ما حكم التلفيق بين مذهبين في بعض مسائل الطهارة؟ حيث جاء في حاشية العلامة السفطي المالكي على الشرح المسمى بـ"الجواهر الزكية على ألفاظ العشماوية" للشيخ أحمد بن تركي المالكي في باب فرائض الوضوء ما نصه: "واعلم أنهم ذكروا للتقليد شروطًا.." إلى أن قال: "الثالث: أنه لا يلفق في العبادة، أما إن لفق كأن ترك المالكي الدلك مقلدًا لمذهب الشافعي، ولا يبسمل مقلدًا لمذهب مالك، فلا يجوز؛ لأن الصلاة حينئذٍ يمنعها الشافعي؛ لفقد البسملة، ويمنعها مالك؛ لفقد الدلك"، ثم قال بعد ذلك: "وما ذكروه من اشتراط عدم التلفيق رده سيدي محمد الصغير وقال: المعتمد أنه لا يشترط ذلك، وحينئذ فيجوز مسح بعض الرأس على مذهب الشافعي، وفعل الصلاة على مذهب المالكية، وكذا الصورة المتقدمة ونحوها وهو سعة ودين الله يسر". فهل لو اغتسل غسلًا واجبًا أو توضأ وضوءًا واجبًا من ماءٍ قليلٍ مستعمل في رفع حدث مقلدًا لمذهب مالك وترك الدلك مقلدًا لمذهب الشافعي يكون غسله أو وضوؤه صحيحًا مثل الصورتين المتقدمتين؟ وهل يجوز التلفيق في قضية واحدة بين مذهبين في غسل واجب أو وضوء واجب؟
حكم التلفيق بين مذهبين في بعض مسائل الطهارة
المعتمد أنه لا يشترط عدم التلفيق، وحينئذ يجوز مسح بعض الرأس على مذهب الشافعي، وفعل الصلاة على مذهب المالكية، وكذا الصورة المتقدمة ونحوها، وهو سعة، ودين الله يسر؛ كما نصَّ على ذلك العلامة الأمير.
وهذا قول صحيح، وهو الذي تقتضيه النصوص الشرعية أصولًا وفروعًا.
ولو اغتسل المسلم غسلًا واجبًا وتوضأ وضوءًا واجبًا من ماء قليل مستعمل في رفع حدث مقلدًا لمذهب مالك، وترك الدلك مقلدًا لمذهب الشافعي يكون غسله ووضوؤه صحيحًا مثل الصورتين المذكورتين في السؤال ومثل غيرهما من الصور التي لا يضر فيها التلفيق بين مذهبين أو مذاهب متعددة متى لم يكن هذا التلفيق خارقًا للإجماع، وأما إذا كان التلفيق خارقًا للإجماع بأن كانت الحقيقة المركبة يقول ببطلانها جميع المجتهدين، ولا يمكن لمجتهد آخر على فرض وجوده أن يقول بها كحرمان الجد من الميراث بالكلية فالتلفيق باطل بالإجماع كما أن إحداث قول بحرمان الجد بالكلية باطل بالإجماع.
التفاصيل ....اطلعنا على هذا السؤال، ونفيد أن العلماء قد اختلفوا في التلفيق؛ وهو ما إذا قلّد الشافعي مثلًا في عدم فرضية الدلك للأعضاء المغسولة في الوضوء أو الغسل، وقلد مالكًا مثلًا في عدم نقض الوضوء باللمس بلا شهوة وصلى، فإنَّ صلاته باطلة في المذهبين؛ أما عند مالك؛ فلترك الدلك في الوضوء، وأما عند الشافعي؛ فلنقض الوضوء باللمس مطلقًا، ففريق ذهب إلى صحة التقليد مطلقًا ولو في مثل هذه الصورة الملفقة من مذهبين على الوجه المذكور، وإلى ذلك ذهب الكمال بن الهمام في "التحرير" -(3/ 351، مع شرحه "التقرير والتحبير"، ط. دار الكتب العلمية) -؛ حيث صرح بجواز التقليد مطلقًا، وقال: [وقيده متأخر بأن لا يترتب عليه ما يمنعانه]، قال شارحه ابن أمير حاج: [(وقيده)؛ أي: جواز تقليد غير مقلده. (متأخر) وهو العلامة القرافي. (بأن لا يترتب عليه)؛ أي: تقليد الغير. (ما يمنعانه) بإيقاع الفعل على وجه يحكم ببطلانه المجتهد إن معًا لمخالفة الأول فيما قلده فيه غيره، والثاني في شيء فيما يتوقف عليه صحة ذلك العمل عنده] اهـ.
