العقود المستحدثة في الفقه الإسلامي

تاريخ الفتوى:26 أغسطس 2014 م

انتشرت التجارة في هذا العصر انتشارًا كبيرًا، وظهرت للعقود أنواع كثيرة، فكيف نتعامل مع هذه العقود الجديدة ولا يوجد مثلها في الفقه الموروث؟
وهذه المسألة هامة في هذا الباب، والمدخل فيها من السؤال نفسه، وهو كلمة (العقود المسماة)، من الذي سماها بهذه الأسماء؟ والجواب: إن السادة الفقهاء هم الذين سَمَّوها وليس الشرع، وهم في الغالب أخذوها من الاستقراء.
والحكم في هذه المسألة شرعًا هو جواز استحداث عقود جديدة في أنواع البيوع المختلفة، حتى ولو لم تكن مسماة في كتب الفقه الموروثة.
ومن الأدلة على ذلك: قول الله تعالى: ﴿وَأَحَلَّ اللهُ البَيعَ﴾ [البقرة: 275]، ووجه الدلالة هو العموم الناتج من قوله: ﴿البيع﴾، فاللام هنا للجنس، فلا يخرج منه إلا ما استثناه الشرع.
قال الإمام القرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" (3/ 356): [قَولُهُ تَعَالَى: ﴿وَأَحَلَّ اللهُ البَيعَ وَحَرَّمَ الرِّبا﴾ هَذَا مِن عُمُومِ القُرآنِ، وَالأَلِفُ وَاللّامُ لِلجِنسِ لَا لِلعَهدِ؛ إِذ لَم يَتَقَدَّم بَيعٌ مَذكُورٌ يَرجِعُ إِلَيهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَالعَصرِ ۞ إِنَّ الإِنسانَ لَفِي خُسرٍ﴾ [العصر: 1-2] ثُمَّ استَثنَى ﴿إِلّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ﴾ [العصر: 3]، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ البَيعَ عَامٌّ فَهُوَ مُخَصَّصٌ بِمَا ذَكَرنَاهُ مِنَ الرِّبَا وَغَيرِ ذَلِكَ مِمّا نُهِيَ عَنهُ وَمُنِعَ العَقدُ عَلَيهِ؛ كَالخَمرِ وَالمَيتَةِ وَحَبَلِ الحَبَلَةِ وَغَيرِ ذَلِكَ مِمّا هُوَ ثَابِتٌ فِي السُّنَّةِ، وَإِجمَاعِ الأُمَّةِ النَّهيُ عَنهُ، وَنَظِيرُهُ ﴿فَاقتُلُوا المُشرِكِينَ﴾ وَسَائِرُ الظَّوَاهِرِ الَّتِي تَقتَضِي العُمُومَاتِ وَيَدخُلُهَا التَّخصِيصُ، وَهَذَا مَذهَبُ أكثر الفقهاء، وقال بعضهم: هو مُجمَلِ القُرآنِ الَّذِي فَسَّرَ بِالمُحَلَّلِ مِنَ البَيعِ وَبِالمُحَرَّمِ فَلَا يُمكِنُ أَن يُستَعمَلَ فِي إِحلَالِ البَيعِ وَتَحرِيمِهِ إِلّا أَن يَقتَرِنَ بِهِ بَيَانٌ مِن سُنَّةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وآله وَسَلَّمَ، وَإِن دَلَّ عَلَى إِبَاحَةِ البُيُوعِ فِي الجُملَةِ دُونَ التَّفصِيل، وَهَذَا فَرقُ مَا بَينَ العُمُومِ والمجمل، فَالعُمُومُ يَدُلُّ عَلَى إِبَاحَةِ البُيُوعِ فِي الجُملَةِ وَالتَّفصِيلِ مَا لَم يُخَصَّ بِدَلِيلٍ، وَالمُجمَلُ لَا يَدُلُّ عَلَى إِبَاحَتِهَا فِي التَّفصِيلِ حَتَّى يَقتَرِنَ بِهِ بَيَانٌ. وَالأَوَّلُ أَصَحُّ. وَاللهُ أَعلَمُ] اهـ.
وما سبق ينطبق أيضًا على قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوفُوا بِالعُقُودِ﴾ [المائدة: 1]، فهذا عام يدخل فيه كل عقد لم يخالف الشرعَ الشريفَ.
ومن الأدلة من السنة ما أخرجه مسلم في "صحيحه" عَن عُبَادَةَ بنِ الصّامِتِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وآله وَسَلَّمَ: «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ، وَالفِضَّةُ بِالفِضَّةِ، وَالبُرُّ بِالبُرِّ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ، وَالتَّمرُ بِالتَّمرِ، وَالمِلحُ بِالمِلحِ، مِثلًا بِمِثلٍ، سَوَاءً بِسَوَاءٍ، يَدًا بِيَدٍ، فَإِذَا اختَلَفَت هَذِهِ الأَصنَافُ، فَبِيعُوا كَيفَ شِئتُم، إِذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ».
