مدى صحة عبارة: "لا شرع إلا بنص"

مدى صحة عبارة: "لا شرع إلا بنص"

ما مدى صحة عبارة: "لا شرع إلا بنص"؟ حيث إن هذه العبارة تجري على ألسنة بعض الناس وذلك في مقام الترجيح بين أقوال الفقهاء واختلافهم في مسألة من المسائل؛ فما مدى صحة هذه العبارة المشار إليها؟ خاصة في الأحكام التي تنبني على العوائد والأعراف، أرجو البيان ولكم الأجر والإحسان.

هذه العبارة لم ترد عن أحد من علماء الأمة في مختلف العلوم الشرعية، ولم يرد أيضًا ما يؤدي إلى مفهومها، ولم يكن من نهج أحد من العلماء المعتبرين مناقشة الأقوال والترجيح بينها بهذه العبارة أو نحوها؛ فهي تخالف الكتاب والسنة وعمل الأمة، فهي عبارة فاسدة وغير منضبطة.

التفاصيل ....

المحتويات

مدى صحة عبارة: "لا شرع إلا بنص"

عبارة "لا شرع إلا بنص" لم ترد على ألسنة أو أقلام العلماء المعتبرين، بل إنها تخالف المنقول والمعقول وعمل الأمة؛ حيث إنَّ المفهوم من هذه العبارة، أنه لا حجية في الأدلة المعتبرة عند جمهور علماء الأمة غير القرآن والسنة، وقد تواترت الأدلة الشرعية وتناقلته الأمة بمذاهبها الفقهية جيلًا عن جيل على جهة القطع والتواتر عبر القرون بما يخالف المفهوم من هذه العبارة.

ومن ذلك أنه قد تواترت نقول العلماء على أن الأحكام الشرعية تثبت بالاتفاق بالكتاب والسنة والإجماع والقياس.

قال الإمام الشافعي في "الرسالة" (1/ 34، ط. الحلبي): [وجهة العلم: الخبر في الكتاب، أو السنة، أو الإجماع، أو القياس] اهـ.

وقال الإمام الجصاص في "الفصول" (2/ 31، ط. وزارة الأوقاف الكويتية): [بيان الشرع يقع بالكتاب والسنة والإجماع والقياس] اهـ.

وقال الإمام الخطيب البغدادي في "الفقيه والمتفقه" (1/ 512، ط. دار ابن الجوزي): [أصول الأدلة: التي هي الكتاب والسنة والإجماع، فيقولون: هي الأصل، وما سوى ذلك من القياس ودليل الخطاب وفحوى الخطاب؛ فهو معقول الأصل] اهـ.

بيان أمارات فساد عبارة "لا شرع إلا بنص" وبيان حجية الإجماع

أمارات فساد هذه العبارة وعدم صحتها، وخاصة في مقام الترجيح بين الأقوال ظاهرة ومتعددة، ومن جملة هذه الأمارات: أنَّها تناقض حجية الإجماع، وهذا القول لم يقل به أحدٌ لا من أهل السنة والجماعة؛ ولا من أهل الحديث، ولا من أهل الرأي، بل ولا من أي مذهب يُعتَدُّ به من المذاهب الإسلامية؛ فالمتفق عليه عند علماء المسلمين أن الإجماع حجة قاطعة لا يجوز مخالفتها؛ والدليل على ذلك قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾ [النساء: 115]، والأخبار التي تواترت في معنى هذه الآية عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن الأمة لا تجتمع على ضلالة.

وذلك ثابت منقول بالتواتر عند جمهور علماء الأمة؛ حيث قال الإمام الرازي في "المحصول" (4/ 35، ط. مؤسسة الرسالة): [إجماع أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم حجة] اهـ.

وقال الإمام ابن قدامة في "روضة الناظر" (1/ 378، ط. مؤسسة الريّان): [والإجماع حجةٌ قاطعةٌ عند الجمهور] اهـ.

وقال الإمام الآمدي في "الإحكام" (1/ 200، ط. المكتب الإسلامي): [اتفق أكثر المسلمين على أن الإجماع حجةٌ شرعيةٌ يجب العمل به على كل مسلم] اهـ.

وقال الإمام الشيرازي في "اللمع" (ص: 88، ط. دار الكتب العلمية): [والإجماع حجةٌ في جميع الأحكام الشرعية؛ كالعبادات والمعاملات وأحكام الدماء والفروج، وغير ذلك من الحلال والحرام والفتاوى والأحكام] اهـ.