وأيد ذلك الشيخ عبد العظيم محمد المكي في رسالته في التقليد -المسماة بـ"القول السديد في بعض مسائل الاجتهاد والتقليد" (ص: 79-86، ط. دار الدعوة-الكويت)- حيث قال ما نصه: [قد استفاض عند فضلاء العصر منع التلفيق في التقليد، وذلك بأن يعمل مثلًا في بعض أعمال الطهارة والصلاة أو أحدهما بمذهب إمام، وفي البعض الآخر بمذهب إمام آخر، ولم أجد على امتناع ذلك برهانًا، بل قد أشار إلى منعه المحقق في "التحرير"، وأنه لم يدر (ما يمنع) منه، ونقل منع التلفيق عن بعض المتأخرين، قال شارح تحريره العلامة ابن أمير حاج: (وهو القائل بالمنع) العلامة القرافي. قلت: والقرافي رجل من فضلاء الأصوليين من المالكية، ولا علينا أن لا نأخذ بقوله] اهـ.
وقد صرَّح الأصوليون بأن المجتهدين إذا اختلفوا على قولين لا ثالث لهما جاز الاجتهاد بإحداث قول ثالث إن كان مفصلًا، وقال أيضًا في رسالته المذكورة -(ص: 94-97)-: [كما لو حصل التلفيق بالاجتهاد، وحكمنا بالصحة فكذلك، أو حصل التلفيق بالتقليد حكمنا بالصحة؛ لأن الاجتهاد أصل في العمل والتقليد فرع؛ لأن التكليف في الأصل إنما هو بالاجتهاد عند عدم النص، فإذا عجز عن الاجتهاد ونزل إلى التقليد ففي كل موضع قلنا بالصحة مع الاجتهاد، ونقول بها مع التقليد عند العجز عنه من غير زيادة أمر آخر، وما زاد على ذلك فهو قول مخترع لا يقوم له دليل مُرضٍ ولا ينهض به حجة، وما يزعمه مَن منع مِن التلفيق من أن كلًّا من المجتهدين اللذين قلدهما مثلًا يقول ببطلان صلاته الملفقة مثلًا لو سئل عنها بانفراده فمغالطة مدفوعة بما أجمله أنه إنما يقول له: باطلة إن كنت أخذت في ذلك الأمر الذي حكمت، إما ببطلانها من أجله بمذهبي، وإما إن كنت قلدت فيه غيري فلا أحكم ببطلانها حينئذٍ في حقك إذا كنت متمسكًا بقول مجتهد، وكذلك يقول له الآخر في الأمر الآخر؛ فبطل قولهم في إطلاق منع التلفيق أن كلًّا من المجتهدين حاكم ببطلان صلاته مثلًا، بل يقيد الحكم من كل مجتهد منهما ببطلانها بما إذا كان متمسكًا فيها بمذهبه، فيما يرى ذلك المجتهد بطلانها بسبب فعله أو تركه لا أن قلد غيره فيه فافهم، فبه تندفع تلك المغالطة التي حكم فيها من حكم بمنع التلفيق بسببه، فإن قلت: لا، بل المجتهد يطلق القول ببطلانها على رأيه، فنقول لا يضر هذا الإبطال بمَن قلد مجتهدًا غيره في ذلك الأمر الذي أبطلها بسببه، فسلمت له صلاته بتقليده في كل أمر من أمورها مجتهدًا يرى صحة ذلك الأمر، فصار حكم المجتهد المبطل لها معروفًا عنه بتقليده مَن يرى الصحة بذلك الأمر، وبذلك ينصرف عنه حكم كل من المجتهدين ببطلانها] اهـ.
