ما حكم إخراج المعتدة من المنزل الذي وجبت فيه العدة وذلك لرغبة الورثة في بيع المنزل؟ فقد تُوفِّي زوجي منذ أيام، وليس لديه أولاد، ويطالبني الورثة بالخروج من المنزل لرغبتهم في بيعه، فهل يحق لي شرعًا أن أعتد في المنزل أو أن المنزل قد صار تركةً فأعتد في مكان آخر؟
حكم إخراج المعتدة من المنزل الذي وجبت فيه العدة لرغبة الورثة في بيعه
الأصل أنْ تستوفي الزوجة عدتها في منزل الزوجيَّة الذي كانت فيه عند حصولِ الوفاة، وعلى الورثة عدم مطالبتُها بالخروج منه قبل ذلك على قول جمهور الفقهاء، وإنما يجوز لهم إبرامُ عقد البيع مع استثناء مدة العدة، فإن تعذَّر بقاؤها في المنزل جاز لها أن تنتقل مِن منزل الزوجية، وتقيمَ حيث شاءت؛ للضَّرورة، عملًا عندئذٍ بمذهب الحنفية.
التفاصيل ....المحتويات
- عدة المرأة التي مات عنها زوجها وبيان المكان الذي تعتد فيه
- نصوص فقهاء المذاهب الفقهية في ذلك
- حكم إخراج المعتدة من المنزل الذي وجبت فيه العدة لبيعه
- الخلاصة
عدة المرأة التي مات عنها زوجها وبيان المكان الذي تعتد فيه
مِن المقرَّر شرعًا أنَّ المرأة التي يُتوفَّى عنها زوجُها يجِبُ عليها أن تعتدَّ مدة أربعة أشهر وعشرة أيام ما لم تكنْ حاملًا، سواء أكانتِ الوفاةُ قبل الدخولِ أم بعده، وسواء أكانت من ذواتِ الحيض أم لم تكن، وهذا بإجماعِ العلماء؛ لعموم قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا﴾ [البقرة: 234].
والمحلُّ الذي يتعيَّن على المرأة المعتدَّة أن تقيم به أيام عدَّتِها: هو منزلُ الزوجيَّة الذي كانَتْ فيه عند حصولِ الفُرقة بالموت أو الطلاق أو الفسخ، والأصلُ في ذلك: ما ورد أن الفُريعة بنت مالك أخت أبي سعيد الخدري رضي الله عنهما قالت: توفي زوجي بالقَدُوم، فأتيتُ النبي صلى الله عليه وآله وسلم فذكرتُ له أن دارنا شاسعةٌ فأذِن لها، ثم دعاها، فقال: «امكُثِي في بيتك أربعة أشهر وعشرًا حتى يَبلغ الكتابُ أجَلَه» رواه الترمذي في "سننه".
وجهة الدلالة منه: أنه أفاد لزومَ المعتدَّة للبيتِ الذي بَلَغَها فيه نعيُ زوجها، وذلك حتى تستَوفِي عدَّتها.
قال أبو عيسى الترمذي في "السنن" (3/ 500، ط. الحلبي): [هذا حديثٌ حسنٌ صحيح، والعمل على هذا الحديث عند أكثر أهل العلم] اهـ.
نصوص فقهاء المذاهب الفقهية في ذلك
قد تواردت عبارات فقهاء المذاهب الأربعة المتبوعة على هذا المعنى.
قال الإمام المرغيناني الحنفي في "الهداية" (2/ 279، ط. دار إحياء التراث العربي): [(وعلى المُعتدة أن تعتدَّ في المنزل الذي يُضاف إليها بالسُّكنى حال وقوع الفُرقة والموت)؛ لقوله تعالى: ﴿لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ﴾، والبيت المُضاف إليها: هو البيت الذي تسكنه، ولهذا لو زارت أهلها وطلَّقها زوجها كان عليها أن تعود إلى منزلها فتعتدَّ فيه] اهـ.
وقال الإمام أبو عبد الله الخرشي المالكي في "شرح مختصر خليل" (4/ 157، ط. دار الفكر): [(ص) وسكنَتْ على ما كانَتْ تسْكُن (ش) أي: وسَكَنَتِ المعتدةُ مِن طلاقٍ أو وفاةٍ على حسبِ ما كانت تسكن مع الزوج، فتلزم المكانَ الذي كان مشتاها ومصيفها في شتائها وصيفها] اهـ.
وقال الإمام شمس الدين الرملي الشافعي في "نهاية المحتاج" (7/ 155، ط. دار الفكر): [(و) إنما (تُسكن) بضم أوله كما بخطه: أي: المعتدة حيْثُ وجب سُكناها (في مسكن) مستحَق للزوج لائقٍ بها (كانت فيه عند الفرقة) بموت أو غيره؛ للآية وحديث فريعة المارَّين] اهـ.
وقال العلامة منصور البهوتي الحنبلي في "شرح منتهى الإرادات" (3/ 204، ط. عالم الكتب): [(ويحرُم تحوُّلها) أي: المعتدة للوفاة (من مسكن وجبَت فيه) أي: العدة وهو الذي مات زوجها وهي ساكنة فيه ولو مؤجرًا أو معارًا] اهـ.
حكم إخراج المعتدة من المنزل الذي وجبت فيه العدة لبيعه
قد اختلَف الفقهاءُ في حكم إخراج المعتدة مِن وفاة من المنزل الذي وجبَت فيه العدَّة عليها، والذي يتحقَّق في صورتين وهما: بيع الغرماء دار الميِّت، وبيع دار الورثة، وهي الصورةُ المسؤول عنها، فذهب جمهورُ الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة إلى أنَّ المعتدَّة من الوفاة أحقُّ بمنزل الزوجيَّة، خصوصًا إذا كان المنزلُ مملوكًا للزوج، بل ولو كان مؤجرًا وقد أدَّى الزوجُ الأجرة لصاحب البيْت.
