رجلٌ نذر أن يذبح شيئًا لله تعالى مطلقًا من غير تعليقٍ على حصول شيء، ولم يُحدِّد أنه للفقراء والمساكين، لا باللفظ، ولا بالنية. فهل يجوز له الأكل منه؟
حكم أكل الناذر من نذره المطلق
إذا نذر الإنسان أن يذبح شيئًا لله تعالى، ولم يكن الذبح معلقًا على حصول شيءٍ أو عدم حصوله، ولم يُحدِّد كذلك أنه للفقراء والمساكين أو غيرهم، ولم يَنْوِ هذا التحديد حين نذر؛ فإنه يجوز له شرعًا الأكل منه؛ كما هو مذهب السادة المالكية ووجهٌ عند السادة الشافعية.
التفاصيل ....المحتويات
حكم الوفاء بنذر الطاعة عند القدرة عليه
من المقرَّر شرعًا أنه يجب على المُكلَّف الوفاء بنذر الطاعة عند القدرة عليه؛ لقول الله تعالى: ﴿وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ﴾ [البقرة: 270]، وقوله تعالى: ﴿ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ﴾ [الحج: 29]، وقوله تعالى في بيان صفات الأبرار: ﴿يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا﴾ [الإِنسان: 7].
وعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم قال: «مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللهَ فَلْيُطِعْهُ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَهُ فَلاَ يَعْصِهِ» أخرجه الإمام البخاري في "صحيحه".
وعن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: "يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي نَذَرْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ أَعْتَكِفَ لَيْلَةً فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ"، قال صلى الله عليه وآله وسلم: «فَأَوْفِ بِنَذْرِكَ» متفقٌ عليه.
قال الإمام ابن بطال في "شرحه على صحيح البخاري" (6/ 156-157، ط. مكتبة الرشد): [النذر في الطاعة واجب الوفاء به عند جماعة الفقهاء لمَن قدر عليه وإن كانت تلك الطاعة قبل النذر غير لازمة له فنذره لها قد أوجبها عليه، لأنه ألزمها نفسه لله تعالى، فكل مَن ألزم نفسه شيئًا لله تعالى؛ فقد تعيّن عليه فرض الأداء فيه، وقد ذمّ الله تعالى مَن أوجب على نفسه شيئًا ولم يَفِ به؛ قال تعالى: ﴿وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ﴾ [الحديد: 27]] اهـ.
وعلى هذا اتفقت كلمة الفقهاء؛ قال الإمام ابن القطَّان في "الإقناع في مسائل الإجماع" (1/ 375، ط. دار الفاروق): [لا خلاف أنَّ النذر بالطاعة يلزم الوفاء به، ولا كفارة فيه] اهـ.
حكم أكل الناذر من النذر
قد اختلف الفقهاء فيمَن نذر أن يذبح شيئًا غير الأضحية لله تعالى من غير تعليق ذلك على شرطِ حصول شيءٍ أو عدم حصوله، ولم يُعيّن النذر لأحد من الفقراء أو المساكين أو غيرهم، وكذا لم ينو تعيينه؛ فهل له أن يأكل منه أو لا؟
فذهب جمهور الفقهاء؛ من الحنفية، والشافعية في المعتمد، والحنابلة: إلى أنَّه لا يجوز له الأكل من هذا النذر؛ لأنّ سبيل هذا الدَّم هو التصدق، وليس للمتصدق أن يأكل من صدقته.
قال الإمام علاء الدين الكاساني الحنفي في "بدائع الصنائع" (2/ 226، ط. دار الكتب العلمية): [لا يجوز له أن يأكل من دم النذر شيئًا، وجملة الكلام فيه أن الدماء نوعان: نوع يجوز لصاحب الدم أن يأكل منه؛ وهو دم المتعة، والقران، والأضحية، وهدي التطوع إذا بلغ محله، ونوع لا يجوز له أن يأكل منه، وهو دم النذر، والكفارات، وهدي الإحصار، وهدي التطوع إذا لم يبلغ محله؛ لأن الدم في النوع الأول دم شكرٍ فكان نُسُكًا فكان له أن يأكل منه، ودم النذر دم صدقةٍ وكذا دم الكفارة في معناه؛ لأنه وجب تكفيرًا لذنب] اهـ.