وقال -أيضا في (ص: 97-104)-: [إذا قلد المكلف أبا حنيفة رضي الله عنه في أن المس غير ناقض، وقلد الشافعي رضي الله عنه في الاكتفاء بمسح بعض قليل من الرأس لا يبلغ الربعَ أو ثلاثة قراريط، وصلى جازت صلاته، وأن ما قيل من عدم جوازها بناءً على أن أبا حنيفة يرى عدم صحتها؛ لعدم مسح القدر المفروض عنده، والشافعي يرى عدم صحتها؛ لوجود المس فهي غير جائزة عندهما، فهو مغالطة، وإطلاق في محل التقييد، بل الحكم ببطلانها عند كل منهما مقيد بما إذا كان آخذًا في ذلك الأمر الذي حكم من حكم ببطلانها بسببه بمذهب المبطل كما تقدم بيانه قريبا.. وكذلك مسألة النكاح، فإنَّه لا يصح بعبارة النساء عند الشافعي، ويصح عنده الحكم على الغائب، وعندنا الحكم بالعكس في المسألتين، فإذا حكم بصحته بعد وقوعه بعبارة النساء وبصحة الحكم على الغائب فقد لفق، وقد حكموا بصحة هذا الحكم الملفق من مذهبين] اهـ.
ونقل العلامة الطرسوسي عن "منية المفتي" جواز الواقعة المركبة من مذهبين وقال: [وقد نص فيها على الجواز، وصورة ما ذكره قال: لو قضى القاضي بشهادة الفساق على غائب، أو شهادة رجل وامرأتين في النكاح على غائب، فإنه ينفذ، وإن كان مَن يجَوِّز القضاء على الغائب، يقول: ليس للفاسق شهادة ولا للنساء في باب النكاح شهادة، هذه عبارة "المنية"، فقد جعل الحكم وإن كان مركبًا من مذهبين جائزاً] اهـ. -نقلًا عن "حاشية منحة الخالق على البحر الرائق" للعلامة ابن عابدين (5/ 203، ط. الحلبي)، و" العقد الفريد في بيان الراجح من الخلاف في التقليد" (ل: 18، مخطوط بمكتبة جامعة الملك سعود).
وذهب فريق آخر إلى عدم جواز التقليد في صورة التلفيق المذكورة، وأيده العلامة قاسم في ديباجة "تصحيح القدوري" حيث قال ما نصه: توضأ ومسح بعض الرأس، ثم صلى بنجاسة الكلب، قال في كتاب "توقيف الحكام على غوامض الأحكام": بطلت بالإجماع] اهـ، وانتصر له العلامة الشرنبلالي في رسالته المسماة بـ "العقد الفريد في بيان الراجح من الخلاف في التقليد" (ل: 17، مخطوط بمكتبة جامعة الملك سعود).
وأقول: إن القائل بصحة التقليد مع التلفيق يقول بصحة الصلاة الملفقة من مذهبين، والقائل بعدم جواز التقليد مع التلفيق يقول ببطلانها حيث بطلت في المذهبين؛ فالأول يدعي صحة الصلاة الملفقة مثلًا، والثاني يدعي بطلانها، وكل يطالب بالدليل فليس أحدهما مثبتًا والآخر نافيًا.
