قال السائل: هل يجوز بناء مقبرة جديدة لنقل المقابر القديمة المتناثرة بالقرية وتجميعها في جبانة واحدة لغرض عمران البلد وصحة الناس؟ وهل يجوز شرعًا بناء "صندرة" فوق المقبرة لحفظ الجثمان بعد أن تحلَّل وأصبح عظامًا حتى يمكن دفن الناس بأكبر عدد ممكن؟ مع العلم أن هناك فصلًا بين الرجال والنساء. وهل لا بدّ من صلاة جنازة جديدة على الرفات عند نقلها؟
نقل الميت من مقبرة إلى أخرى والصلاة عليه عند نقله
لا مانع شرعًا من نقل المقابر القديمة المتناثرة بالبلد وتجميعها في جبانة واحدة لغرض عمران البلد والصحة، كما أنه لا مانع من نقل الموتى في هذه المقابر إلى هذه الجبانة التي تجمع موتى أهل البلدة كلهم، بشرط احترام جثثهم في نقلهم؛ فلا يُنقَلون على وجه يكون فيه تحقير لهم، وبشرط عدم انتهاك حرمتهم، ويجب استخدام كل الوسائل الممكنة التي من شأنها أن تحفظ أجسادهم وتسترها، مع مراعاة اللطف في حملهم، كما سبق بيانُه.
ولا مانع أيضًا من عمل صندرة أو أدوار داخل القبر الواحد إن أمكن، أو تغطية الميت القديم بقَبوٍ من طوب أو حجارة لا تَمَسّ جسمه ثم يوضع على القبو التراب ويدفن فيه الميت الجديد، مع مراعاة الفصل بين الموتى، وبين الرجال والنساء، ولا يجوز جمع عظام أكثر من ميت معًا.
وما دام أن الموتى قد صُلِّيَت عليهم صلاةُ الجنازة عند دفنهم فإنه لا تُصلَّى عليهم عند نقلهم.
التفاصيل ....الأصل أنه لا يجوز نبشُ القبر المدفون فيه الميت لدفن ميت آخر حتى يبلى جسد صاحبه؛ لأن القبر -كما يقول ابن الحاج في "المدخل " (3/ 258، ط. دار التراث): [حبسٌ على مَن دُفِن فيه حتى لا يبقى منه أثر ألبتة، ثم بعد ذلك يُتصرَّف فيه] اهـ.
وقد اتفق الفقهاء على حرمة نبش قبر الميت قبل البِلَى لنقله إلى مكان آخر لغير ضرورة، وعلى جوازه للضرورة، على اختلاف بينهم فيما يُعَدُّ ضرورةً وما لا يُعَدُّ كذلك.
والذي نراه ونختاره جواز ذلك للمصلحة العامة الضرورية أو الحاجية التي لا يمكن تحققها إلا بنقل الميت، بشرط احترام الميت في نقله؛ فلا يُنقَل على وجه يكون فيه تحقير له، وبشرط عدم انتهاك حرمته؛ فتكون مسافة النقل قريبة، وتستخدم كل الوسائل الممكنة التي من شأنها أن تحفظ جسده وتستره، مع مراعاة اللطف في حمله، كما ذكر ذلك السادة المالكية وغيرهم. وإنما جاز ذلك لِمَا يأتي:
ما رواه البخاري في "صحيحه" عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: "أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عبدَ الله بنَ أُبَيٍّ بعدما دُفِن، فأخرجه فنفث فيه من ريقه وألبسه قميصه"، وفي رواية أخرى عنده: "أتى رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم عبدَ الله بنَ أُبَيٍّ بعدما أُدخِل حُفرَتَه، فأمر به فأُخرِج، فوضعه على ركبتيه فنفث فيه من ريقه وألبسه قميصه"، فالله أعلم، وكان كسا عباسًا قميصًا، قال سفيان: فيُرَون النبي صلى الله عليه وآله وسلم ألبس عبدَ الله قميصَه مكافأةً بما صنع.
وعنه أيضًا قال: "دُفِن مع أبي رجلٌ، فلم تطب نفسي حتى أخرجتُه فجعلته في قبر على حِدَة". رواه البخاري والنسائي.
وعنه أيضًا قال: "أمر رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم بقتلى أُحُدٍ أن يُرَدُّوا إلى مصارعهم وكانوا نُقِلُوا إلى المدينة" رواه الخمسة، وصححه الترمذي.