وقال شهاب الدين الرملي الشافعي في "حاشيته على أسنى المطالب" (1/ 545، ط. دار الكتاب الإسلامي): [وبالجملة: فالمذهب منع الأكل من الواجبة مطلقًا؛ كما لا يجوز له أن يأكل من زكاته أو كفارته شيئًا] اهـ.
وقال الإمام ابن قدامة الحنبلي في "المغني" (3/ 465، ط. مكتبة القاهرة): [(ولا يأكل من كل واجبٍ إلا من هدي التمتع) المذهب: أنه يأكل من هدي التمتع والقران دون ما سواهما؛ نص عليه أحمد، ولعل الخرقي ترك ذكر القران؛ لأنه متعة، واكتفى بذكر المتعة؛ لأنهما سواء في المعنى، فإن سببهما غير محظور، فأشبها هدي التطوع؛ وهذا قول أصحاب الرأي، وعن أحمد: أنه لا يأكل من المنذور وجزاء الصيد، ويأكل ممَّا سواهما، وهو قول ابن عمر، وعطاء، والحسن، وإسحاق؛ لأن جزاء الصيد بدل، والنذر جعله لله تعالى، بخلاف غيرهما] اهـ. فأفاد منع الأكل من المنذور في المذهب اتفاقًا.
وذهب المالكية، والشافعية في وجه: إلى أنه إذا أطلق النذر من غير تعليقٍ على شرطِ حصول شيءٍ أو عدم حصوله، ولم يُعيِّن النذرَ للفقراء والمساكين أو غيرهم باللفظ، ولم يَنْوِ تَعيينه؛ فإنه يجوز له الأكل منه، وهو المختار للفتوى.
جاء في "المدونة" للإمام مالكٍ برواية الإمام سحنون (1/ 410، ط. دار الكتب العلمية): [قال مالك: يؤكل من الهدي كله، إلا فدية الأذى، وجزاء الصيد، وما نذره للمساكين] اهـ.
فأفاد أنَّه إذا أطلق النذر ولم يعيِّنه لأحدٍ أو في مصرِفٍ معيَّن؛ جاز له أن يأكل منه.
وقال الشيخ عليش المالكي في "فتح العلي المالك" (1/ 207، ط. دار المعرفة): [سُئل سيدي أحمد الدرديري بما نصه: وهل يجوز لمَن نذر لله أو لوليٍّ شاةً الأكلُ منها وإطعام الغني أو لا، أو كيف الحال؟ فأجاب بما نصه: الحمد لله، النذر إنْ عَيَّنَهُ للفقراء والمساكين بلفظه أو نيته؛ فليس له أن يأكل منه، وإن أطلق، جاز الأكل، وليس له أن يطعم منها الأغنياء، والله أعلم فتأمله] اهـ.
وقال الإمام النووي الشافعي في "المجموع" (8/ 414، ط. دار الفكر): [إن كان نذرًا مطلقًا ففيه ثلاثة أوجه.. (والثاني): يجوز؛ لأنَّ مطلق النذر يحمل على ما تقرّر في الشرع، والهدي والأضحية المعهودة في الشرع يجوز الأكل منها، فَحُمل النذر عليه] اهـ.
الخلاصة
بناءً على ذلك وفي واقعة السؤال: فما دام الرجل المذكور قد نذرَ أنْ يذبح شيئًا لله تعالى، ولم يكن الذبح معلّقًا على حصول شيءٍ أو عدم حصوله، وكذا لم يحدد أنه للفقراء والمساكين أو غيرهم، ولم يَنْوِ هذا التحديد حين نذر؛ فإنه يجوز له شرعًا الأكل منه؛ كما هو مذهب المالكية ووجهٌ عند الشافعية.
والله سبحانه وتعالى أعلم.