وعلى ذلك نقول بما لا شبهة فيه: إن العلماء قد أجمعوا على صحة تقليد العامي للمجتهد الذي توفرت فيه شروط الاجتهاد، ولم يقيدوا ذلك بعدم التلفيق؛ فالأصل بمقتضى هذا الإطلاق هو الصحة، وإطلاقهم حجة بلا شبهة، فمن ادعى البطلان وأن ذلك مقيد بعدم التلفيق فعليه البرهان، وأيضًا قول من قال: إن من خالف كلًّا من المجتهدين اللذين قلدهما في شيء واحد يستلزم وجود حقيقة لا يقول بها كل من المجتهدين؛ وذلك لأن كل واحد من المجتهدين لا يجد في صورة التلفيق جميع ما شرطه في صحتها، بل يجد بعضها دون بعض. غير مسلّم؛ لأنا نقول إذا خالف المقلد مذهب أحد المجتهدين في جميع ما شرطه، ووافق مذهب مجتهد آخر حكمنا بصحة صلاته، وممَّا لا شك فيه أن المخالفة في بعض الشروط في صورة التلفيق أهون من المخالفة في الجميع فلزم الحكم بالصحة في الأهون بالطريقة الأولى؛ ينظر: "العقد الفريد" (ل: 10-13). ولذلك قال السيد بادشاه بعد ذكر ما تقدم في المخطوطة السابقة (ل: 15-16، ): [ومن يدعي وجود فارق أو دليل على بطلان صورة التلفيق فعليه البرهان، فإن قيل: لا نسلم كون المخالفة في البعض أهون من المخالفة في الكل؛ لأن المخالف في الكل متبع مجتهدًا واحدًا في جميع ما يتوقف عليه صحة العمل، وها هنا لم يتبع واحدًا، قلت: هذا إنما يتمّ إذا كان معك دليل من نص أو إجماع أو قياس قويّ يدل على أن العمل إذا كان له شروط يجب على المقلد اتباع مجتهد واحد في جميع ما يتوقف عليه ذلك، فأت به إن كنت من الصادقين] اهـ.
وأمَّا ما قاله الشرنبلالي ردًا على السيد بادشاه (ل: 15): من أن السيد رحمه الله: [يدعي التلفيق وغيره بنفيه والثاني لا يحتاج إلى دليل؛ لأنه يهدم دليل المدعي حتى يقيم البرهان الجلي ولا بد من وجوده؛ فالمطلوب إثبات دليل بجواز التلفيق ولم نجده في كلام السيد] اهـ. فغير مسلم؛ لما قدمناه من الإجماع على صحة تقليد العامي للمجتهد مطلقًا، ولأن مسألة التقليد مع التلفيق مبنية على مسألة الاجتهاد بإحداث قول ثالث بعد انحصار الخلاف في مسألة في قولين، ففي كل موضع جاز الاجتهاد وإحداث قول ثالث جاز التقليد مع التلفيق.
والصحيح: جواز الاجتهاد وإحداث قول ثالث مفصل بين القولين بأن يأخذ بقول أحد المجتهدين في حادثة، وبقول الآخر في حادثة أخرى إذا لم يخرق إحداث هذا القول الثالث إجماع مَن قبله، وممَّا لا شك فيه أنَّ من قلد الشافعي في مسح بعض الرأس، وقلد مالكًا في عدم نقض الوضوء باللمس بلا شهوة غاية ما لزم من هذا التلفيق أن هذين المجتهدين لا يقولان بصحة هذه الصلاة مثلًا، أما مالك فيقول بعدم صحة هذه الصلاة؛ لعدم مسح جميع الرأس، وأما الشافعي فيقول بعدم صحة هذه الصلاة؛ لوجود المس، ولكن لا يلزم من عدم قولهما بذلك بفرض تسليمه عدم القول بصحتها من مجتهد آخر لجواز أن يوجد مجتهد توفرت فيه شروط الاجتهاد يقول بعدم نقض المس، وبالاكتفاء بمسح البعض كأبي حنيفة مثلًا، فلا تلفيق بين مذهبين وإنما قلد المقلد مجتهدًا آخر يقول بصحة هذه الصلاة المركبة من مذهبي مالك والشافعي؛ فدعوى بطلان التلفيق مطلقًا بالإجماع غير مسلمة، وإنما يبطل التلفيق إذا كان العمل الملفق باطلًا بإجماع المذاهب وهذا غير موجود في الصور التي يجوز فيها التلفيق.