ووجه الدلالة فيه قوله: «فبيعوا كيف شئتم»، فدل على أن الشرع قد جعل أن الأصل في البيع هو الإباحة، وإنما بَيَّنَ لهم ما يريد استثناءه.
وهذا ما فهمه الصحابة رضي الله عنهم فكانوا يتبايعون ما لم يصل إلى علمهم نهي عن ما هم فيه؛ كما ورد في "الصحيحين" عن أبي سَعِيدٍ الخُدرِيَّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، قَالَ: جَاءَ بِلَالٌ رضي الله عنه إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وآله وَسَلَّمَ بِتَمرٍ بَرنِيٍّ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وآله وَسَلَّمَ: «مِن أَينَ هَذَا؟» قَالَ بِلَالٌ رضي الله عنه: كَانَ عِندَنَا تَمرٌ رَدِيٌّ، فَبِعتُ مِنهُ صَاعَينِ بِصَاعٍ، لِنُطعِمَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وآله وَسَلَّمَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وآله وَسَلَّمَ عِندَ ذَلِكَ: «أَوَّه أَوَّه، عَينُ الرِّبَا عَينُ الرِّبَا، لَا تَفعَل، وَلَكِن إِذَا أَرَدتَ أَن تَشتَرِيَ فَبِعِ التَّمرَ بِبَيعٍ آخَرَ، ثُمَّ اشتَرِهِ».
ويتضح جليًّا إقرار النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم على التبايع دون الرجوع له، وحين علم بخطئهم لم يعنفهم، بل بين لهم الصواب، مع إقراره لهم بالاجتهاد في البيع والشراء ولو لم يكن معهم في ذلك نص خاص.
ومن الأدلة أيضًا ما صححه الترمذي عن عمرو بن عوف المزني رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وآله وَسَلَّمَ قَالَ: «الصُّلحُ جَائِزٌ بَينَ المُسلِمِينَ، إِلّا صُلحًا حَرَّمَ حَلَالًا، أَو أَحَلَّ حَرَامًا، وَالمُسلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِم، إِلّا شَرطًا حَرَّمَ حَلَالًا، أَو أَحَلَّ حَرَامًا».
ووجه الدلالة من الحديث تجويزه للصلح والشروط مطلقًا، إلا ما خالف الشرع. وهذا ينطبق على كل العقود قديمها وحديثها، فيحكم على ما كان فيها من شروط بالجواز ما لم تكن شروطًا جائرة محرمة؛ مما به يعلم صلاحية هذه الشريعة لكل زمان ومكان.
ومن هذا الباب العمل بالعُرف، وقد ترجم له الإمام البخاري في "صحيحه": (بابُ من أجرَى أمرَ الأمصَارِ عَلَى مَا يتَعَارَفُونَ بَينَهُم فِي البُيُوعِ والإجَارَةِ والمِكيَالِ والوَزنِ وسُنَنهم عَلِى نِيّاتِهِم ومَذَاهِبِهِم المَشهُورَةِ).
قال العلامة بدر الدين العيني في "عمدة القاري" (12/ 16، ط. إحياء التراث العربي) معلقًا على صنيع الإمام البخاري: [أَي؛ هَذَا بَاب يذكر فِيهِ من أجرى أمرهَا إِلَى الأَمصَار على مَا يَتَعَارَفُونَ بَينهم، أَي؛ على عرفهم وعوائدهم فِي أَبوَاب البيُوع والإجارات والمكيال، وَفِي بعض النّسخ: والكيل وَالوَزن مثلًا بِمثل، كل شَيء لم ينُص عَلَيهِ الشّارِع أَنه كيلِيٌّ أَو وزنِيٌّ يعمل فِي ذَلِك على مَا يتعارفه أهل تِلكَ البَلدة مثلًا: الأرز فَإِنَّهُ لم يَأتِ فِيهِ نَص من الشَّارِع أَنه كيلي أَو وزني، فَيعتَبر فِي عَادَة أهل كل بَلدَة على مَا بَينهم من العرف فِيهِ، فَإِنَّهُ فِي البِلَاد المصرية يُكَال، وَفِي البِلَاد الشامية يُوزن، وَنَحو ذَلِك من الأَشيَاء؛ لِأَن الرُّجُوع إِلَى العرف جملَة من القَوَاعِد الفِقهِيَّة] اهـ.
ومن هذا المنطلق أباح فريق من أهل العلم ما يعرف بالمعاطاة.
