ما معنى الحديث القدسي: «إلا الصوم فإنه لي»؛ حيث جاء عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه أخبر عن الله عزَّ وجلَّ قوله: «كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصَّوْمَ، فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ»، فَلِمَ خصَّ اللهُ تعالى الصومَ من دون غيره من الأعمال بأنه لنفسه ويجازي عليه؟
معنى الحديث القدسي: « إلا الصوم فإنه لي »
اختص الله تعالى الصوم بإضافته إلى نفسه دون غيره من سائر العبادات لوجوه كثيرة، منها: أن الصيام لا يدخل فيه الرياء، بل هو سِرٌّ بين العبد وربه، وأنه لم يُعبد به غير الله، وأنه مما لا يقتص به يوم القيامة في مظالم العباد، وأن الله تعالى هو المتفرد بعِلْم ثوابه، ومضاعفة الأجر عليه، وأنه تقرب إلى الله بما يوافق صفته، فناسب إضافته إليه، وكلها محتملة لا منافاة بينها.
التفاصيل ....المحتويات
شروط وجوب الصيام
من الأمور التي تُعْلَمُ من الدِّين بالضرورة فريضة صـوم رمضان، فهو ركنٌ من أركان الإسـلام، وفريضةٌ من فرائضه، فرضها الله سبحانه وتعالى على كلِّ مسلمٍ بالغٍ عاقـلٍ صحيحٍ مقيم مستطيع خالٍ من الموانع، فقال جلَّ شأنه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيَّامًا مَعْدُودَات﴾ [البقرة: 183-184].
وجوه اختصاص الله تعالى بالصيام له وحده دون سائر العبادات
قد اختصَّ الله تعالى الصومَ من بين سائر العبادات ليكونَ له وحده، ولا يطلع عليه غيره؛ لكونه تركًا خفيًّا، ففي الحديث القدسي: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنَّ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصَّوْمَ، فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، وَلَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ المِسْكِ» متفقٌ عليه.
وقد تعددت نصوص الفقهاء واختلفت عباراتهم في بيان وجه اختصاص الله تعالى بالصيام وحده دون سائر العبادات، ومما ذكروه في بيان وجوه هذا الاختصاص ما يلي:
أن الصيام لا يدخل فيه الرياء، ولا يقع بالحركات والسكنات، وإنما هو سِرٌّ بين العبد وربه لا يطلع عليه غيره، فهو من التروك الخفية التي لا يطلع على حقيقة نية العبد فيها وصومه إلَّا الله عزَّ وجلَّ.
فَقَد وَرَدَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَيْسَ فِي الصِّيَامِ رِيَاءٌ» أخرجه البيهقي في "شعب الإيمان".
قال الإمام المازري في "المعلم بفوائد مسلم" (2/ 61، ط. الدار التونسية): [تخصيصه الصوم هاهنا بقوله: "لي" وإن كانت أعمال البر المخلَصة كلها له تعالى، لأجْلِ أنَّ الصَّوْمَ لا يمكن فيه الرِّياء كما يمكن في غيره من الأعمال؛ لأنه كفٌّ وإمْسَاكٌ، وحال المُمْسِكِ شِبعًا أوْ لِفَاقة كحال الممسك تقربًا، وإنما القصد وما يُبطنه القلب هو المُؤَثِّر في ذلك، والصلوات والحج والزكاة أعمال بدنية ظاهرة يمكن فيها الرياء والسمعة، فلذلك خُصَّ الصوم بما ذكره دونها] اهـ.
وقال الإمام النووي في "شرحه على مسلم" (8/ 29، ط. دار إحياء التراث العربي): [اختلف العلماء في معناه مع كون جميع الطاعات لله تعالى.. وقيل: لأن الصومَ بعيدٌ من الرياء لخفائه، بخلاف الصلاة، والحج، والغزو، والصدقة، وغيرها من العبادات الظاهرة] اهـ.
أن الصيام هو العبادة الوحيدة التي لا تنصرف لغير الله، فلم يُعبَد بها غيرُه قط على مرِّ الأعصار وفي كافَّة الأمصار.
قال الإمام النووي في "شرحه على مسلم" (8/ 29) في بيان أوجه اختصاص الله بالصوم دون غيره: [فقيل: سبب إضافته إلى الله تعالى أنه لم يُعبَد أحدٌ غيرَ الله تعالى به، فلم يعظم الكفارُ في عصر من الأعصار معبودًا لهم بالصيام، وإن كانوا يعظمونه بصورة الصلاة، والسجود، والصدقة، والذكر، وغير ذلك] اهـ.