وأما عدم قول اثنين من المجتهدين بصحتها، فلا يقتضي الإجماع على بطلانها حتى يقال: إنَّ التلفيق مطلقًا باطل بالإجماع على أنك قد علمت أنَّ القول بأن كلًّا من المجتهدين يقول ببطلانها غير مسلّم؛ فإنَّ مالكًا مثلًا يقول: إنما أقول ببطلان الصلاة إذا مسح بعض الرأس فقط إذا لم يقلد الشافعي أو أبا حنيفة، وأما إذا قلد واحدًا منهما في ذلك؛ فإني أقول بصحتها بناءً على قولي بصحة التقليد، وكذلك الشافعي أيضًا يقول: إنما أقول بعدم صحة الصلاة مع اللمس إذا لم يقلد غيري فيها، وأما إذا قلد غيري فيها فإني لا أقول ببطلانها على مذهب ذلك الغير. ينظر: "العقد الفريد" (ل: 13-14).
وبالجملة كما يجوز أن يوجد مجتهد يرى باجتهاده الاكتفاء بمسح البعض ولو قليلًا، ويرى عدم نقض الوضوء باللمس يجوز أيضًا للمقلد أن يقلد الشافعي في مسح بعض الرأس ولو قليلًا، ولا يقلده فيما عدا ذلك من الشروط، ويقلد مالكًا في عدم نقض الوضوء باللمس بلا شهوة فقط، ولا يقلده فيما عدا ذلك كما قدمناه مفصلًا عن السيد عبد العظيم المكي.
وقال الإمام اللكنوي في "فواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت" في مبحث الإجماع -(2/ 286، ط. دار الكتب العلمية) -: [(إذا) اختلف (ولم يتجاوز أهل العصر عن قولين في مسألة لم يجز إحداث) قول (ثالث عند الأكثر، وجاز) الإحداث (عند طائفة مطلقًا، ومختار الآمدي والرازي أن رفع) الثالث (ما اتفقا عليه فممنوع) إحداثه؛ نحو (مقاسمة الجد) الصحيح (للأخ) كما عن أمير المؤمنين علي وزيد بن ثابت، (وحجبه)؛ أي: حجب الجد الأخ عن الميراث؛ كما عن خليفة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم أبي بكر الصديق وأمير المؤمنين عمر وابن الزبير وابن عباس رضي الله عنهم، فقد اتفق الكل على أنَّ للجدّ ميراثًا، وإنما اختلفوا في القدر؛ (فالحرمان وسلب الميراث عن الجد رأسًا (خلاف الإجماع)، فلم يجز إحداثه، وإلا -أي: وإن لم يرفع ما اتفقا عليه في المسألة- فلا يمنع من الإحداث الثالث؛ (كالتفصيل في الفسخ بالعيوب) البرص والجذام والجنون في أيهما كان، والجب والعنة في الزوج، والرتق والقرن في الزوجة، (فقيل: لا) توجب الفسخ أصلًا، (وقيل: نعم) توجب الفسخ في الكل، فالتفصيل لم يقل به أحد، ولكن لا يرفع شيئًا ممَّا اتفقوا عليه، بل في البعض بقول البعض، وفي الآخر بقول الآخر، فيجوز إحداثه، وفي "التيسير" عن بعض الشروح أن الأقوال الثلاثة مشهورة من الصحابة] اهـ. مع حذف وزيادة للإيضاح به.
