ما حكم الامتناع عن دفع مؤخر الصداق لإخفاء أهل الزوجة مرضها النفسي؟ فقد تزوجت قريبة لي، ولم يكن لدي أي معرفة سابقة بها، ولم يُسبق زواجنا بخطوبة لظروف سفري، وبعد أيام قليلة من زواجي اكتشفت أنها مريضة بمرض نفسي يصعب معه استمرار الحياة الزوجية بيننا، ورغم ذلك حاولت أن أكون لها مُعينًا وأن أكمل حياتي معها، وبالفعل صبرت كثيرًا على ظروف مرضها، ثم إنني الآن أعاني من الحياة معها وأرغب في تطليقها، فهل يجب عليّ أن ادفع لها جميع مؤخر صداقها، أو يحقّ لي الانتقاص منه أو الامتناع عنه بسبب مرضها وعدم إخباري به قبل الزواج؟
حكم الامتناع عن دفع مؤخر الصداق لإخفاء أهل الزوجة مرضها النفسي
لا يُباح الانتقاص من مهر الزوجة أو عدم إعطاؤه لها بسبب إخفاء كونها تعاني مرضًا نفسيًّا؛ لأن المهر يستحق كاملًا بالدخول، ويحلّ المُؤجَّل منه بالطلاق أو الوفاة، ولا يسقط إذا وجب إلا بالأداء أو الإبراء.
وإن ما يفعله الزوج من الصبر على مرض الزوجة هو من الأفعال الحسنة التي يُثاب عليها جزيل الثواب إن شاء الله، فإذا ضاق وسعه ولم يستطع الاستمرار في الحياة الزوجية بعد بذل الجهد في ذلك؛ فيُباح له أن يطلقها بحسب ما يراه محققًا لمصلحته مع إيفائها حينئذٍ جميع حقوقها الشرعية كاملة.
التفاصيل ....المحتويات
- المودة والرحمة بين الزوجين، ومعالجة ما يمنع تحقيقهما
- حث الشرع على الصبر على مرض الأقارب
- فضل صبر الزوج على مرض زوجته ورعايتها
- حكم الإمتناع عن دفع مؤخر صداق الزوجة بسبب مرضها
- الخلاصة
المودة والرحمة بين الزوجين ومعالجة ما يمنع تحقيقهما
الزواج من النعم التي أنعم الله تعالى بها على عباده حتى وصفه في كتابه الكريم بأنه آية من آياته التي تفضل بها على خلقه بما أفاض على هذه الصلة من معاني الرحمة والمودة؛ ترغيبًا للزوجين في الحفاظ على ما بينهما من رباط وثيق، وتقديرًا لمكانة هذه الصلة وأهميتها؛ قال تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الروم: 21].
قال العلامة الزجاج [ت: 311هـ] في "معاني القرآن وإعرابه" (4/ 182، ط. عالم الكتب): [جعل بين المرأة والزوج المودة والرحمة مِنْ قِبَلِ اللَّهِ] اهـ.
وقال الإمام الماتريدي في "تأويلات أهل السنة" (8/ 35، ط. دار الكتب العلمية): [(وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً)، يذكر فضله ومنته؛ ليتأدى به شكره] اهـ.
وقال العلامة الماوردي في "النكت والعيون" (4/ 305، ط. دار الكتب العلمية): [﴿لِّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا﴾ لتأنسوا إليها؛ لأنه جعل بين الزوجين من الأَنَسَية ما لم يجعله بين غيرهما.
﴿وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً﴾ فيه أربعة:
أحدها: أن المودة المحبة، والرحمة الشفقة، قاله السدي.
الثاني: أن المودة الجماع، والرحمة الولد، قاله الحسن.
الثالث: أن المودة حب الكبير، والرحمة الحنو على الصغير قاله الكلبي.
الرابع: أنهما التراحم بين الزوجين، قاله مقاتل] اهـ.
وقال العلامة الواحدي في "التفسير البسيط" (18/ 34، ط. جامعة الإمام محمد بن سعود): [جعل بين الزوج والمرأة المودة والرحمة، فهما يتوادَّان ويتراحمان، وما شيء أحبَّ إلى أحدهما من الآخر من غير رحم بينهما. وهذا معنى قول مقاتل والمفسرين] اهـ.
