ما ضابط الغيبة في قوله تعالى: ﴿وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا﴾ [الحجرات: 12]؟ وهل ما يقوم به بعض الناس من الحديث مع غيرهم بما تضيق به نفوسهم وهو ما يُسمى بالتنفيس عن النفس (الفضفضة) يُعدُّ من الغيبة الممنوعة شرعًا؟
ضابط الغيبة في قوله تعالى: (وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا)
ضابط الغيبة المنهي عنها في الآية الكريمة هو ذكر المرء بِمَا فيه مما يَكْرَهُ في دينه أو دنياه أو أهله أو غير ذلك مما يتعلق به؛ سواء كان ذلك باللفظ أو بالإشارة أو الرمز، وإذا ذكره بما ليس فيه كان بهتانًا؛ وهي محرمة شرعًا، أما حديث الإنسان مع غيره بما يضيق به صدره ويصعب عليه تحمله -وهو ما يسمى بالتنفيس عن النفس أو الفضفضة-؛ فلا يدخل في معنى الغيبة المحرمة ما دام أنَّه من قبيل الاستشارة المنضبطة لغرض إيجاد الحلول وطلب النصيحة.
التفاصيل ....المحتويات
- المراد بالغيبة
- بيان حرمة الغيبة والأدلة على ذلك
- بيان ضابط الغيبة
- بيان العلماء للحالات التي تباح فيها الغيبة
- حكم الفضفضة
- الخلاصة
المراد بالغيبة
الغَيبة: بالفتح مصدر غاب، يقال: غاب الشيء يغيب غيبًا وغيبة وغيابًا، أي: بَعُدَ.
والغِيبة: بالكسر أن يتكلم خلف إنسان مستور بما يغمه لو سمعه. فإن كان صدقًا سمي غيبة، وإن كان كذبًا سمي بهتانًا. انظر: "مختار الصحاح" لزين الدين الرازي (ص: 231، ط. المكتبة العصرية)، و"لسان العرب" لابن منظور (1/ 656، ط. دار صادر)، و"عمدة القاري" للإمام بدر الدين العيني (22/ 127، ط. إحياء التراث العربي).
فالغيبة: هي ذكر المرء بِمَا فيه مما يَكْرَهُ في دينه أو دنياه أو أهله أو غير ذلك مما يتعلق به؛ سواء كان ذلك باللفظ أو بالإشارة أو الرَّمْز، أما ذِكْرُه بما ليس فيه فيكون بهتانًا.
قال شيخ الإسلام زكريا الأنصاري في "أسنى المطالب" (3/ 117، ط. دار الكتاب الإسلامي): [الحاصل أن الغيبة: وهي ذِكْرُ الإنسان بما فيه مما يكره ولو في ماله أو ولده أو زوجه أو نَحوِهَا مُحَرَّمَةٌ؛ سواء أذكره بلفظ أم كتابة أم إشارة بعين أو رأس أو يد أو نحوها] اهـ.
بيان حرمة الغيبة والأدلة على ذلك
والأصل أن الغيبة مُحَرَّمة بالقرآن والسُّنَّة والإجماع.
أما القرآن: فقوله تعالى: ﴿وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ﴾ [الحجرات: 12].
قال الإمام الطبري في "جامع البيان" (22/ 308، ط. مؤسسة الرسالة): [حرَّم الله على المؤمن أن يغتاب المؤمن بشيء، كما حرَّم المَيْتة] اهـ.
وقال أيضًا في (22/ 308) عند تفسيره للآية الكريمة في خطابه تعالى للمؤمنين منزِّلًا الحسيِّ منزلة المعنوي: [أيحبّ أحدكم أيها القوم أن يأكل لحم أخيه بعد مماته ميتًا، فإن لم تحبوا ذلك وكرهتموه؛ لأن الله حرَّم ذلك عليكم، فكذلك لا تحبوا أن تغتابوه في حياته، فاكرهوا غيبته حيًّا كما كرهتم لحمه ميتًا؛ فإن الله حرَّم غيبته حيًّا، كما حرَّم أكل لحمه ميتًا] اهـ.
وأما السُّنَّة: فعن أنس بن مالك رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لَـمَّا عرج بي ربي مررت بقومٍ لهم أظفارٌ من نحاسٍ، يخمشون وجوههم وصدورهم. فقلت: مَن هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم النَّاس، ويقعون في أعراضهم» أخرجه أبو داود في "السنن"، والإمام أحمد في "المسند".
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَنْ أكل لحم أخيه في الدنيا، قُرِّبَ إليه يوم القيامة، فيُقَالُ له: كُلْهُ حيًّا كما أكلته ميتًا؛ فيأكله، ويكْلَحُ ويصيحُ» رواه الإمام الطبراني في "المعجم الأوسط".
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في "فتح الباري" (10/ 470، ط. دار المعرفة): [وهذا الوعيد في هذه الأحاديث يدل على أن الغيبة من الكبائر] اهـ.
وقد نقل الإمام النووي الإجماع على تحريم الغيبة؛ فقال في "الأذكار" (ص: 336، ط. دار الفكر) عند تعرضه لحكم الغيبة والنميمة: [هما محرمتان بإجماع المسلمين] اهـ.
