حَدَثَ نِقَاشٌ عندنا بين رُوَّاد المسجد حول مدى جواز إلقاء السلام على مَن يقرأ القرآن، فنرجو بيان الحكم الشرعي في هذه المسألة.
إلقاء السلام على قارئ القرآن مشروعٌ، والخلاف فيه دائرٌ بين الكراهة والاستحباب، فيَسَعُ المكلَّفَ أنْ يُلْقِيَ السلامَ عليه أو لا يَفعَل، مِن غير إثمٍ عليه في ذلك ولا حرج، ولا يُشرع لغيره الإنكارُ عليه، مع الأخذ في الاعتبار أنَّ الأَوْلَى مراعاةُ حال القارئ فإن كان مستغرِقًا في التدبر والترتيل، ولا يحزنه عدمُ السلام عليه، تُرِكَ السلامُ عليه، أما إذا لَم يكن مستغرِقًا في التدبر والترتيل، أو كان يحزنه عدم إلقاء السلام عليه، فالأَوْلَى في هذه الحالة والمستحبُّ إلقاءُ السلام.
المحتويات
السلام تحيةٌ مِن عند الله، أهداها أهلَ الإسلام، وأَمَرَهُم بإفشائها؛ فقال تعالى: ﴿فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً﴾ [النور: 61].
وعن عبد الله بن عمرٍو رضي الله عنهما أنَّ رجلًا سأل النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم: أيُّ الإسلام خيرٌ؟ قال: «تُطْعِمُ الطَّعَامَ، وَتَقْرَأُ السَّلَامَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ» متفق عليه.
وللسلام أثرٌ عظيمٌ في توثيق أواصر الأُلفة والمحبة في المجتمع؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لَا تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَوَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ؟ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ» أخرجه الإمام مسلم في "صحيحه".
أجمع الفقهاء على أنَّ إلقاءَ التحيةِ والسلامِ سُنَّةٌ نبويةٌ مؤكدةٌ.
قال الإمام ابن حزم في "مراتب الإجماع" (ص: 156، ط. دار الكتب العلمية): [واتفقوا على أنَّ المارَّ مِن المسلمين على الجالس أو الجلوس منهم، أنه يقول: "السلام عليكم"] اهـ.
وقال الإمام القرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" (5/ 298، ط. دار الكتب المصرية): [أجمع العلماء على أنَّ الابتداء بالسلام سُنَّةٌ مُرَغَّبٌ فيها] اهـ.
إلا أنَّ جمهور الفقهاء مِن الحنفية، وبعض أئمةِ المالكيةِ كابن فَرْحُون، وكذا بعض أئمة الشافعيةِ كالوَاحِدِيِّ والأَذْرَعِيّ، والحنابلة، قد ذكروا مَواطنَ يُكرَه فيها إلقاءُ السلام؛ مراعاةً لحال المتلقي (المُسَلَّم عليه) ومدى تمكُّنه مِن رد السلام حتى لا يقع في الحرج، وعَدُّوا مِنها: إلقاء السلام على المشغول بقراءة القرآن الكريم، باعتباره عاجزًا عن ردِّ السلام شرعًا.
قال زين الدين ابن نُجَيْم الحنفي في "البحر الرائق" (2/ 16، ط. دار الكتب العلمية): [اعلم أنَّه يُكرَه السلامُ على المصلي، والقارئ، والجالس للقضاء، أو البحث في الفقه] اهـ.
وجاء في "رد المحتار" للعلامة ابن عابدين الحنفي (1/ 617، ط. دار الفكر): [يُكرَه السلامُ على العاجز عن الجواب حقيقةً كالمشغول بالأكل أو الاستفراغ، أو شرعًا كالمشغول بالصلاة وقراءة القرآن] اهـ.