وقد بوَّب الإمام البخاري في "صحيحه" على الحديثين الأولين بقوله: (باب هَلْ يُخْرَجُ المَيِّتُ مِنَ الْقَبْرِ وَاللَّحْدِ لِعِلَّةٍ)، قال الحافظ ابن حجر العسقلاني الشافعي في "فتح الباري" (3/ 215، ط. دار المعرفة): [أشار بذلك إلى الرد على مَن منع إخراج الميت مِن قبره مطلقًا أو لسبب دون سبب، كمَن خص الجواز بما لو دُفِن بغير غسل أو بغير صلاة؛ فإن في حديث جابر الأول دلالة على الجواز إذا كان في نبشه مصلحة تتعلق به من زيادة البركة له، وعليه يتنزل قوله في الترجمة (من القبر)، وفي حديث جابر الثاني دلالة على جواز الإخراج لأمر يتعلق بالحي؛ لأنه لا ضرر على الميت في دفن ميت آخر معه، وقد بيّن ذلك جابر رضي الله عنه بقوله: "فلم تطب نفسي"، وعليه يتنزل قوله: (واللحد)؛ لأن والد جابر رضي الله عنهما كان في لحدٍ، وإنما أورد المصنف الترجمة بلفظ الاستفهام؛ لأن قصة عبد الله بن أُبَيٍّ رضي الله عنه قابلة للتخصيص، وقصة والد جابر رضي الله عنهما ليس فيها تصريح بالرفع، قاله الزين بن المنير] اهـ.
وقال الحافظ العيني الحنفي في "عمدة القاري" (8/ 163، ط. دار إحياء التراث العربي): [وإنما ذكر الترجمة بالاستفهام ولم يذكر جوابه اكتفاء بما في أحاديث الباب الثلاثة عن جابر رضي الله تعالى عنه؛ لأن في الحديث الأول إخراج الميت من قبره لعلة، وهي إقماص النبي صلى الله عليه وآله وسلم عبدَ الله بنَ أُبَيٍّ رضي الله عنه بقميصه الذي على جسده، وفي الحديث الثاني والثالث إخراجه أيضًا لعلة، وهي تطييب قلب جابر رضي الله عنه؛ ففي الأول لمصلحة الميت، وفي الثاني والثالث لمصلحة الحي، ويتفرع على هذين الوجهين جوازُ إخراج الميت من قبره إذا كانت الأرض مغصوبة أو ظهرت مستحَقَّةً أو نوزعت بالشفعة، وكذلك نقل الميت من موضع إلى موضع؛ فذكر في "الجوامع": وإن نُقِل ميلًا أو ميلين فلا بأس به، وقيل: ما دون السفر، وقيل: لا يكره السفر أيضًا، وعن عثمان رضي الله تعالى عنه أنه أمر بقبور كانت عند المسجد أن تُحَوَّل إلى البقيع، وقال: تَوَسَّعوا في مسجدكم"، وقيل: لا بأس في مثله، وقال المازري: ظاهر مذهبنا جواز نقل الميت من بلد إلى بلد، وقد مات سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه بالعقيق ودفن بالمدينة، وكذلك سعيد بن زيد، وفي "الحاوي": "قال الشافعي: لا أحب نقله إلا أن يكون بقرب مكة أو المدينة أو بيت المقدس؛ فأختار أن يُنقَل إليها لفضل الدفن فيها، وقال البغوي والبندنيجي: يكره نقله، وقال القاض حسين والدارمي: يحرم نقله، قال النووي: هذا هو الأصح، ولم ير أحمد بأسًا أن يُحَوَّل الميتُ من قبره إلى غيره، وقال: قد نبش معاذ امرأته، وحُوِّل طلحةُ] اهـ.
وقد توسع السادة الحنابلة فيما يجوز نقل الميت من أجله؛ حيث يجوزون نبش القبر لتحسين كفن الميت، ولنقله إلى بقعة خير من بقعته التي دفن فيها؛ كمجاورة صالح لتعود عليه بركته، أو لإفراده في قبر واحد عمن دُفِن معه.
قال الإمام ابن قدامة في "المغني" (2/ 381، ط. مكتبة القاهرة): [وسئل أحمد عن الميت يخرج من قبره إلى غيره فقال: إذا كان شيء يؤذيه، قد حول طلحة وحولت عائشة رضي الله عنهما. وسئل عن قوم دفنوا في بساتين ومواضع رديئة. فقال: قد نبش معاذ امرأته رضي الله عنهما، وقد كانت كفنت في خلقين فكفنها ولم ير أبو عبد الله بأسا أن يحولوا] اهـ.
وقال العلامة المرداوي في "الإنصاف" (2/ 471، ط. دار إحياء التراث العربي): [ويجوز نبشه لغرض صحيح على الصحيح من المذهب نص عليه، وهو من المفردات، كتحسين كفنه، ودفنه في بقعة خير من بقعته، ودفنه لعذر بلا غسل ولا حنوط، وكإفراده؛ لإفراد جابر بن عبد الله رضي الله عنهما لأبيه، وقيل: لا يجوز، قال القاضي في "أحكامه": يمنع من نقل الموتى من قبورهم إذا دفنوا في مباح] اهـ.