قال الإمام النفراوِي المالكي في "الفواكه الدواني" (2/ 63، ط. دار الفكر): [(وَ) إنَّما تجِبُ (لَها السُّكْنى إنْ كانَتِ الدَّار) مملوكة (للميِّت أو) كانت مستأجرة، والحال أنه (قد نقَدَ كِرَاءها) وهي أحقُّ مِن الورثةِ والغرماء بذلك] اهـ.
وقال الإمام زكريا الأنصاري الشافعي في "أسنى المطالب" (3/ 408، ط. دار الكتاب الإسلامي): [(فرع: تُقدم المعتدة بحقِّ سكنى منزل طُلقت) أو مات عنها (فِيه) حيث (يملِكُه الزوجُ ولو منفعتَه على الغُرَماءِ والوَرَثةِ)؛ لأنَّ حقها تعلَّق بعيْنِ المسكَنِ، كحق المكتري والمرتهن] اهـ.
وقال الإمام ابنُ قدامة الحنبلي في "المغني" (8/ 160، ط. مكتبة القاهرة) في خصوص المتوفَّى عنها زوجها: [إذا قُلنا: لها السكنى، فهي أحقُّ بسكنى المسكن الذي كانت تسكنُه مِن الورثة والغرماء، مِن رأس مال المتوفى، ولا يُباع في دينه بيعًا يمنعها السُّكنى فيه حتى تقضي العدة] اهـ، والمعنى: أنَّ حق السكنى للمتوفى عنها زوجها آكدُ مِن حق الورثة في التصرف في العيْن بعد انتقال الملكيَّة إليهم، بحيث يكون لها شرعًا أن تمكثَ في المنزل حتى تنقضيَ عدتها.
أمَّا إذا رغِبَ بعضُ الورثةِ في بيع هذا المنزلِ -كما هي مسألتُنا- فيجوز لهم إبرامُ عقد البيع، لكن بشرط النصِّ في العقد على استثناء مدة السُّكنى للعدة -وهي أربعة أشهر وعشرة أيام- أو بشرط بيانِ كون المنزل فيه امرأةٌ معتدة، فإنْ رضِيَ بذلك المشتري، وإلَّا ثَبَتَ له الخيارُ في فسخِ البيع؛ للضَّرر الذي يلحقُه.
جاء في "الشرح الكبير" للإمام الدردير (2/ 487، ط. دار الفكر، مع "حاشية الدسوقي"): [(وَ) جاز (للغُرَماءِ بيعُ الدَّارِ في) عدة (المُتَوفَّى عنها) بشرط استثناء مدة عدتها أربعة أشهر وعشرًا، ويُبيِّن البائعُ -وهو الغريم- للمشترِي أنَّ الدار يُعتد فيها، ويرضَى المشتري؛ لأنَّ البيان يقوم مقام الاستثناء، فإذا لم يستثنوا ذلك ولا بينوه: لم يجز البيع ابتداء، ولكنه صحيحٌ، كمن باع دارًا مؤجرة، ولم يُبين للمشتري ذلك فإنَّ البيع صحيح ولا يجوز ابتداء، ويثبت للمشتري الخيار] اهـ.
قال العلامة الدسوقي مُحشِّيًا عليه: [(قوله: وللغرماء.. إلخ) قال ح أبو الحسن: اختُلف هل للورثة بيع الدار واستثناء العدة فأجازه اللخمي ومنعه غيره؛ لأنه غررٌ؛ لأنَّ المشتري لا يدري متى يصل لقبض الدار، وإنما رُخِّص فيه في الدَّين] اهـ.
هذا وقد ذهب فقهاءُ الحنفية إلى أنَّ المتوفَّى عنها زوجها يجُوز لها أن تنتقل مِن منزل الزوجية، وتقيمَ حيث شاءت؛ للضَّرورة، وعدُّوا مِن ذلك: ما إذا كان نصيبُها مِن التركة وحدها لا يكفيها، ولم يرضَ الورثة بسكناها في المنزلِ.
قال الإمام فخرُ الدين الزيلعي في "تبيين الحقائق" (3/ 37، ط. الأميرية): [قال رحمه الله: (وتعْتدَّان في بيْتٍ وَجَبَتْ فيه إلَّا أن تُخرج أو ينهدِم).. أي: إلَّا أن يُخرجها الورثةُ، يعني: فيما إذا كان نصيبُها مِن دار الميِّت لا يكْفِيها، أو ينهدِمُ البيت الذي كانت تسْكنُهُ، فحينئذ يجوز لها أنْ تنتقلَ إلى غيْرِه؛ للضرورة، وكذا إذا خافَتْ على نفسِها أو مالها أو كانتْ فيه بأجْرٍ ولم تجدْ ما تؤدِّيه جاز لها الانتقالُ، ثم لا تخرج من البيت الذي انتقلتْ إليه إلا بعذر؛ لأنَّه يأخذ حكم الأول] اهـ.
الخلاصة
بناء على ذلك وفي واقعة السؤال: فإن الأصل أنْ تستوفي الزوجة (السائلة) عدتها في منزل الزوجيَّة الذي كانت فيه عند حصولِ الوفاة، وعلى الورثة عدم مطالبتُها بالخروج منه قبل ذلك على قول جمهور الفقهاء، وإنما يجوز لهم إبرامُ عقد البيع مع استثناء مدة العدة، فإن تعذَّر بقاؤها في المنزل جاز العملُ عندئذٍ بمذهب الحنفية.
والله سبحانه وتعالى أعلم.