وأَوْرَدَ سراج الدين ابن نُجَيْم الحنفي في "النهر الفائق" (1/ 271، ط. دار الكتب العلمية) نَظْمَ صَدْرِ الدين الغَزِّي الذي جَمَعَ فيه المواضعَ التي يُكرَه فيها السلامُ على الغير، وجاء في مَطْلَعِهِ قارئُ القرآن، حيث قال:
[سَلَامُكَ مَكْرُوهٌ عَلَى مَنْ سَتَسْمَعُ *** ومِنْ بَعْدِ مَا أُبْدِي يُسَــــنُّ ويُشْــــــرَعُ
مُصَلٍّ، وَتَالٍ، ذَاكِـرٍ، وَمُحَــدِّثٍ *** خَطِيبٍ، وَمَنْ يُصْغِي إِلَيْهِمْ ويَسْمَــعُ] اهـ.
وقال العلامة ابن الحاج المالكي في "المدخل" (1/ 228، ط. مكتبة دار التراث): [أربعةٌ لا يُسَلَّم عليهم.. وزادَ بعضُ الناس: قارئ القرآن] اهـ.
وقال برهان الدين ابن فَرْحُون المالكي في "المسائل الملقوطة" (ص: 177، ط. دار ابن حزم): [ويُكرَه السلام على الآكل.. وعلى القارئ] اهـ.
وقال الإمام النووي الشافعي في "المجموع" (2/ 167، ط. دار الفكر) في ذكر السلام على قارئ القرآن: [قال الوَاحِدِيُّ مِن أصحابنا: لا يُسَلِّم المارُّ] اهـ.
وقال في "روضة الطالبين" (10/ 232، ط. المكتب الإسلامي): [وأما المُشتَغِلُ بقراءة القرآن، فقال أبو الحَسَن الوَاحِدِيُّ المفسِّر مِن أصحابنا: الأَوْلَى تَرْكُ السلام عليه] اهـ.
وقال شيخ الإسلام زكريا الأنصاري الشافعي في "أسنى المطالب" (4/ 183، ط. دار الكتاب الإسلامي) عند نقله عن الإمام النووي كراهةَ إلقاء السلام على الدَّاعي إذا كان مستغرِقًا في الدُّعاء مُجْتَمِعَ القَلْب عليه: [قال الأَذْرَعِيُّ: وإذا اتَّصَف القارئُ بذلك فهو كالداعي، بل أَوْلَى، لا سيما المستغرِق في التَّدبر] اهـ.
وقال أبو السعادات البُهُوتِيُّ الحنبلي في "كشاف القناع" (2/ 178، ط. دار الكتب العلمية): [(و) يكره السلام (على تالٍ) للقرآن وعلى (ذاكرٍ) لله تعالى.. (ونحوهم) أي: نحو المذكورين مِن كلِّ مَن له شُغْلٌ عن رَدِّ السلام] اهـ.
ذهب المالكية والشافعية في المعتمد إلى عدم كراهة السلام على قارئ القرآن، وأنه كغيره، فيَبقى إلقاءُ السلام عليه على أصل مشروعيته مِن النَّدب والاستحباب.
قال العلامة أبو البَرَكَات الدَّرْدِير المالكي في "الشرح الكبير" (1/ 198، ط. دار الفكر): [(و) كُرِهَ (سلامٌ عليه) أي: على المؤذِّن.. لا على مُصَلٍّ، أو مُتَطَهِّرٍ، أو آكِلٍ، أو قارئِ قرآنٍ، فلا يُكرَه] اهـ.
وقال الإمام النووي الشافعي في "المجموع" (2/ 167): [ويستحب لمن مرَّ على القارئ أن يُسَلِّمَ عليه] اهـ.
وقال شمس الدين الرَّمْلِيُّ الشافعي في "نهاية المحتاج" (8/ 54، ط. دار الفكر) في بيان مَن يُشرَع السلامُ عليه: [ويُندَب على القارئ وإن اشتَغَل بالتدبر] اهـ.
