العَمَائِمُ: جمع عِمَامَة سُمِّيت بذلك؛ لأنها تَعُمُّ جَمِيعَ الرَّأس، فهي تُغَطِّي الرَّأس كله، والقَلَانِسُ: جمع: قَلَنْسُوة، وهي: الطاقية، وغيرها مما تلفُّ العمامة عليها، أو قد تُلْبَس وحدها، وكانت العمامة عادة من عادات العرب تَقِيهم الحرِّ؛ قال الإمام مالك: "العِمَّة والاحتباء والانتعال من عمل العرب". انظر: "المنتقى شرح الموطأ" للعلامة الباجي (7/ 219، ط. السعادة).
وقال فيها الإمام أبو الأسود الدؤلي: "جُنَّة في الحرب، ومكنة من الحر، ومدفأة من القَرِّ، ووقار في الندى، وواقية من الأحداث، وزيادة في القامة، وهي من عادات العرب". انظر: "بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب" لمحمود شكري الألوسي (3/ 410، ط. دار الكتب العلمية).
وقد لَبِسَ النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم العمامة جَرْيًا على ما كان مِن عَادَةِ قومه ومألوفهم، وأكثر ما ورد عنه فيها حِكَايَةً لأحواله ووصفًا لَهَا؛ فروى النسائي في "سننه" عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه: "أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآله وسَلَّمَ تَوَضَّأَ فَمَسَحَ نَاصِيَتَهُ وَعِمَامَتَهُ وَعَلَى الْخُفَّيْنِ".
وكانت له صلى الله عليه وآله وسلم عمامة من قماش، كان يلفها على رأسه الشريفة، وتُسَمَّى السحاب، كساها عليًّا رضي الله عنه وكان صلى الله عليه وآله وسلم إذا اعتمَّ أرخى طَرَف عمامته بين كتفيه، أو كان يثبتها بالتحنيك، أي: يلف طرفها تحت الحنك، وقد حُمِل توصيته عمر بذلك على وقت الحرب لتثبيتها. يُنظر: "زاد المعاد" لابن القيم (1/ 130 وما بعدها، ط. الرسالة).
وقد صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال في المحرم: «لاَ يَلْبَسِ الْقَمِيصَ وَلاَ الْعِمَامَةَ» رواه البخاري، من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. قال العلامة المناوي في "فيض القدير" (4/ 429، ط. المكتبة التجارية الكبرى): [فدل على أنها كانت عادة، أمر باجتنابها حال الإحرام وشرع كشف الرأس إجلالًا لذي الجلال] اهـ.
وأكثرُ العلماء جَعَلَ التأسي بلُبس النبي صلى الله عليه وآله وسلم العمامة والقلنسوة -الطاقية- وغيرهما من أنواع اللباس لتغطية الرأس من المباحات؛ لأن ذلك فعلٌ للنبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يظهر فيه معنى القربة، بل يظهر فيه معنى العادة والطبيعة كالأكل والشرب، ولم يرد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ترغيب ولا ترهيب في غطاء الرأس، والمشهور عند الأصوليين أنه لا أسوة في مثل ذلك، بل مَن شاء أن يفعل مثلَه فَعَلَ، ومَن شاء أن يترك تَرَكَه، دون أن يكون للفعل مزية على الترك من ثواب أو غيره، ودون أن يكون في التَّرْكِ ذَمٌّ شرعيٌّ. انظر: "أفعال الرسول" للأشقر (1/ 225، ط. الرسالة).
ولو كانت العمامة والقلنسوة من الْمُسْتَحَبَّاتِ لَقُلْنَا أيضا الرِّدَاء والإزار والقميص وكل ما ورد لُبسه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من المستحبات.
أما ما ورد من الأقوال في التزام العمامة أو القلنسوة فأكثره لا يصلح حُجَّة في ثبوت الأحكام، فكلها أحاديث ضعيفة. انظر: "كشف الخفاء" للعجلوني (2/ 94، ط. المكتبة العصرية).
قال العلامة السخاوي في "المقاصد الحسنة" (ص: 466، ط. دار الكتاب العربي): [وكلُّه ضعيف... وبعضه أوهى من بعض] اهـ.
وأكثرُها ذَكَرَها مؤلفو كتب الأحاديث الموضوعة في كتبهم.
وقال الإمام العيني في "عمدة القاري" (21/ 307، ط. دار إحياء التراث العربي): [ولم يذكر البخاري في هذا الباب -أي: العمائم- شَيْئًا من أمور العمامة، فكأنه لم يثبت عنده على شرطه في العمامة شيء] اهـ.