بيان حجية القياس في إثبات الأحكام الشرعية

كما أنَّها أيضًا يفهم منها عدم حجية القياس، ومن المقرر شرعًا أنَّ القياس حجةٌ من الحجج الشرعية المعتبرة؛ ودليل حجيته من القرآن الكريم قوله تعالى: ﴿فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ﴾ [الحشر: 2]؛ إذ معنى الاعتبار: العبور من الشيء إلى نظيره إذا شاركه في المعنى، والقياس عبور من حكم الأصل إلى حكم الفرع، فكان داخلًا تحت الأمر. ينظر: "المستصفى" للإمام الغزالي (ص: 293، ط. دار الكتب العلمية،) "المحصول" للإمام الرازي (5/ 27، ط. مؤسسة الرسالة).

قال الإمام الجصاص في "أحكام القرآن" (3/ 641، ط. دار الفكر) عند الكلام على هذه الآية الكريمة: [فيه أمر بالاعتبار، والقياس في أحكام الحوادث ضرب من الاعتبار، فوجب استعماله بظاهر الآية] اهـ.

ولما بَعَثَ رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم معاذًا إلى اليمن، قال له: «كَيْفَ تَقْضِي؟» فقال: أقضي بما في كتاب الله. قال: «فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي كِتَابِ اللهِ؟» قال: فبسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. قال: «فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ؟» قال: أجتهد رأيي. قال: «الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم» رواه الترمذي في "سننه".

ووجه الاستدلال بهذا الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أقر معاذًا رضي الله عنه على أن يجتهد إذا لم يجد نصًّا يقضي به في الكتاب والسنة.

والاجتهاد: بذل الجهد للوصول إلى الحكم، وهو يشمل القياس؛ لأنه نوع من الاجتهاد والاستدلال، والرسول صلى الله عليه وآله وسلم لم يقره على نوع من الاستدلال دون نوع. ينظر: "علم أصول الفقه" للشيخ عبد الوهاب خلاف (ص: 56، ط. مكتبة الدعوة).

بل جاء عن الإمام الشافعي أن الاجتهاد هو القياس، ونقل مقولته هذه كثير من الفقهاء والأصوليين، وجاء في كتابه "الرسالة" (ص: 477) قوله: [قال: فما القياس أهو الاجتهاد أم هما متفرقان؟ قلت: هما اسمان لمعنىً واحد] اهـ.

وقد ورد في السنة المطهرة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد استعمل القياس في الاستدلال على حكم كثير من الوقائع التي عُرِضت عليه، ولم يقم دليل على اختصاصه بذلك، فللمسلمين به أسوة؛ من ذلك أن رجلًا جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها صوم شهر، أفأقضيه عنها؟ قال: «نعم»، قال: «فدَيْن الله أَحَقُّ أن يُقْضى» أخرجه الإمام البخاري في "صحيحه"؛ قال الإمام ابن رشد الجد في "المقدمات الممهدات" (1/ 33-35، ط. دار الغرب الإسلامي): [وأما الاستنباط وهو القياس: فالتعبد به جائز في العقل واجب في الشرع. والذي يدل على أنه أصل من أصول الشرع الكتاب والسنة وإجماع الأمة.. فلما لم توجد جميع الأحكام في القرآن نصًّا علمنا أنه أراد أنه نص على بعضها وأحال على الاستنباط وهو القياس في سائرها.. وأما السنن الواردة في ذلك عن النبي عليه الصلاة والسلام فكثيرةٌ أيضًا ترفع العذر وتوجب القطع عن النبي عليه الصلاة والسلام بالحكم بالرأي والاجتهاد وإقرار أصحابه على ذلك في زمنه ومع وجوده ونزول الوحي، فكيف به اليوم بعد موت النبي صلى الله عليه وآله وسلم وانقطاع الوحي.. فقاس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وجوب قضاء دين الخالق على وجوب قضاء دين المخلوق] اهـ.

بيان حجية العرف في إثبات الأحكام الشرعية

وكما أنَّ المفهوم الظاهر من هذه المقولة ينطق بعدم اعتبار حجية الأدلة غير القرآن والسنة، ومنها الإجماع والقياس، فإنها ومن باب أولى يفهم منها عدم اعتبار حجية الأدلة المختلف فيها، ولا شك أنَّ الأدلة المختلف فيها اعتدَّ بها بعض الأصوليين في إظهار الأحكام الشرعية، ولم يعتد بها بعضُهم الآخر، ومنها: الاستحسان، وشرع مَن قبلنا، والمصالح المرسلة، والعرف.. إلخ.

وهذه الأدلة المختلف فيها والتي منها العرف، فإنها وإن ذهبنا إلى عدم اعتبارها بالكلية، فإنَّه يعسر على المجتهد ضبط كثير من الأمور الشرعية بدونها، ولذلك فإن هذه المقولة لم يقل بها أحد؛ وقد نص جمهور العلماء على اعتبار العرف -أو العادة- في الأحكام الشرعية؛ والأصل في ذلك قوله تعالى: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾ [الأعراف: 199].