وقال الإمام الرازي في "مفاتيح الغيب" (7/ 162، ط. دار إحياء التراث العربي): [اعلم أن لله تعالى في إيجاد حب الزوجة والولد في قلب الإنسان حكمة بالغة، فإنه لولا هذا الحب لما حصل التوالد والتناسل، ولأدى ذلك إلى انقطاع النسل، وهذه المحبة كأنها حالة غريزية ولذلك فإنها حاصلة لجميع الحيوانات، والحكمة فيه ما ذكرنا من بقاء النسل] اهـ.
والمتأمل لحقيقة الصلة الزوجية يدرك أن الأصل الذي تقوم عليه هو التوادُّ والتكامل، والتضافر لا التنافر؛ فيكون ذلك مدعاة لأن تكون الحياة الزوجية قائمة على التواصل والتراحم، والتسامح والتغافل، لا تخاصم فيها في الحقوق، ولا تَشَاحَّ في الواجبات!
ويتضح ذلك المعنى جليًّا في حديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الصلة بين المؤمنين بأنها كصلة الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضوٌ تألمت له سائر الأعضاء؛ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ، وَتَرَاحُمِهِمْ، وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى» أخرجه الإمام مسلم في "الصحيح" من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه، والصلة الزوجية أولى منها وأوكد، باعتبارها الميثاق الغليظ الذي ينبغي أن يكون في بيئة يسودها الرحمة، ويعمها حسن الخلق، ويتخللها التضافر والتعاون.
إلا أن ذلك الأصل قد يطرأ عليه ما يكدره ويحول دون حصوله فيما بين الزوجين، بل أحيانًا كثيرة ما يفضي بهما إلى المشاحة في الحقوق والواجبات، فقد يطرأ على الزوجين في بعض الأحايين، بعض التوترات والاضطرابات، التي تحول دون تحقق معاني الرحمة والمودة، ومن تلك المشاق المرهقة التي قد تؤدي بهما إلى العنت والضرر، مرض أحد الزوجين.
لذلك فقد كان من عناية الشريعة بهذا الميثاق الغليظ أن شرعت من الأحكام ما يعالج مثل هذه الأمور التي تحول دون استقرار الحياة الزوجية؛ فبيَّنت حقوق كلِّ طرفٍ منهما وواجباته عند المشاحة، وأرشدت الزوجين إلى سبل الإصلاح الممكنة بينهما، ثم ندبت لهما طلب من يَحكم بينهما ممَّن يستوثق من حرصه عليهما؛ قال تعالى: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا﴾ [النساء: 35].
هذا إذا كان الخلاف بإرادة الزوجين؛ أما إذا كان بغير اختيار منهما كما في مرض أحدهما وتقاصر الطرف الآخر عن تحمله والصبر على مجاراته؛ فينبغي على هذا الطرف الصحيح الانطلاق ممَّا أرشد إليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم من فضيلة رعاية المريض حال مرضه وضعفه، وعظيم جزائها وجزيل مثوبتها، وذلك بين عموم الناس؛ ناهيك إذا كان بين الأزواج.
فعَنْ ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ عَادَ مَرِيضًا لَمْ يَزَلْ فِي خُرْفَةِ الْجَنَّةِ حَتَّى يَرْجِعَ» أخرجه الإمام مسلم.
وعن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه؛ أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَنْ عَادَ مَرِيضًا، مَشَى فِي خِرَافِ الْجَنَّةِ، فَإِذَا جَلَسَ عِنْدَهُ اسْتَنْقَعَ فِي الرَّحْمَةِ، فَإِذَا خَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ وُكِّلَ بِهِ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ يَسْتَغْفِرُونَ لَهُ ذَلِكَ الْيَوْمَ» أخرجه الإمام أحمد في "المسند".
ومن الأمراض التي يكثر بسببها الاضطراب والإرهاق، ويشيع من ضيرها التوتر والشكوى: المرضُ النفسي؛ إذ يجعل الإنسان في حالة من الارتباك والاضطراب الخارج عن حدود إرادته وسيطرته، ممَّا يؤكد على شدة احتياجه حينئذٍ إلى مَن يساعده ويعينه على أموره وحوائجه ويأخذ بيده، وأولى الناس بذلك هم قرابة الشخص وذووه.
وقد اعتنى الإسلام بفضيلة الصبر، وأكَّد على عظيم خَطَرِها، وأَعْظَمَ المثوبةَ عليها بجزيل الثواب؛ فورد في القرآن الكريم لفظ الصبر واشتقاقاته في نحو مائة موضع؛ منها قوله تعالى: ﴿لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾ [آل عمران: 186]، وقوله عزَّ وجلَّ: ﴿قُلْ يَاعِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [الزمر: 10].