وطرف العمامة يسمى بـ"الذؤابة"، وإرخاؤها عَادَة لا تَعَبُّدَ فيه، وما ورد في ما أخرجه الطبراني في "الأوسط" من أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه بإرخائه عندما وجهه لسرية؛ لا يُعَد تشريعًا عامًّا، وإسناده ليس بقوي.
ولم يَرِدْ نهيٌ عن العمامة بغير ذؤابة؛ فقد أخرج الإمام مسلم من حديث سيدنا جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دخل مكَّة وعليه عمامة سوداء، ولم يُذْكَر في حديث جابر (ذؤابة)، فدل على أن الذؤابة لم يكن يرخيها دائمًا بين كتفيه.
وأخرج الشيخان من حديث أنس رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وآله وسلم دخل مكة وعليه أهبة القتال والمِغْفَر على رأسه.
فلَبِس في كل موطن ما يناسبه، ولا مخالفة بين الحديثين في هيئة دخوله مكة؛ لاحتمال أن يكون وقت دخوله كان على رأسه المغفر، ثم أزاله ولبس العمامة بعد ذلك، فحكى كلٌّ منهما ما رآه. يُنظر: "غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب" للسفاريني (2/ 246، ط. مؤسسة قرطبة).
وقد اعترض بعض الناس على مَن يكشف رأسه أمام الآخرين بأنه من خوارم المروءة. فنقول: المروءة: هي كمال الإنسان من صدقه، واحتمال عثرات إخوانه، وبذل الإحسان إلى أهل الزمان، وكف الأذى عن الجيران. وقيل: المروءة هي التخلق بأخلاق أمثاله وأقرانه في لبسه، ومشيه، وحركاته، وسكناته، وسائر صفاته. وقيل: هي التلبس بما لا يعتاد به أمثاله، ومجمل أقوال العلماء فيها أنها الاحتراز عما يُذَمُّ به عرفًا. ينظر: "توضيح الأفكار" للأمير الصنعاني (2/ 86، ط. دار الكتب العلمية، بيروت).
وعدم تغطية الرأس كان من خوارم المروءة عند العرب والمسلمين في الأزمنة السابقة، وقد جرت عادة الناس فيما مضى بانتقاص مَن يفعل ذلك، واستمر ذلك إلى عهد قريب بمصر مثلًا.
وخوارم المروءة هي أمور تتغير وتختلف باختلاف الأزمنة وعادات الناس، فالمرجع فيها يرجع إلى عُرْفِ الناس في كل وقت بحسبه، ففي كل زمان أشياء قد تعد من خوارم المروءة لا تعد في عرف الزمن الذي يليه منها.
وقد قسَّم الإمام الشاطبي ما اعتاده الناس في حكم الشرع إلى أقسام، ففي العادات الجارية بين الناس بما ليس في نفيها ولا إثباتها دليل شرعي، وهي عادات متغيرة؛ قال في "الموافقات" (2/ 284، ط. دار المعرفة، بيروت): [والمتبدلة: منها ما يكون متبدلًا في العادة من حسن إلى قبح وبالعكس؛ مثل كشف الرأس، فإنه يختلف بحسب البقاع في الواقع فهو لذوي المروءة قبيح في البلاد المشرقية، وغير قبيح في البلاد المغربية؛ فالحكم الشرعي يختلف لاختلاف ذلك، فيكون عند أهل المشرق قادحًا في العدالة، وعند أهل المغرب غير قادح] اهـ. فإن الفعل يتغير كونه حسنًا أو قبيحًا باختلاف المجتمعات.
وبناءً على ما سبق: فإنَّ الشرع قد ترك بيان هيئة الثياب وطريقة إحاطتها بالجسد وتفاصيلها لكل جماعة بما يناسبهم، مراعين في ذلك أحوالهم وعاداتهم؛ وذلك لاعتبارها من الأمور الدنيوية تعرف بالضرورات والتجارب والعادات، ومراعاة زي الزمان مِن المروءة ما لم يكن إثمًا، وفي مُخالفة الزِّي ضَرْب مِن الشهرة، فلا ينبغي للمسلم أن يتميَّز عن غيره من أهل زمانه في اللباس والعادات الشكلية مما يدخله في الشهرة والانعزال؛ لذلك كان غطاء الرأس عادةً وليس عبادةً.
والله سبحانه تعالى أعلم.