وعدَّها العلامة ابن حجر الهيتمي من الكبائر؛ حيث قال في "الزواجر عن اقتراف الكبائر" (2/ 8، ط. دار الفكر): [الكبيرة الثامنة والتاسعة والأربعون بعد المائتين: الغيبة والسكوت عليها رضًا وتقريرًا] اهـ.
بيان ضابط الغيبة
ذكر العلامة ابن حجر الهيتمي ضابط الغيبة أنها ذِكْرُ المرء بما يكره، وما تقرر من أنه لا فرق في الغيبة بين أن تكون في غيبة المغتاب أو بحضرته؛ فقال في "الزواجر" (2/ 26): [لا فرق في الغيبة بين أن تكون في غيبة المغتاب أو بحضرته، هو المعتمد. وفي "الخادم" ومن المهم ضابط الغيبة: هل هي ذكر المساوئ في الغيبة كما يقتضيه اسمها أو لا فرق بين الغيبة والحضور؟ وقد دار هذا السؤال بين جماعة، ثم رأيت أبا فورك ذكر في "مشكل القرآن" في تفسير الحجرات ضابطًا حسنًا فقال: "الغيبة ذكر الغير بظهر الغيب". وكذا قال سليم الرازي في تفسير الغيبة: أن تذكر الإنسان من خُلُقه بسوء وإن كان فيه] اهـ.
قال الإمام المناوي في "فيض القدير" (6/ 77، ط. دار المعرفة): [وكما يحرم على المغتاب يحرم على السامع سماعها وإقرارها؛ فيلزم السامع نهيه إن لم يخف ضررًا، فإن خافه لزمه الإنكار بقلبه، ومفارقة المجلس] اهـ.
بيان العلماء للحالات التي تباح فيها الغيبة
مع أن الغيبة محرمة كما ذكرنا إلَّا أن هناك حالاتٍ يُباح فيها للإنسان أن يذكر غيره بما فيه ولو بما يكره، وهي أكثر من أربعين موضعًا؛ كما ذكر الإمام المناوي في "التيسير شرح الجامع الصغير" (2/ 355، ط. مكتبة الإمام الشافعي)، وقد دقق المحققون هذا الكلام فوجدوا أن غالبها يرجع إلى ست حالات، نظمها الإمام كمال الدين ابن أبي شريف في قوله:
الذَّمُّ لَيْسَ بِغِيبَةٍ فِي سِتَّةٍ *** مُتَظَلِّمٍ وَمُعَرِّفٍ وَمُحَذِّرِ
وَلِمُظْهِرٍ فِسْقًا وَمُسْتَفْتٍ وَمَنْ *** طَلَبَ الْإِعَانَةَ فِي إِزَالَةِ مُنْكَرِ
وقد بيَّن ذلك العلماء على النحو الآتي:
الأول: التَظَلُّم، فيجوز للمظلوم أن يتظلَّم إلى الجهات المختصة كالقضاء والأجهزة والمؤسسات الرقابية ونحو ذلك ممّن له ولاية أو له قدرة على إنصافه من ظالمه، فيذكرُ أن فلانًا ظلمني، ونحو ذلك مما من شأنه أن يرفع به الظلم عن نفسه.
الثاني: الاستفتاء؛ كما يقول السائل للمفتي: ظلمني فلان؛ فكيف طريقي في الخلاص؟ والأسلم: التعريض؛ بأن يقول: ما قولك في رجلٍ ظلمه رجلٌ؟ وإن كان التعيين مباحًا.
الثالث: تحذير المسلمين من الشر؛ وذلك من وجوه، منها: تجريح المجروحين من الرواة والشهود والمصنفين، وذلك جائز بالإجماع؛ بل واجب صونًا للشريعة، وكذلك المشاورة في مصاهرة إنسان أو مشاركته أو مُجاورته.
الرابع: أن يكون الشخصُ مجاهرًا بالمعصية؛ كشرب الخمر على الملأ، ويتظاهر بذلك؛ بحيث لا يعترض أن يُذكر له، ولا يُكره أن يذكر به؛ فإذا ذكرت فيه ما يتظاهر به تحذيرًا منه أو رغبة في منعه؛ فلا إثم في ذلك.
الخامس: التعريف؛ فإذا كان الإنسان معروفًا بلقبٍ؛ كالأعمش، والأعرج، والأزرق، والقصير، والأعمى، والأقطع، ونحوها؛ جاز تعريفه به، ويحرم ذكره به تنقيصًا، ولو أمكن التعريف بغيره كان أولى.
السادس: الاستعانة على تغيير المنكر ورد العاصي إلى منهج الصلاح وفق الإجراءات والضوابط القانونية، مع اعتبار أنَّ ذلك مقيدٌ بكون محلّ الإنكار مما هو متفق عليه بين العلماء أنه منكر؛ إذ من القواعد المقررة أنَّه "لا ينكر المختلف فيه وإنما ينكر المجمع عليه". يُنْظر: "الأشباه والنظائر للسيوطي" (ص: 158، ط. دار الكتب العلمية)؛ فيقول لمَن يرجو قدرته على إزالة المنكر، وهي السلطة المنوط بها هذا الأمر قانونًا: فلان يعملُ كذا فازجرْه عنه، ونحو ذلك، ويكون مقصوده التوصل إلى إزالة المنكر، فإن لم يقصد ذلك كان حرامًا.