حث الشرع على الصبر على مرض الأقارب
فندب الشرع الكريم إلى الصبر على المشقات والمصاعب، والبلايا والمصائب، وأكَّد على عظيم أجر أصحابها. وأخطر ذلك للمرء ما قد يصيب قرابته وذويه من المرض، الذي يستوجب عليه مؤنته وتحمله وأن يقوم على رعايته ليخفف عنه وطأته.
وأولى الناس بالرعاية هم الأهل والأقربون، وقد تواردت النصوص الشرعية على ذلك؛ فقد روى ابن عمر رضي الله عنهما: أن عثمان بن عفان رضي الله عنه تخلَّف عن رَكْب المسلمين في وقعة بدر، ومكث على زوجته -السيدة رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم- يرعاها من المرض، فلما بلغ ذلك رسولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم ضَرَبَ له بسَهْمِه، ولم يَضْرِبْ لأحَدٍ غابَ غيرِه، وقال: «إنَّ لَكَ أَجْرَ رَجُلٍ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا وسَهْمَهُ» أخرجه البخاري.
وعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لأَهْلِهِ وَأَنَا خَيْرُكُمْ لأَهْلِي» أخرجه الترمذي.
فضل صبر الزوج على مرض زوجته ورعايتها
فإذا صبر الزوج على مرض زوجته ورعايتها استحق بذلك الثواب الجزيل من الله تعالى؛ أما إذا عجز عن تحملها ورعايتها أو شق عليه بحيث كان صبره على ذلك المرض فوق وُسْعِه وطاقته فإن الله تعالى لا يكلف نفسًا إلا وسعها، فيجوز له حينئذٍ تطليقها بشرط أن يكون ذلك بإحسان من غير جحود أو استغلال أو نكران، كي لا يجتمع على تلك الزوجة المريضة ضرران: طلاقها، ونقصان صداقها؛ قال تعالى: ﴿فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ﴾ [البقرة: 231].
قال الإمام مقاتل بن سليمان في "تفسيره" (1/ 196، ط. دار إحياء التراث): [﴿سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ﴾ يعني: بإحسان من غَيْر ضرار فيوفيها المهر والمتعة] اهـ.
قال الإمام الطبري في "جامع البيان" (5/ 7، ط. مؤسسة الرسالة): [﴿بِمَعْرُوفٍ﴾ يقول: بإيفائهن تمام حقوقهن عليكم، على ما ألزمتكم لهن من مهر ومتعة ونفقة وغير ذلك من حقوقهن قبلكم] اهـ.
قال العلامة ابن الزبير الغرناطي [ت: 708هـ] في "ملاك التأويل" (1/ 67، ط. دار الكتب العلمية): [آية البقرة قد اكتنفها النهي عن مضارة النساء وتحريم أخذ شيء منهن ما لم يكن منهن ما يسوغ ذلك من ﴿ألَّا يقيما حدود الله﴾، فلما اكتنفها ما ذكر وأتبع ذلك بالمنع عن عضلهن وتكرر أثناء ذلك ما يفهم الأمر بمجاملتهن والإحسان إليهن حالَيِ الاتصال والانفصال لم يكن ليناسب ما قصد من هذا أن يعبر بلفظ ﴿أو فارقوهن﴾ لأن لفظ الفراق أقرب إلى الاساءة منه إلى الإحسان فعدل إلى ما يحصل منه المقصود مع تحسين العبارة وهو لفظ التسريح فقال تعالى: ﴿فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ﴾، وليجري مع ما تقدم من قوله تعالى: ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾، وقيل هنا "بإحسان" ليناسب ما به تعلق المجرور من قوله ﴿أو تسريح﴾، وقد روعي في هذه الآي كلها مقصد التلطف وتحسين الحال في المحبة والافتراق] اهـ.
حكم الإمتناع عن دفع مؤخر صداق الزوجة بسبب مرضها
لا يجوز للزوج الامتناع أو الانتقاص من دفع مؤخر صداق زوجته بسبب مرضها؛ ما دام قد خلا واستأنس بها واحتبست في بيته، ولو لم يكن مستوفيًا مع ذلك سائر الحقوق الزوجية؛ إذ المهر في الأصل لتعظيم العقد وتكريم المرأة، وهو دَينٌ في ذمة الزوج لا يسقط إلا بالأداء أو بالإبراء، ويُستحق كله بالدخول أو الخلوة الصحيحة، ونصفه بالعقد فقط، ويجب بأقرب الأجلين الطلاق أو الوفاة، ويستوي في وجوب استحقاقها المهر ما إذا كان مرضها سابقًا على الزواج ولم يعلم به الزوج ما دام قد خلا بها، أو كان حاصلًا بعد الزواج منها، وعلى ذلك تواردت النصوص.
فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: "أَيُّمَا رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً، وَبِهَا جُنُونٌ أَوْ جُذَامٌ أَوْ بَرَصٌ، فَمَسَّهَا، فَلَهَا صَدَاقُهَا" أخرجه الإمام مالك في "الموطأ"، وابن أبي شيبة في "المصنف"، والبيهقي في "السنن الكبرى".
قال القاضي أبو يوسف في "اختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلى" (ص: 212، ط. لجنة إحياء المعارف النعمانية): [إذا خلا الرجل بامرأته وهي حائض أو وهي مريضة، ثم طلقها قبل أن يدخل بها، فإن أبا حنيفة رضي الله عنه كان يقول: لها نصف المهر وبه نأخذ. وكان ابن أبي ليلى يقول: لها المهر كاملًا] اهـ.
وقال العلامة الكاساني في "بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع" (2/ 291، ط. دار الكتب العلمية): [(وأما) بيان ما يتأكد به المهر: فالمهر يتأكد بأحد معان ثلاثة: الدخول والخلوة الصحيحة وموت أحد الزوجين، سواء كان مسمى أو مهرَ المثل حتى لا يسقط شيء منه بعد ذلك إلا بالإبراء من صاحب الحق، أما التأكد بالدخول فمتفق عليه، والوجه فيه أن المهر قد وجب بالعقد وصار دَينًا في ذمته، والدخول لا يسقطه؛ لأنه استيفاء المعقود عليه، واستيفاء المعقود عليه يقرر البدل لا أن يسقطه كما في الإجارة؛ ولأن المهر يتأكد بتسليم المبدل من غير استيفائه لما نذكر فلأن يتأكد بالتسليم مع الاستيفاء أولى] اهـ.
وقال أيضًا في (2/ 295): [وإذا تأكد المهر بأحد المعاني التي ذكرناها لا يسقط بعد ذلك، وإن كانت الفرقة من قِبلها؛ لأن البدل بعد تأكده لا يحتمل السقوط إلا بالإبراء كالثمن إذا تأكد بقبض المبيع] اهـ.
وقال العلامة النفراوي المالكي في "الفواكه الدواني" (2/ 30، ط. دار الفكر): [قال خليل: (وللمريضة بالدخول المسمى)؛ يقضى لها به من رأس ماله قل أو كثر، لقول خليل: وتقرر بالوطء] اهـ.
الخلاصة
بناء على ذلك: فإننا نُشدّد التنبيه على أنّ أولى الناس برعاية المرأة المريضة هو زوجها الذي أوجب الله عليه رعايتها والإحسان إليها، ومن أوليات الرعاية والإحسان المساندة في وقت الضعف والمرض، فإذا فعل الزوج ذلك كان له الثواب الجزيل من الله تعالى؛ أما إذا لم يستطع القيام بذلك واختار الطلاق والفرقة؛ فلا يجوز شرعًا له الامتناع عن دفع مؤخر صداقها بسبب مرضها ولا الانتقاص منه، وسواء في ذلك إذا سبق هذا المرضُ الزواجَ أو لا، أو أُخفي عنه أو لا؛ إذ المهر إنما جعل لتكريم المرأة وتعظيم العقد، لا لمجرد استيفاء الحقوق.
وفي واقعة السؤال: فإنَّ ما قمتَ بفعله من صبرك على مرض زوجتك هو من الأفعال الحسنة التي تثاب عليها جزيل الثواب إن شاء الله، فإذا ضاق وسعك ولم تستطع الاستمرار في الزوجية بعد بذل الجهد في ذلك؛ فيُباح لك أن تطلقها بحسب ما تراه محققًا لمصلحتك مع إيفائها حينئذٍ جميع حقوقها الشرعية كاملة، ولا يُباح لك الانتقاص من مهرها أو منعها منه بسبب إخفاء كونها تعاني مرضًا نفسيًّا؛ لأن المهر يستحق كاملًا بالدخول، ويحلّ المؤجل منه بالطلاق أو الوفاة، ولا يسقط إذا وجب إلا بالأداء أو الإبراء.
والله سبحانه وتعالى أعلم.