وكذلك السادة المالكية: حيث رأوا جواز نقل الميت من قبره إلى موضعٍ تُرجَى بركتُه، أو ليدفن بين أهله، أو لأجل قرب زيارة أهله.
قال الشيخ عليش في "منح الجليل شرح مختصر خليل" (1/ 504، ط. دار الفكر): [(و) جاز (نقل) بفتح النون وسكون القاف أي: تحويل للميت من محل لآخر قبل دفنه أو بعده بشرط أن لا ينفجر حين نقله، وأن لا تنتهك حرمته، وأن يكون لمصلحة؛ كالخوف عليه من بحر أو سبع، أو رجاء بركة المحل المنقول إليه، أو دفنه بين أهله أو قرب زيارة أهله له، وإلا حرم، ويجوز مع الشروط] اهـ.
وإذا كانت مثل هذه الأسباب من المسوِّغات الشرعيّة لنقل الميت بعد دفنه عند هؤلاء الأئمة الأعلام فإنَّ المصلحة العامة تُجَوِّز ذلك من باب أَولَى؛ إذ من المقرر شرعًا أن مصلحة الجماعة العامة مقدمة على مصلحة الفرد الخاصة.
وما دام أن إبطال الدفن في المدافن المتناثرة ونقل الموتى منها للجبانة العامة -التي خُصصت لدفن الموتى- إنما هو للمصلحة العامة والاعتبارات الصحية والعمرانية التي ارتآها ولي الأمر فإن ذلك يقتضي الجواز حسب ما تقتضيه القواعد الشرعية والمصالح المرعية.
مع التنبيه على أن هذا الحكم بعدم جواز إلغاء المقابر المتناثرة ونقل الموتى منها مخصوص بقبور الصحابة والأولياء والصالحين؛ فقد نصَّ جماعة من العلماء على أنه يحرم نبشهم أو استخدام أماكن قبورهم لأغراض أخرى حتى ولو مضى عليهم وقت طويل من شأنه أن تنمحق فيه أجزاء الميت؛ تعظيمًا لقدرهم وإعلاءً لشأنهم وإحياءً لذكرهم وزيارتهم والتبرك بهم:
قال العلامة الشمس الرملي الشافعي في "نهاية المحتاج" (3/ 41، ط. دار الفكر): [أما بعد البلى عند مَن مر فلا يحرم النبش، بل تحرم عمارته وتسوية ترابه عليه إذا كان في مقبرة مسبلة لامتناع الناس عن الدفن فيه لظنهم به عدم البلى، ومحلّ ذلك كما قاله الموفق بن حمزة في "مشكل الوسيط": ما لم يكن المدفون صحابيًّا أو ممَّن اشتهرت ولايته وإلا امتنع نبشه عند الانمحاق، وأيده بعض المتأخرين بجواز الوصية بعمارة قبور الأنبياء والصالحين لما فيه من إحياء الزيارة والتبرك؛ إذ قضيته جواز عمارة قبورهم مع الجزم هنا بما مر من حرمة تسوية القبر وعمارته في المسبلة] اهـ.
وجاء في "حاشية العلامة الشبراملسي" (3/ 41، ط. دار الفكر) عليه: [قوله والصالحين" أي: والعلماء] اهـ.
والحفاظ على قبور الأولياء والصالحين والعلماء ومراعاتها وإحياؤها بالزيارة هو الذي جرى عليه عمل المسلمين سلفًا وخلفًا؛ حيث بقيت شواهد قبورهم معلومة بارزة للناس تملأ شرق الدنيا وغربها.
وبناءً على ذلك وفي واقعة السؤال: فلا مانع من نقل المقابر القديمة المتناثرة بالبلد وتجميعها في جبانة واحدة لغرض عمران البلد والصحة، كما أنه لا مانع من نقل الموتى في هذه المقابر إلى هذه الجبانة التي تجمع موتى أهل البلدة كلهم، بشرط احترام جثثهم في نقلهم؛ فلا يُنقَلون على وجه يكون فيه تحقير لهم، وبشرط عدم انتهاك حرمتهم، ويجب استخدام كل الوسائل الممكنة التي من شأنها أن تحفظ أجسادهم وتسترها، مع مراعاة اللطف في حملهم، كما سبق بيانُه.
ولا مانع أيضًا من عمل صندرة أو أدوار داخل القبر الواحد إن أمكن، أو تغطية الميت القديم بقَبوٍ من طوب أو حجارة لا تَمَسّ جسمه ثم يُوضَع على القبو التراب ويدفن فيه الميت الجديد، مع مراعاة الفصل بين الموتى، وبين الرجال والنساء، ولا يجوز جمع عظام أكثر من ميت معًا.
وما دام أنَّ الموتى قد صُلِّيَت عليهم صلاةُ الجنازة عند دفنهم فإنه لا تُصلَّى عليهم عند نقلهم.
والله سبحانه وتعالى أعلم.