قال ابن النجار الفتوحي في "شرح الكوكب المنير" (ص: 599-600، ط. مطبعة السنة المحمدية): [(و) من أدلة الفقه أيضًا (تحكيم العادة) وهو معنى قول الفقهاء: إن "العادة محكمة"، أي معمول بها شرعًا.. إن معنى العرف: كل ما عرفته النفوس ممَّا لا ترده الشريعة.. وكل ما تكرر من لفظ "المعروف" في القرآن نحو قوله سبحانه: ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ [النساء: 19]، فالمراد به ما يتعارفه الناس في ذلك الوقت من مثل ذلك الأمر.. فابتنى الحكم الشرعي على ما كانوا يعتادونه، ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم لهند رضي الله عنها «خُذِي وَبَنُوكِ مَا يَكْفِيكِ بِالْمَعْرُوفِ»، ومن ذلك: حديث حرام بن محيصة الأنصاري رضي الله عنه، عن البراء بن عازب رضي الله عنه: "أن ناقة البراء دخلت حائطًا فأفسدت فيه، فقضى النبي صلى الله عليه وآله وسلم على أهل الحيطان حفظها بالنهار، وعلى أهل المواشي حفظها بالليل". رواه أبو داود وصححه جماعة. وهو أدل شيء على اعتبار العادة في الأحكام الشرعية؛ إذ بنى النبي صلى الله عليه وآله وسلم التضمين على ما جرت به العادة، وضابطه كل فعل رتب عليه الحكم، ولا ضابط له في الشرع ولا في اللغة، كإحياء الموات، والحرز في السرقة، والأكل من بيت الصديق. وما يُعدُّ قبضًا وإيداعًا وإعطاء وهدية وغصبًا، والمعروف في المعاشرة وانتفاع المستأجر بما جرت به العادة. وأمثال هذه كثيرة لا تنحصر] اهـ.

وقال الإمام السيوطي في "الأشباه والنظائر" (ص: 90، ط. دار الكتب العلمية) عن أهمية الرجوع إلى العرف والعادة في معرفة الأحكام الشرعية المناسبة للواقع؛ منبهًا على كثير من الفروع الفقهية التي تبنى على ذلك: [اعلم أن اعتبار العادة والعرف رجع إليه في الفقه في مسائل لا تعد كثرة. فمن ذلك: سن الحيض، والبلوغ، والإنزال، وأقل الحيض والنفاس والطهر وغالبها وأكثرها، وضابط القلة والكثرة في الضبة، والأفعال المنافية للصلاة، والنجاسات المعفو عن قليلها، وطول الزمان وقصره في موالاة الوضوء في وجه، والبناء على الصلاة في الجمع، والخطبة، والجمعة، وبين الإيجاب والقبول، والسلام ورده، والتأخير المانع من الردِّ بالعيب، وفي الشرب وسقي الدواب من الجداول والأنهار المملوكة، إقامة له مقام الإذن اللفظي، وتناول الثمار الساقطة، وفي إحراز المال المسروق، وفي المعاطاة على ما اختاره النووي، وفي عمل الصناع على ما استحسنه الرافعي، وفي وجوب السرج والإكاف في استئجار دابة للركوب، والحبر، والخيط، والكحل على من جرت العادة بكونها عليه، وفي الاستيلاء في الغصب، وفي رد ظرف الهدية وعدمه، وفي وزن أو كيل ما جهل حاله في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فإنَّ الأصح أنه يراعى فيه عادة بلد البيع، وفي إرسال المواشي نهارًا وحفظها ليلًا، ولو اطردت عادة بلد بعكس ذلك؛ اعتبرت العادة في الأصح، وفي صوم يوم الشك لمَن له عادة، وفي قبول القاضي الهدية ممَّن له عادة، وفي القبض، والإقباض، ودخول الحمام، ودور القضاة، والولاة، والأكل من الطعام المقدم ضيافة بلا لفظ، وفي المسابقة، والمناضلة إذا كانت للرماة عادة في مسافة تَنَزَّل المطلقُ عليها، وفيما إذا اطردت عادة المتبارزين بالأمان، ولم يجر بينهما شرط؛ فالأصح أنها تنزل منزلة الشرط، وفي ألفاظ الواقف والموصي، وفي الأيمان] اهـ.

الخلاصة

بناءً عليه وفي واقعة السؤال: فإن هذه العبارة لم ترد عن أحد من علماء الأمة في مختلف العلوم الشرعية، ولم يرد أيضًا ما يؤدي إلى مفهومها، ولم يكن من نهج أحد من العلماء المعتبرين مناقشة الأقوال والترجيح بينها بهذه العبارة أو نحوها؛ فهي تخالف الكتاب والسنة وعمل الأمة، فهي عبارة فاسدة وغير منضبطة.

والله سبحانه وتعالى أعلم.

اقرأ أيضا