يُنظر: "إحياء علوم الدين" للإمام الغزالي (3/ 152-153، ط. دار المعرفة)، و"رياض الصالحين" للإمام النووي (ص: 425-226، ط. دار ابن كثير)، و"الأذكار" للإمام النووي (ص: 341)، و"فتح الباري" للإمام ابن حجر العسقلاني (10/ 468-479)، و"كشاف القناع" للإمام البهوتي الحنبلي (2/ 330، ط. دار المعرفة).
حكم الفضفضة
وأما حديث الإنسان مع غيره بما يضيق به صدره ويصعب عليه تحمله وهو ما يسمى بالتنفيس عن النفس أو نُطلق عليه "الفضفضة"، فلا يدخل في معنى الغيبة المحرمة شرعًا إذا كان من قبيل الاستشارة؛ لإيجاد الحلول من أهلها وإلا فلا ينبغي، ويكون ممنوعًا حينئذٍ؛ فقول الإنسان فلان ظلمني أو آذاني أو غير ذلك: قائم مقام قوله ماذا أفعل؟ أو كيف أتصرف؟
وكلُّ هذا جائز شرعًا، لكن بشرط أن يقتصر على ما يحقق المطلوب ولا يتعدَّى؛ فيقع في دائرة اللغو الذي لا فائدة منه؛ واللغو: مصدر لغا يلغو ويَلغى، ولَغِيَ يَلغى لغًا؛ إذا أتى بما لا يحتاج إليه في الكلام، أو بما لا خير فيه، أو بما يُلغَى إثمُهُ، وهذا ليس قاصرًا على الأقوال فقط، وإنما في الأفعال أيضًا. يُنظر: "تفسير القرطبي" (3/ 99، ط. دار الكتب المصرية).
وقد تحدث الإمام الرازي عن حقيقة اللغو؛ وذلك في تفسير قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ﴾ [المؤمنون: 3]؛ فقال في "مفاتيح الغيب" (23/ 261، ط. دار إحياء التراث العربي): [وفي اللغو أقوال: أحدها: أنه يدخل فيه كل ما كان حرامًا أو مكروهًا أو كان مباحًا، ولكن لا يكون بالمرء إليه ضرورة وحاجة، وثانيها: أنه عبارة عن كلِّ ما كان حرامًا فقط، وهذا التفسير أخص من الأول، وثالثها: أنه عبارة عن المعصية في القول والكلام خاصة، وهذا أخص من الثاني، ورابعها: أنه المباح الذي لا حاجة إليه] اهـ.
والإنسان وإن كان بكلامه هذا يُنَفِّس عن نفسه ما فيها من الغضب غير أنَّه لن ينتفع بشيء من كلامه هذا؛ فإنه مع كون هذا الكلام لغوًا؛ فإنه أيضًا مضيعة لوقته الذي لا ريب أنه مسؤول عنه يوم القيامة.
قال الإمام الغزالي في "إحياء علوم الدين" (3/ 113): [وحد الكلام فيما لا يعنيك أن تتكلم بكلام لو سكتَّ عنه لم تأثم ولم تستضر به في حالٍ ولا مالٍ؛ مثاله: أن تجلس مع قوم فتذكر لهم أسفارك، وما رأيت فيها من جبال وأنهار، وما وقع لك من الوقائع، وما استحسنته من الأطعمة والثياب، وما تعجبت منه من مشايخ البلاد ووقائعهم؛ فهذه أمور لو سكتَّ عنها لم تأثم ولم تستضر، وإذا بالغت في الجهاد حتى لم يمتزج بحكايتك زيادة ولا نقصان ولا تزكية نفس من حيث التفاخر بمشاهدة الأحوال العظيمة ولا اغتياب لشخص ولا مذمة لشيء مما خلقه الله تعالى؛ فأنت مع ذلك كله مُضَيِّع زمانك، وأنى تسلم من الآفات التي ذكرناها] اهـ.
الخلاصة
بناءً على ذلك: فضابط الغيبة المنهي عنها في الآية الكريمة هو ذكر المرء بِمَا فيه مما يَكْرَهُ في دينه أو دنياه أو أهله أو غير ذلك مما يتعلق به؛ سواء كان ذلك باللفظ أو بالإشارة أو الرمز، وإذا ذكره بما ليس فيه كان بهتانًا؛ وهي محرمة شرعًا، أما حديث الإنسان مع غيره بما يضيق به صدره ويصعب عليه تحمله -وهو ما يسمى بالتنفيس عن النفس أو الفضفضة-؛ فلا يدخل في معنى الغيبة المحرمة ما دام أنَّه من قبيل الاستشارة المنضبطة لغرض إيجاد الحلول وطلب النصيحة.
والله سبحانه وتعالى أعلم.