه إضافة فعل، وقد كان لا فعل له موجود، وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: ﴿ذِي الْمَعَارِجِ﴾ هو بمعنى: العلو والرفعة. وكذلك لا شبهة لهم في قوله تعالى: ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ﴾؛ لأنَّ صعود الكلم إلى الله تعالى لا يقتضي كونه في جهة العلو؛ لأنَّ الباري تعالى لا تحويه جهة؛ إذ كان موجودًا ولا جهة، وإذا صح ذلك وجب صرفُ هذا عن ظاهره وإجراؤه على المجاز؛ لبطلان إجرائه على الحقيقة، فوجب أن يكون تأويلَ قوله: ﴿ذِي الْمَعَارِجِ﴾ رفعتُه واعتلاؤه على خليقته وتنزيهُه عن الكون في جهة؛ لأنَّ في ذلك ما يوجب كونه جسمًا تعالى الله عن ذلك، وأما وصف الكلام بالصعود إليه فمجاز أيضًا واتساع؛ لأن الكلم عَرَضٌ، والعرض لا يصح أن يَفْعَل؛ لأن من شرط الفاعل كونَه حيًّا قادرًا عالمًا مريدًا، فوجب صرفُ الصعود المضاف إلى الكلم إلى الملائكة الصاعدين به] اهـ.
وهذا ما تضافر عليه المفسرون عند تعرضهم لبيان النصوص التي يوهم ظاهرها إثبات الجهة؛ قال الإمام الطبري في "جامع البيان في تأويل القرآن" (1/ 430، ط. مؤسسة الرسالة)، في تفسير قوله تعالى: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ﴾ [البقرة: 29]: [علا عليها علوّ مُلْك وسُلْطان، لا علوّ انتقالٍ وزَوال] اهـ.
وعلى ذلك: فالاستدلال بمعراج النبي صلى الله عليه وآله وسلم على إثبات المكان لله تعالى إنَّما هو في الحقيقة منهجٌ ضالٌّ مُبتدَعٌ، قد خالف أصحابه إجماع علماء المسلمين؛ فالذي عليه الأمة الإسلامية كلها أنَّ الله تعالى ليس محصورًا في مكان أو جهة، ولم يشذّ عن ذلك إلَّا الجهمية المُجسِّمة والمُشبِّهة ومن ضل بضلالهم.
والله سبحانه وتعالى أعلم.