وقال أيضًا في (2/ 438) في مسألة لا يرجع المقلد عما عمل به: [(ويتخرج منه)؛ أي: ممَّا ذُكِر أنه لا يجب الاستمرار على مذهب (جواز اتباعه رخص المذاهب، ولا يمنع منه مانع شرعي؛ إذ للإنسان أن يسلك الأخف عليه إذا كان له إليه سبيل) بأن لم يظهر من الشرع المنع، (وبأن لم يكن عمل) فيه )بآخر)، هذا مبني على منع الانتقال عما عمل به ولو مرة. وهو خلاف المختار كما قدمه، (وكان عليه) وعلى آله وأصحابه الصلاة والسلام يحب ما خف عليهم)، ومال ابن عبد البر أنه لا يجوز للعامي تتبع الرخص، فأجيب عنه بمنع هذا بالإجماع؛ (إذ في تفسيق متتبع الرخص عن الإمام) أحمد (روايتان)، ولعل رواية التفسيق إنما هي فيما إذا قصد التلهي فقط لا غير، (وما أورد) أنه يلزم على تقدير جواز الأخذ بكل مذهب احتمال الوقوع في خلاف المجمع عليه؛ إذ (ربما يكون المجموع) الذي عمل به (ممَّا لم يقل به أحد فيكون باطلًا)، كمَن تزوج بلا صداق اتباعًا؛ لقول الإمامين أبي حنيفة والشافعي رحمهما الله تعالى، (وبلا شهود) اتباعًا لقول الإمام مالك، (وبلا ولي) على قول إمامنا أبي حنيفة فهذا باطل اتفاقًا، أما عندنا فلانتفاء الشهود، وأما عند غيرنا فلانتفاء الولي، (فأقول: مندفع لعدم اتحاد المسألة)، وقد مر أن الإجماع على نفي القول الثالث إنما يكون إذا اتحدت المسألة حقيقة أو حكمًا فتدبر، (ولأنه لو ثم لزم استفتاء مفت بعينه) وإلا احتمل الوقوع فيما ذُكِر] اهـ بتصرف.
ومن هذا يُعلَم أنَّ مسألة التلفيق مبنية على مسألة إحداث قول ثالث إذا انحصر خلاف المجتهدين في عصر في قولين، ففي كل موضع يمتنع فيه إحداث القول الثالث بأن يكون القول الثالث مخالفًا للإجماع يمتنع فيه التلفيق أيضًا إذا خالفت الصورة الملفقة إجماعًا، وأما إذا وافق بعضها قول مجتهد، وخالفه بعض آخر وافق فيه مجتهد آخر -كالصورة المذكورة- فالتلفيق غير ممتنع.
ومن ذلك يُعلَم أنَّ دعوى الإجماع على منع التلفيق مطلقًا دعوى لم يقم عليها دليل، بل قام الدليل على بطلانها، وأنَّ ما قاله العلامة الأمير من أن "المعتمد أنه لا يشترط عدم التلفيق، وحينئذٍ يجوز مسح بعض الرأس على مذهب الشافعي، وفعل الصلاة على مذهب المالكية، وكذا الصورة المتقدمة ونحوها، وهو سعة، ودين الله يسر". قول صحيح، وهو الذي تقتضيه النصوص الشرعية أصولًا وفروعًا، كما أنه يعلم أنه لو اغتسل غسلًا واجبًا وتوضأ وضوءًا واجبًا من ماء قليل يستعمل في رفع حدث مقلدًا لمذهب مالك، وترك الدلك مقلدًا لمذهب الشافعي يكون غسله ووضوؤه صحيحًا مثل الصورتين المذكورتين في السؤال ومثل غيرهما من الصور التي لا يضر فيها التلفيق بين مذهبين أو مذاهب متعددة متى لم يكن هذا التلفيق خارقًا للإجماع، وأما إذا كان التلفيق خارقًا للإجماع بأن كانت الحقيقة المركبة يقول ببطلانها جميع المجتهدين، ولا يمكن لمجتهد آخر على فرض وجوده أن يقول بها؛ كحرمان الجد من الميراث بالكلية فالتلفيق باطل بالإجماع، كما أنَّ إحداث قول بحرمان الجد بالكلية باطل بالإجماع.
والله سبحانه وتعالى أعلم.