فيتحصَّل مما سبق: أنَّ مَبْنَى هذه المسألة على السَّعَةِ، فيجوز العمل فيها بأيٍّ مِن القَوْلَيْن بلا حرجٍ، ولا يَسَعُ أحدًا فيها أن يُنكِر على أحدٍ؛ لِمَا تقرر في قواعد الفقه مِن أنه "لَا يُنكَرُ المختَلَفُ فِيهِ وَإِنَّمَا يُنكَرُ المُجمَعُ عَلَيهِ"؛ كما في "الأشباه والنظائر" لجلال الدين السيوطي (ص: 158، ط. دار الكتب العلمية).
ومعنى الإنكار: معاتبةُ الشخص، أو نهيُه عن العمل؛ لكونه مخالفًا لما يراه المنكِرُ ويختاره، أو نسبَةُ قوله إلى المُنْكَر بأيِّ طريقةٍ مِن طرق الإنكار الثلاث المنصوص عليها في الحديث -اليد، أو اللسان، أو القلب- وذلك بهدف التغيير.
قال القاضي أبو يَعْلَى الفَرَّاء في "العدة في أصول الفقه" (4/ 1226، ط. المدني): [(للعامِّيِّ أن يقلِّد مَن شاء مِن المجتهدين) وإذا ثَبَت أنَّ له التقليد، فليس عليه أن يجتهد في أعيان المقلَّدين، بل يقلِّد مَن شاء؛ لأنه لَمَّا لم يكن عليه الاجتهاد في طلب الحكم كذلك في المقلَّد] اهـ.
وقال الإمام شهاب الدين القَرَافِيُّ في "شرح تنقيح الفصول" (ص: 432، ط. شركة الطباعة الفنية المتحدة): [قاعدةٌ: انعقد الإجماع على أنَّ مَن أسلم فله أن يُقلِّد مَن شاء مِن العلماء بغير حَجْرٍ، وأجمع الصحابة رضوان الله عليهم على أنَّ مَن استفتى أبا بكر وعمر رضي الله عنهما أو قلَّدهما، فله أن يستفتي أبا هريرة ومعاذ بن جبل رضي الله عنهما وغيرهما ويعمل بقولهم مِن غير نكير، فمَن ادَّعَى رَفْعَ هذين الإجماعَيْن فعليه الدليل الثالث] اهـ.
والأَوْلَى حينئذٍ مراعاةُ حال القارئ، فإن كان مستغرِقًا في التدبر والترتيل، ولا يحزنه عدمُ السلام عليه، تُرِكَ السلامُ عليه، أما إذا لَم يكن مستغرِقًا في التدبر والترتيل، أو كان يحزنه عدم إلقاء السلام عليه، فالأَوْلَى في هذه الحالة والمستحبُّ إلقاءُ السلام.
بناءً على ذلك وفي واقعة السؤال: فإنَّ إلقاء السلام على قارئ القرآن مشروعٌ، والخلاف فيه دائرٌ بين الكراهة والاستحباب، فيَسَعُ المكلَّفَ أنْ يُلْقِيَ السلامَ عليه أو لا يَفعَل، مِن غير إثمٍ عليه في ذلك ولا حرج، ولا يُشرع لغيره الإنكارُ عليه، مع الأخذ في الاعتبار أنَّ الأَوْلَى مراعاةُ حال القارئ مِن الاستغراق في التلاوة مِن عدمه، وكذا مراعاة خاطره إن كان يحزنه ترك السلام عليه أو لا، كما سبق بيانه.
والله سبحانه وتعالى أعلم.
ما هو واجب كل من الزوجين تجاه الآخر عند التقصير في حقوق الله تعالى؟
ما هي الأعمال المستحبة شرعًا عند نزول المطر وهبوب الرياح وسماع الرعد؟
أرجو من فضيلتكم التكرم ببيان فضل زيارة المريض، والآداب الشرعية التي ينبغي أن تراعى عند زيارته. فإني أرى بعض الناس عند زيارتهم للمرضى يطيلون الجلوس بجوار المريض، وأحيانًا يقولون بعض الألفاظ التي قد تسبب الأذى النفسي للمريض، أو من معه.
