ما حكم إطلاق اللحية؟ وهل هذا الأمر يُعدُّ فرضًا؛ فيأثم حالقها، أو سنة ولا يأثم حالقها؟ وما الدليل؟
حكم حلق اللحية وإعفائها وأدلة ذلك
المختار للفتوى أن اللحية من أمور العادات وليست من قبيل الأمور الشرعية التي يُقصد منها التعبد، وهذا معتمد مذهب الشافعية؛ وهي من الفروع الفقهية التي وقع فيها الخلاف بين الفقهاء، والقاعدة في ذلك: "أنه لا إنكار في مسائل الخلاف، وإنما الإنكار في المجمع على حرمته".
التفاصيل ....المحتويات
- ما ورد في السنة النبوية من أحاديث ترغب في إعفاء اللحية وعدم حلقها
- آراء المذاهب الفقهية في حكم إطلاق اللحية للرجال وحلقها
- أدلة القائلين بأن إعفاء اللحية سنة
- الخلاصة
ما ورد في السنة النبوية من أحاديث ترغب في إعفاء اللحية وعدم حلقها
اللحية: هي الشعر النابت على الخدين والذَّقَن.
ومن المقرر شرعًا أن إعفاء اللحية وعدم حلقها مأثور عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقد كان يهذبها ويأخذ من أطرافها وأعلاها بما يحسنها بحيث تكون متناسبة مع تقاسيم الوجه والهيئة العامة، وقد كان يعتني بتنظيفها بغسلها بالماء وتخليلها وتمشيطها، وقد تابع الصحابة رضوان الله عليهم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فيما كان يفعله وما يختاره.
وقد وردت أحاديث نبوية شريفة ترغب في الإبقاء على اللحية والعناية بنظافتها، ومنها ما رواه البخاري ومسلم -واللفظ له- عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «خَالِفُوا الْمُشْرِكِينَ؛ أَحْفُوا الشَّوَارِبَ، وَأَوْفُوا اللِّحَى».
ورَوى مسلم أيضًا عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «عَشْرٌ مِنَ الْفِطْرَةِ: قَصُّ الشَّارِبِ، وَإِعْفَاءُ اللِّحْيَةِ، وَالسِّوَاكُ، وَاسْتِنْشَاقُ الْمَاءِ، وَقَصُّ الْأَظْفَارِ، وَغَسْلُ الْبَرَاجِمِ، وَنَتْفُ الْإِبِطِ، وَحَلْقُ الْعَانَةِ، وَانْتِقَاصُ الْمَاءِ -أي: الاستنجاء-»، قال مصعب -أحد رواة الحديث-: "ونسيت العاشرة، إلا أن تكون المضمضة".
آراء المذاهب الفقهية في حكم إطلاق اللحية للرجال وحلقها
قد اختلف الفقهاء في حكم إطلاق اللحية للرجال قديمًا وحديثًا؛ بناءً على اختلافهم في المراد من الأمر النبوي في هذه الأحاديث:
فذهب فقهاء الحنفية والمالكية وهو قول متأخري الحنابلة: إلى حمل الأمرِ في هذه الأحاديث على الوجوب، وعليه يكون حلقها حرامًا؛ وذلك بناءً على أن الأصل في الأمر الوجوب، ولأن الأمر معلَّل بمخالفة المشركين، والتشبه بهم حرام؛ لما رواه أبو داود عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال: «مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ»، وذلك على اختلافٍ بينهم في تفصيل ذلك.
يقول العلامة الحصكفي الحنفي في "الدر المختار" (6/ 407، مع "حاشية ابن عابدين"، ط. دار الكتب العلمية): [يَحرمُ على الرجل قطع لحيته] اهـ.
وقال العلامة الشيخ محمد عليش المالكي في "منح الجليل" (1/ 82، ط. دار الفكر): [ويحرم على الرجل حلق اللحية] اهـ.
وقال الشيخ البُهُوتي الحنبلي في "شرح منتهى الإرادات" (1/ 44، ط. عالم الكتب): [ويُعفي لحيته، ويحرم حلقها] اهـ.
بينما ذهب الفريق الآخر إلى أنَّ الأمر الوارد في الأحاديث ليس للوجوب، وعليه يكون إعفاء اللحية سنة يُثاب فاعلها، ولا يعاقب تاركها.
وهذا هو قول الشافعية في معتمد مذهبهم، ووافقهم جمع كبير من العلماء والمحققين؛ حيث قالوا بأن اللحية من سنن العادات وليست من الأمور التعبدية، وأن الأمر الوارد فيها أمر ندبٍ وإرشاد.
قال العلامة ابن حجر الهيتمي في "شرح العباب" من كتب الشافعية: [قال الشيخان -يعني: الرافعي والنووي- يُكرَه حلق اللحية] اهـ. بواسطة حاشية ابن قاسم العبادي على "تحفة المحتاج" لابن حجر (9/ 376 -بهامش "التحفة مع حاشية الشرواني"-، ط. دار إحياء التراث العربي).
وقال العلامة البكري الدمياطي الشافعي في "إعانة الطالبين على حَلِّ ألفاظ فتح المعين" (2/ 386، ط. دار الفكر) عند قول زين الدين الملِّيباري [(ويحرم حلق لحية)، المعتمد عند الغزالي وشيخ الإسلام وابن حجر في التحفة والرملي والخطيب وغيرهم: الكراهة] اهـ.
