سائل يقول: ورد في القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ﴾ ما يفيد أن من خصائص الأمة المحمدية أنهم شهداء الله في أرضه؛ فما المراد بهذه الشهادة؟ وهل هي من خصائص الأمة المحمدية؟
بيان معنى شهادة الأمة المحمدية على غيرها في قوله تعالى: ﴿لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ﴾
خَصَّ اللهُ تعالى الأمةَ المحمديةَ بجملةٍ مِن الخصائص، وشَرَّفها بمزيدٍ مِن المزايا والفضائل، فمنها ما انفَرَدَت به عن غيرها مِن الأمم السابقة، ومنها ما شارَكَها فيه غيرُها، وتميَّزَت عنهم فيه بالكمال والتمام، ومِن جملة ما اختَصَّ اللهُ به هذه الأمةَ دون غيرها مِن الأمم السابقة: أنهم شهداء الله في أرضه، فقال الله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ [البقرة: 143]، وقال سبحانه: ﴿مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ﴾ [الحج: 78].
والشهادة المخصوصة بها الأمةُ المحمدية: شهادتان: تتحقق الأُولى منهما في الآخرة بشهادة الأمة المحمدية على غيرها مِن الأمم السابقة بتبليغ أنبيائهم لهم، والأصل في ذلك ما روي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «يُدْعَى نُوحٌ يَوْمَ القِيَامَةِ، فَيَقُولُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ يَا رَبِّ، فَيَقُولُ: هَلْ بَلَّغْتَ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ، فَيُقَالُ لِأُمَّتِهِ: هَلْ بَلَّغَكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: مَا أَتَانَا مِنْ نَذِيرٍ، فَيَقُولُ: مَنْ يَشْهَدُ لَكَ؟ فَيَقُولُ: مُحَمَّدٌ وَأُمَّتُهُ، فَتَشْهَدُونَ أَنَّهُ قَدْ بَلَّغَ: ﴿وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾، فَذَلِكَ قَوْلُهُ جَلَّ ذِكْرُهُ: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾»، وَالوَسَطُ: العَدْلُ. أخرجه الإمام البخاري في "صحيحه".
وتتحقق الثانية في الحياة الدنيا بشهادة الناس بعضِهم على بعضٍ بالخير أو بالشَّرِّ عند الموت، والأصل في ذلك ما روي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قَالَ: مُرَّ بجنازة، فأُثْنِيَ عليها خيرًا، فقال نبيُّ الله صلى الله عليه وآله وسلم: «وَجَبَتْ، وَجَبَتْ، وَجَبَتْ»، ومُرَّ بجنازة، فأُثْنِيَ عليها شرًّا، فقال نبيُّ الله صلى الله عليه وآله وسلم: «وَجَبَتْ، وَجَبَتْ، وَجَبَتْ»، قال عمر رضي الله عنه: فدى لك أبي وأمي، مُرَّ بجنازة، فأُثْنِيَ عليها خيرٌ، فقلتَ: «وَجَبَتْ، وَجَبَتْ، وَجَبَتْ»، ومُرَّ بجنازة، فأُثْنِيَ عليها شَرٌّ، فقلتَ: «وَجَبَتْ، وَجَبَتْ، وَجَبَتْ»؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ خَيْرًا وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ، وَمَنْ أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ شَرًّا وَجَبَتْ لَهُ النَّارُ، أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللهِ فِي الْأَرْضِ، أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللهِ فِي الْأَرْضِ، أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللهِ فِي الْأَرْضِ» أخرجه الشيخان.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَمُوتُ فَيَشْهَدُ لَهُ أَرْبَعَةٌ مِنْ أَهْلِ أَبْيَاتِ جِيرَانِهِ الْأَدْنَيْنَ أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ مِنْهُ إِلَّا خَيْرًا، إِلَّا قَالَ اللهُ تَعَالَى وَتَبَارَكَ: قَدْ قَبِلْتُ قَوْلَكُمْ -أَوْ قَالَ: شَهَادَتَكُمْ-، وَغَفَرْتُ لَهُ مَا لَا تَعْلَمُونَ» أخرجه الأئمة: أحمد في "المسند"، وأبو يعلى في "المعجم"، وابن حبان في "الصحيح"، والحاكم في "المستدرك" وصححه.
وقد سَخَّر اللهُ سبحانه وتعالى ملائكةً تَنْطِقُ على أَلْسِنَةِ الخَلْق بما في المَرْءِ مِن خيرٍ أو شَرٍّ، كما في الحديث الذي رواه أنس بن مالك رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إِنَّ لِلهِ مَلَائِكَةً تَنْطِقُ عَلَى أَلْسِنَةِ بَنِي آدَمَ بِمَا فِي الْمَرْءِ مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ» أخرجه الإمام الحاكم في "المستدرك" وصححه.
وأحاديث الباب كثيرةٌ، حتى بَوَّب الأئمةُ الحُفَّاظ في كُتُبهم أبوابًا مخصوصة لذلك، فبَوَّب الإمامُ البخاري: (بَاب ثَنَاءِ النَّاسِ عَلَى المَيِّتِ)، وبَوَّب الإمامُ مسلم: (بَاب فِيمَنْ يُثْنَى عَلَيْهِ خَيْرٌ أَوْ شَرٌّ مِنَ الْمَوْتَى)، وبَوَّب الإمامُ ابن حبان: باب (ذِكْر مَغْفِرَةِ اللهِ جَلَّ وَعَلَا ذُنُوبَ مَنْ شَهِدَ لَهُ جِيرَانُهُ بِالْخَيْرِ وَإِنْ عَلِمَ اللهُ مِنْهُ بِخِلَافِهِ)، وباب (ذِكْر إِيجَابِ الْجَنَّةِ لِمَنْ أَثْنَى عَلَيْهِ النَّاسُ بِالْخَيْرِ إِذْ هُمْ شُهُودُ اللهِ فِي الْأَرْضِ). ومما سبق يُعلَم الجواب عما جاء بالسؤال.
والله سبحانه وتعالى أعلم.