يقول السائل: بعض الناس يقوم بالسخرية والاستهزاء من أصحاب الاضطرابات والمشاكل النفسية عن قصد؛ وذلك كـ(مرضى التَّوحُّد)، مما يُسبّب لهم مشاكل نفسية كثيرة. فما حكم الشرع فيمَن يقوم بهذه الأفعال؟
التحذير من السخرية والاستهزاء من المرضى
السخرية والاستهزاء من أصحاب الاضطرابات والمشاكل النفسية أمرٌ مذمومٌ شرعًا ومَجَرَّمٌ قانونًا؛ وذلك لما يشتمل عليه من الإيذاء والضرر، إضافةً لخطورته على الأمن المجتمعي من حيث كونه جريمة؛ والشريعة الإسلامية إنَّما جاءت لحث الناس على مكارم الأخلاق والبعد عن بذيء الأقوال والأفعال.
ودار الإفتاء المصرية تناشد جميع فئات المجتمع بالعمل على التصدي لحل هذه الظاهرة، ومواجهتها، وتحَمُّل المؤسسات التعليمية والدعوية والإعلامية دورها من خلال بيان خطورة هذا الفعل والتوعية بشأنه؛ بإرساء ثقافة الاعتذار في المجتمع، ومراعاة حقوق الآخرين.
التفاصيل ....المحتويات
- حكم السخرية والاستهزاء من أصحاب الاضطرابات والمشاكل النفسية
- تحذير الشرع الشريف من احتقار الآخرين
- تحذير الشرع الشريف من اللمز والهمز بالآخرين
- تحذير الشرع الشريف من السب وبذاءة اللسان
- موقف القانون من السخرية والاستهزاء من الآخرين
- الخلاصة
حكم السخرية والاستهزاء من أصحاب الاضطرابات والمشاكل النفسية
التَّوحُّد -وفق ما تعرفه الجمعية الأمريكية للطب النفسي في دليلها الإحصائي التشخيصي الرابع المُعدَّل سنة 2000م-: اضطراب عقلي يَظْهر على الطفل عادة في خلال السنوات الثلاث الأولى من عمره، ويؤدي إلى قصور في ثلاثة أمور: التفاعل الاجتماعي، والتواصل واللغة، والسلوكيات النمطية وممارسة الأنشطة والاهتمامات المحدودة. ينظر: "التوحد الطفولي: أسبابه، تشخيصه، علاجه" للدكتورة سوسن شاكر (ص: 14، ط. مؤسسة علاء الدين-دمشق).
والسخرية والاستهزاء من أصحاب الاضطرابات والمشاكل النفسية أمر مذمومٌ شرعًا بكل صوره وأشكاله؛ وذلك لأنَّ الشريعة الإسلامية جاءت لحث الناس على مكارم الأخلاق والبعد عن بذيء الأقوال والأفعال؛ ولذلك جاء الذمّ والنهي عن السخرية واللمز والاحتقار، وذلك في قوله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ [الحجرات: 11].
فهذا نهيٌ عن هذه الأفعال الثلاثة، وأولها: السخرية، وهي في معنى الاستهزاء والاحتقار، يقول الإمام القرطبي المالكي في "تفسيره" (16/ 325، ط. دار الكتب المصرية): [ينبغي أن لا يجترئ أحدٌ على الاستهزاء بمَن يقتحمه بعينه إذا رآه رثَّ الحال، أو ذا عاهة في بدن، أو غير لبق في محادثته، فلعله أخلص ضميرًا أو أنقى قلبًا ممَّن هو على ضد صفته؛ فيظلم نفسه بتحقير مَن وقره الله، والاستهزاء بمَن عظمه الله، ولقد بلغ بالسلف إفراط توقيهم وتصونهم من ذلك أن قال عمر بن شراحبيل: لو رأيت رجلًا يرضع عنزًا فضحكت منه لخشيت أن أصنع مثل الذي صنع، وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: البلاء موكل بالقول، لو سخرت من كلب لخشيت أن أحول كلبًا، قال صلى الله عليه وآله وسلم: «إنَّ الله لَا يَنْظُر إلَى صُورِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ] اهـ.
تحذير الشرع الشريف من احتقار الآخرين
أما الفعل الثاني، وهو الاحتقار؛ فالنهي عنه صريحٌ في حديث الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَنَاجَشُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَلَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا، الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يَخْذُلُهُ وَلَا يَحْقِرُهُ، التَّقْوَى هَاهُنَا» وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ «بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ، كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ، دَمُهُ، وَمَالُهُ، وَعِرْضُهُ».
ففي هذا الحديث شَدَّد النبي صلى الله عليه وآله وسلم في النهي عن الاحتقار، والمعنى: أي يكفي الإنسان من الشر وشدته أن يحقر أخاه المسلم، فلا أشر من ذلك شر؛ قال الإمام الملا على القاري في "مرقاة المفاتيح" (7/ 3106، ط. دار الفكر): [وقوله: "أن يحقر أخاه" خبره أي: حسبه وكافيه من خلال الشر ورذائل الأخلاق تحقير أخيه المسلم] اهـ.