وهذا هو رأي القاضي عياض من المالكية؛ حيث يقول في "إكمال المعلم" (2/ 63، ط. دار الوفاء): [ويكره حلقها وقصها] اهـ. أي: اللحية.
ويقول الإمام شمس الدين عبد الرحمن بن قدامة المقدسي المعروف بابن أبي عمر في "الشرح الكبير على متن المقنع" (1/ 105، ط. دار الكتاب العربي): [ويستحب إعفاء اللحية] اهـ.
أدلة القائلين بأن إعفاء اللحية سنة
يدعم هذا القول ويُقوّيه ما تقرّر من أن الأمر إذا تعلَّق بالعادات أو الآداب صُرف عن الوجوب بتلك القرينة؛ يقول الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (9/ 523، ط. دار المعرفة) عند شرح حديث أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم عمرو بن سلمة بالأكل بيمينه: [وقال القرطبي: هذا الأمر على جهة الندب؛ لأنه من باب تشريف اليمين على الشمال؛ لأنها أقوى في الغالب، وأسبق للأعمال، وأمكن في الأشغال، وهي مشتقة من اليمن، وقد شرف الله أصحاب الجنة إذ نسبهم إلى اليمين، وعكسه في أصحاب الشمال. قال: وعلى الجملة فاليمين وما نسب إليها وما اشتق منها محمود لغةً وشرعًا ودينًا، والشمال على نقيض ذلك، وإذا تقرَّر ذلك فمن الآداب المناسبة لمكارم الأخلاق، والسيرة الحسنة عند الفضلاء اختصاص اليمين بالأعمال الشريفة، والأحوال النظيفة. وقال أيضًا: كل هذه الأوامر من المحاسن المكملة والمكارم المستحسنة، والأصل فيما كان من هذا الترغيب والندب] اهـ.
وممَّا يُؤيد أنَّ الأمر بإعفاء اللحية للإرشاد والندب لا للوجوب: أنه ليس أمرًا مطلقًا، بل هو مُعَلَّلٌ بمخالفة المشركين، والبعد عن مشابهتهم، وهذا التعليل مقتضٍ للقول بعدم الوجوب من حيث إن مخالفة الكفار ليست واجبة إلا في خصوص ما يتعلق بعقائدهم وخصوصياتهم الدينية، والأمر في الأحاديث الواردة عن النبي صلي الله عليه وآله وسلم كما يكون للوجوب يكون لمجرد الإرشاد إلى الأفضل.
ويؤيد ذلك أيضًا: أنه جاء في سياق الأمر بخصال الفطرة، وكلها أمورٌ مستحبة، كما نص على ذلك الكثير من العلماء؛ لتَعَلُّق الأمر فيها بالعادات، وتحسين الهيئات، والجمال والنظافة، ومصلحة البدن، ونفي الأوساخ عنه؛ حيث لم يجعلها الشرع على الوجوب؛ اكتفاءً فيها بداعية الطبع عن إيجاب الشرع، ونص العلماء على أنّ تعلق الأمر بواحد من هذه الأغراض هو قرينة تصرفه عن الوجوب إلى الندب أو الإرشاد:
قال القاضي أبو بكر بن العربي في "القبس في شرح موطأ مالك بن أنس" (3/ 1110، ط. دار الغرب الإسلامي): [والنكتة التي تعتمدونها في الفرق بين المكروه والحرام: أنه إذا جاء النهي مقرونًا بالوعيد دلّ على تحريمه، وإذا جاء مطلقًا كان أدبًا، إلا أن تقترن به قرينة تدل على أنه مصلحة في البدن أو في المال على الاختصاص بالمرء فإنه يكون مكروهًا على حاله ولا يرتقي إلى التحريم، فإن كان لمصلحة تعمّ الناس صار حرامًا، والدليل على ذلك: أن للمرء أن يتحمل الضرر في نفسه إن كان يسيرًا، وليس له أن يلحقه بغيره يسيرًا كان أو كثيرًا] اهـ.
وعلى ذلك؛ فقد ذهب أصحاب هذا الرأي إلى القول بأنَّ الأوامر المتعلقة بالعادات والأكل والشرب واللبس والجلوس والهيئة وغيرها، فإنها تُحمل على الندب لقرينة تعلقها بهذه الجهات.
وقد ذهب إلى القول بذلك بعض العلماء المتأخرين؛ حيث نَصَّ الشيخ محمود شلتوت في كتابه: "الفتاوى" (ص: 229، ط. دار الشروق) على ذلك فقال: [والحَقُّ أن أمر اللباس والهيئات الشخصية -ومنها حلق اللحية- من العادات التي ينبغي أن ينزل المرء فيها على استحسان البيئة؛ فمن درجت بيئته على استحسان شيء منها كان عليه أن يساير بيئته، وكان خروجه عما أَلِف الناس فيها شذوذًا عن البيئة] اهـ.
وكذلك الشيخ محمد أبو زهرة في كتابه: "أصول الفقه" (ص: 115، ط. دار الفكر)؛ حيث اختار أن إطلاق اللحية من أمور العادات وليس من قبيل الشرعيات.
وعلى هذا جرى الأغلب من علماء الأزهر الشريف المعاصرين قولًا وعملًا وهم أئمة الهدى.
الخلاصة
وبناءً على ما سبق: فاللحية من الفروع الفقهية التي وقع فيها الخلاف بين الفقهاء، والقاعدة في ذلك: أنه لا إنكار في مسائل الخلاف، وإنما الإنكار في المجمع على حرمته.
والله سبحانه وتعالى أعلم.