قال العلامة ابن قدامة في "الكافي" في فقه الإمام أحمد (2/ 3، ط. دار الكتب العلمية): [المعاطاة مثل أن يقول: أعطني بهذا خبزًا، فيعطيه ما يرضيه، أو يقول: خذ هذا الثوب بدينار، فيأخذه فيصح؛ لأن الشرع ورد بالبيع، وعلق عليه أحكامًا، ولم يعين له لفظًا، فعلم أنه ردهم إلى ما تعارفوه بينهم بيعًا، والناس في أسواقهم وبياعاتهم على ذلك] اهـ.
ونظرت طائفة إلى أن المسميات لا تغير من حقيقة الأمر شيئًا، فأدخلوا عدة معاملات ضمن البيوع وإن اختصت بأسماء خاصة.
قال الإمام البهوتي في "كشاف القناع" (3/ 229، ط. دار الكتب العلمية): [التَّولِيَةُ وَالشَّرِكَةُ وَالمُرَابَحَةُ وَالمُوَاضَعَةُ (أَنوَاعٌ مِن البَيعِ) اختصَّت بِهَذِهِ الأَسمَاءِ كَاختِصَاصِ السَّلَمِ] اهـ.
وقد سار على مبدأ أصل الإباحة في العقود طائفةٌ من أهل العلم، يظهر ذلك في فروعهم الفقهية؛ قال الشيخ تقي الدين ابن تيمية في "الفتاوى الكبرى" (4/ 79، ط. دار الكتب العلمية): [القَولُ الثّانِي: أَنَّ الأَصلَ فِي العُقُودِ وَالشُّرُوطِ الجَوَازُ وَالصِّحَّةُ، وَلَا يَحرُمُ وَيَبطُلُ مِنهَا إلّا مَا دَلَّ عَلَى تَحرِيمِهِ وَإِبطَالِهِ نَصٌّ، أَو قِيَاسٌ عِندَ مَن يَقُولُ بِهِ، وَأُصُولُ أَحمَدَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ المَنصُوصُ عَنهُ أَكثَرُهَا تَجرِي عَلَى هَذَا القَولِ، وَمَالِكٌ قَرِيبٌ مِنهُ، لَكِنَّ أَحمَدَ أَكثَرُ تَصحِيحًا لِلشُّرُوطِ، فَلَيسَ فِي الفُقَهَاءِ الأَربَعَةِ أَكثَرُ تَصحِيحًا لِلشُّرُوطِ مِنهُ. وَعَامَّةُ مَا يُصَحِّحُهُ أَحمَدُ مِنَ العُقُودِ وَالشُّرُوطِ فِيهَا تَنبِيهٌ بِدَلِيلٍ خَاصٍّ مِن أَثَرٍ أَو قِيَاسٍ، لَكِنَّهُ لَا يَجعَلُ حُجَّةَ الأَوَّلِينَ مَانِعًا مِنَ الصِّحَّةِ، وَلَا يُعَارِضُ ذَلِكَ بِكَونِهِ شَرطًا يُخَالِفُ مُقتَضَى العَقدِ أَو لَم يَرِد بِهِ نَصٌّ، وَكَانَ قَد بَلَغَهُ فِي العُقُودِ وَالشُّرُوطِ مِنَ الآثَارِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وآله وَسَلَّمَ وَالصَّحَابَةِ مَا لَم يَجِدهُ عِندَ غَيرِهِ مِنَ الأَئِمَّةِ، فَقَالَ بِذَلِكَ وَبِمَا فِي مَعنَاهُ قِيَاسًا عَلَيهِ، وَمَا اعتَمَدَهُ غَيرُهُ فِي إبطَالِ الشُّرُوطِ مِن نَصٍّ فَقَد يُضَعِّفُهُ أَو يُضَعِّفُ دَلَالَتَهُ، وَكَذَلِكَ قَد يُضَعِّفُ مَا اعتَمَدُوهُ مِن قِيَاسٍ، وَقَد يَعتَمِدُ طَائِفَةٌ مِن أَصحَابِ أَحمَدَ عُمُومَاتِ الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الَّتِي سَنَذكُرُهَا فِي تَصحِيحِ الشُّرُوطِ] اهـ.
وبناءً على ما سبق: فإنه يجوز شرعًا استحداث عقود جديدة، شريطة أن لا يكون فيها ما يعارض الشرع؛ كالغرر أو الغش.
والله سبحانه وتعالى أعلم.

مَواقِيتُ الصَّـــلاة

القاهرة · 01 مايو 2025 م
الفجر
4 :37
الشروق
6 :12
الظهر
12 : 52
العصر
4:29
المغرب
7 : 33
العشاء
8 :57