تحذير الشرع الشريف من اللمز والهمز بالآخرين
أما اللمز ومعه الهمز –وهو الفعل الثالث-؛ فهما بمعنى العيب والطعن، والهمز يكون بالفعل، واللمز يكون بالقول، وقد نهانا الله سبحانه وتعالى عن أن يعيب بعضنا البعض، وأن يطعن بعضنا البعض؛ قال الإمام ابن كثير في "تفسيره" (7/ 376، ط. دار طيبة للنشر والتوزيع): [(وقوله: ﴿وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ﴾ [الحجرات: 11] أي: لا تلمزوا الناس. والهمَّاز اللمَّاز من الرجال مذموم ملعون؛ كما قال تعالى: ﴿وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ﴾ [الهمزة:1]، فالهمز بالفعل واللمز بالقول؛ كما قال: ﴿هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ﴾ [القلم: 11] أي: يحتقر الناس ويهمزهم طاعنًا عليهم، ويمشي بينهم بالنميمة، وهي: اللمز بالمقال؛ ولهذا قال هاهنا: ﴿وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ﴾، كما قال: ﴿وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ﴾ [النساء: 29] أي: لا يقتل بعضكم بعضًا] اهـ.
بل إنَّ الشريعة الإسلامية حَرَّمت كل ما يضر الإنسان، وجرَّمَت إيصال الضرر إليه بشتى الوسائل؛ ففي الحديث الذي رواه ابن ماجه عن ابن عباس رضي الله عنهما أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ»؛ والإيذاء والاعتداء الحاصل من الساخر والمستهزئ تجاه المريض هو من الإضرار بالغير الممنوع شرعًا.
تحذير الشرع الشريف من السب وبذاءة اللسان
كما أنَّ السخرية من أصحاب الأمراض قد تشتمل على السب وبذاءة اللسان، وهو مَحرَّمٌ شرعًا أيضًا، ومُوجِبٌ لفسق صاحبه؛ ففي الحديث المتفق عليه عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «سِبَابُ المُسْلِمِ فُسُوقٌ، وَقِتَالُهُ كُفْرٌ».
قال الإمام ابن بطال في "شرح صحيح البخاري" (9/ 241، ط. مكتبة الرشد): [سباب المسلم فسوق؛ لأن عرضه حرام كتحريم دمه وماله، والفسوق في "لسان العرب": الخروج من الطاعة؛ فينبغي للمؤمن أن لا يكون سبَّابًا ولا لعَّانًا للمؤمنين، ويقتدي في ذلك بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأنَّ السب سبب الفرقة والبغضة] اهـ.
وقال الإمام النووي في "شرح صحيح مسلم" (2/ 54، ط. دار إحياء التراث العربي-بيروت): [وأما معنى الحديث: فسب المسلم بغير حق حرام بإجماع الأمة وفاعله فاسق] اهـ.
والسب والتعدي على الإنسان وإيذاؤه كل ذلك سبب لإفلاس الإنسان يوم القيامة؛ فقد أخرج الإمام الترمذي في "سننه" عن أبي هريرة رضي الله عنه أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «أَتَدْرُونَ مَنِ الْمُفْلِسُ»؟ قَالُوا: المُفْلِسُ فِينَا يَا رَسُولَ اللهِ مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: «المُفْلِسُ مِنْ أُمَّتِي مَنْ يَأْتِي يَوْمَ القِيَامَةِ بِصَلَاتِهِ وَصِيَامِهِ وَزَكَاتِهِ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا؛ فَيَقْعُدُ فَيَقْتَصُّ هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْتَصّ مَا عَلَيْهِ مِنَ الخَطَايَا أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ».
موقف القانون من السخرية والاستهزاء من الآخرين
إضافة لما سبق؛ فإنَّ السخرية من الآخرين التي تُلْحِق بهم الأذى -ولو معنويًا-؛ هي فِعْلة مُجَرَّمٌة قانونًا؛ فتنُصَّ المادة (375 مكرر) من قانون العقوبات رقم 58 لسنة 1937م طبقًا لآخر تعديلاته: [مع عدم الإخلال بأية عقوبة أشد واردة في نص آخر: يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن سنة كل مَن قام بنفسه أو بواسطة الغير باستعراض القوة أو التلويح بالعنف أو التهديد بأيهما أو استخدامه ضد المجني عليه أو مع زوجه أو أحد أصوله أو فروعه، وذلك بقصد ترويعه أو التخويف بإلحاق أي أذى مادي أو معنوي به، أو الإضرار بممتلكاته، أو سلب ماله، أو الحصول على منفعة منه، أو التأثير في إرادته لفرض السطوة عليه، أو إرغامه على القيام بعمل أو حمله على الامتناع عنه، أو لتعطيل تنفيذ القوانين أو التشريعات أو مقاومة السلطات أو منع تنفيذ الأحكام، أو الأوامر أو الإجراءات القضائية واجبة التنفيذ، أو تكدير الأمن أو السكينة العامة، متى كان من شأن ذلك الفعل أو التهديد إلقاء الرعب في نفس المجني عليه، أو تكدير أمنه أو سكينته أو طمأنينته، أو تعريض حياته أو سلامته للخطر، أو إلحاق الضرر بشيء من ممتلكاته أو مصالحه، أو المساس بحريته الشخصية أو شرفه أو اعتباره] اهـ.
الخلاصة
بناءً على ما سبق وفي واقعة السؤال: فالسخرية والاستهزاء من أصحاب الاضطرابات والمشاكل النفسية بجميع صوره مذمومٌ شرعًا، ومَجَرَّمٌ قانونًا؛ وذلك لما يشتمل عليه من الإيذاء والضرر المُحَرَّمين، إضافةً لخطورته على الأمن المجتمعي من حيث كونه جريمة.
وتناشد دار الإفتاء المصرية جميع فئات المجتمع بالعمل على التصدي لحل هذه الظاهرة، ومواجهتها، وتحَمُّل المؤسسات التعليمية والدعوية والإعلامية دورها من خلال بيان خطورة هذا الفعل والتوعية بشأنه؛ بإرساء ثقافة الاعتذار في المجتمع، ومراعاة حقوق الآخرين.
والله سبحانه وتعالى أعلم.