أن الصيام فيه الكفُّ عن شهوتي البطن والفرج، والاستغناء عن ذلك من صفات الذات الإلهية، فلما تقرَّب الصائمُ إلى الله بما يوافق صفته جلَّ شأنه ناسب ذلك إضافته سبحانه الصيام إلى نفسه.
قال الإمام أبو العباس القرطبي في "المفهم" (3/ 211-212، ط. دار ابن كثير) في بيان وجوه قوله "لي": [وثالثها: أن أعمالهم هي أوصافهم، ومناسبة لأحوالهم إلا الصيام؛ فإنه استغناء عن الطعام، وذلك من خواص أوصاف الحق سبحانه وتعالى] اهـ.
وقال الإمام النووي في "شرحه على مسلم" (8/ 29) عند بيان علة إضافة الصيام وحده لله تعالى: [وقيل: إن الاستغناء عن الطعام من صفات الله تعالى، فتقرب الصائم بما يتعلق بهذه الصفة وإن كانت صفات الله تعالى لا يشبهها شيء] اهـ.
أن الصيام يجازي اللهُ العبدَ عليه أضعافًا كثيرة غيرَ معلومة القدر، بخلاف سائر العبادات التي يتضاعف فيها الأجر إلى سبعمائة ضعف، فالله تعالى هو المتفرد بعِلْم ثواب الصيام وتضعيف الأجر عليه.
قال الإمام أبو العباس القرطبي في "المفهم" (3/ 213): [وسابعها: أن الأعمال قد كشفت لبني آدم مقادير ثوابها وتضعيفها إلا الصيام، فإن الله يثيب عليه بغير تقدير، ويشهد لهذا مساق الرواية الأخرى التي فيها: «كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ، الحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمَائَةِ ضِعْفٍ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: إِلَّا الصَّوْم، فَإِنَّهُ لِي، وَأَنَا أَجْزِي بِهِ»؛ يعني -والله تعالى أعلم-: أنه يجازي عليه جزاء كثيرًا من غير أن يعين مقداره، ولا تضعيفه] اهـ.
وقال الإمام النووي في "شرحه على مسلم" (8/ 29): [وقيل: معناه: أنا المنفرد بعلم مقدار ثوابه أو تضعيف حسناته، وغيره من العبادات أظهر سبحانه بعض مخلوقاته على مقدار ثوابها] اهـ.
أن الصيام يستثنى من سائر العبادات في المقاصة يوم القيامة، فهو مما لا يقتص منه لمظالم العباد.
قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (4/ 109، ط. دار المعرفة): [تاسعها: أن جميع العبادات تُوَفَّى منها مظالم العباد إلا الصيام، روى ذلك البيهقي من طريق إسحاق بن أيوب بن حسان الواسطي عن أبيه عن ابن عيينة قال: "إذا كان يوم القيامة يحاسب الله عبده ويؤدي ما عليه من المظالم من عمله حتى لا يبقى له إلا الصوم، فيتحمل الله ما بقي عليه من المظالم ويدخله بالصوم الجنة"] اهـ.
أن الإضافة في الحديث إضافةُ تشريفٍ وتعظيمٍ.
قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (4/ 108): [رابعها: الإضافة إضافة تشريف وتعظيم، كما يقال: بيت الله، وإن كانت البيوت كلها لله، قال الزين ابن المنير: "التخصيص في موضع التعميم في مثل هذا السياق لا يُفهم منه إلَّا التعظيم والتشريف"] اهـ.
هذا، وأقوال العلماء في معنى الحديث وبيان وجه التخصيص فيه كثيرة، ولا منافاة بينها؛ لاحتمال النص لجميعها، وكلها تفيد عِظَم الصيام، وأنه من أحب العبادات لله تعالى، وأجَلِّ ما يتقرب به العبد لربه، وأن الله أعدَّ للصائمين الثواب الجزيل والأجر العظيم، ثم يضاعف ذلك أضعافًا كثيرة لا يحصيها إلا هو سبحانه وتعالى.
الخلاصة
بناء على ذلك: فقد اختص الله تعالى الصوم بإضافته إلى نفسه دون غيره من سائر العبادات لوجوه كثيرة، منها: أن الصيام لا يدخل فيه الرياء، بل هو سِرٌّ بين العبد وربه، وأنه لم يُعبد به غير الله، وأنه مما لا يقتص به يوم القيامة في مظالم العباد، وأن الله تعالى هو المتفرد بعِلْم ثوابه، ومضاعفة الأجر عليه، وأنه تقرب إلى الله بما يوافق صفته، فناسب إضافته إليه، وكلها محتملة لا منافاة بينها.
والله سبحانه وتعالى أعلم