حكم قراءة صحيح البخاري وكتب السنة لرفع الوباء حيث ورد سؤال يقول صاحبه: في ظِلِّ ما يمرُّ به العالمُ من تفشِّي وباء كورونا يقومُ بعضُ العلماء وطلبة العلم بتنظيم قراءة "صحيح البخاري" بتقسيمه على من يحِبُّ المشاركةَ في ختمه، عن طريق وسائلِ التواصل الاجتماعي؛ تبرُّكًا وتوسُّلًا إلى الله تعالى لكشْف وباء كورونا، جريًا على ما اعتاده علماءُ الأزهر من قراءته في الملمَّات والنوازل: كدفع الوباء، وكشف البلاء، ومواجهة الغلاء.
لكن خرج بعضُ مدَّعي العلمِ على بعض المواقع زاعمًا أن التَّعبُّدَ بتلاوة صحيح البخاري لمجرد التِّلاوة بدعة، وأن التبرُّك والتوسُّل به حرام، وأنه لا فرقَ في ذلك بين "صحيح البخاري" و"مسلم" مثلًا، وأنها مجرَّد طقوس ابتدعها بعض الجهلة لمواجهة الأوبئة، وأنَّ توظيف "صحيح البخاري" للاستشفاء والتحصين لرفع البلاء أمرٌ متكلَّف، وأنَّ من ضرورياتِ الدين أنَّ المقصودَ مِن كتاب الله وسنَّة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم هو العمل بِمَا فيهما مِن الأوامرِ والنَّواهي، والإيمان بِمَا فيهما مِن الأخبار، وليس المقصود مجرَّد تلاوتهما ألفاظًا وتعبُّدًا.. فبَيِّنوا لنا الصوابَ في ذلك مشكورين.
1- عادة إقراء "صحيح البخاري" عند النوازلِ من الكوارثِ والأوباء قديمة، جرت على لسان السراج البلقيني في اليقظة والمنام.
2- لعل أمر هذه الظاهرة يعودُ إلى أقدم من وباء الطاعون الذي عمَّ الدنيا سنة 749هـ، واشتهرت هذه الظاهرة عند قدوم تيمورلنك إلى بلاد المسلمين.
3- أشهر الإمام سراج الدين البلقيني العمل بها، ودوَّنتها كتب التراجم والتأريخ، ونقلنا ذلك عنه فيما مضى.
4- التحقيق أن هذا العمل ليس موصولًا بعصور السلف، وأنَّ شيوعَه وذيوعَه بحكم وقوعه ووجوده لا يعطيه الحجِّية، وأنه ما زال يحتاجُ للدليل، وأن مجرَّد رؤيةِ النبي صلى الله عليه وسلم في المنام يأمرُ به لا يكفي مُستَدلًّا؛ فالمنامات يُسْتَأنس بها وليست -عند أهل السنة والجماعة- حجةً وبرهانًا، وأن الاتِّكاء عليها مع ترْك الأخْذ بالأسباب بدعةٌ في الدين، ومضادَّة لمقاصدِ الشريعة الكلية، والله المستعان وهو الواقي والعاصم.
ما معنى قول الإمام ابن عطاء الله السكندري في "الحِكَم العطائية": "معصية أورثت ذلًّا وافتقارًا خيرٌ من طاعة أورثت عزًّا واستكبارًا"؟
ما حكم إجراء العبادات وقراءة القرآن بالقلب من دون تحريك الشفتين بالنسبة للمريض؟ فهناك رجل مريض لا يستطيع أن يعبد الله جهرًا ولا سرًّا بلسانه، وإذا تعبد بذلك تعب قلبه تعبًا شديدًا، وتُنْهَك قواه، ويُصَاب بدوران شديد في رأسه؛ ولذلك فهو يعبد الله بقلبه، ويقرأ القرآن كثيرًا بقلبه؛ فما حكم قراءته للقرآن بالقلب سرًّا دون تحريك اللسان والشفتين؟